رسالة
كان «ك» أصغر مني بعشر سنوات، بالإضافة على أنه شخص يَحمل ودًّا شديدًا تجاه عائلة الآنسة «م» المقيمة في نفس النُّزل، وإن وصفت الآنسة «م» على الطريقة القديمة فيُمكن القول إن وجهها وجه غلمان، وعندما سمعتُ أن «م» كانت في مرحلة التعليم في مدرسة البنات، تتعلَّم رياضة القتال بالحراب وهي تَربط عصابة بيضاء على رأسها للخلف فوق ضَفائرها، فكرتُ أنها على الأرجح كانت تُشبه القائد أوشيواكامارو في شبابه. مع أن عائلة «م» تُقيم علاقة مع السيد «س»، و«س» هو صديق «ك»، ولكنه يختلف عن «ك» — كنتُ أسخر دائمًا عندما أقرأ الروايات أن الروائي للتفرقة بين اثنين من شخصيات الرواية، إن جعل أحدهما سمينًا، يجعل الآخر نحيفًا، وكنتُ لا أقدر على منع نفسي من الابتسام عندما يَحرص على أنه إن جعل أحدهما شجاعًا بطوليًّا، يجعل الآخر ضعيفًا ورقيق المشاعر، وفي الواقع كان كلٌّ من «ك» و«س» غير سمينَين. ليس هذا فحسب، بل كان الاثنان مولودَين وهما يَحملان أعصابًا من السهل أن تَنجرِح، ولكن كان «ك» لا يُظهر ضعفه بسهولة مثل «س»، ويبدو أنه يُدرِّب نفسه على ذلك.
هذه هي دائرة علاقاتي هنا «ك»، و«س»، و«م» وأمها، ومع قول إنني أقيم علاقة، فلا يَزيد الأمر عن التنزُّه أو التحدُّث معًا فقط، فعلى العموم لا شيء هنا باستثناء الينابيع الساخنة (وهي نُزلان اثنان فقط)، فما من مقهًى واحد! لا أشعر تجاه تلك الوحدة بالقليل من السخط مطلقًا، ولكن كان «ك» و«س» أحيانًا يشعرون بما يطلق عليه «الحنين إلى المدينة». الآنسة «م» وأمها كذلك … حالة «م» وأمها معقدة. فالآنسة «م» وأمها من المحبِّين لمذهب النبلاء، وبالتالي ما من سببٍ لرضاهما على العيش في وسط هذه الجبال، ولكنَّهما تحسَّان بالرضا وسط السخط، أو على الأقل تشعران بالرضا خلال شهر واحد فقط تقريبًا.
تقع غرفتي في ركن الطابق الثاني، أجلس في ركن تلك الغرفة، وأُذاكر بجد في وقت الصباح فقط؛ لأنَّ الشمس تنصبُّ على السطح الصفيح بعد الظهر، فلا يُمكن قراءة الكتب أو عمل أي شيء آخر وسط تلك الحرارة العنيفة. ماذا أفعل إذن؟ يأتي إليَّ «ك» و«س» ونَقضي الوقت في اللعب بألعاب الورق أو الشطرنج الياباني، أو أمارس النجارة فأصنع وسادة من الخشب (وهي أشهر مُنتجات هذه المنطقة)، أو أنام القيلولة فقط، ثم حدَث ما يلي في عصر يوم منذ خمسة أو ستة أيام. كنتُ أقرأ وأنا أضع الوسادة الخشبية تحت رأسي في كتاب «رِكاب موساشي أوكوبو» المغلف بغلاف سميك من الورق المقوَّى. وعندها فتحت «م» التي تُقيم في غرفة بالطابق الأسفل باب غرفتي وأطلَّت برأسها فجأة، انتابتني الحيرة قليلًا فاعتدلتُ وجلستُ جلسة مُعتدلة لدرجة الغباء.
«ماذا؟ أليسوا هنا؟»
«بلى، لا أحد اليوم هنا … ولكن تفضلي بالدخول.» وقفَت «م» ساكنة عند حافة غرفتي تاركة الباب مفتوحًا كما هو.
«إن هذه الغرفة شديدة الحر.»
بدت لي فقط أذناها شفافتين بلونٍ أحمر قانٍ بسبب إعطاء ظَهرها للضوء، شعرت بما يُشبه الواجب عليَّ فقررت الوقوف بجوارها:
«إن غرفتك معتدلة الحرارة، أليس كذلك؟»
«أجل، … ولكن صوت المروحة الكهربائية مزعج.»
«آه، إن غرفتك قبالة غرفة ذلك المجنون، أليس كذلك؟»
وقفنا معًا لبعض الوقت نتبادل مثل هذا الحديث عند حافة الغرفة المطلَّة على الحديقة، يلمع السقف المُغلف بالقصدير بأشعة الشمس على شكل أمواج، وعندها سقطت حشرة يسروع من على غصن شجرة الكرز التي في الحديقة.
وعندما صدر من اليسروع صوت حفيف خافت فوق السقف المغلف، لوت جسَدَها مرتَين أو ثلاث، ثم ماتت من التعب على الفور، كان ذلك في الواقع موتًا مُفاجئًا تمامًا، وفي نفس الوقت موتًا لا يسبب إزعاجًا لأحد.
«وكأنها سقطت فوق سطح مقلاة على النار.»
«إنني أكره اليسروع كرهًا شديدًا.»
«إنني قادر على مسكها بيدي.»
«لقد قال السيد «س» نفس القول.»
نظرت «م» إلى عيني بجدية.
«السيد «س» كذلك أيضًا.»
على الأرجح أن «م» سمعت ردِّي هذا على أنه عدم اهتمام (في الواقع إنني مُهتم بها أو يجب القول بالحالة النفسية لها). ثم قالت ما يلي وهي تبعد يدها عن السور وكأنها غاضبة: «حسنًا إلى لقاء قريب.»
بعد أن رحلت «م»، واصلت قراءة كتاب «رِكاب موساشي أوكوبو» وأنا أضع رأسي على الوسادة الخشبية، ولكن كنت أثناء ملاحقتي للحروف المطبوعة، أتذكر من حين لآخر حشرة اليسروع …
كانت عادتي دائمًا أن أخرج للتمشية قبل وجبة العشاء على الأغلب، وفي ذلك الوقت أخرج مع «م» وأمها ومع «ك» و«س»، وكان مكان التمشية كذلك لا يتغيَّر عن غابات الصنوبر التي قبل وبعد هذه القرية بمسافة مائتين أو ثلاثمائة متر. ربما كان ذلك حدث قبل أن أرى سقوط اليسروع على الأرجح، كنا كما هو متوقَّع نمشي داخل غابة الصنوبر في حيوية ومرح، كنا؟! … المنطقي أن والدة «م» كانت استثناء عن ذلك؛ فقد كانت تلك تبدو أكبر من عمرها الحقيقي بعشر سنوات على الأقل. وكنتُ أنا أحد الذين لا يعرفون أية معلومات عن أسرة «م» وأمها، ولكن طبقًا لخبر في جريدة قرأته في وقتٍ ما، يُفترض أن تلك السيدة لم تلد «م» ولا الأخ الأكبر لها، وأن الأخ الأكبر قد انتحر بمسدس والده بعد رسوبه في امتحانات قبول إحدى الجامعات المشهورة. وإن صدق محتوى ذلك الخبر، فلقد كتبت كل الجرائد أن انتحار ذلك الأخ يعود سببه الرئيس إلى تلك الزوجة الثانية بعد زواج أبيه منها. أليس شيخوختها المبكرة أيضًا بسبب ذلك؟ كان من السهل التفكير هكذا كلما رأيت شعرها الأبيض رغم أنها لم تَبلُغ الخمسين من عمرها بعد، ولكن على أي حال كنا نحن الأربعة فقط نُواصل الحديث بلا توقف، وعندها يبدو أن «م» رأتْ شيئًا فقالت: «ما هذا؟ إنه مرعب!» وهي تقبض على ذراع «ك».
«ماذا؟ لقد ظننت أن ثعبانًا قد ظهر.»
كان ذلك في الوقع لا شيء، مجرَّد أن عددًا من النمل فوق رمال الجبل تسحب دبورًا أحمر بين الحياة والموت ويذهبون به إلى وَكرهم، كان الدبور الأحمر مُستلقيًا على ظهره ويرنُّ من حين لآخر جناحه المشقوق نصفين ليدفَع حشد النمل بعيدًا عنه، ولكن كان حشد النمل بعد أن يتبعثَر قليلًا، يعود ليتشبَّث بجناحي الدبور الأحمر وأقدامه، توقفنا هناك نتأمل ذلك الدبور الأحمر وهو يقاوم بأقدامه وجناحيه، وفي الواقع كانت على ملامح وجه «م» جدية مريبة لا تناسبها وكانت كما المتوقع تقف بجوار «ك».
«أحيانًا يُخرج سيفه.»
«إن سيف الدبور ملتوٍ كالخُطَّاف.»
قلتُ ذلك للآنسة «م» لأن الجميع صمت.
«حسنًا، لنذهب، فأنا أكره بشدة رؤية مثل هذا المشهد.»
بدأت أم «م» المَشي في مقدمة الجميع، وبالتأكيد بدأنا نحن أيضًا المشي. بسطتْ غابة الصنوبر أعشابها المُرتفعة بهدوء وسكينة، مع توفيرها حيزًا للطريق، وعلى غير المتوقَّع أحدثت أصواتنا صدًى عاليًا داخل غابة الصنوبر تلك، وبصفة خاصة صوت «ك» المُرتفِع، كان «ك» يتحدَّث إلى «س» و«م» عن أخت «ك» الأصغر منه، قال إن أخته التي تسكن في هذا الريف تخرجت لتوِّها من مدرسة بنات، ويقول إنها تشترط أن يكون زوجها رجلًا مؤدبًا ومثاليًّا لا عيب فيه، فلا يدخن السجائر ولا يشرب الخمر.
قال لي «س»: «إذن نحن جميعًا راسبون.»
ولكن كان وجهه في عيني يبدو عليه حياء مريب لدرجة أنه بدا في عيني جذابًا.
ثم أضاف «ك» على الفور: «لا يُدخن ولا يشرب الخمر! … أي إنها تقصد أن يكون شبيهًا بأخيها.»
بدأت تلك النزهة تُسبِّب لي الاستياء، وأنا أجيب عليه بردٍّ لا أهمية له، وبالتالي عندما قالت «م»: «هيا بنا نعود» شعرتُ بالطمأنينة وتنفستُ الصعداء، أدارت «م» قدميها للخلف تمامًا قبل أن ينطق أيٌّ منَّا بكلمة، ووجهها كما هو بنفْس البشاشة والإشراق، وفي طريق العودة لنُزل الينابيع الساخنة، ظلت أم «م» فقط هي التي تتحدث، وبالتأكيد عدنا من نفس الطريق السابق داخل غابات الصنوبر، ولكن كان ذلك الدبور الأحمر قد اختفى بالفعل.
بعد نصف شهر فقط من ذلك؛ لأنني لم يكن لديَّ أية رغبة في عمل شيء ربما بسبب الطقس الضبابي الغائم، ذهبتُ إلى حديقة بها بِرْكة، وهناك وجدت أم «م» وحيدة تجلس على كرسي هزاز، وتقرأ صحف طوكيو، ويُفترض أن الآنسة «م» ذهبت اليوم مع «ك» و«س» لتسلُّق جبل «ي» الذي يقع خلف النُّزل، وعندما رأتني تلك السيدة خلعت نظارة القراءة وألقت عليَّ بالتحية.
«هل أتنازل لك عن هذا الكرسي؟»
«كلا، لا داعي، يكفيني هذا.»
وقررتُ أن أجلس على كرسي خيزران قديم.
«أنت لم تنم ليلة أمس، أليس كذلك؟»
«بل نمت … هل حدث شيء؟»
«لأن ذلك الرجل المجنون أخذ يَجري في الممرِّ فجأةً.»
«أحدث ذلك فعلًا؟ لم أكن أدري.»
«أجل، يبدو أن البداية كانت قراءته في الصحيفة عن الضجَّة الذي حدثت بسبب إفلاس بنك من البنوك.»
تخيَّلت حياة ذلك المجنون الذي يضع وشمًا بأوراق الصنوبر، ثم بعد ذلك — لا حيلة إن سخرَ منِّي — ولكنَّني تذكرت الأسهم والسندات التي يملكها أخي الأصغر منِّي.
«إنَّ السيد «س» مثلًا أخذ يبكي …»
أخذت السيدة أم «م» تسألني عن «س» بطريقة غير مباشرة، ولكنَّني كنتُ أضيف في كل إجاباتي كلمات عدم التأكُّد، مثلًا: «على الأرجح» و«على ما أعتقد» (إنني دائمًا لا أستطيع التفكير في شخصٍ ما إلا كأنه شخص واحد بحاله فقط. ويُصبح كلُّ ما يتعلق بأسرته أو ثروته أو وضعه الاجتماعي حديثًا باردًا تلقائيًّا، علاوةً على ذلك أن الأمر الأسوأ هو أنني عندما أفكر في ذلك الشخص كإنسان فقط، أستخرج من ذلك الشخص النقاط التي تُشبهني وأحدد من خلالها حبي أو كراهيتي له بأنانية)، ليس هذا فقط بل شعرت بالغرابة أن تلك السيدة تريد البحث والتقصي حول «س».
«إن السيد «س» مصاب بعصبية المزاج، أليس كذلك؟»
«أجل، على الأرجح يُسمَّى ذلك مزاجًا عصبيًّا.»
«ولكنه لا يختلف مطلقًا عن الشخص العادي.»
«إنه ولد مدلَّل، … ولكنني أعتقد أنه بات مدركًا لأغلب الأمور.»
أثناء ذلك الحديث اكتشفت حيوان سرطان نهر يزحف على حافة البركة، بل وكان سرطان النهر ذلك يجذب حيوان سرطان نهر آخر قشرتُه الخارجية محطَّم نصفُها، فتذكرت حديث سرطان البحر داخل نظرية التعاون المتبادَل لكروبوتكين. طبقًا لما يُعلِّمه كروبوتكين، يقول إن سرطان البحر دائمًا يذهب ليُساعد أي سرطان مُصاب بجروح، ولكن في الواقع وطبقًا لمراقبة قام بها أحد علماء الأحياء، يقول إن ذلك بسبب أنه يأخذ السرطان المُصاب ليأكله، واصلت حديثي مع أم «م» وأنا أنظر إلى سرطان النهر وهو يَختبئ تدريجيًّا خلف ظلال نبات قصب الدريرة، ولكن في غفلة من الزمن فقدنا نحن الاثنان اهتمامنا بالحديث.
«على الأرجح لن يعود الجميع إلا في المساء.»
قلت ذلك ونهضتُ واقفًا، وفي نفس الوقت شعرت أن وجه أم «م» به تعبيرات محدَّدة، كانت تعبيرات تلمع بها قليل من الدهشة ومعها أيضًا كراهية غريزية، ولكن أجابت تلك السيدة على الفور في هدوء: «أجل لقد قالت «م» شيئًا مثل هذا.»
وعندما رجعتُ إلى غرفتي، مسكتُ السور الذي على حافة الحديقة، وتأملت قمة جبل «ي» الذي يشمخ عاليًا فوق غابات الصنوبر، تتألَّق بقمة الجبل أشعة شمس رقيقة فوق تجمع الصخور، وأنا أشاهد ذلك المنظر شعرت فجأة بمَشاعر تُشبه مشاعر الشفقة تجاه حياتنا نحن البشر …
لقد عادت عائلة «م» مع «س» إلى طوكيو قبل يومين أو ثلاثة أيام، بدأ «ك» يقوم باستعدادات العودة بعد أن اتَّفق مع أخته الصغرى على الالتقاء في هذا النُّزل (على الأرجح أن ذلك سيتأخَّر عن موعد عودتني أنا بأسبوع تقريبًا)، عندما بقيتُ مع «ك» نحن الاثنان فقط، شعرت نوعًا ما بالراحة والاسترخاء. ولا شكَّ أنني كنتُ أخاف أن تكون مشاعري بالرغبة في مواساة «ك»، على العكس تؤثر على «ك» نفسه، ولكن في كل الأحوال، كنتُ أقيم معه بمَشاعر مُريحة نسبيًّا، وعلى أرض الواقع ليلة أمس، ونحن معًا في حوض الاستحمام، تناقشنا لمدة ساعة حول الموسيقار سيزار فرانك.
إنني الآن أكتب هذه الرسالة في غرفتي، نحن هنا في بداية الخريف بالفعل، عندما استيقظت هذا الصباح، اكتشفتُ فوق باب غرفتي صورة لجبل «ي» الصغير وغابات الصنوبر منعكسة بالمقلوب، وأنا أنفث دخان سيجارتي شعرتُ بسكينة غير معهودة في مناظر بداية الخريف الصغيرة تلك الصافية للغاية …
إذن الوداع، إن طقس طوكيو الآن قد بات سهل التحمل صباحًا ومساءً، أرجو منك أن تبلغي سلامي للأطفال.
•••