الفصل الثامن عشر
في صباح اليوم التالي، عاد الرقيب ديفيز إلى لندن والْتقَى بالمحقق. كان قد أجرى تحقيقات دقيقة حول الأوضاع في جيلوفر، وكان متيقنًا تمامًا من أن الطائرة الجايروكوبتر لم تغادر الضيعة أو المنطقة المجاورة في مساء الأحد الماضي.
أضاف، حين زَمَّ ديفينش شفتَيه في ارتياب، قائلًا: «لا أظن أن ويبلي صريح كما من المفترض أن يكون يا سيدي. ولكنني واثق من أنه لم يُقلع بالطائرة في تلك الليلة.»
سأله ديفينش: «هل أنت متأكد؟»
أومأ ديفيز برأسه. «حسنًا، أظن ذلك. يبدو أنه تورَّط مع السيد كين بشكل أو بآخر يا سيدي، ولكنه لن يتكلم إلا إذا تمكنَّا من الإتيان بدليل ضده، واستدعائه للمحكمة.»
أخذ ديفينش يفكر. ثم قال: «أظن أنه من الأفضل أن ألتقيَ بالسيد كين مرة أخرى، وإذا استطعت أن أحصل منه على أي إشارة تفيدنا، فسألتقي بويبلي بنفسي. بالمناسبة، السيدة هوو متورطة بشكل ما، وأريد منك أن تراقبها. هناك رجلان يقومان بهذه المهمة حاليًّا، تحت إشراف المحقق هيمب، ولكني سأخبره بأنك ستتولى الأمر.»
صاح ديفيز وقد لاحت في عينيه نظرة اندهاش قائلًا: «السيدة هوو يا سيدي؟»
بدت عليه الدهشة أكثر حين شرح ديفينش له آخر التطورات، وأضاف قائلًا: «قضية المحقق هيمب كانت قضيةً غير رسمية إلى حدٍّ ما. وهو لا يستطيع عرضها على المحكمة. ولذا، سنتولى نحن الأمر.»
وبعد عشر دقائق غادر ديفيز، وذهب ديفينش لزيارة السيد كين.
كان كين قد انتهى توًّا من وجبة الإفطار، في وقت متأخر، وكان يستعدُّ للذَّهاب إلى الريف. كانت سيارته ذات المقعدين تنتظر بالخارج حين ظهر المحقق وأخبره بأنه يرغب في التحدث معه.
سأله كين مبتسمًا: «هل ستطيل؟ لقد خططت لأخذ جولة نهارية في مدينة ساسكس، ويجب أن أنطلق الآن.»
أجاب المحقق قائلًا: «الأمر متوقف عليك يا سيدي. نحن لا نطيل أبدًا على الناس ما داموا يجيبون عن أسئلتنا سريعًا.»
عرض كين عليه أن يجلس، وأشعل غليونه، وأخذ يرمقه في استهزاء. وأردف قائلًا: «إذن، لم تحل العقول الفذَّة في شرطة سكوتلانديارد اللغز بعد! أنا مندهش.»
علق ديفينش بجفاء قائلًا: «أها، هذا هو مربط الفرس. أظن أن لدينا بعض الأدلة المتناثرة هنا وهناك، وكان ينبغي أن يكون لدينا المزيد من الأدلة لو أن كلَّ من قابلناهم أخبرونا بالحقيقة دون إخفاء شيء.»
أخذ يحدج كين بنظرة حادة، وبعد بضع لحظات، ردَّ كين عليه بنظرة جادة.
«عدا أنا بالطبع أيها المحقق، أليس كذلك؟»
هزَّ ديفينش كتفَيه. وعقَّب قائلًا: «لست متأكدًا تمامًا من ذلك. لقد سافر الرقيب ديفيز للتو لمقابلة ويبلي، وفي الواقع لديه شكوك إزاء غرضك من زيارتك للرجل يوم الأحد الماضي.»
تساءل كين في غير حذَر، قائلًا: «وهل رجلك ملزم بقبول رواية ويبلي ورفض روايتي؟»
رفع ديفينش حاجبيه. وسأله: «إذن، هناك روايتان للأحداث، أليس كذلك؟»
لاحظ كين أنه قد اقترف خطأً. فعضَّ شفته.
«هذا يجب ألَّا يكون. ولكنك تلمح إلى أن رواية ويبلي لما دار في لقائنا لا تتفق مع روايتي.»
هزَّ ديفينش رأسه نافيًا. ثم قال: «أنا لا ألمح إلى أي شيء يا سيدي. لقد أدلى ويبلي بأقوال معينة.» ثم توقَّف لبرهة لتترسخ تلك المعلومة، رغم أنه لم يذكر شيئًا عن فحوى تلك الأقوال. وأردف قائلًا: «يبدو لي يا سيدي أن ثمة بعض الشكوك حول ملكية الطائرة الجايروكوبتر، أو بالأحرى حقوق المخترع. لقد استولى السيد ماندر على براءات الاختراع، رغم أنه لم يبتكر الطائرة.»
«وما عَلاقة هذا بجريمة القتل؟»
«هذا هو السؤال الذي نأمُل في الحصول على إجابة له بمساعدتك يا سيدي. ربما تكون حقوق هذا الاختراع قيِّمة للغاية …»
هم كين يقول: «ستكون …»
قاطعه ديفينش قائلًا: «إذا استطاع ويبلي أن يثبت أنه المخترع. يبدو لي أن ماندر، في حياته، استغلَّ جهل الرجل بالموضوع ليخدعه بخصوص البنود والشروط. هذا إن كان هو المخترع من الأساس.»
«ماذا تقصد؟»
ابتسم ديفينش ابتسامةً باهتة. وأجابه قائلًا: «يبدو أنك لم تدرك يا سيدي أن حُجَّة غيابك غير المحددة تمامًا في تلك الليلة، والتي عجزنا عن التأكد منها بأي شكل من الأشكال، بالإضافة إلى الأدلة القاطعة التي وجدناها داخل المتجر، تجعل موقفك صعبًا للغاية. ربما كانت هناك مؤامرة تُحاك ضد ماندر للنَّيل منه، وربما كان الدافع وراء ذلك له عَلاقة بحقوق براءة الاختراع تلك. فإذا استطعت أن تثبت أن زيارتك لويبلي كانت زيارة بريئة تمامًا، لعلي أستطيع تبرئتك. أما إذا حاولت تضليلنا، فعندئذٍ سنُضطر إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة.»
لم يكن كين يعرف ما عرفه، أو كما من شأن ديفينش أن يصفه بطريقته الساخرة، لم يعرف العمق الحقيقي لجهله. بدا له أن ويبلي ربما صرَّح بشيء للمحقق يتناقض مع إفادته. فكر لدقيقة أو دقيقتين، وبدا عليه القلق الشديد، وكان منزعجًا نوعًا ما في قرارة نفسه.
وأخيرًا تساءل: «ما الذي قاله ويبلي؟»
«هذا شأننا يا سيدي. ولكنك لستَ مضطرًا لأن تخبرني أنك ذهبت لزيارة هذا الرجل يوم الأحد لسبب آخر غير الذي ذكرته. فلديَّ ما يشغل بالي، ولا وقت عندي لأضيعه في التراشق بالأسئلة والإجابات. لقد أدلى ويبلي بأقوال معينة كما قلت لك. ومهمتك هي أن تدليَ لي بأقوالك. وإذا جاءت متطابقة مع أقوال ويبلي، ومقنعة بالنسبة إليَّ، فحينئذٍ سيكون كل شيء على ما يرام.»
قطَّبَ كين جبينَه. وسأله بعد فترة صمت طويلة قائلًا: «هل توصَّل رجالك إلى أي أوراق تشير إليَّ عندما فتشوا شقة السيد ماندر؟»
«كلا يا سيدي. لا شيء مطلقًا.»
«هل أفاد ويبلي بأنه هو مخترع الطائرة الجايروكوبتر؟»
«أنت من عليكَ الإدلاء بأقوالك يا سيدي، وليس أنا.»
عضَّ كين شفته.
كان كل ما يعرفه أن ويبلي شرح الآلة لرجال الشرطة. وافتراض أنه لم يفعل سيكون أمرًا خطيرًا. وفي مثل هذه الظروف، ستكون الصراحة التامة هي طوق النجاة.
تمتم قائلًا: «إذن، أعترف بأنك مُحقٌّ أيها المحقق. كنت أحمق حين أخبرتك بما فعلت. لو أنني رأيت حقًّا أنك تشك بأن لي يدًا في هذه الجريمة، لكنت أخبرتك بالحقيقة على الفور.»
«لعلك ستقولها الآن يا سيدي.»
قال كين بمرارة: «سأبذل قصارى جهدي على أي حال. الحقيقة هي أنه عندما افتتح ماندر هذا المتجر، كنت أنا مُفلسًا تمامًا. فبعد أن تركت الخدمة العسكرية، أسست مدرسة طيران. وحققت بعض الأرباح منها، وضعتها في طائرة تجريبية.»
ازداد توتر ديفينش. وثبَّت ناظريه على وجه كين وأومأ له برأسه لكي يُكمل حديثه.
تابع كين حديثه بصوتٍ خافت: «في الواقع، أقصد الطائرة الجايروكوبتر. عكفت على العمل عليها على مدى عامين، وعندما وضعت جميع أموالي في هذه المهمة، أغلقت مدرسة الطيران الخاصة بي، ولم أعرف من أين سأحصل على المال لأواصل العمل. قلصت جميع النفقات إلى الحد الأقصى، وعندما سعيت للحصول على تمويل، وجدت أن ما من أحد سيقترب من آلة تجريبية ما لم أتخلَّ أنا عنها عمليًّا — ولم يُقدِم الكثيرون على القيام بذلك.»
«وهل سجلت براءة اختراع لها يا سيدي؟»
هز كين رأسه نافيًا. وقال: «لم أفعل. لستُ رجل أعمال. كنت أظن أن الناس ربما يبحثون في دورية مكتب براءات الاختراع، ويقلدون اختراعي أو يعدلونه. ولم أكن أملك المال اللازم لرفع دعوى قضائية حال انتهاك حقوقي. وكنت أخشى عرض تصميماتي على الممولين للسبب نفسه.»
«وهل كنت تتوقع منهم أن يشتروا سمكًا في ماء؟»
هز كين كتفيه. وعلَّق قائلًا: «أردت التوصل إلى شخص أمين. اللعنة، فالجميع يعرف ماهية المخترعين أيها المحقق. شخص جاء من خلفية عسكرية ليس مدربًا على مثل هذه الأمور.»
«أكمل حديثك يا سيدي.»
«حسنًا، أضعتُ فترةً طويلةً من الوقت، ثم افتتح ماندر هذا المتجر. كانت جميع الصحف تتحدث عن العبقرية التي يتسم بها، وكيف كان يرى الفرص التي لا يراها أحد، والأموال التي كانت في جَعبته. ثم جاء المقال الذي كتبه بنفسه في إحدى الصحف وتحدث فيه عن فرص مشروع الطلبيات البريدية (لم أكن أعرف ما المقصود بذلك حينها) وكيف يمكن استخدام الطائرات في هذا المشروع. ولم أكن أعرف أيضًا أن هذا المقال كان في أغلبه هُراءً بلا طائل، كتبه له أحد الصحفيين ليثبت أنه سيكون رائدًا حقيقيًّا. ولكن خطر لي أن لديَّ الموهبة والمهارة اللازمتين بفضل طائرتي الجايروكوبتر القابلة للطي، التي يمكن استخدامها للطيران إلى أي مكان والهبوط على أي مكان حيث لا توجد أرضية مناسبة للهبوط.»
«ومن الممكن تعديلها من أجل ذلك.»
«ليس بنفس القدر من الجودة، أيها المحقق. حسنًا، كنت أعيش في فقر مدقع في ذلك الوقت، وكانت الوظائف شحيحة؛ كان العاطلون عن العمل كُثر، ولذا سعيت لمقابلة ماندر وعرضتُ مسألتي عليه. رأيته نذلًا، ولكنه نذل أمين على أي حال. أخبرته بكل ما استطعت إخباره به، وعندما تطرقنا إلى مناقشة التفاصيل، سألني إن كنت أحسبه مختلًّا. قلت له إنني لا أحسبه كذلك، ولكني كنت أعلم ما سيحدث بعد ذلك. فقد سمعت مزحة «شراء السمك في الماء» كثيرًا بما يكفي لتوقع ما هو قادم. ما أسعدني أن ماندر أحجم عن ترديد هذه المزحة وسألني عن خبراتي. فأخبرته، وبدا منبهرًا بعض الشيء. ثم سألني إذا كنت أدرك كم ستكون تكلفة طرح طائرة جديدة في الأسواق.
قربني منه بالطبع لأنني كنت أجيد كل شيء تقريبًا، وكان هو الورقة الرابحة الأخيرة بالنسبة إليَّ، إذا كنت تعرف ما أعنيه. وعندما كان يخوض في تفاصيل وأرقام لا أفهمها، كنت أفقد الأمل تمامًا. لقد كنت أمتلك طائرة رائعة، ولكن ليس أمامي أدنى فرصة لطرحها في الأسواق إلا إذا كنت على استعداد لأن أتوارى بعيدًا عن الأنظار. سألني حينئذٍ عما أظن أنني سأجنيه من وراء ذلك. قبل عامين كان يجدر بي أن أقول مليونًا. ولكن في ظل الواقع الحالي قال إنها يفترض أن تدرَّ لي ألف جنيه سنويًّا طَوال فترة حقوق براءة الاختراع. قال ماندر إنه متشكك جدًّا في هذا الأمر؛ نظرًا لأن الدعاية الصحافية ستكون مكلفة جدًّا، وبوضع كل شيء في الاعتبار، ربما تخفق الطائرة، كما حدث من قبل مع الكثير من الأشياء الجيدة، بسبب فتور الجمهور. لكنه كان على استعداد لتقديم عرض لي على أسس مختلفة.»
أومأ ديفينش برأسه. وعلق قائلًا: «يبدو أنك خضت التجربة المعتادة للمخترعين يا سيدي.»
قطَّبَ كين جَبِينَه. وأردف قائلًا: «بالتأكيد خضتها. حسنًا، أخبرت ماندر أن يطلق عليها اسمًا، وقال إنه سيؤسس قسمًا لبيع الطائرات، وربما يجعلني مديرًا له. ولكن وظيفة كهذه، بألف وخمسمائة جنيه سنويًّا كبداية، كانت وظيفةً ممتازة سيكافح من أجلها الكثير من الطيارين السابقين. وعلى سبيل تبادل المنفعة، كان عليَّ التحليق بالطائرة الجايروكوبتر سرًّا، وإذا حققت نجاحًا، أو أظهرت أي بوادر نجاح، فسيحصل على براءة الاختراع الخاصة بها، وسيعطيني نسبة من عوائد المبيعات.»
«ولكنك بالتأكيد لم تتخلَّ عن الاختراع بمجرد كلمة منه، أليس كذلك؟»
«لم أفعل! ولكن من هنا جاء دهاء العجوز اللعين. قال لي إنه مهما حدث فلن أخسر، وإذا وضعتُ العرضَ المقدم على ورقة وأوقع عليها، فإنه سيبرم عقدًا ويوقع عليه بتعييني لمدة عشر سنوات مديرًا لقسم الطائرات في المتجر الجديد براتب ألف وخمسمائة جنيه سنويًّا، سترتفع إلى ألفَي جنيه؛ وهو ما بدا وكأنني في ترفٍ ونعيم. بالطبع، كنت أعول على العوائد الإضافية من بيع الطائرة.»
«ألم يَذكُر ذلك في العقد؟»
«كلا. كما ترى قال إن ذلك سيكون غير مُجدٍ في الوقت الحالي؛ إذ ربما لا تحقق الطائرة نجاحًا، ولكن نسبة عوائد المبيعات ستكون عشرة في المائة فيما بعد، إذا سارت الأمور على خير ما يرام. تشبثت بقوة بفرصة الحصول على ألف وخمسمائة جنيه سنويًّا، وكنت في غاية السعادة بمقابلة رجل يتيح لي فرصة لتحقيق النجاح والثراء بعد كل الإحباطات التي تعرضت لها، حتى إنني وقَّعت طائعًا. ولم أفكر قط في أي تصرف خبيث من جانبه.»
أومأ ديفينش برأسه. وأردف قائلًا: «يبدو أنك لست الوحيد يا سيدي.»
«هل تقصد السيدة بيدن-هايث؟ كلا، لا أفترض ذلك أيها المحقق. ولكن دعني أواصل حديثي. وقعت عقد الوظيفة، وبعد قدر كبير من المشاكل من أجل العثور على مكان مناسب، أقلعت بالطائرة وأقنعت ماندر بأنه لا بأس بها. ثم بدأ العمل بتعيين أحد الخبراء لإنجاز الرسومات والتصميمات، واستخرج براءات الاختراع العالمية باسمه. وأخبرني بأن اسمي لن يكون له ثقل كاسمه. بعد ذلك أبرم عقدًا مع إحدى الشركات لتصنيع الطائرات، وبدأ حملة دعاية صحفية. ثم افتُتح المتجر، وتسلمت وظيفتي. عرفت أن ماندر أنفق أموالًا طائلة من أجل الترويج لطائرتي، ولكن بمجرد أن شُرِيت، وثبت أنها عملية، صارت تباع من تلقاء نفسها فعليًّا. سعدت كثيرًا وتحمَّست لما هو قادم؛ لأنني كنت أعرف أنها ستكون طائرة المستقبل، ورأيت نفسي أجني المال سريعًا.»
«أظن أنك لم تحصل على اتفاقك الثاني، أليس كذلك؟»
تجهَّم كين. وأردف قائلًا: «ما ظنك! التجربة التي أقنعت ماندر بقيمة اختراعي كنت أنا من أجراها في حضوره. كان ثمة شاهد واحد آخر فقط، ذلك المدعو ويبلي، وبدا شخصًا أحمق جدًّا، رغم أنه قيل لي إنه ميكانيكي.»
«ولكن ماذا عن الرجال الذين ساعدوك في تصميم النموذج الأول يا سيدي؟»
«النموذج؟ أنا من صممته بنفسي يا عزيزي؛ نظرًا لخوفي الشديد من سرقته. وهذه هي المفارقة اللعينة في الأمر كله؛ لقد أمضيت عامين من عمري أعمل بكدٍّ بلا كلل لأبقيَها متواريةً عن الأنظار، ثم تخليت عنها بثمن بخس! بالطبع، حصلت على راتبي، ولكن كنت أكسب ما كان يكسبه أي رجل في هذا المكان. حسنًا، قبل نحو عشرة أيام، فكرت أن أقابل ماندر وأطلب منه أن يصوغ اتفاقي في عقد قانوني دقيق. وطلبت منه أن يعطيَني نسختي كذلك.»
«وهل فعل؟»
«فعل؟ ضحك الوغد، وأنعمَ النظرَ إليَّ بقوة. سألني ماذا أقصد باتفاقي. بالطبع كان لديَّ اتفاق، ولو أنني أشرت إلى البند الذي تحدثت عنه، فسيسعد بمراجعته. ظننت بالطبع أنه نسي، وشرحت له مقصدي. هزَّ رأسه نافيًا، وقال إنه لأول مرة يسمع بذلك. أدركت ما كان ينويه تجاهي بالطبع، وفقدت أعصابي. وأخبرته بأنه لن يبيع المزيد من طائراتي، وواتته الجرأة لكي يقول إن ويبلي هو المخترع، ومن الأفضل لي أن أستوعب ذلك في أسرع وقت.»
ابتسم ديفينش ابتسامةً باهتة. «ولكن هذا غير معقول! كان بإمكانك أن تحتكم إلى القانون قطعًا، أليس كذلك؟»
«ظننت ذلك، وقلته. فبعد أن أثبتت الطائرة نفسها، شعرت أن بإمكاني اللجوء إلى محامٍ ليتولى قضيتي بأتعاب مشروطة، وأخبرت الملعون بذلك.»
«وماذا كان رده؟»
«تحداني أن أفعل ذلك. قال لي إنني ليس لديَّ شهود، ولا أوراق تُثبت حقي. يمكنني اللجوء إلى أي محامٍ يعجبني. وقال لي يجب أن أسعد بما وصلت إليه، بعد أن كنت مُعدِمًا حين جئت إليه؛ كنت بالحماقة التي جعلتني أخبره بذلك في أول لقاء لنا. جعل قضيتي تبدو بلا قيمة على أي حال، وذهبت مباشرة إلى محامٍ وطلبت رأيه بدون ذِكر أي أسماء، فقط عرضت القضية كما لو أنها تخص صديقًا لي. وجاء رأي المحامي متوافقًا مع رأي ماندر. وقال لي إنني أحمق إذا توقعت إثبات أي شيء بدون وجود شاهد، وبدون وجود عقد مُوقَّع من الرجل الذي يقوم بعملية الاستغلال هذه.»
أخذ نفَسًا عميقًا، ونظر إليه ديفينش في تعاطف.
«وماذا فعلت بعد ذلك؟»
«حسنًا، التقيت بماندر مرتين أو ثلاثًا، وحاولت بكل وسيلة أن أحمله على التصرف بنزاهة. أراد أن يدعيَ أنه المخترع في البداية، وبدأ يعبث بالأشياء في ورشة بالطابَق العُلوي، ولكنه عجز عن إتقان تقنية الديناميكا الهوائية، وعندما بدأ التفاوض على الامتيازات الأجنبية رأى أنه لن يستطيع شرح الجزء النظري من عمل الطائرة التي من المفترض أنه صمَّمها. ومِن ثَمَّ لجأ إلى ويبلي الذي يحظى ببراعة شديدة في الماكينات، ولكنه لا يفقه أيَّ شيء آخر.»
«وفي يوم الجمعة الماضية أخبرني بأن ويبلي هو مخترع الطائرة، وكان يضحك وهو يخبرني بذلك. لم أفقد أعصابي هذه المرة، رغم أنني شعرت بأنني على وشك ذلك، لسبب بسيط ألا وهو أنني لا أعرف عملًا آخر يمكنني أن أحصل منه على راتب كراتبي الحالي. كان يدرك ذلك بالطبع، وقال لي لو أنني لم أكن أحمق لبقيتُ في مكاني وأغلقت فمي. ثم بدأت أدرك أنه ربما يخادعني فقط. فذهبت إلى جيلوفر يوم الأحد لأفضح خداعه.»
«لماذا لم تخبرني بهذا يا سيدي؟»
بدا كين مندهشًا. وأردف قائلًا: «حسنًا، بدا لي بطبيعة الحال أن هذا يوفر لي دافعًا للانتقام لنفسي من ماندر. ولم أرغب في التورط بالمشكلة.»
«ولكن ها أنت الآن تخبرني بالأمر يا سيدي، والمشكلة لم تنتهِ بعد.»
«فعلًا. فقط لو أن ويبلي قال …» ثم توقَّف، وتغيَّر لونه، وحدَّق في المحقق. ثم أردف قائلًا: «هل تقصد أنه لم يخبر زميلك قط؟»
هزَّ ديفينش رأسه نافيًا. «لم يخبره بما قلته يا سيدي. أنا سعيد لأنك كنت صريحًا جدًّا، ولكن حريٌّ بي أن أقول إن هذا لا يحسِّن موقفك؛ بالمناسبة، أنت لست على وفاق مع كيفيم، أليس كذلك؟»
«هذا ليس خطئي تمامًا أيها المحقق. أستطيع القول إنه يعتقد أنني متغطرس. وأنا لا أظن أنني كذلك. المشكلة أن كيفيم، الذي أحسبه رجلًا محترمًا جدًّا من نواحٍ أخرى، يعاني من عقدة نقص. عندما سمع أنني كنت ملتحقًا بمدرسة خاصة، ثم انضممت إلى صفوف الجيش، تصور أنني أحتقره، وأتعامل معه من هذا المنطلق.»
قال ديفينش وهو يومئ برأسه إشارة إلى تفهُّمه الأمر: «هل يمكنك أن تفسر لي وجود آثار الإطارات فوق سطح الشقة؟ لقد سمعت بها مني.»
عضَّ كين شفته. وقال: «كلا. هل تستطيع أنت تفسيرها؟ أنا لا أعرف شيئًا عن العمل الشرطي السري، وأنا واحد من القلائل الذين لا يدَّعون أنهم يفقهونه. ولكن يخبرني حدسي بأن ثمة شيئًا غريبًا بخصوص هذه القضية.»
وافقه ديفينش الرأي وقال في جفاء: «شيء غريب جدًّا؛ ولكن ماذا على وجه الخصوص؟»
أجاب كين قائلًا: «ثمة أدلة كثيرة على نحو مبالغ فيه. إذا كان الجاني قد قتل ماندر العجوز، لماذا ينبغي أن يترك وراءه كل هذا الكم من الآثار؟ آثار إطارات فوق السطح، وإن كنت على يقين أن ما من طيار يستطيع أن يهبط ليلًا في هذا المكان، سلاح آلي من قسم الأدوات الرياضية، آثار دماء في مِصعدين، والمزيد منها فوق السطح، خنجر مأخوذ من الشقة؛ يا إلهي، إنه تضليل منظم!»
سأله ديفينش وهو ينظر إليه في تأمُّل قائلًا: «هل يوحي إليك ذلك بأي شيء يا سيدي؟»
«لا شيء على الإطلاق، عدا أن الجاني ذو عقل مُشوَّش للغاية. وعرض الجثتين في واجهة العرض هو آخر حماقاته.»
أومأ ديفينش برأسه مرة أخرى ونهض من مكانه. ثم قال: «حسنًا يا سيدي، لا يمكنني أن أبقيك لوقت أطول من ذلك. سأفكر بعناية فيما أخبرتني به. وفي غضون ذلك، لديَّ مُهمَّة أخرى عليَّ أن أنجزها.»