الفصل الأول
كان متجر السيد توبياس ماندر الجديد في شارع جافيكين ستريت يُمثِّل تحفة رائعة للجمهور من الألف إلى الياء. فمنذ اللحظة التي تخيل فيها هذا الرجل شبه المغمور القادم من غرب إنجلترا فكرةَ متجرٍ من شأنه أن يتفوق على جميع المتاجر الأخرى بالجمع بين الأسعار الرخيصة والفخامة، رأى أحد وكلاء الدعاية ذوي الأجور المرتفعة أن الدولة ينبغي أن تشارك على نحو غير مباشر في هذا الصرح في البناء والتجهيزات.
نُشرت خطط هذا المشروع على الصفحات الأولى بجميع الصحف الشهيرة، وأُوردت كل مرحلة من مراحل عملية البناء مصحوبة بالرسومات البيانية، وصور للمهندس المعماري (الذي يحمل أحد ألقاب النبالة)، وأوصاف جميع الشركات الكبرى المساهمة في عناصر الجمال والأناقة الأساسية وتجهيزات المتجر الشهير المُزمَع تأسيسه.
غير أن السيد توبياس نفسه ظل بعيدًا عن الكاميرات ومتواريًا عن الظهور طَوال هذه الحملة الدعائية، ولم يستطع أحد حتى أن يُخمِّن على نحو دقيق إلى أي نمط ينتمي هذا الرجل، حتى افتُتح المتجر على أنغام الأبواق الصادحة وفي حفل افتتاح باذخ الترف.
ولهذا الغرض، حضر كل ذوي النفوذ والحيثية. وحتى الأشخاص الذين اعتادوا أن يسخروا من هذه الأجواء خفيةً، تناسَوا مبادئهم، وتزاحموا على الافتتاح؛ وحتى الممثلات ذوات الألقاب (المعروف عنهن العزلة بدافع الغرور) كنَّ بين الحشود.
عندما ظهر توبياس أمام الجمهور لأول مرة، رأى الناس أنه ربما يكون سمسارًا ناجحًا في البورصة أو وكيل مراهنات عبقريًّا أو تاجرًا متقاعدًا من سوق سميثفيلد. كان رجلًا متوسط الطول ذا بشَرةٍ نضرة للغاية، وعينين زرقاوين زائغتين، يميل إلى البدانة، ويرتدي دومًا سراويلَ مُقلَّمة شديدة السواد، ومِعطفًا صباحيًّا وصدرية، وقميصًا أبيض خفيفًا، ونظارة أحادية العدسة لا تعرف طريقها إلى عينه أبدًا بأي حال.
وصفَه المُحنَّكون من الرجال بأنه «وغْدٌ محب للصخب»؛ أما النساء فقد تباينت آراؤهن بشأنه. فبعضهن رأينه وسيمًا، به شيء من الابتذال، وبعضهن رأينه مبتذلًا، به شيء من الوسامة؛ بينما أعلن بعضهن، ممن التقت أعينهن بعينيه الزرقاوَين الزائغتَين ورأين بريقهما، افتتانهن بسحره.
ثمة شيء واحد جعلَه مختلفًا عن أغلب الرجال من أمثاله، وهي حقيقة أنه يعيش داخل مقر عمله. إنَّ وصف الشقة البالغة الفخامة الواقعة في الطابَق العُلوي بكونها «مقرَّ عمل» لَهُو تقليلٌ من حقيقتها. ولكن لا شكَّ أن السيد ماندر قد اتَّخذ مسكنه بين جدران هذا المتجر.
كانت إحدى المغامرات المثيرة التي سلَب بها ألبابَ أهل لندن، بعد مرور بضعة أشهر على افتتاح المتجر، هي طائرة جايروكوبتر جديدة. لم يعرف أحد اسم المخترع، ولكن وقعت مشكلة ذات يوم حين حامت عبْر سماء لندن، وهبطَت بدقة بالغة على سطح الشقة الذي يُغطِّي المتجر. سُميت الطائرة ﺑ «واثبة ماندر»، إلا أن تلك الرحلة تحديدًا لاقت استهجانًا من السلطات التي لم تقتنع بأن وجود الطائرات على أسطح مباني المدينة أمرٌ آمِن تمامًا. ولكن الملاحقة الحتمية من جانب السلطات أضافت المزيد من الشهرة إلى ماندر ومتجره، وفيما بعد قال كثيرون إنهم سمعوا محركات الطائرة ليلًا، وزعموا أنهم رأوا الرجل الضخم يهبط أحيانًا بها على سطح شقته بعد حلول الظلام.
لم يكن ثمة سبب يُلزمه بعدم القيام بذلك، باستثناء القوانين التي عفَّى عليها الزمن؛ إذ أثبتت «واثبة ماندر» أنها الطائرة الجايروكوبتر التي يبحث عنها الجمهور، وأن القسم الذي يخزن ويبيع «الطائرة التي يمكنك أن تطويَها وتضعها في غرفة، والهبوط بها في ملعب تنس» كان واحدًا من أكثر الأقسام ربحًا في المتجر بأكمله. وكما قال أحد الطيارين المُحنَّكين إن «الواثبة هي الطائرة التي تضمن لك قمة الأمان.»
كانت واجهات العرض بالمتجر ضخمة، وتتغير كلُّ واحدةٍ منها بصفة أسبوعية. وهناك لا ترى تماثيل العرض الشمعية تقف في عزلة، بل معروضة بصورة طبيعية في غرفة مع خلفية مسرحية مناسبة إذا جاز التعبير. ويتم الإعلان عن محتويات كلِّ واجهةِ عرض في صحف يوم الأحد، بحيث يعرف الجمهور المتلهف أين يبحث عن الأشياء الجديدة عندما تُزاح الستائر في صباح يوم الإثنين.
لم يكن المتجر يعتمد على واجهة عرض ثابتة مضاءة بإضاءة كهربائية طَوال الليل. ومع الالتفات إلى ذلك التجديد الغريب الذي ساعده كثيرًا في تعظيم مشروعه، أوضح السيد ماندر لأحد الصحفيين (الذي أوضح بدَوره للجمهور المبتهج) السببَ وراء ذلك.
فقد أخبر الرجل قائلًا: «إنه منزلي، كما ترى. وقد وضعتُ لنفسي قاعدة، وهي أن أُخرج العمل من رأسي بمجرد الانتهاء منه. وفي المساء، وخلالَ عُطلات نهاية الأسبوع، يكون المتجر متجري اسمًا فقط، وأنت لا ترفع الستائر، وتترك الأنوار مضاءة، في المنازل الخاصة أثناء الليل.»
خلالَ الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، تحدثت صحف يوم الأحد عن موسم الملابس التنكرية، وانتقل الكُتَّاب بكل مهارة من العام إلى الخاص، وذكروا أن واجهة العرض الأساسية في الجزء الرئيسي من متجر ماندر «ستعرض» في اليوم التالي مجموعةً رائعةً من الملابس التنكرية، صُنعت بسواعد عمال إنجليز، وبخامات إنجليزية، وبأيدي مصممين إنجليز.
في أي ساعة من الليل أو النهار، يوجد في لندن دائمًا عددٌ من الأشخاص ممن ليس لديهم مهنة واضحة — ولديهم فضول شديد تجاه أي شيء جديد — يكفي لتكوين حشدٍ غفيرٍ على الأرصفة. وفي الساعة التاسعة إلا خمس دقائق، كان أمام متاجر ماندر ثلاثة صفوف من المتفرجين، ظلت أعدادهم تتزايد مع توافُد متفرجين جُدد. صحيح أن الكثير منهم لم يكونوا من الطبقة المرجح أن ترتديَ الملابس التنكرية، إلا أنهم جميعًا ثبَّتوا أعينهم بشدة على الستائر الضخمة التي تحجب وراءها الروائع البديعة بعيدًا عن الأنظار.
وفي تمام الساعة التاسعة، حرَّك أحد الرجال الماكينة التي ترفع الستار، وفي الحال تعالت صيحات التعجب والاستحسان المبتذلة ممزوجةً بصيحات حماسٍ أكثرَ تهذيبًا من الجمهور المُتحضِّر.
كانت مساحة الأرضية داخل واجهة العرض مُزيَّنة كأرضية قاعة رقص، وفي الخلفية كانت توجد فرقة من تماثيل العرض المصنوعة من الشمع تجلس وكأنها في فترة استراحة. كانت اللحظة التي يُصوِّرها المشهد عبارة عن فاصل بين الرقصات، وكان هناك على الأقل أربعون زوجًا من تماثيل العرض يقفون على الأرضية مرتدين أحدث صيحات الأزياء، أو يستندون إلى الجدران في وضعيات متحررة شبه حقيقية كأنها حية.
ولكن كان ثمة استثناء للقاعدة؛ ففي حين أنَّ أغلبَ الحشود المجتمعة خارج المتجر كانت منبهرة بأصالة المعروضات، فقد اكتشف الأمرَ واحد من العوام، بنَّاءٌ ضئيلُ البنية أصْهبُ الشعر، كان يقف على الطرَف.
قال مستهجنًا: «عجبًا! ربما يكون هذا إبداعًا من وجهة نظرِ مَن أعملُ لديهم؛ ولكني لا أُسمِّي هذا إبداعًا!»
قال أحد الواقفين بجواره: «من المفترض أن هذا التمثال لميكانيكي سيارات.»
ردَّ عليه بحزم: «وماذا إن كان كذلك فعلًا؟ ميكانيكيو السيارات ليسوا بالشيء المبتكر!»
وعلى الفور، لفتَ التمثال الذي يرتدي بِزَّة عملٍ زرقاء جميعَ الأنظار إليه. لم يكن أنيقًا ولم يكن معروضًا بأناقة، كما هو الحال مع باقي المعروضات في تلك الواجهة. وكان به شيء آخر أثار صرخةَ ذُعرٍ مفاجئة من جانب إحدى الواقفات بين الحشود، لتنهار وتغيب عن الوعي.
في ذلك الوقت، كان أغلب المتفرجين يتزاحمون حول السيدة المغشيِّ عليها مُتيحين لها أقل قدْرٍ ممكن من الهواء. أمَّا العدد القليل الذي ظلَّ واقفًا أمام واجهة العرض فأخذوا يلهثون ويحدقون، أو يرتجفون. فقد كان هناك فارق بين أروع تماثيل العرض الشمعية وبين شكل جثة رجلٍ راقدة بجواره.
وبينما كانت الحشود المجتمعة ترتعد وتتداول الأمر فيما بينها، اندفع البنَّاء عبْر الطريق متوجهًا إلى رجل الشرطة وتحدَّث معه بانفعال. فأسرَع رجل الشرطة في أعقابه ومر عبر البوابة الرئيسية للمتجر الكبير. وفي تلك الأثناء، أزاح أحدهم جسد السيدة التي فقدت الوعي وسط الحشد، فاندفعت الحشود مرة أخرى لترى المشهد المفزع.
في هذه الأثناء، فقد بضعة أشخاص آخرين وعيهم وأُزيحوا بعيدًا عن الطريق في حينها، أما أولئك الواقفون بالقرب من واجهة العرض فرأوا بابًا في الخلف يُفتح، ومر من خلاله رجل الشرطة ذو السترة الزرقاء. تبعه إلى مشهد «قاعة الرقص» أحد مشرفي المتجر وقد بدا منزعجًا، وعندما اجتازا الباب إلى الداخل، وقف البنَّاء بلا داعٍ يسدُّ بجسده المدخل.
حلَّ صمتٌ مُطبِق على الحشود بالخارج حين تقدَّم الشرطيُّ نحوَ التمثال الذي يرتدي بِزَّة العمل الزرقاء، ومدَّ ذراعه عن آخرها، وأمسك بكتفه. انطلقت صرخة حين اختلَّ توازن الجسد وسقطَ أرضًا، وسقط القناع، كاشفًا عن وجه شاحب تمامًا، دون أي ملامحَ ظاهرية أخرى تربطه بالشمع، ويحمل تشابهًا صارخًا مع وجه السيد توبياس ماندر.
حينئذٍ استدار المشرف وصاح بشيءٍ ما، فأُسدلَت الستائر سريعًا، مثلما ينسدل ستار الأمان المستخدم في المسارح أثناء اندلاع الحرائق، حاجبةً كلَّ أثَرٍ للمأساة عن أعين العامة.
كان الشرطيُّ أحدَ رجال الشرطة المتفوقين جدًّا الذين انضموا إلى الشرطة منذ الحرب. تعرَّف على السيد ماندر، وأدركَ طبيعة الجرح الذي أودى بحياة رجل الأعمال البارع. ثم فكَّ أزرار جزء من بِزَّة العمل الزرقاء.
ثم قال بتمهُّل: «إصابة بطلقٍ ناريٍّ. دعونا نضيء المزيد من هذه الأنوار الكهربائية، وتوجه إلى الهاتف، واتصل برجالنا بأسرع ما يمكنك؛ السيد ماندر، أليس كذلك؟»
قال مشرف المتجر الذي أصابه الفزع وبدا وكأنه على وشك الغثيان: «أجل، هو. هذه جريمة قتل، هذا ما تبدو عليه!»
علَّق الشرطيُّ قائلًا: «ربما! الآن، أبلِغْ رئيسك، واستدعِ رجالنا. سيأتون ومعهم طبيب شرعي.»
هُرعَ مشرف المتجر إلى الباب الخلفي، ودفع البنَّاء بعيدًا عن المدخل، وأغلقَ الباب وراءه. وما إنْ تُركَ الشرطي بمفرده في ذلك المشهد الخاوي من مظاهر الحياة، والذي صار مشهدًا لفاجعة مأساوية الآن، حتى تركَ عينيه تجولان في مشهد قاعة الرقص، لتقعا فجأةً على شيء مُسجًّى على الأرضية بجوار زوجٍ من الراقصين المتحجرين في مكانيهما. نظر إلى ذلك الشيء مُتفحِّصًا إياه، ثم نظر إلى تمثال لفتاة شابة، كانت تجلس متكئة في كرسي إمبراطوري، يحجُبها عن المنظر الأمامي العام أولئك الراقصون الواقفون بلا حَراك الذين ذكرناهم من قبل.
كان تمثال الفتاة الشابة يرتدي تنورة منفوشة، مغطاة بما يشبه رسومات ملونة ﻟ «واثبة ماندر». وفوقها ارتدت عباءة دائرية فضفاضة بها ما يوحي بأنها مظلة هبوط حمراء. وكان مُثبَّتًا فوق رأسها شيء أشبه بمروحة الطائرة ذات زركشة حريرية حمراء، وعلى وجهها قناع أسود من قماش رقيق، بينما ارتدت في يدها اليمنى قفازًا من الجلد.
ومع توخي أقصى درجات الحذر حتى لا يبعثر شيئًا بقدر الإمكان، توجه الشرطي إلى الحِرْز الأول، وانحنى ليتفحَّصه. كان عبارة عن مسدس ماوزر آلي. ومِن عنده توجَّه إلى تمثال الفتاة الشابة. نظر إليها بدقة وإمعان. ثم مدَّ سبابته، وضغط بحذرٍ شديد على كتفها. فجفلَ وزمَّ شفتَيه، وبدا مُترددًا في تحديد ما يجب عليه فعله. في النهاية، عاد ليقف إلى جوار الباب المنزلق المؤدي إلى «المشهد»، وانتظر هناك حتى يأتي أحدهم.
فجأة دخل مدير المتجر، السيد روبرت كيفيم، وكان رجلًا وسيمًا في منتصف العمر ذا ملامحَ حادة وباردة جدًّا. ونظر إلى الشرطي.
ثم قال: «أخبرَني السيد هاي أن ثمة شيئًا مريبًا هنا، سيدي الشرطي.» وأردَف: «أنا …»
ثم توقَّف وبدا عليه الارتباك والحزن الشديدان. لم يكن من نوعية الرجال الذين يفقدون الوعي أو يصابون بدُوار، ولكن منظر ربِّ عمله وهو مُلقًى على ظهره جعله يرتعد خوفًا.
سأله الشرطي قائلًا: «هل تعرَّفتَ عليه يا سيدي؟»
صاح السيد كيفيم بكلمات سِباب ثم أومأ برأسه إيجابًا قائلًا: «رباه، ما الذي حدث؟ هذا هو السيد ماندر … لا أفهم ما حدث.»
رأى الشرطيُّ تعليقه فاترًا. وأردف قائلًا: «أعتقد أن الرجل قد أُطلق عليه النار ولا ينبغي أن أتفاجأ إذا وجدنا قتيلًا آخر أيضًا.»
في تلك اللحظة، بُهِت وجه السيد كيفيم حقًّا، وتحشرج صوته في حلْقه مُصدرًا أصواتًا متنافرة.
تابَع الشرطي قائلًا: «تلك الفتاة الشابة الجالسة على الكرسي هناك تبدو طبيعية أكثر مما ينبغي وكأنها حقيقية وثمة مسدس على الأرض. ولكن يجب أن ننتظر حتى يرسلوا لنا محقق الشرطة قبل أن نتفحص المشهد عن كثَب.»
حوَّل السيد كيفيم بصره على مضض إلى السيدة الجالسة على الكرسي. تفحصتها عيناه من رأسها إلى أَخْمَص قدمَيها، وظلتا هناك تحملقان بها؛ وبدت أكثرَ استدارة ووهَجًا، وارتجف جسده إلى حدٍّ جعَل الشرطيَّ يمسك به بطريقة ودية ليسنده.
قال له: «اهدأ يا سيدي، تماسك!»
قال كيفيم بصوت أجش: «الحذاء … حذاؤها. ولكن لا يمكن … لا يمكن!»
بدا على وجه الشرطي نظرة غريبة. فأخذ يحدق في الرجل الواقف بجواره، وطرح سؤالًا قاطعًا.
«حذاء من، يا سيدي؟»
ابتلع كيفيم ريقه. ثم قال: «لا بدَّ أن ثمة خطأً. بالطبع، هو كذلك. فهو مألوف فعلًا؛ لا بد أنه يباع منه المئات.»
«حسنًا يا سيدي، ولكن ربما تودُّ أن تخبرني إلى أي حذاء تشير؟»
هزَّ كيفيم رأسه، وأردف يقول: «ليس الآن. ربما أُخبرك لاحقًا. ولكن لا أظن أنه سيكون ضروريًّا. في ظنك متى يمكن أن يصل رجالك إلى هنا؟»
قال الشرطي: «إنهم قريبون، وقد يكونون هنا في أي لحظة»، ثم ذهب ليلقيَ نظرة على الحذاء محل الجدل.
لم يكن حذاء سهرة، بل حذاءً للمشي من الجلد البني، ذا رباط مزين بأفعى كانت عيناها أشبه بزِرَّين. كان لا يزال يحدق به حين فُتح الباب.
كان المحقق ديفينش — الذي دخل توًّا وبصحبته محقق برتبة رقيب والطبيب الشرعي — رجلًا نحيفًا طويلَ القامة. كان شعره داكنًا وعيناه داكنتين وبشرته داكنة، ربما يحسبه المرء مواطنًا من جنوب إيطاليا. ترك الطبيب الشرعي يُغلق الباب خلفهما، وتوجَّه إلى الشرطي بعد أن ألقى نظرة جوفاء خاطفةً على السيد كيفيم الذي وقفَ يرتجف بوجهٍ شاحب.
سأل الشرطي الذي ألقى عليه التحية: «ما الخطب؟»
قال الشرطي: «تبدو جريمة قتل وانتحار.»
وأشار إلى جثة السيد ماندر، ثم أشار إلى تمثال السيدة الشابة الجالسة. انحنى المحقق ديفينش فوق جثة الرجل، وفحصها في عجالة، ثم تركها إلى الطبيب الشرعي.
قال موجهًا الحديث إلى الشرطي: «الآن، دعنا نرى الجثة الأخرى»، وكان مدركًا تمامًا أن السيد كيفيم لم يعبأ مطلقًا بجثة السيد توبياس المُسجَّاة على الأرض، وإنما ظلَّ يُحدِّق إلى السيدة الجالسة على الكرسي.
توجه إليها ديفينش، ونزع العباءة الدائرية والقناع برفق عن جسد الشابة الرابض على الكرسي. ثم التفت سريعًا وراءه إثر سماعه صوتَ ارتطام. كان السيد كيفيم قد سقط أرضًا مغشيًّا عليه.