الفصل الخامس والعشرون
كان لطبيعة المشهد المأساوية والرعب المؤثر البادي على وجه مان تأثير غير عادي على جيمسون بيدن-هايث. فقد جلس ثابتًا بلا حَراك، وعيناه تُحدِّقان إلى صديقه البائس، الذي كان يبذل الآن قُصارى جهده للتحدث، بينما تغير التعبير المرسوم على وجهه من الجزع إلى الأسى والرعب.
لم يكن ديفينش، بحكم كونه أكثر اعتيادًا على مثل هذه المشاهد، ينظر إلى مان، أو يراقب محاولاته لتمالك نفسه. بل كان يركز على عبارة معينة استخدمها الشاهد، ولم يكن حتى يركز على العبارة نفسها بقدر تركيزه على تشديد الشاهد على كلمة بعينها.
إن التشديد على الكلمات مهمٌّ في التحقيق الجنائي كأهميته في قراءة الشعر أو نظمه. وخبرة ديفينش العملية في علم نفس الشهود أخبرته أن التأكيد على كلمة واحدة قد يعني الفارق التام بين كذبة كاملة وكذبة بيضاء؛ بين نية مُبيَّتة للخداع والتضليل، وبين محاولة لشراء ضمير الشاهد (فحتى المجرمون لديهم ضمير، وإن كان منحرفًا).
بينما كان مان يلعق شفتَيه الجافتين، ويتململ في كرسيه، ويحاول تجميع أفكاره، أخذ ديفينش يُكرِّر العبارة التي استخدمها.
«أنا لست قاتلًا حقًّا!» عند محاولة الإنكار الشديد، كان التشديد سيصبح على كلمة «لست» بطبيعة الحال. لكن مان لم يُشدِّد على هذه الكلمة، بل صاح قائلًا: «أنا لست قاتلًا حقًّا!» قد تقتل شخصًا ما، ولا تكون قاتلًا، كما هو معروف تمامًا للجميع؛ وفي أذهان المحققين يكون ثمة فارق واضح تمامًا بين القتل غير المتعمد، والقتل مع سبق الإصرار والترصد.
انتظر دقيقة أو دقيقتين حتى يبدأ مان في الحديث، ثم نظر إليه نظرة تشجيع. وقال: «عليك ألا تنفعل. نحن لسنا قضاة وهيئة محلفين كما تعرف، وأنت لست في محاكمة. فقط حاول أن تفكر أن شهادتك قد تكون مفيدة لك بقدر ما هي مفيدة لنا. فالقانون لم يخلق لإزعاج الناس بدون سبب.»
عاد مان للتحديق به مرة أخرى، واستجمع شجاعته بسبب التغيُّر الذي طرأ على نبرة المحقق. فقال: «كان ينبغي أن أخبرك في الحال يا سيدي. تبدو الأمور الآن قاتمةً ومأساوية للغاية.»
«هذا ليس صحيحًا على الإطلاق. ابدأ في سرد قصتك. لديَّ فكرة استطعت تجميع معظم عناصرها بنفسي، ولكن هذه الفكرة لم تدفعني للتحيز ضدك حتى الآن. دعني أساعدك، سأعطيك طرَف خيط لتبدأ من عنده. ذهبت إلى المتجر في العاشرة مساءً تلك الليلة لتبدأ جولتك الأولى. ماذا حدث بعد ذلك؟»
أخيرًا تمكن مان من الحديث، ومع استمراره في الكلام بدأ يتحدث بمزيد من الوضوح وإحساس جديد بالثقة.
قال: «قمت بجولة في المكان يا سيدي، لأرى إن كل شيء على ما يرام، وعندما انتهيت، عدت لأجلس في مكاني. قمت بتشغيل الميكروفون كالمعتاد، لكنني لم أسمع أيَّ أصوات عالية. بذلت قصارى جهدي لمعرفة المشكلة، لكنني لم أتمكَّن من فَهم ما حدث …»
قاطعه المحقق قائلًا: «انتظر لحظة، هذه مسألة مُهمَّة. هل أنت متأكد من أن الجهاز كان مُعطَّلًا حينها؟»
«متأكد تمامًا يا سيدي.»
«لكنك أصلحته بمجرد أن عدت من جولتك — أقصد حاولت تشغيله — وليس عند وصولك في البداية؟»
بدا مان مندهشًا. «لا يا سيدي، لم أقم بذلك إلا بعد الانتهاء من جولتي.»
«إذن هل شغَّلته على الفور بعدها؟ أريدك أن تكون واثقًا جدًّا من إجابتك. فهذا من شأنه أن يحدد لنا الوقت بصورة أو بأخرى. أيمكنك إخباري بالوقت التقريبي الذي حاولت فيه إصلاحه؟»
«في حوالي الساعة العاشرة والثلث يا سيدي.»
أومأ ديفينش. وقال: «حسنًا. تابع حديثك!»
أردف مان قائلًا: «ظننت أنها مجرد مشكلة بسيطة لم أفهمها يا سيدي، ولم ينتَبْنِي أي قلق حيالها، خاصة أنني كنت أنوي الإبلاغ عن العطل في اليوم التالي ليصلحه شخص. لم أعتقد أبدًا أن هناك شيئًا ما قد يحدث في تلك الليلة. لكن فيما بعد، تذكرت ذلك و…»
قال المحقق: «لنترك هذه النقطة حتى تصل إليها. وجدت أن وصلة الميكروفون لا تعمل؛ ومِن ثَم لن تسمع أي أصوات خافتة في الأجزاء البعيدة من المتجر. ماذا حدث بعد ذلك؟»
«حسنًا يا سيدي، كان من المفترض أن تبدأ جولتي التالية في الحادية عشرة والربع، لكن كان عليَّ التحدث إلى السيد بيدن-هايث في هذا الوقت؛ لذا ذهبت إلى الباب الخلفي ووجدته هناك. قضينا وقتًا طويلًا نتحدث؛ لأنه كان منفعلًا بعض الشيء يا سيدي»، ثم توقف ونظر إلى جيمسون نظرة اعتذار ثم أردف قائلًا: «وغاضبًا إلى حدٍّ ما. عندما تركته وأوصدت الباب مرة ثانية، بدأت جولتي الثانية. في تلك اللحظة كنت قريبًا من المصعد القادم من شقة السيد ماندر، وسمعته ينزل بهدوء شديد.»
أومأ ديفينش. وقال: «واصل حديثك.»
«حسنًا يا سيدي، قد تصدق أو لا تصدق، لكنني تذكرت أن الجهاز مُعطَّل، وانتابني شعور مؤكَّد بأن هناك لصًّا ما قام بذلك، وانتابني بعض الخوف. انحنيت وخلعت حذائي، ثم تسللت عائدًا إلى مقصورتي. كنت قد تركت مسدسي هناك، وكنت على يقين من أن شخصًا ما قد اقتحم المكان وسيقوم بسرقته.»
«يمكنني تصديق ذلك يا مان، لكن ماذا فعلت بعد ذلك؛ هل ذهبت للتصدي لهذا الشخص؟»
قال مان بقدر من التردد: «كلا يا سيدي. بينما كنت أخلع حذائي، ظننت أنني سمعت شخصًا ما يفتح واحدة من واجهات العرض تلك. فرأيت أن من الأفضل أن أصعد إلى شقة السيد ماندر، وأقرع الجرس، وأطلب منه مساعدتي. لكنني لم أتمكن من استجماع شجاعتي وركوب المصعد الموجود في ذاك الطابَق الذي ظننت أن لصًّا قد خرج منه؛ لذا ركبت مصعدًا للبضائع حتى الطابَق الموجود أسفل الشقة، وغامرت بالصعود للطابَق التالي. لكن عندما وصلت للباب الأمامي لشقة السيد ماندر، وجدته مفتوحًا، وخطَر لي أن اللص قد اقتحم المكان من الباب الخلفي. بعد لحظة دخلت الشقة، لكن لم يكن هناك أحد …»
قاطعه ديفينش قائلًا: «انتظر لحظة. هل يمكن تشغيل المصاعد من أسفل؟ أعتقد أنه يمكن ذلك. أقصد لا بد أنك استدعيت الذي استخدمه الرجل إلى أعلى، ولم يتمكن من …»
«لم يصعد في ذلك المصعد يا سيدي، بل استخدم واحدًا من المصاعد الأخرى. لقد أردت النزول مرة أخرى، معتقدًا أنني يجب أن أفعل شيئًا، وكان معي مسدسي، لكنني أعترف أنني كنت متوترًا ولم أنزل باستخدام المصعد الذي نزل به.»
«هذا المصعد الذي سمعته ينزل أول مرة، أليس كذلك؟»
«نعم يا سيدي. ركبته لطابَق واحد فقط، بعدها خرجت منه، واتجهت نحو المصعد المجاور. وفي تلك اللحظة شعرت بفزع ورعب شديدَين، عندما سمعته يصعد باتجاهي.»
«ماذا، هل تقصد الرجل؟»
«نعم يا سيدي، وعندما توقَّف هذا المصعد في الطابَق الذي كنت موجودًا فيه، كان عليَّ أن أتخذ موقفًا. أنا جبان يا سيدي للأسف، دائمًا ما كنت كذلك، لكن حينئذٍ حاولت أن أتذكر أنني هنا لحراسة المتجر، فأخرجت كشَّافي ومسدسي في لمح البصر ووجهت الكشَّاف نحو المصعد وهو قادم باتجاه الطابَق الذي أتواجد به، موجهًا إياه إلى أسفل يا سيدي عندما كان الجزء العُلوي من المصعد قد وصل لمسافةٍ بالقرب من ركبتي. كان بداخله رجل، يرتدي قناعًا أسود اللون، وتمكنت من رؤية قطرات متناثرة من الدم على ذراعه.»
اندهش بيدن-هايث. وقال: «قطرات متناثرة من الدم؟»
أومأ مان. وقال: «بمجرد أن رأى الكشاف يا سيدي، لمس زر المصعد وبدأ في النزول مرة أخرى. لكنني حينها شعرت بالكثير من الخوف والغضب، إذا كنت تفهم ما أعنيه، معتقدًا أنه ربما يكون قد تمكَّن من دخول الشقة وقتل السيد ماندر، لذا أطلقت النار عليه، وأصبته. تلك هي الحقيقة كاملة يا سيدي، حتى إن قضيت اليوم بأكمله في استجوابي.»
أخفى وجهه بين يديه للحظة، ثم أزاح يديه ومسح العرق عن جبهته. حدَّق جيمسون إليه في ذهول خلا من أي تعبير. وبدا المحقق متأثرًا.
قال مطمئنًا إياه: «لا عليك. ما من ضررٍ وقع حتى الآن نتيجة قولك الحقيقة. بل إن إخفاءها هو ما وضعك في هذا المأزق. أطلقت النار على الرجل في المصعد، بينما كان المصعد ينزل. ماذا فعلت بعد ذلك؟»
بدا مان مندهشًا من التصديق الظاهر لقصته من أي شيء آخر. قال: «حسنًا يا سيدي، نزلت من طريق آخر، وألقيت نظرة عليه. بطريقة ما، جعلني المسدس أكثر جرأة، ولم يكن من الممكن أن أتركه هناك دون أن أُلقيَ نظرةً عليه، فربما كان يُحتضَر. اتجهت إلى المصعد وفتحته، والمسدس في يدي في وضع الاستعداد. عندما وجهت كشافي نحوه، أدركت أنه ميت، فأطفأت الكشاف ثم عدت مسرعًا إلى مقصورتي. لكنني أدركت أن هذا لن يفيد. فلم يكن يمكنني تركه هناك دون التأكد. عدت مرة أخرى وألقيت نظرة عليه عن قرب. تراءى لي حينها أنه ليس من المعقول أن أُعدم لأنني قتلت لصًّا؛ لذا نزعت القناع عن وجهه، وفي هذه اللحظة تلقيت صدمة حياتي؛ لأنني اكتشفت أن هذا الرجل هو السيد ماندر.»
قال جيمسون: «هل كان يرتدي قناعًا؟ أمتأكد من أن ذلك ليس تلفيقًا منك؟»
هزَّ مان رأسه. وقال: «كلا يا سيدي، وإن كنت في الواقع لم أفهم حينها لماذا كان يرتدي هذا القناع. لو لم يكن يرتديه، لعلمتُ من هو أثناء قدوم المصعد وما أطلقت النار عليه.»
أومأ ديفينش برأسه وقال: «لو أن هذه القصة حقيقية يا سيد بيدن-هايث، فإن أحداثها طبيعية للغاية. لو أن السيد ماندر قتل الفتاة، وفعل ذلك عن عمد، كما يوحي قطع السلك الكهربائي، فلا بد أنه اتخذ بعض الاحتياطات لتجنُّب مقابلة مان هنا أثناء قيامه بجولاته، ولكنه ارتدى القناع تحسبًا لرؤيته. فقد كان يدرك أن الحارس، إذا ما رآه مرتديًا إياه، فسيظن أنه لص، ولن يشك للحظة أنه في الواقع ربُّ عمله. أليس كذلك يا مان؟»
قال الشاهد في لهفة: «لقد كان يعرف مواعيد جولاتي بالطبع. على أيِّ حال يا سيدي لقد شعرت بصدمة أفقدتني توازني لبعض الوقت. كنت متأكدًا أن ما مِن أحدٍ سيُصدِّقني إذا ما قلت إنني قتلته بالخطأ. وحتى إذا أوضحت أنه نزل إلى المتجر مرتديًا قناعًا، كانوا سيسخرون مني؛ لأنني في ذلك الوقت يا سيدي، لم أكن أعلم السبب الذي دفَعه للنزول.»
«وهل عرفت السبب؟»
لعق مان شفتَيه الجافتَين مرة أخرى. وقال: «نعم يا سيدي. أخذت أتساءل وأتساءل عما كان يفعله، ثم تذكرت أنني سمعت بالخلف صوتًا يشبه صوت فتح باب واجهة العرض. أردت الابتعاد عن منظر جثته، وتساءلت إن كان بإمكاني معرفة السبب الذي دفعه للنزول من شقته خلسة بهذه الطريقة؛ لأن ذلك من شأنه أن يساعدني عند الإدلاء بشهادتي.»
«أتقصد لتأكيد صحة كلامك أنه نزل خلسةً وكان يرتدي قناعًا؟»
«أجل يا سيدي. كانت لديَّ فكرة عامة عن مصدر الصوت، لكن لم يكن هناك سوى واجهة عرض واحدة بباب منزلق لتسهيل دخول الموظفة المسئولة عن عرض الثياب، وهو باب واجهة العرض المجهزة كقاعة حفل رقص تنكُّري. أعتقد أن السيد ماندر كان ينزف داخليًّا؛ إذ لم يكن هناك الكثير من الدماء، فتركته بالمصعد وذهبت إلى واجهة العرض تلك. أضأت كشَّافي وأخذت أبحث. إن كنتُ قد أُصبت برعب شديد عند رؤية السيد ماندر، فقد شعرت بأضعاف هذا الرعب عند رؤيتي للآنسة تيومر بالقرب من الجزء الخلفي من واجهة العرض، جالسة على كرسيٍّ خلف راقصَين اثنين، مرتدية قناعًا أيضًا …»
«متى رأيت الآنسة تيومر قبل ذلك؟»
«رأيتها مرتين يا سيدي. جئت أنا وزوجتي للتسوُّق الشهر الماضي، عندما كان هناك تخفيضات خاصة، وأشار لي أحدهم عليها. علمت أنها ليست واحدًا من تماثيل الراقصين الشمعية لأنها كانت ترتدي حذاءً عاديًّا وليس من الساتان كباقي التماثيل الراقصة، فنزعت القناع عن وجهها بحذر، وتعرَّفت عليها.»
سأل ديفينش: «ألم تفحصها عن كثَب لتعلم إن كانت ميتة، وكيف قُتلت؟»
«كنت خائفًا للغاية يا سيدي، ومنزعجًا. لكنني أدركت أنها ميتة. لم يكن هناك شك في ذلك. حسنًا، لقد كنت أرتجف بشدة يا سيدي لدرجة أنني تركتها هناك أيضًا. فكرت في إطلاق صيحة إنذار، لكن من كان سيصدق ما قلت دون الظن أنه مجرد ذريعة لقتل السيد ماندر؟ كنت أحمق، ولكن بسبب كثرة الأحداث، لم أعرف ماذا أفعل.»
«ولكن ماذا فعلت؟»
«تذكرت أن شقة السيد ماندر تُركت مفتوحة، وظننت أنه ربما يمكنني أن أعرف هناك كيف حدث ذلك. صعِدت لإلقاء نظرة. بعدها …»
قاطعه جيمسون. «أتمنى يا مان أن تكون هذه هي الحقيقة فعلًا. فربما يرى المحقق ديفينش أنك تصرَّفت بغرابة شديدة.»
ابتسم ديفينش ابتسامة باهتة. وقال: «لو أن لديك ما لديَّ من خبرة في التعامل مع الأشخاص غير المتعلمين والعصبيين عندما يصابون بالذعر، لَما بدا تصرُّفه غريبًا بالنسبة إليك يا سيدي. إنهم يشعرون بالخوف منا أكثر بكثير من أي نوعية أخرى من الأشخاص، ولديهم اعتقاد خاص أننا نُحرف الحقائق لنتمكن من إدانتهم بأي ثمن؛ فلتكمل حديثك يا مان! ماذا وجدت في الشقة بالأعلى؟»
واصل مان حديثه في توتُّر قائلًا: «حسنًا يا سيدي، أخذت أبحث في كل مكان، ولم أرَ أي علامات تدلُّ على صراع أو أي آثار للدماء، لم أرَ سوى مِعطف السيدة وقبعتها وقفازًا. عندئذٍ أدركت أنها كانت موجودة هنا بالأعلى، وتساءلت كيف قتلها ولماذا. لكنني لم أتمكن من الإجابة، خاصة أنني سمعت أنها والسيد كيفيم كانا حبيبين. وفي النهاية، اقتربت من الباب المؤدي إلى درَج السطح، وكان مفتوحًا على مِصراعَيه. بدا من الغريب فتحه في ليلة في ذلك الوقت من العام. وبدا غريبًا أيضًا أن يُترك مفتوحًا رغم البرد القارس القادم منه.»
«لذا قررت تَفقُّد السطح أيضًا؟»
«نعم يا سيدي. صعدتُ ومعي كشافي وألقيت نظرة في أرجاء المكان، ورأيت الموضع الذي سقط به أحدهم على إحدى كومات الرمال تاركًا بعض الدماء، ومن هنا كانت البداية. اتجهت نحو أحد الحواجز واتكأتُ عليه حتى تمالكت نفسي، بعدها خطرَت لي فكرة. ليتها لم تخطر ببالي؛ لأنها السبب في هذا المأزق الذي أنا فيه يا سيدي، لكنها بدت لي رائعة حينها، وكانت الطريقة الوحيدة التي ستنفي أي صلة لي بكل ذلك.»
«ماذا كانت تلك الفكرة يا مان؛ أتقصد الطائرة؟»
«نعم يا سيدي. كنت أعلم أن طائرةً ما قد هبطَت على السطح ذات مرة، فقلت لنفسي يمكنني أن أجعل الأمر يبدو كما لو أنَّ أحد أعداء السيد ماندر قد اشترى واحدة من هذه الطائرات وهبط هنا، ثم نزل إلى الشقة وقتله هو والسيدة الشابة. كانت هناك آثار إطارات على السطح، وظننت أن الشرطة ستراها وتعتقد أن القاتل قد حلَّق بطائرته مرة أخرى بعد تنفيذ جريمته.»
ابتسم ديفينش. وقال: «رائع جدًّا، لو أن هذا ما حدث بالفعل.»
«حسنًا يا سيدي، ظننت أنني إذا ما جعلت القصة تبدو كما لو أن المجرم قد هبط على السطح وهرب منه ثانية، فإن الشرطة لن تبحث عن القاتل بالأسفل.»
«وبعد أن انتهيت من رسم خُطتك الحمقاء هذه، فكرت أن تقوم بخطوة إضافية أذكى وهي أن تُحدث ضوضاء أشبه بصوت محرك الطائرة؟»
نظر مان إلى المفتش في انزعاج. وقال: «لم أعلم أبدًا أنك قد انتابك الشك حيال ذلك يا سيدي، لكن هذا ما حدث. كنت قد رأيت المحرك بالأسفل على المنضدة، وظننت أنني إذا قمت بتشغيله، فسوف يُصدر ضوضاء وسيكون مسموعًا. لذا نزلت من السطح وقمت بتشغيل المحرك وتركته يعمل، بينما كنت أحاول حينها نقل الجثتَين؛ أقصد إخراج جثة السيد ماندر من المصعد. كان تفقُّد المصاعد جزءًا من جولتي، وكان من المفترض أن أطلق الإنذار عند العثور على الجثة، وهو ما لم أرغب في القيام به، أردت أن يُعثر على جثته في اليوم التالي، ويبدو الأمر كما لو أنني لا أعلم شيئًا، إذا جاز التعبير. ارتديت زوجًا من القفازات وجدته بالورشة؛ إذ أعلم من الصحف أن اللصوص يرتدونها، وأحضرت من أعلى بِزَّة العمل الزرقاء التي عُثر على السيد ماندر مرتديًا إياها. فكرت أنني إذا تمكنت من إلباسها للجثة يمكنني حماية يدي من التلطخ بالدماء وحملها بعيدًا.»
«وبالطبع كان النزيف قد توقَّف قبل قليل من نزولك إلى الطابَق الأرضي مرة أخرى.»
«نعم يا سيدي. شعرت بغثيان شديد من المهمة، لكنني تمكنت من إخراجه من المصعد، وفرشت فرخين من الورق المقوَّى أسفل الجثة، واستغرقت حوالي عشرين دقيقة لأُلبسه بِزَّة العمل الزرقاء دون أن ألطخ يديَّ بالدماء.»
سأله ديفينش: «وعندها رأيت ما حدث لقطعة السجاد بالمصعد، أليس كذلك؟»
«نعم يا سيدي. وتركت جثة السيد ماندر حيث كانت، وأخذت أفكر فيما يمكنني فِعله لإخفاء بقع الدم بالمصعد. لم يكن بإمكاني أخذ سجادة أخرى من أي من المصاعد الأخرى، وفي هذه اللحظة تذكرت أنني رأيت سجادة بالأعلى بحجرة البلياردو الخاصة بالسيد ماندر. صعدت لإحضارها، وأوقفت المحرك الموجود بالورشة عندما كنت هناك …»
«وأزلت ثلاث شمعات إشعال منه؟»
«نعم يا سيدي. فكما تعلم، قد يظن أحدهم أن الصوت لم يكن ناجمًا عن الطائرة، وأن السيد ماندر يعبث بهذا المحرك الموجود على المنضدة لا أكثر. أما إذا فقدت منه ثلاث شمعات، فهذا يعني أن المحرك لا يمكن أن يعمل.»
«بالطبع. هذا ما ظننت. ولكن أكمل.»
مسح مان جبينه مرة أخرى. «شعرت ببعض التحسُّن حينها؛ إذ كان لديَّ متسع من الوقت لأنهي كل شيء قبل فتح المتجر في صباح اليوم التالي، وكنت على يقين من أن باستطاعتي ترتيب كل شيء ليبدوَ الأمر كجريمة قتل قام بها شخص من الخارج، وكنت سأوضح أنني لم أتمكن من النوم في منزلي بسبب ما أعانيه من إصابات، وغفوت أثناء العمل. كان لديَّ الكثير من الأفكار لإبعاد الشك عني، ولم يكن ذلك خطئي بالفعل، كوني ظننته خطأً …»
تدخَّل ديفينش مقاطعًا حديثه. «دعنا نستعرض استنتاجاتنا. قمت بفصل المحرك، وأحضرت السجادة من أعلى. ووضعتها مكان تلك الملطخة بالدماء التي سقط عليها السيد ماندر عندما أطلقت عليه الرَّصاص، ماذا بعد؟»
ردَّ قائلًا: «بعد ذلك يا سيدي، تساءلت عمَّا يمكنني فعله بالجثة. لم يكن من الممكن أن آخذها إلى الشقة بالأعلى وأترك جثة الفتاة في واجهة العرض، وكان من المستحيل أن ألمس جثة الفتاة ولو بكنوز الدنيا؛ أحدهم كان سيئًا بما يكفي وفعل ذلك. كان الدَّور الأرضي بأحد أقسام المتجر ضمن جولاتي، لكن لم يكن متوقعًا مني فتح أبواب واجهات العرض وإلقاء نظرة بداخلها. لذا قررت وضع جثة السيد ماندر بها، بالقرب من جثة الفتاة الشابة.»
أومأ ديفينش. وقال: «هل طرأ بذهنك أن تجعل الأمر يبدو وكأنه جريمة قتل وانتحار، مع وجود عنصر الغَيرة كدافع للجريمة؟»
اندهش مان. «كيف عرفت ذلك يا سيدي؟»
«بكل بساطة. لأنك وضعت مسدسًا في مسرح الجريمة.»
«حسنًا يا سيدي، عندما وصلت إلى هذه اللحظة، ساورني القلق ثانية. لكن هذه المرة لم يكُن القلق إزاء نفسي. لقد أخذت أفكر أنه بما أن السيد ماندر كان على عَلاقة بفتاة السيد كيفيم، فقد يضع ذلك السيد كيفيم موضع شك. وبعدها تذكرت أن الشرطة ستحصل على أسماء وعناوين العملاء الذين اشترَوا هذه الطائرات، وقد يُشتبه في أحدهم؛ أو في ويبلي، ذلك الرجل الذي حلَّق بالطائرة في تلك المرة التي ثارت ضجة حولها. ربما أكون أحمق يا سيدي، وتصرفت بتهور — فأنا بطبيعة الحال جبان، وزاد فزعي عندما رأيت الرجل المقنع يصعد في المصعد — لكنني لم أرغب في تورط شخص بريء في جريمة ارتكبتها خطأً. بدا لي أن الحل الوحيد هو جعل كل شيء يبدو محيرًا قدر الإمكان بحيث لا تثبت الإدانة على أحد.»
عندما توقَّف مان عن الكلام، تحدث جيمسون إلى ديفينش قائلًا: «كانت هذه الفكرة تراودك أيها المحقق.»
أومأ ديفينش وثبت عينيه مرة أخرى على الشاهد. وقال: «لقد نسيت مسألة أن الأسلحة التي قتلت الضحيتين كانت ستخترق الملابس التي كانا يرتديانها أي بِزَّة العمل الزرقاء، والزي التنكري. هل تخيلت ببساطة أننا سنعتبر وجود المسدس هناك، وحقيقة أن ماندر كان يدبر مؤامرة مع حبيبة شخص آخر، دليلًا على أن ماندر قتل الآنسة تيومر في نوبة غَيرة ثم أطلق الرَّصاص على نفسه؟»
«نعم يا سيدي. كان عقلي شبه مغيب. ولم أفكر أبدًا في كل تلك الأمور حينها. تمكنت من حمل السيد ماندر وتعليق جثمانه في واجهة العرض، بعيدًا عن المقدمة. بعدها فكرت في الحصول على مسدس من القسم الرياضي، وحصلت على واحد صغير، يشبه المسدس الذي اشتريته. أخذت أبحث عن رَصاصات له، ولكن بعد قليل وجدت بعضًا منها تحت كومة من الصناديق لم تتحرك كثيرًا منذ أن وضعت مكانها، وأخرجت شمعات الإشعال من جيبي وخبأتها بصندوق هناك.»
زمَّ ديفينش شفتيه. وقال: «ولكن كان لا يزال عليك إطلاق النار منه، وفي سبيل ذلك صعدت إلى السطح مرة أخرى، أليس كذلك؟»
«نعم يا سيدي. كنت أعلم بوجود الرمال هناك، وسمعت عن كيف أن الرمل يعترض طريق رصاصة. لذا توجهتُ نحو الكومة الملطخة بالدماء وأطلقت النار نحوها.»
«يبدو أن هذا ما فعلته يا مان، لكن أكوام الرمال لم تكن متناثرةً عند صعودي، ولم يكن عليها أيُّ أثرٍ يوحي بسقوط أي شخص هناك.»
«بالطبع يا سيدي. بدأت أفكر مرة ثانية في هؤلاء الذين اشترَوا الطائرات، وتحتم عليَّ العمل بحذر، وقمت بتسوية كومة الرمال ثانية. لم أكن أريدك أن تظن أن أحدهما قُتل بالأعلى على يد الشخص الذي هبط بطائرته على السطح في تلك الليلة.»
«فهمت. لقد كنت مشوشًا تمامًا، وكذلك كانت دوافعك. بدأت ترى أنه كلما زاد عدد القرائن التي تتركها، زاد عدد الأشخاص الذين قد يدخلون دائرة الشك في تورطهم بالجريمة.»
قال مان وهو يمرر إحدى يديه على جبهته ويتنهد: «هذا صحيح يا سيدي، لكن هل يمكنني الآن الحصول على كوب من الماء؟ أشعر ببعض الإعياء.»