الفصل التاسع عشر
عندما ترك ديفينش كين، كان يميل للاعتقاد بأنه قد حصل على الحقيقة أخيرًا. ما لم يكن كين ممثلًا بارعًا، فإن روايته للأحداث صحيحة، ولم يتبقَّ سوى أن يلتقيَ بالمدعوِّ ويبلي ويتبين منه طبيعة العرض الذي قدَّمه إليه ماندر بالضبط.
وعلى الفور استقل القطار المتجه إلى جيلوفر وتوجَّه إلى الضَّيعة. وجد ويبلي ينظف إحدى طائرات الجايروكوبتر. اغتمَّ الرجل لدى رؤيته، غير أن نظرة الاستياء التي لاحت على وجهه حلَّ محلها نظرة انزعاج حين سدَّد له المحقق نظرةً متجهمة وربَّت على كتفه.
قال المحقق بنبرة قاطعة: «حسنًا يا ويبلي. أريد منك الحقيقة، لقد قطعت هذه المسافة لأحصل عليها. فما أخبرتني به بشأن زيارة السيد كين مساء يوم الأحد الماضي ما هو إلا حفنة من الأكاذيب.»
تمتم ويبلي متجهمًا: «ليست كذلك!»
«بل هي كذلك، وإذا لم تتحدث بصراحة الآن، فسأستدعيك إلى المحكمة للمثول شاهدًا في التحقيق، وهذا سيكون مزعجًا بالنسبة إليك. لقد التقيت بالسيد كين، وأخبرني بأن السيد ماندر الراحل لم يخترع الجايروكوبتر الواقفة هنا. هل هذا صحيح؟»
أومأ ويبلي في عبوس. «هو؟ لم يكن يفقه شيئًا عن المحركات.»
«هل أنت من اخترعها؟»
في تلك اللحظة، بدت على ويبلي أمارات المكر والدهاء. من الواضح أنه كان يتساءل في نفسه إن كان الخداع في هذا الموقف سيكون آمنًا، وفجأة قرَّر أنه لن يكون آمنًا بالمرة.
غمغم وهو يُخرج علبة سجائر ويسحب واحدة منها قائلًا: «كلا، لست أنا يا سيدي.»
قال ديفينش بحدَّة: «لنُنحِّ هذا جانبًا، وأعرني انتباهك! هل ذكر لك السيد ماندر من قبل أي شيء بخصوص الشخص الذي اخترعها؟»
«قال إنني من اخترعها.»
هزَّ ديفينش كتفيه. «بل قال إنك ستدَّعي أنك اخترعتها.»
«هذا ما حدث.»
«وما الذي حصلت عليه من وراء ذلك؟»
«مائتان وخمسون جنيه.»
«هل لديك أدنى فكرة من الذي اخترع الطائرة؟»
تذمَّر ويبلي. ثم قال: «أعرف أن السيد كين يقول إنه اخترعها، ولكني لا أعلم يقينًا.»
«ألا تعلم أن السيد كين جاء إلى هنا ليحدثك بخصوص هذا، وكان غاضبًا جدًّا لأن السيد ماندر حاول أن يحتال عليه ويسلبه حقوق براءة الاختراع؟»
«هذا ما قاله. لا يمكنني أن أجزم بذلك.»
«هل يمكنك أن تخبرني بما قاله بمزيد من الدقة؟»
«حسنًا، أتذكر أنه قال إن السيد ماندر سرق طائرته، وأنه يحاول أن يحتال عليه ويسلبه حقوق اختراعها، وأراد أن يعرف ما تريد أنت أن تعرفه الآن، إن كان السيد ماندر قد طلب مني أن أقول إنني اخترعتها.»
«وما الذي قلته له؟»
«هو قال …»
«كلا، أريد أن أعرف ما قلته أنتَ.»
بدا الغل على وجه ويبلي. «قلت إن السيد ماندر قد طلب مني ذلك بالفعل، وقد فعلت ما أُمرت به. فأخذ يسب ويلعن، وقال إنه سيحيلها جحيمًا على رأسي.»
«وماذا كان يقصد بذلك من وجهة نظرك؟»
«لم أعرف قصده حينها، ولكن يبدو لي أنه يحاول أن يلصق بي جريمة القتل هذه. فقد قرأت في الصحف أن هناك آثارًا لإطارات طائرة فوق السطح.»
كان في سلوك الرجل شيء مُنفِّر وبغيض، وشعر ديفينش أن العبارة الأخيرة جاءت بعد تفكير. ومن بين روايتَي الرجلين للأحداث، كان يميل إلى تصديق كين.
«إذا وصل الأمر إلى المحكمة، فهل أنت على استعداد لتُقسم على أن الراحل ماندر قدَّم لك هذا العرض، وطلب منك أن تدعي أنك مخترع الطائرة؟»
«أعتقد أنني لا بد أن أفعل، إذا اضطُررت إلى ذلك.»
«هل تُقرُّ بذلك كتابة، أي تكتب إقرارًا بذلك وتوقع عليه؟ هذا لن يضرَّك، بل ربما يساعدك بطريقة أو أخرى.»
فكر ويبلي في طلبه مليًّا، ثم وافق عليه. وعاد مع المحقق إلى الكوخ، وكتب إفادة بالوقائع المتعلقة بالطائرة، ووقع عليها. وبفتور شديد، تمنَّى له ديفينش يومًا طيبًا، وطوى الورقة ووضعها في جيبه. ثم عاد إلى المحطة واستقلَّ القطار التالي المتجه إلى المدينة.
وفور وصوله إلى مكتب سكوتلانديارد، كانت لديه مقابلة مع مفوض الشرطة، ثم استدعاه السيد ميليس، ودخل غرفة مساعد المفوض.
كان السيد ميليس يدخن ويرسُم مخططات بيانية في دفتر الورق النشاف. وفي اللحظة التي دخل فيها المحقق إلى الغرفة، كان قد أكمل رسمًا تخطيطيًّا سيئًا جدًّا لمسدس آلي.
قال بنبرة مرحة: «اجلس أيها المحقق. إن ذهني مشغول بالأسلحة اليوم. أرى مسدسَين، ولولا القهوة لرأيت واحدًا. أظن أنك لم تصل بعدُ إلى أي آثار لذلك المسدس الآخر؟»
هزَّ ديفينش رأسه نافيًا. «كلا يا سيدي.»
قال السيد ميليس وهو يشير للمحقق نحو المسدس بسيجارته: «لقد كنتُ نشيطًا جدًّا اليوم؛ لقد ذهبت لألتقيَ بالحارس. إنه شخص مُسلٍّ، أليس كذلك؟ تُرى هل هو شخص هشٌّ يبدو صُلبًا من الخارج، أم أنه صُلب قلبًا وقالَبًا؟»
بدا الاهتمام على وجه ديفينش. «هذا ما كنت أسأله لنفسي يا سيدي. ظاهريًّا، وحتى عندما التقيت به بعد وقوع الجريمة، بدا رجلًا باردًا مُتبلِّد الحس، ولكن السيد بيدن-هايث يقول إنه جبان، وعصبي كقطٍّ مذعور. بعض الأشخاص العصبيين يتصنعون التجهُّم.»
قال ميليس مبتسمًا موافقًا إياه الرأي: «يشبهون ذلك النوع من الذباب الذي يقف منتصبًا ليبدو كالدبور؛ ولكن لا يمكننا أن نجزم بذلك في هذه الحالة. يومًا ما سيخترع علماء النفس جهازًا لكشف الشخصية. سيقومون بتوصيلك بجهاز كهربائي، وسيكتشفون على نحو مُنزَّه عن الخطأ، إن كنت رجلًا شجاعًا أم جبانًا، رصينًا أم منفلتًا. وبما أننا لا نملك ذلك في الوقت الحالي، فعلينا أن نبذل قُصارى جهدنا بالطرق التقليدية. ما أريد معرفته هو: هل يمكننا الربط بين مان وبين شراء مسدس؟»
«سيكون من الأفضل أن نربطه بدافع يا سيدي. ولكن خطرَ ببالي يا سيدي أنه إذا كان مان رجلًا عصبيًّا متوترًا، فمن المحتمل أن يكون قد زُود بمسدس عندما كُلف بمهام عمله.»
رفع السيد ميليس سماعة هاتفه. وقال: «أعطني رقم السيد كيفيم من فضلك.»
أعطاه ديفينش الرقم واتصل به. وفي غضون دقيقة كان معه على الخط وسأل السيد كيفيم إن كانت الإدارة قد زودت الحارس بمسدس في المساء. وأضاف قائلًا: «مسدس يدوي أو آلي.»
قال كيفيم بنبرة اندهاش: «لا. لو كان لديه مسدس، لأخبرت المحقق قطعًا. ولكن مان بأي حال ليس لديه دافع لقتل اﻟ …»
قاطعه ميليس قائلًا: «أوه، حقًّا. شكرًا جزيلًا» ثم وضع السماعة، والتفت إلى ديفينش مرة أخرى.
«لو أن كيفيم هو الجاني فهو لا يظهر الكثير من المؤشرات المعتادة. فلا يبدو متلهفًا لتوجيه الاتهام إلى الآخرين.»
ابتسم ديفينش. وقال: «بالفعل يا سيدي. لقد سألته عن كين الذي يحمل تجاهه ضغينة. ولكنه كان مستاءً جدًّا من الفكرة. قال إن كين شخص متغطرس، لكنه ليس قاتلًا.»
وافقه ميليس الرأي. «حسنًا، يجب أن نُجريَ تحريات مُكثَّفة لنعرف إن كان مان قد اشترى سلاحًا أم لا. أظن أنه لن يزود في «سلاح الإشارات» بأسلحة خفيفة، ولكن يظل من المحتمل دومًا أن يكون قد عثر على تذكار للحرب، أو اشترى مسدسًا من جندي لديه واحد.»
«لقد فُتِّش عندما غادر العمل في صباح يوم الإثنين يا سيدي كما حدث مع جميع المشتبه بهم. بالفعل كان لديه منفذ متاح للخروج أثناء الليل.»
«هل تقصد الباب الخلفي الذي ذكرته؟ أعرف ذلك. هذه هي المعضلة. قم بزيارة زوجته، أو كلِّف أحدًا بزيارتها، واسألها عما إذا كانت قد شاهدت سلاحًا في حوزته. لديَّ انطباع ضعيف بأنه يتستَّر على شخص آخر — لن أذكر أيَّ أسماء — ولكن لا يمكنك أن تجزم بذلك أبدًا.»
صدَّق ديفينش على كلامه. وقال: «حسنًا يا سيدي. أفكر الآن في مقابلة السيدة هوو. إن لم أستطع أن أحصل منها على معلومة، فسيكون هذا أمرًا غريبًا. إن لم يكن لها عَلاقة بجريمة القتل، فلعلها تسعَد بتفسير الملابسات.»
أومأ ميليس. «فلتنفذ على الفور. شكرًا لك أيها المحقق.»
أحيانًا ما تراود السيد ميليس بعض الأفكار، وكان المحقق أول من أقرَّ بذلك، ولكن في أغلب الأحيان يتبين أنها ذات قيمة مؤثرة، لا مباشرة؛ إذ تكون بمثابة البذرة التي يستخرج منها مرءوسوه الأكثر عملية فرضيات عملية قابلة للتطبيق.
إن الغياب الكامل للدافع، بقدر ما يمكن تأكيده، أخرج مان من دائرة الشك من ناحية، لكن ميليس قال إنه يظن أن الحارس كان يتستَّر على شخص آخر، ما قد يشير إلى أنه في حين أنه لم يلعب دورًا فعَّالًا؛ فإنه يعرف شخصًا لعب هذا الدور.
كانت هذه فكرة مساعد المفوض، وكان ديفينش يفكر فيها، كما كان يفعل مع كل اقتراح يخرج من هذا المكتب. ربما تكون حقيقة أيضًا، لكن ديفينش لم يرَها كذلك في تلك اللحظة. وبينما كان في طريقه إلى شقة السيدة هوو أخذ يفكر في الأمر من جميع الأوجه، وفي النهاية تبلورت لديه فكرة مُعدَّلة رأى أنها تتناسب أكثر مع الأدلة التي في حوزته.
ماذا لو أن مان لم يكن يتستَّر على القاتل، بل فقط يظن أنه كان يفعل ذلك؟
إن أي محقق يدرس الأدلة المتوفرة لديه ليس فقط من وجهة نظر مدعي العلم بالمنطق، وإنما أيضًا من منظور مراقب عملي. فلربما يرفض قَبول ما يبدو أنه إفادة بسيطة وعادية ومنطقية من أحد الشهود، بينما يقبل رواية متلعثمة وغير واقعية من آخر. ومثل المحامي الذي يقف في المحكمة، عليه أن يولي اهتمامًا كافيًا بسلوكيات الشاهد وتصرفاته. ولو أن أيًّا منهما لا يتقن علم الفراسة وفَهم تعبيرات الوجوه، فإنه يرتكب أخطاءً.
كان جيمسون بيدن-هايث سيبدو في نظر رجل الشارع العادي شخصًا مخادعًا. لقد أدلى بإفادات كاذبة، وإفادات خادعة في البداية، ولكن ديفينش وضع في اعتباره وجود حل آخر للغز خلاف كونه مخادعًا، ألا وهو تأثير الشراب على رجل يعاقر الخمر لسنوات إلى حد الإسراف. من يصدق، مثلًا، أن رجلًا في مكانة جيمسون يقتحم منزلًا غير مرحب به فيه، ويظل هناك لساعات على أمل أن يلتقيَ بابنة صاحب المنزل عند عودتها من الخارج؟ ولكن ثبتت صحة ذلك. مرة أخرى حرَص القاتل على ترك أدلة زائفة مربكة وراءه، وهو ما يشير إلى درجة من الحذر والدهاء. لقد أسقط جيمسون عُلبة ثقاب محفورًا عليها اسمه، أو على الأقل الأحرف الأولى منه، وتخلَّى عن البحث عنها بعد محاولة قصيرة. والشخص الذي ترك أدلة ربما تورط ثلاثة أشخاص آخرين، كان من شأنه أن يعثر على علبة الثقاب قبل أن يغادر الممر الضيق الكائن خلف المتجر.
كان مقتنعًا في العموم بأن جيمسون قال الحقيقة؛ أي إنه كان موجودًا في الممر الخلفي مساء يوم الأحد، والتقى بمان عند الباب الخلفي في لقاء قصير، ثم قرع الجرس الخاص بشقة السيد ماندر لبعض الوقت دون أن يأتيَه رد. ولكنه التقى بالجندي السابق قبل أن يقرع الجرس، ومن الوارد جدًّا أن يكون مان، الذي اكتشف آثار الجريمة بعد ذلك ولم يكن يدري بما فعله جيمسون بعد أن تركه، قد ظن أن ضابطه السابق قد قتل ماندر.
ولكن إذا كانت فرضية ديفينش صحيحة، فإن مان لم يلتقِ جيمسون فعليًّا داخل المتجر، وإنما افترض وجوده بالداخل حين عثر بالصدفة على جثة السيد ماندر، وظن أن بيدن-هايث يُضمِر ضغينة ضد القتيل. من جهة أخرى، بالتأكيد أخبرته فطرته السليمة قطعًا بأن جيمسون، حتى لو كان مستعدًّا لقتل رجل ظنه عدوًّا له، أليس من المستبعد أن يقتل امرأة شابة أيضًا؟
ولكن كان على ديفينش هنا أن يواجه مرة أخرى واحدة من تلك المشكلات النفسية البسيطة التي تبرز فجأة في كل قضية. لو أن مان ارتكب هذا الخطأ، لثبَت أنه شخص عصبي وانفعالي كما قال عنه جيمسون. ولا بد أنه فقد صوابه تمامًا لفترة قصيرة. وما جعله يتماسك مرة أخرى فيما بعد هو إخلاصه وولاؤه للرجل الذي أنقذ حياته في الحرب. وهذا الأمر ليس مستبعدًا في قضية من هذا النوع؛ لأن غريزة الولاء لشخص ما أحيانًا ما تتفوق على غريزة حفظ النفس.
لم يرتكب ديفينش خطأ الاعتقاد بأن فرضياته جميعًا تُقدِّم حلولًا للمشكلة، ولكنه كان حريصًا على وضع فرضيات تَصلُح لكل جانب من جوانب القضية ومِن ثَم ينطلق منها بطريقة التجربة والخطأ ليستبعد تلك الفرضيات التي لا تصلح. لم يكن قد وضع أيَّ فرضيات بعد فيما يتعلق بقضية السيدة هوو، ولم يحاول صَوغ واحدة حتى يستجوبها بمزيد من التفصيل.
كل ما كان يعرفه أنها كانت تبتزُّ السيد ماندر أو تحاول ابتزازه، إما بمفردها أو بالاشتراك مع إيفي تيومر. كانت قد حقَّقت بعض المكاسب السهلة مؤخرًا على حساب نساء المجتمع الشابات عديمات الخبرة، اللاتي كانت سمعتهن على المحك، فلم تجد أنه من السهل خداع ماندر الداهية الماكر، بالرغم من أن هناك احتمالًا كبيرًا أن الهروب المزمع لماندر بالأموال كان بسبب الضغط الذي مارسته عليه تلك الشابة الخبيثة. وفي هذه الحالة، إما أنه لم يكن يعرف أن إيفي تيومر متواطئة معها، أو أن السيدة هوو كانت تعمل بمفردها، باستغلال بعض الأسرار التي حصلت عليها من الفتاة المتوفاة باعتبارها صديقة لها، كسلاح للضغط.
لم يكن تورُّط السيدة هوو في القضية، حتى إن كان من بعيد، مجديًا على الإطلاق بالنسبة إلى ديفينش. لقد علمته سنوات خبرته أنه بينما قد يُقتل المبتزون أحيانًا بأيدي ضحاياهم اليائسين، فإن من يعيشون على الأموال المدفوعة لشراء سكوتهم لا يَلجَئون إلى العنف. ويختفون تدريجيًّا عندما تتوقف الدجاجة عن وضع البيض الذهبي الذي تبيضه لهم.
عندما اقترب ديفينش من المبنى الكائن به شقة السيدة هوو، تحدث إلى رجل كان يشعل غليونًا بجوار عمود إنارة.
سأل بنبرة هادئة: «أهي بالداخل؟»
تمتم الرجل وهو يبحث عن عود ثقاب آخر: «قطعًا بالداخل يا سيدي.»