ثلاث نوافذ
(١) فئران
قبل أن تمرَّ ثلاثة أيام على وصول البارجة للميناء، أمر نائب القبطان بالسماح لكل جندي يصيد فأرًا أن ينزل الميناء لمدة يوم، من أجل القضاء على تلك الفئران، وبالطبع منذ أن أصدر نائب القبطان ذلك الأمر تحمس جنود مشاة البحرية وجنود الآليات في اصطياد الفئران، وعلى الفور بدأ عدد الفئران يتناقَص بوضوح بسبب جهود هؤلاء الجنود، وبالتالي لم يعدم الأمر وقوع الصراع بينهم على الإمساك بفأر واحد.
«إن الفئران التي يأتي بها الجنود مؤخرًا، كلها ممزقة تمزيقًا شديدًا، يمسك الجميع بالفأر من كل جانب ويُجاذبونه فيما بينهم.»
هكذا تحدث الضباط الذين تجمَّعوا معًا في غرفة صغار الضباط وهم يضحكون، وكان الملازم «أ» الذي يحمل وجهًا يشبه الفتيان من بين هؤلاء الضباط. إن الملازم «أ» الذي نشأ باسترخاء في حياة قريبة من التقلُّبات، لم يكن يفهم شيئًا في الحياة حقًّا، ولكنه كان يعرف بوضوح سبب رغبة جنود البحرية وجنود الآليات في النزول إلى الميناء، ينفث الملازم «أ» دخان سيجارته وهو يرد على أحاديثهم هكذا: «هو كذلك بالتأكيد، حتى أنا ربما أُمزِّقه إربًا.»
لا شك أن كلماته تلك لا يقولها إلا أعزب مثله، ولأنَّ صديقه الملازم «ي» تزوج منذ عام تقريبًا كان يتعمَّد أن يصبَّ ضحكاته الباردة على جنود مُشاة البحرية وجنود الآليات على الأغلب، ومن المؤكَّد أن ذلك يتوافَق كذلك مع وضعه المعتاد في ألا يُظهر أمامهم ضعفَه بسهولة، حتى في وقت سُكره بشُرب الكثير من الجعة بشاربه البُني القصير يضع خدوده فوق المنضدة أحيانًا يقول للملازم «أ»: «ما رأيك؟ لِمَ لا نصطاد نحن أيضًا الفئران؟»
في صباح مشمس بعد أمطار، أعطى الملازم «أ» الذي كان الضابط المناوب على ظهر البارجة إذنًا بالنزل إلى الميناء لجندي يُسمَّى «س»، والسبب أن ذلك الجندي قد اصطاد فأرًا صغيرًا، بل كان فأرًا كان الأعضاء بلا نقص. نزل «س» ذو الجسم المتين والقوي حتى بين أقرانه من سلَّم البارجة الضيق في يوم مشمس نادر الظهور، وعندها تحدث إليه أحد زملائه تصادف صعوده بخفة جسمه في نفس اللحظة على السلم مازحًا: «استيراد؟»
«أجل، استيراد.»
ولم يُعقل ألا يصل حديثهما إلى سمع الملازم «أ»، فاستدعى «س» لكي يعود، وسأله وهو يقف على ظهر السفينة عن معنى الحوار الذي دار بينهما.
«ماذا تعني بكلمة استيراد؟»
كان «س» يقف مستقيمًا في وضع انتباه وينظر إلى وجه الملازم «أ»، ولكن كان من الواضح أنه يبدو عليه أنه في ورطة بالغة.
«الاستيراد هو حمل شيء وجلبه من الخارج.»
«من أجل ماذا تَحمله وتجلبه من الخارج؟»
ولكن يعرف الملازم «أ» بالتأكيد من أجل ماذا يَحمله ويجلبه من الخارج، ولكنه عندما رأى «س» لا يجيب، شعر فجأة بالسخط تجاهه، فلكم وجهه بكل ما أوتي من قوة، ترنَّح «س» قليلًا ولكنه عاد على الفور إلى وضع الثبات.
«من الذي حمله وأتى به من الخارج؟»
لم يجب «س» بأية إجابة، ومع تأمل الملازم «أ» له تخيَّل أنه يَلكمه مرة ثانية على جانب وجهه.
«من؟»
«زوجتي!»
«هل أتت به عندما جاءت للزيارة؟»
«أجل.»
لم يستطيع الملازم «أ» إلا أن يضحك في داخل قلبه.
«حملته وجاءت به وهي تضعه في ماذا؟»
«حملته وجاءت به وهي تضعه في وعاء الحلوى.»
«أين يقع بيتك؟»
«في حي هيراساكاشيتا.»
«هل والداك بصحة جيدة؟»
«كلا، أنا أسكن مع زوجتي، نحن الاثنان فقط.»
«أليس لكما أطفال؟»
«بلى.»
وأثناء هذا الاستجواب لم تتغير حالة القلق التي عليها «س». جعله الملازم «أ» يستمر في الوقوف ثم نقل بصره إلى مدينة يوكوسُكا، تراكمت أسطح مباني مدينة يوكوسُكا المزدحمة حتى وصلت إلى داخل الجبال، ومع أن أشعة الشمس كانت تنصبُّ عليها إلا أنها كانت في منظر بائس وضيع.
«لن أسمح لك بالنزول إلى الميناء.»
«فهمت.»
رأى «س» صمت الملازم «أ»، على ما يبدو أنه مُحتار فيما يفعل، ولكن كان الملازم «أ» يعد داخل قلبه الأمر التالي الذي سينطق به، ولكنه لم ينطق بشيء بل أخذ يمشي فوق ظهر السفينة، «إنه هذا الجندي يخاف من إنزال العقوبة عليه.» هذا الشعور ومثل جميع الرؤساء يستحيل ألا يجعل الملازم «أ» لا يشعر بالمتعة.
«يكفي هذا! اذهب بعيدًا.»
قال له الملازم «أ» ذلك، وبعد أن رفع «س» يده بالتحية العسكرية، استدار للخلف ومشى محاولًا الذهاب إلى مدخل الغرف، وبعد أن ابتعد خمس أو ست خطوات بعيدًا وجه الضابط إلى «س» الحديث مجتهدًا ألا يبتسم قائلًا: «أنت! انتظر!»
«أجل.»
التفت «س» للخلف للحظة، ولكن يبدو أن القلق احتاج كل جسدِه مرة أخرى.
«ثمة طلب لي عندك، ثمة محلٌّ في حي هيراساكاشيتا يبيع البسكويت، أليس كذلك؟»
«بلى!»
«اذهب واشترِ لي كيسًا من ذلك البسكويت.»
«هل أذهب الآن؟»
«أجل، في الحال.»
لم يدع الملازم «أ» الدموع التي انهمرت على خدَّي «س» تفلت دون أن يراها.
ثم بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام، كان الملازم «أ» يتصفَّح خطابًا على منضدة غرفة صغار الضباط باسم امرأة، كان الخطاب تتراصُّ فيه حروف قلم مُضطرِب على ورق خطابات بلون وردي، بعد أن قرأ الخطاب مرةً لنهايته، ألقى بالخطاب إلى الملازم «ي» الذي يجلس قبالته بالضبط وهو يُشعل النار في سيجارته.
«ما هذا؟ … «إن ما حدث أمس من جريمة زوجي، وقع كله بسببي أنا ذات القلب الطائش، ولذا أرجو منك العفو عنه بأي شكل دون أن تُسيء الظن به … بالإضافة إلى ذلك لن أنسى لك ما حييت جميل صنعك» …»
برز على وجه الملازم «ي» ملامح الاحتقار تدريجيًّا وهو ما زال يمسك بالخطاب في يده، ثم بعد ذلك نظر إلى وجه الملازم «أ» نظرة متجهِّمة وتحدث إليه وكأنه يسخر منه ببرود: «أنت تشعر بتراكم أفعال الخير لديك، أليس كذلك؟»
«كلا، لم يَحدث ذلك ولو قليلًا.»
فوَّت الملازم الكلام ببساطة وتأمَّل المنظر في الخارج من خلال النافذة الدائرية، لا يُرى من النافذة الدائرية تلك إلا فقط البحر الذي تَهطل عليه أمطار مستمرة منذ وقت طويل، ولكن بعد فترة، وجَّه حديثه إلى الملازم «ي» وكأنه شعر بالخجل من شيء ما فجأة: «شعور مريب بالوحدة، مع أنني عندما لطمتُه تلك اللطمة لم أشعر بالشفقة عليه مُطلقًا …»
أظهر الملازم «ي» تعبيرًا على وجهه لا يُمكن معرفة أهو تعبير عن الشك أم الحيرة. ثم بدأ بعد ذلك في قراءة الجريدة التي كانت موضوعة فوق المنضدة دون أن يقول شيئًا، وفي ذلك الوقت تصادف أنه لم يكن ثمة أحد غيرهما في غرفة صغار الضباط، ولكن كان الكوب الموضوع فوق المنضدة قد غُرس فيه بضعة أعواد من نبات الكرفس، ظلَّ الملازم «أ» يَنفث فقط دخان السجائر وهو يتأمل أوراق ذلك الكرفس، وهو يشعر في نفس الوقت بالأُلفة تجاه الملازم «ي» الفظِّ هذا، ألفة تدعو للتعجُّب!
(٢) ثلاثة أشخاص
ففي الليلة السابقة عن تلك المعركة البحرية اكتشف ضوء مشكاة خافتًا أثناء سيره فوق ظهر البارجة، فذهب تجاهه في هدوء، فوجد هناك عازفًا شابًّا من فرقة الموسيقى العسكرية يزحف على بطنه فوق سطح البارجة يقرأ في الكتاب المقدَّس على ضوء المشكاة مُتخفيًا من أنظار العدو، شعر الملازم «ك» بالتأثر العميق ووجه إلى ذلك العازف الشاب كلمات طيبة، ولكن يبدو أن العازف قد أصابتْه الدهشة قليلًا، ولكنه عندما رأى الضباط الأعلى منه رتبة لا يُوبِّخه ابتسم على الفور ابتسامة أنثوية، وبدأ يرد على كلماته بحرج … ولكن أمسى هذا العازف الشاب الآن جثة هامدة بالفعل ترقُد على جنبها بسبب القذيفة التي أصابت سطح الصاري المركزي، عندما رأى الملازم «ك» جثَّته، تذكر المقولة التي تقول: «إن الموت يجلب للإنسان السكينة» لو كان الملازم «ك» نفسه قد فقَد حياته فورًا بسبب نفس القذيفة، فكر أن تلك كانت ستكون أسعد ميتة يموتها بالنسبة له.
صعد الملازم «ك» متوجِّهًا إلى غرفته في مؤخِّرة ظهر السفينة وهو يَمسح العرق من على جبهته، على الأقل من أجل أن تُنعشَه الرياح، وعندها وجد أمام البريج الدوار لمدفع ١٢ بوصة، الضابط المُناوب على ظهر السفينة وقد حلَق لحيته بعناية يَمشي فوق ظهر السفينة بلا هدف وهو يُشبك ذراعَيه خلف ظهره، ثم أيضًا كان أمامه جندي بوجه ذي عظام خد بارزة، ينظر بوجهِه إلى الأرض قليلًا، يقف في وضع الانتباه وخلفه البريج الدوار بمسافة قليلة، استاء الملازم «ك» قليلًا فاقترب إلى الضابط المناوب بعصبية: «ما الذي حدث؟»
«ماذا؟ لأنه دخل المرحاض قبل وقت قليل من فحص نائب القبطان له.»
كان ذلك بالطبع حدثًا ليس نادرًا بتاتًا داخل السفن الحربية. جلس الملازم «ك» هناك، وبدأ يتأمَّل البحر من الجانب الأيسر من السفينة الذي حجزته الدعامة، والهلال الأحمر الذي اتَّخذ شكل المنجل.
وكان المكان لا يُسمَع به أي صوت لا لإنسان ولا حيوان أو جماد فيما عدا صوت حذاء الضابط المناوب، شعر الملازم «ك» براحة البال إلى حدٍّ ما، وتذكر أخيرًا مشاعره وسط المعركة البحرية التي جرَتْ أمس.
رفع الجندي وجهَه فجأة وتحدَّث مُوجهًا كلامه إلى الضابط المناوب قائلًا: «أتقدمُ مرة ثانية برجاء، وحتى إن سُلبَت منِّي جائزة فعل الخير فلا حيلة في ذلك.»
نظر الملازم «ك» لأعلى تجاه الجندي فجأةً، فشعر بملامح الجدية التامة على وجهه المعتم قليلًا، ولكن الضابط المناوب المُمتلئ بالحيوية، استمر كما هو المتوقَّع في المشي بهدوء فوق ظهر السفينة وهو كما هو يُشبك ذراعَيه.
«لا تقل مثل هذا الكلام الغبي!»
«ولكنني إن ظللتُ أقف هنا في وضع الانتباه، فلن أستطيع أن أُري وجهي لجنودي، إنني مُستعد لتأخُّر ترقيتي.»
«إنَّ تأخر الترقية أمر جلل، بدلًا من ذلك قف في مكانك كما أنت.»
قال الضابط المُناوب ذلك، ثم بدأ مجدَّدًا المشي على ظهر السفينة بلا تكلف، كان الملازم «ك» يتَّفق مع الضابط المناوب في رأيه من الناحية العقلانية. ليس هذا فقط، ولكن لا يُعقل ألا يحمل مشاعر التعاطُف مع ضابط الصف الذي جُرح كبرياؤه، ولكن ضابط الصف الذي تدلى رأسه لأسفل بلا حراك جعل الملازم «ك» يقلق قلقًا مريبًا.
ظل ضابط الصف مُستمرًّا في الرجاء بصوت خافت قائلًا: «إن وقوفي هنا عارٌ لي.»
«هذا ما جنته يداك.»
«إنني أنوي تقبُّل العقاب بصدر رحب، ولكن أرجوك أعفني من الوقوف تذنيبًا فقط …»
«إن نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر العار الشَّكلي فقط، أليس الأمر في النهاية سيان؟»
«ولكن بالنسبة لي فقدان هيبتي أمام جنودي هو أمر لا يُطاق.»
لم يُجب الضابط المناوب على ذلك ألبتَّة، بدا ضابط الصف أيضًا قد يئس فوضع كل قوته في آخر كلماته، ثم ظل ثابتًا بلا حراك دون أن ينطق بكلمة أخرى، زاد قلق الملازم «ك» تدريجيًّا (ولكن ليس معنى هذا أنه لم يحاول ألا يُخدع من ضابط الصف هذا خلال هذا الموقف)، وشعر أنه يريد أن يقول شيئًا ما من أجله، ولكن عندما ظهر ذلك اﻟ… «الشيء ما» على لسانه كان قد تغير إلى شيء ليس له معالم ولا روح: «الوضع هادئ تمامًا.»
«أجل.»
في اللحظة التي نطَق فيها الضابط المناوب بتلك الكلمة، مسح بعدها على ذقنه وتابع المشي، في الليلة التي سبقت المعركة البحرية كان يتحدَّث إلى الملازم «ك» قائلًا: «كما كان شيغيناري كيمورا في الماضي …» وهو يَحلق لحيتَه تلك بعناية خاصة …
بعد أن أنهى ضابط الصف ذلك عقابه، في غفلة من الزمن اختفى عن الأنظار، ولكن ليس هناك شكَّ أنه لا يستطيع مُطلقًا أن يُلقيَ بنفسه في البحر طالَما ظلت خدمة المناوبة موجودة بالطبع. ليس هذا فقط بل إنه اتَّضح قبل مرور نصف يوم أنه لم يكن موجودًا في مخزن الفحم الذي يَسهل الانتحار داخله.
ولكن اختفاء ضابط الصف هذا يعني بالتأكيد أنه مات، ولقد ترك وصيتَين واحدة لأمه وأخرى لأخيه الأصغر، وبدا لكلِّ ذي عينين أن الضابط المناوب الذي أوقع العقوبة عليه في حالة عدم اتزان، وربما بسبب جبنه تعاطف معه الملازم «ك» أكثر من أي شخص آخر، ولم يقدر الملازم «ك» إلا أن يُجبره على شرب العديد من أكواب الجعة التي لا يَشربها هو شخصيًّا. وفي نفس الوقت لم يستطع إلا أن يَقلق من أن يَسكر.
«لقد كان عنيدًا على كل حال، ولكن مع ذلك ما من ضرورة لأن يموت، أليس كذلك؟»
عندما سقط الضابط المناوب من فوق مقعده كان يُكرر ذلك القول مرات ومرات.
«لم أقل له إلا: قِف ثابتًا فقط! ولا يجب أن يموت من أجل ذلك …»
كان موت أولئك الثلاثة أشخاص يُلقي بآثار كئيبة على قلب الملازم «ك»، بل لدرجة أنه بدأ في وقت ما يُفكر أن الحياة بقدها وقديدها داخل هؤلاء الثلاثة، ولكن جعلت الشهور والسنين ذلك المُتشائم يُعد واحدًا من قادة البحرية الصغار حسَني السمعة داخلها. كان كلما عُرض عليه الكتابة بالفرشاة نادرًا ما يقبل العرض ويُمسك الفرشاة، ولكن في الحالات التي لا يجد معها وسيلة للرفض، كان من المؤكد أن يكتب ما يلي:
انظر إلى العينين.
إن لم تنطق لن يأتيك الندم.
(٣) البارجة xx من الدرجة الأولى
•••