الفصل الخامس عشر

صلالة

١٩٩٢

كان ثمة شيء محير في الجزء الجديد بين يوميات وردة. لم يكن لديَّ شك في أنها الكاتبة، فهو نفس الخط الذي طالعني في الكراسات السابقة: الكلمات الكبيرة الحجم الحروف الواضحة التي تنطق بالجرأة والتحدي، العبارات المقتضبة، الدقة في نقل المشاهدات والسماعيات، التمحيص الصارم لسلوكياتها وعالمها الداخلي، المتابعة الواعية لما يجري في العالم من تطورات، التساؤلات المستمرة حول كل شيء. ومع ذلك خالجني شعور بأن شيئًا ما ينقصها.

أغلقت الكراسة ودققت النظر في غلافها المهترئ ثم عدت أقلب الصفحات. رغم غياب الترقيم لم يبدُ أن شيئًا اقتطع منها أو أضيف إليها، فقد كان الانتقال من صفحة إلى أخرى سلسًا ومنطقيًّا ومتفقًا مع التواريخ المثبتة في بداية كل فقرة. كما أن دبوس الوسط كان في مكانه وليست حوله أية علامة تشير إلى أن أحدًا عبث به أو حاول انتزاعه من مكانه.

أعدت قراءة بعض الفقرات وتوقفت عند السطور الأخيرة ثم استعرضت في رأسي الأجزاء السابقة. وأخيرًا أودعتها مخبأ السجادة وغادرت الغرفة.

بحثت عن مواطني المصري فوجدت أنه يؤدي صلاة الجمعة في إحدى غرف الطابق الأول، انتظرته في البهو حتى جاء، فلجأت إليه: هل تعرف أبو عامر؟

ضحك: الغميري؟ من هنا لا يعرفه. إنه من شيوخ الأفخاذ. وأغلب بقاليات صلالة وصيدلياتها ملكه.

قلت: هل يمكن أن تحصل لي على رقم تليفونه؟

– غالي والطلب رخيص.

مضى إلى الاستقبال وفتش في أحد الأدراج ثم نقب في بعض الدفاتر وعاد إليَّ بالرقم. تذكرت زكريا الذي حذرني من سعر المكالمة التليفونية، لكن لم يكن هناك مفر من التهور.

ردَّ عليَّ صوت ذو لكنة غريبة: بيت الغميري.

قدمت نفسي، فطلب مني صاحب الصوت الانتظار. مضى وقت طويل حسبته بالريالات ثم جاءني صوت فخم عميق القرار: معك أبو عامر.

ذكرته بأننا التقينا في مخيم أبي عبد الله وأنه وعد بمقابلتي.

قال على الفور: أهلًا بك وسهلًا في كل وقت. هل أنت حر الليلة؟

لم أتمكن من إخفاء اللهفة في صوتي: نعم.

قال: إذن سأبعث إليك بسيارة في السابعة مساءً. يناسبك الموعد؟

قلت: عظيم.

كنت أعرف أن سالم مع أخته واستبعدت مقدم خلف في يوم العطلة الأسبوعية، ومع ذلك تجنبت المطعم واستطعت أن أحصل من خدمة الغرف على طبق من الاسباجيتي بصلصة الطماطم والجبن وبضع سلطات.

استرحت قليلًا بعد الغداء ثم استحممت وغامرت بطلب القهوة. وقضيت الوقت بين الشرفة والتليفزيون إلى أن دقَّ التليفون في الساعة السابعة.

وجدت في انتظاري سائقًا هنديًّا أو باكستانيًّا أو بنجلادشيًّا، فلم أتمكن بعد من التمييز بين الجنسيات الثلاث، ربما لأنهم في الحقيقة عنصر واحد. انطلقنا إلى مرباط، وفي هذه المرة تمهلنا في الجزء القديم من البلدة حيث يسكن صيادو السمك ورجال الفرق الوطنية. ومررنا ببضع بيوت مهجورة تركها أصحابها إلى منازل حديثة متواضعة بنيت بشكل عشوائي برزت من سطوحها المزاريب المتعددة شاهدة على ما تفعله الأمطار.

توقفنا أمام منزل قديم من طابقين محاط بسور حجري مرتفع به بوابة حديدية تزينها كتابة قرآنية. انفرج باب صغير إلى جانبها عن هندي اقتادني في صمت عبر ردهة مبلطة بالسيراميك إلى باب آخر مفتوح على باحة غير مسقوفة. اجتزناها وولجت قاعة واسعة عبقت برائحة زكية وتكدست بها الفوتيات الضخمة فوق سجاجيد سميكة. وتصدرها جهاز تليفزيون كبير الحجم داخل قطعة أثاث خاصة به يعلوه جهاز فيديو.

جلست في إحدى الفوتيات أمام مائدة صغيرة مذهبة الحواف تحمل صينية مدورة عليها إبريقان من العصائر أحدهما لجوز الهند والآخر للبرتقال، وأطباق عديدة لسلاطة الفاكهة والموز والفافاي والفستق والبومبون والفطائر والبسكويت والكعك.

أقبل عليَّ أبو عامر بعد لحظات، فاحتضنني وقبل كتفي الأيمن ثم اتخذ المقعد المواجه مستندًا بذراعه اليسرى إلى المسند ومسلطًا عليَّ عيني النسر.

علقت على الرائحة فأبدى دهشته: ألم تشم خشب العود من قبل؟ إنه بخور نادر. قطعة صغيرة في حجم الليمونة يمكن أن يصل ثمنها إلى مائة ريال.

هززت رأسي متعجبًا، فمائة ريال تعني ثلاثمائة دولار بسعر ما قبل حرب الخليج، أو ٨٠٠ جنيه مصري، أي راتب شهر لموظف محترم.

أشاح بيده في غير مبالاة: هذا لا شيء. في قصر سيدي السلطان يحرقون كميات هائلة منه كل يوم.

دخل الهندي الذي استقبلني وصبَّ لي كوبًا من عصير جوز الهند. شربت جانبًا من الكوب ثم وضعته جانبًا.

قال: جرب هذه الفطائر.

قلت: إني لست جائعًا.

أطرق برأسه ولاحظت خاتمًا ذهبيًّا كبيرًا في بنصر يده اليسرى التي طوقتها ساعة ذهبية كبيرة الحجم.

استجمعت شجاعتي وقلت: أمس زرت مركز التأهيل النسوي والتقيت بابنة أخيك.

قال وهو يجمع ثوبه تحت فخذيه ويعتدل في جلسته: سمعت.

كنت حائرًا بشأن الأسلوب المناسب لطلب رؤيتها. وأغناني هو عن المحاولة.

نهض واقفًا وهو يقول: سأدعوها لتنضم إلينا.

غادر الغرفة فجلت ببصري في أنحائها، كانت لها نافذة تشرف على الباحة التي تتوسط المنزل ولا يوجد بها منفذ يطل على الشارع. ولمحت عدة مجلدات في خزانة مجاورة للتليفزيون فنهضت ومضيت إليها. تصفحت العناوين: تاريخ البوسعيديين لابن زريق، البداية والنهاية لابن كثير، والموسوعة العتيدة التي تخبرك بالسبب في تسمية ابنك زيد أو علي.

عدت إلى مقعدي واضطجعت فيه ورفعت عيني إلى السقف المرتفع الذي توسطته مروحة كهربائية. كانت هناك كتابة بماء الذهب حول السقف ميزت فيها آية قرآنية. وهبطت عيني إلى صورة قديمة للسلطان في مقتبل شبابه تختلف تمامًا عن صوره الحالية. فقد بدا شابًّا نحيفًا قصير القامة عديم الثقة بالنفس يبتسم في خجل.

عاد أبو عامر بعد قليل واستقر في مجلسه وجمع ثويه تحت ساقه التي ثناها أسفله ومدَّ يده إلى أصابع قدمه العارية.

قال: ابنة أخي تعتذر لأنها متعبة.

نظر إليَّ في دهاء فأخفيت خيبة أملي.

قال: لم تشرب العصير. لعلك تود شيئًا آخر؟

لم ينتظر إجابتي وقال: سأصلي أولًا.

أحضر له الهندي سجادة الصلاة وفرشها في ركن القاعة بزاوية تواجه القبلة وتجعله قادرًا على رؤيتي بطرف عينه، هكذا تجمدت في مكاني حتى انتهى من الركعات الأربع وختم الصلاة بالسلام الموجه إلى ملاكي الكتفين.

التقط الخادم الهندي السجادة وطواها ثم خرج وعاد يحمل صينية فوقها زجاجة ويسكي وإناء ثلج.

قال: نشرب كأسين قبل أن نتعشى.

قلت: لا أريد أن أثقل عليك.

قال وهو يصب كأسين ويناولني أحدهما: إننا لا نلتقي بأحد من مصر الشقيقة كل يوم. حدثني عنها. لقد زرتها مرة واحدة منذ ثلاثين عامًا.

قلت: لقد تغيرت كثيرًا.

قال: نحن أيضًا تغيرنا.

لم أفهم هل يشير إلى تقدمنا أنا وهو في السن أم إلى أوضاع بلاده، فاخترت تعليقًا دبلوماسيًّا: التغيرات واضحة في كل مجال.

– قل لي، هل جربت لحم الضبع؟

فوجئت بالسؤال ولعل بعض التقزز بدا عليَّ، فضحك وأشار إليَّ بأصبعه: أنت منهم إذن.

قلت: من هم؟

– بعض سكان الجبال عندنا يحرمون قتل الضبع لأنهم يعتقدون أنه فرس الساحر ومن يعتدي عليه يصاب بنوع من القصاص. والبعض الآخر يؤمن بأن الضبعة هي فرسة النبي وأنه عاقبها مرة بضربها على رجليها الخلفيتين فالتوتا وبعد ذلك أصبح لحمها حلالًا. صدقني إنه شهيٌّ جدًّا. وله فوائد جمة: فمن يشكو من ألم في ظهره عليه أن يأكل من لحم ظهر الضبع، والذي يشكو من ألم في القدم اليمنى عليه أن يأكل من لحم القدم اليمنى، وهكذا.

قلت: كان لدى أبي نفس الاعتقاد. لا بالنسبة للضباع، وإنما بالنسبة لحكاية الأجزاء المتماثلة. عندما بلغ سني الحالية كان يحرص على أكل بيض الغنم.

ضحك وصب لي كأسًا ثانية.

أحضر الهندي تنورًا مشتعلًا وضعه على الأرض بالقرب من قدمي أبي عامر ثم غادر الغرفة وعاد بمائدة صغيرة تحمل صينية بها عدة لفافات من الورق المفضض وإناء زجاجي كبير به مادة سوداء لينة. وضع المائدة أمام أبي عامر مباشرة وجلس على الأرض بينها بين التنور.

– لا تخف. أعفيناك من أكل الضباع. سنأكل أكلة ظفارية معتبرة.

شمَّر عن ساعديه وفك غلاف إحدى اللفافات كاشفًا عن كومة من أوراق الموز. واحتوت اللفافة الثانية على قطع من اللحم المُتبل. تناول قطعة وأزال ما علق بها من بصل ثم لفها بعدة طبقات من أوراق الموز، ومدَّ إصبعه إلى الإناء فغمسه في المادة السوداء ودهن بها أوراق الموز. كرر هذه العملية عدة مرات حتى أصبحت قطعة اللحم المغلفة جسمًا غليظًا أسود اللون، ثم ناولها للهندي الذي وضعها في النار.

أشار إلى المادة السوداء قائلًا: هذا الطين يتصلب في النار فينضج اللحم داخله.

تناول قطعة جديدة من اللحم وشرع في تغليفها بأوراق الموز وهو يتكلم: هذه المنطقة لم تكن شيئًا أيام السلطان السابق. كانت لقبيلتنا أراضٍ واسعة لكننا كنا نجد صعوبة في الحياة. ذهب أخي إلى الكويت وعند عودته انضم إلى الثوار وانضممت إليه.

غلف القطعة بالطين في عناية وناولها للهندي الذي وضعها في النار.

– في صيف ٧٠ جاء سيدي قابوس إلى السلطة وبدأت عملية البناء. نزل شباب كثير من الجبهة إلى صلالة وبعد أن تأكدت الحكومة من حسن نواياهم سلمتهم وظائف في المؤسسات الجديدة. وبدأنا نجني ثمرات التغيير، فأبناؤنا يذهبون للمدارس في مراكز الجبل وإبلنا ومواشينا يصلها الماء بعد أن كنا نسير عدة كيلومترات حتى نصل إليه، والمؤن تصلنا ونتسلم مخصصات من الكساء تقينا الحر والبرد. وبدأت مطالبنا التي كنا نحاول تحقيقها من خلال الكفاح المسلح تجاب. فماذا تبقى أمامنا؟

انتهى من دهن القطعة الأخيرة فأعطاها للهندي الذي وضعها في التنور ثم ثبت فوقه الغطاء الفخاري ورفع الصينية وما تبقى بها من أوراق الموز والطين وحملها إلى الخارج. عاد بصينية أخرى تحوي إناء الأرز المحتوم وطبقين وأدوات مائدة لاثنين وضعها فوق المائدة الصغيرة. اقتعد الأرض تحت أقدام أبو عامر وتحول إلى تمثال جامد ثبتت عيناه على التنور المغطى.

رآني أنظر إلى الهندي فقال: أسميناه طاغور على اسم الشاعر العظيم، فهو يتمتع بالحكمة. لا يفتح فمه أبدًا.

أعدته إلى الموضوع: لكن الثورة استمرت مدة بعد ذلك.

ملأ لنفسه كأسًا وصب لي: هؤلاء كانوا نفرًا قليلًا من الشيوعيين آواهم اليمن الجنوبي. ظلوا يرفعون شعارات العنف الثوري والمجتمع اللاطبقي وحكم البروليتاريا. الناس هنا قوم بسطاء لا يفهمون إلا ما يحسونه ويلمسونه.

سكت لحظة وهو يتأملني بتركيز ثم وضع يده على صدره عند القلب: أما أنا فما في القلب يظل في القلب.

فكرت في مغزى العبارة الأخيرة. وجرع هو كأسه ثم التفت إلى الهندي وأوما برأسه. كشف هذا غطاء التنور وكانت النار قد همدت وبرد الجمر. مدَّ الهندي أصابعه والتقط إحدى القطع بسرعة وكسر الطين المتحجر حولها ثم ألقى بها في الصينية.

قلت: في نهاية الخمسينيات تعرفت في القاهرة بمجموعة من الطلاب العُمانيين كانت أم وعد بينهم. هي وأخوها. كان اسمها شهلا، وكنا ننادي أخيها باسم يعرب.

ظل يحدق في محتويات التنور دون أن يعلق.

استطردت: ماذا جرى لهما؟

تناول قطعة اللحم وأزال أوراق الموز التي تغلفها ووضعها في أحد الطبقين ثم قدمه إليَّ دون أن ينظر ناحيتي. تناولت الطبق وأمسكت اللحم بأصابعي ثم أسقطته على الفور من فرط سخونته.

استغرق في نزع أوراق الموز عن قطعة ثانية ثم قال: هناك الكثيرون الذين فُقدوا في الحرب وضاعت آثارهم. لا أعرف ماذا حدث لوردة. فهذا هو الاسم الذي اشتهرت به. كنت تعرفه؟ أنا نفسي لم أقابلها مطلقًا. أما أخي فقد ركب رأسه وظل مع الجبهة إلى النهاية.

– استشهد؟

– في الغالب. اختفى معها.

– وخال وعد … يعرب؟

– لا أعرفه.

– لم تسمع عنه؟

تردد لحظة ثم قال: وردة أصلًا من الباطنة في الشمال ثم نزح أهلها إلى صنعاء، وعندما جاءت إلى ظفار كنا نقاتل في منطقتين مختلفتين فلم نلتقِ، ثم تركت أنا الجبهة وافترقت عن أخي ولم أرَه بعد ذلك أبدًا.

أمسك بإصبع اللحم ووضعه في فمه وحذوت حذوه. كان اللحم طريًّا شهيًّا طيب المذاق.

انهمكنا في الأكل وهو يحدثني عن طفولته والحياة في مخيمات الجبل. وأحضر لنا الهندي الحلوى، لكني اكتفيت بكوب من الشاي الأخضر، وعندما فرغت من احتسائه تطلعت إلى ساعتي فوجدتها تقترب من الحادية عشرة.

قلت: الوقت تأخر ويجب أن أرحل.

قال دون أن يتحرك من مكانه: ستقضي الليلة عندنا. الوقت تأخر فعلًا والسائق نزل صلالة وسيقضي الليلة هناك. سيعود في الصباح ويأخذك إلى فندقك.

قلت: ليس هذا ضروريًّا، يمكنني أن آخذ تاكسي.

– ليس في هذا الوقت.

– ألا يمكن أن نستدعي واحدًا بالتليفون؟

قال: لم يدخل عندنا هذا النظام بعد.

داخلني قلق مبهم، فأصررت على الانصراف.

قلت وأنا أنهض: لا أريد أن أسبب الإزعاج.

نهض بدوره وهو يقول: عندنا غرف كافية وكل ما تحتاج إليه.

قادني من ذراعي إلى الخارج والهندي من خلفنا. قال ونحن نجتاز الباحة: قبل عصر التكييف والمراوح كنا نفترش الأرض هنا بالليل.

توقف أمام غرفة مغلقة ففتح بابها ومد يده فأشعل النور الكهربائي، ثم استدار وأشار إلى باب مجاور: هذا هو الحمام. إذا احتجت إلى شيء نادِ على طاغور، تصبح على خير.

انتظر حتى ولجت الغرفة ثم انصرف والهندي في أعقابه. أغلقت الباب ووضعت حقيبة يدي بجواره على الأرض وأجلت النظر حولي. كانت الغرفة متوسطة الحجم يشغل طرفها القصي فراش مثل الذي رأيته بين معروضات جمعية المرأة، يرتفع عن الأرض بحوالي متر ونصف متر ويعلوه لحاف سميك بألوان مشرقة وملاءة من نفس النسق اللوني مطوية برقة بالغة وبجوارها دشداشة بيضاء مكوية ومطوية.

خلعت حذائي وجوربي عند الباب بجوار خف من القماش وصندوق مزخرف كبير الحجم استقر فوقه دورق مياه وكوب. خطوت نحو مقعد متحرك من الجلد بمسندين من النوع الدوار الذي يوجد في مكاتب الشركات الأجنبية. جلست وأسندت مرفقيَّ ثم حركته في نصف دائرة وأنا أتفحص الغرفة.

كانت الأرض مغطاة بموكيت بني اللون وبجوار الجدران أقيمت وسائد بصورة عمودية. ورصت بعض الملابس في فتحة خلفها في الجدار تعلوها فتحة أخرى على شكل مصباح زيتي ضمت أواني خزفية موحدة النقوش. وكانت هناك فتحة مماثلة فوق الفراش صفت داخلها أكواب زجاجية مذهبة. وبين الفتحات علقت أكثر من عشرين صورة تايوانية لحيوانات وطيور في إطارات صغيرة. وتدلت من مسمار بارز عباءة بنية اللون لمس طرفها جهاز تكييف مغلق.

نهضت واقفًا وخلعت قميصي وبنطلوني وعلقتهما فوق العباءة، ثم ارتديت الدشداشة. انتعلت الخف وفتحت الباب وخرجت إلى الممر المطل على الباحة.

كان المنزل غارقًا في ظلام لم تنجح في تبديده إضاءة خافتة صادرة عن مصباح كهربائي صغير فوق باب الحمام. وكان بوسعي أن أتبين جانبًا من الطابق العلوي الذي يدور به سياج خشبي. وقفت أنصت لكن السكون كان شاملًا.

دفعت باب الحمام ودخلت. وكأني انتقلت من قرن إلى آخر. فقد كان مجهزًا بكل الأدوات الحديثة من السيراميك إلى صندوق طرد المياه والسخان الكهربائي، اغتسلت واستخدمت منشفة نظيفة وردية اللون وعدت إلى غرفتي. أردت أن أغلق الباب بإحكام فاستعصى عليَّ. كان له رتاج خشبي بلسان عريض ميزت منه جزءًا ثابتًا به عدد من الثقوب، وآخر منزلقًا به أصابع خشبية متحركة مطابقة لها. وكان ثمة عصًا منحنية بها أصابع خشبية بارزة تشبه المفتاح.

عجزت عن استخدام المفتاح وإغلاق الرتاج فتركته موصدًا دون قفل. أخذت أدوية المعدة والضغط التي أحملها معي دائمًا وابتلعتها بقليل من مياه الدورق، ثم أطفأت النور وانتظرت حتى ألفت عيناي الظلام. تقدمت من الفراش وثنيت ركبتي واعتليته بحذر خوفًا من تمزق العضلات الذي تعرضت له عدة مرات في الآونة الأخيرة. تمددت وأغلقت عيني ثم فتحتهما من جديد. كنت قلقًا بشأن الباب المفتوح وكان في مجال رؤيتي فثبَّت عينيَّ عليه وعلى الشعاع الخفيف الذي تسرب من بين مصراعيه. بدأت أسمع أصواتًا غامضة فحبست أنفاسي حتى ميزت نباح كلاب في الخارج وطقطقة أخشاب وهسيسًا غامضًا. قدرت بعد لحظة أنها أصوات الليل العادية في أي منزل قديم، ولا بد أني غفوت؛ إذ تنبهت على حركة خفيفة عند الباب، ورأيت مصراعه ينفرج في بطء بالغ. وظهر في ضوء الممر جسم غامض انفلت داخلًا.

ربما كانت الرائحة هي التي نبهتني، وعلى أية حال فقد أنبأني لا شعوري بهوية الزائر قبل أن يشع نور المصباح الكهربائي فجأة، ثم تركز اهتمامي على الكيفية التي أغلقت بها وعد الباب متعجبًا من بساطتها، فلم تستخدم المفتاح وإنما حركت الجزء المنزلق من القفل، فسقطت الأصابع المتحركة في ثقوب الجزء الثابت.

اعتدلت جالسًا واستدرت مدليًا ساقيَّ وأنا أسوي الدشداشة لأغطي فخذيَّ وواجهتني على بعد ثلاث خطوات بعينين ناريتين جامحتين. كانت سافرة الوجه عارية الرأس، ينساب شعرها فوق رداء حريري ملون بنقوش صينية يبلغ قدميها الحافيتين.

خاطبتني في حدة: ماذا جاء بك؟

وجدت لساني أخيرًا فقلت: لأراكِ.

– لماذا؟ ألم تحصل على اليوميات من الطبيب؟

– أخذتها. جئت من أجل البقية.

وضعت يدها اليمنى في وسطها متحدية.

– ماذا تعني؟

– ما زال هناك جزء آخر.

رفعت يدها إلى عنقها وأخذت تعبث بفتحة ردائها في عصبية.

– من قال لك؟

– المنطق. ما قرأته حتى الآن لا يجيب على أسئلة كثيرة، ثم إنك لم تترددي في إعطائي اليوميات. لماذا؟ لأن وردة أوصت بذلك في يومياتها. لكن ما قرأته منها حتى الآن لا يشير إلى ذلك بكلمة. إذن لا بد أن تكون هناك بقية.

امتدت أصابعها إلى الزر الأعلى من الرداء وأخرجته من عروته دون أن ترفع عينيها عن وجهي، استقرت عيناي على أصابعها وهي تنتقل إلى الزر التالي. وكل ما فكته انحسر الثوب عن صدرٍ عارٍ لا يستره شيء، بسطت ذراعيها جانبًا فتجلى نهداها في كامل بهائهما.

قالت: كانت أجمل مني؟

– من هي؟

قالت: وردة.

كيف يمكن الرد وأنا لم أرَ من وردة غير وجهها.

– ألا تتذكرينها؟

خطت نحوي دون أن ترفع عينيها عن وجهي أو تغطى نهديها المشرئبين اللذين انتفخت حلمتاهما.

– لم أرَها، لا هي ولا أبي.

لمس ثوبها ركبتي ومدت يدها فجذبت يديَّ في عنف ووضعتهما فوق نهديها.

– قل لي.

لم أقل شيئًا لا لأنه لم يكن لديَّ ما أقوله، وإنما لأن الفرصة لم تتَحْ لي. ففي لحظة كالحلم كانت قد تخلصت من الرداء وتجلت بكل عريها دون ساتر، ثم دفعتني على ظهري واستقرت فوقي. كانت هناك ملاءة داكنة اللون مثبتة في السقف تحجب منظر قضبانه الخشبية، لكن وجهها حجب كل شيء.

أحاطتني بذراعيها وأخذتني بين فخذيها ومضت ترجني، وقنعت بأن أبقى معتقلًا دون أن أفكر في اقتحامها مستسلمًا لهدهدتها كطفل متخففًا من الدفاعات التي قضيت عمري في بنائها لأثبت ماذا؟ محلقًا على مبعدة ملايين السنين الضوئية من هنا والآن. وشرعت أتأوه مدركًا أني لم ألتذ إلى هذه الدرجة من قبل، واعيًا بأن أبتعد عنها في اللحظة المناسبة.

هل كنت أضاجع وردة؟ أم أضاجع نفسي؟

ظلت فوقي تتأملني بتركيز، وشعرت بضغط ردفيها الثقيلين، فأنزلتها برفق إلى جواري واستدرت أواجهها متغاضيًا عن آلام الرقبة: أي بارفان هذا؟

ابتسمت في بهجة طفولية وهي تقلد لهجة الأفلام المصرية: بارفان إيه يا أستاذ؟ دا زيت للشعر. غالي جدًّا، خشب صندل مطحون ومسك وزعفران مع زيت ورد.

بالإضافة إلى عبير فواح لا يضارعه عطر آخر في الوجود.

مررت بيدي على جسدها أستكشف طياته، وبعد لحظة همست في أذنها: ما هو الاسم بلغة الجبل؟

دفنت رأسها في صدري بخجل: حُب.

أهناك تعبير أكثر دقة ورقة؟

أبديت دهشتي لأنها غير مختونة، فضحكت قائلة: حظ.

واصلت أصابعي رحلتها ورأسها مدفون في صدري ورائحتها تحف بي وتسكرني إلى أن انتفضت مرة أخيرة وأزاحت يدي.

– هل ستعود إلى مصر؟

– نعم.

– حدثني عنها. هل تشاهدون التماسيح في النيل؟

– ونركبها أيضًا.

– خذني معك. أنا أموت هنا كل يوم.

– كيف؟ عمك رجل معقول. أوحى لي أنه ما زال على مبادئ الجبهة. ولم يجد بأسًا في أن يدعوك للجلوس معنا.

ضحكت ساخرة: لا يوجد من هو أكثر منه رجعية. إنه لا يسمح لبناته بالخروج من المنزل. ومنعني من مواصلة تعليمي بالجامعة الجديدة في مسقط. أنا التي انتزعت حق العمل في جمعية المرأة يومين في الأسبوع. وافق كي يكسب ودِّي ويحصل على اليوميات. وعدا ذلك نبقى في البيت بجوار زوجته. هناك في الطابق الأعلى قاعة طولها ٣٥ مترًا مفروشة بالسجاد ومحاطة بالوسائل. هل تعرف كم عددها؟ أنا أحصيتها في لحظات الملل: ٦٥ وسادة. تغلق النوافذ ويضاء النور الكهربائي في عزِّ النهار. كل يوم تجلس بها زوجة عمي في فستان واسع طويل من القطيفة محلى بورود ذهبية صغيرة وفصوص من الفضة يستغرق تطريزها باليد شهرًا كاملًا.

ووضعت يدي على فمها إذ خيل لي أني سمعت صوتًا بالخارج. أنصت برهة وعندما لم أسمع غير دقات قلبي قفزت إلى الأرض واقتربت من الباب ووقفت عنده أتنصت.

كان هناك حفيف ما في الخارج بالتأكيد. التفت ناحيتها فوجدتها قد توارت تحت اللحاف. توقف الحفيف وعادت الأصوات المألوفة، مددت يدي فأطفأت النور ودققت النظر في شعاع الضوء الخفيف القادم من الخارج، ظل ثابتًا دون أن يعترضه شيء.

عدت إلى الفراش واندسست إلى جوارها. استدرت على جانبي الأيمن ووضعت يدي تحت رأسها واحتضنتها بالذراع الأخرى. انكمشت في حضني وألصقت حُبها المبتل بفخذي وهمست: لعلها القطة.

– أو عمك؟

فكرت ثم قالت: لا أعتقد. إنه ينام في جناح بعيد.

ضممتها إليَّ وقبلت رأسها.

كأنما أضم ابنة لي.

– كنت أحكي لك عن المجلس اليومي. تدعو زوجة عمي بناتها فيجئن جميعًا في نفس لباسها. مطلوب أن يبقين هكذا طوال اليوم مهذبات مؤدبات ثم يرقدن في أي مكان، تصيح فيهن: الكنادر. فيخلعن أحذيتهن. لكنها لا تتركهن فلا بد أن تؤنبهن: يا عيب الشوم، يتربعن على الأرض. هل لاحظت أن قدميَّ ليستا مشوهتين؟ جميع الأقدام هنا مشوهة نتيجة التربع على الأرض، ثم تقود السمر ونحن نقدم إليها الفاكهة أو المرطبات والمكسرات. كلما قدمنا لها شيئًا قالت إنها صائمة لأننا في يوم ١٣ أو١٤ أو ١٥ من رجب أو شعبان أو يوم اثنين أو خميس … هل رأيت التليفزيون والفيديو؟ نحن لا نشاهد إلا صلاة الجمعة والبرامج الدينية. تعرف ما هي تسليتنا الوحيدة؟ عندما تمرض واحدة ويتعسر شفاؤها يأتون بعرافة بدينة تتكلم من بطنها، تقول إنها حامل منذ عدة سنوات وإن الجنين هو الذي يتكلم. يتجمعن في غرفة مظلمة امتلأت بدخان البخور وتجلس المريضة وسطهن ويبدأن في هزِّ رءوسهن وهن يرددن ألغازًا وطلاسم حتى تدوخ المسكينة وتهذي بكلام غير مفهوم وتتلوى على الأرض.

اعتدلت على ظهرها ودفعت ساقها اليسرى بين ساقي ثم قالت: احكيلي عنها.

حكيت لها كيف تعرفت بوردة. طلبت مني أن أصفها ففعلت، وبعد لحظات اكتشفت أني لا أعرف عنها حقًّا شيئًا ذا بال.

سألتني: هل كنت تحبها؟

قلت بعد تردد: أظن ذلك.

جاء دورها في التردد: هل … هل نمت معها؟

أجبت بالنفي.

شعرت بها تهز ساقها في عصبية.

– تعرف أني كنت أكرهها إلى أن قرأت يومياتها؟ تصورتها امرأة بلا قيم ولا شعور بالمسئولية. كنت أعتقد أنها تخلت عني.

سألتها عن يعرب فقالت: لم أرَه ولم يأتِ إلى هنا أبدًا، وإن كنت أعتقد أن عمي على اتصال به. أظن أنه في مسقط.

– واليوميات؟

– وقعت في يدي بالصدفة. منذ سنة. جاء بها واحد من البدو وأعطاها لطاغور الذي أحضرها لي وأخفيتها بعد أن انتزعت منه وعدًا ألا يقول لعمي. لكن عمي عرف، ربما منه أو من البدوي. طلبها مني وفي البداية أنكرت، كنت أريد الاحتفاظ بها لنفسي، ثم ضغط عليَّ فأعطيته جزءًا وأخفيت الباقي. لكنه شك في الأمر، ومن لحظتها وهو يراقبني بدقة ويفتش حاجياتي باستمرار. لكني كنت أشطر منه.

– ولماذا حجبت عني هذا الجزء؟

– السبب الأول هو ما جاء به حول ظروف ولادتي. أبي وأمي لم يتزوجا رسميًّا. كثيرون تزوجوا وقتها على قانون الجبهة، أي أمام مسئول سياسي. حتى هذا لم تفعله. وبعد انتهاء الثورة تم توثيق زيجات الجبهة لتكسب الشرعية. وتمكن عمي بنفوذه من إدراجي في هذه العملية، لكني ما زلت أشعر بالحرج. كثيرًا ما يصمني بأني ابنة حرام.

– والسبب الثاني؟

– السبب الثاني أني أريد استخدام هذا الجزء للحصول على حريتي. أشعر أن به شيئًا يتحرقون لمعرفته. لا أعلم ما هو. ربما استطعت إجبار عمي على إرسالي للتعليم في بيروت أو مصر أو لندن.

– من هم؟

– لا أعرف، حاولوا معي بشتى الوسائل، لم يتركوا ثقب إبرة دون أن يفتشوه.

تخيلات وأوهام؟ هستيريا؟

– قال لي شخص في مسقط إنك ترفضين تسليم هذا الجزء لأحد غيري، فكيف عرف؟

– صديقة لي أخوها في الجبهة. قالت إنهم قرءوا الأجزاء الأولى ويريدون الجزء الأخير، قلت لها إني لن أسلمها إلا لك أو لواحد لبناني. صرت أنت محور حياتي لفترة طويلة. كنت واثقة من مجيئك.

تجمدنا فجأة فقد تكرر الصوت الغامض. أزاحت ذراعي واللحاف وهي تقول: يجب أن أذهب الآن.

قفزت إلى الأرض في خفة واستدرت أتابع حركتها في الظلام وهي تبحث عن ردائها حتى وجدته. عبثت لحظة بطياته ثم التفتت نحوي وطوحت بيدها. استقرت الكراسة الصغيرة على صدري، فالتقطتها بينما ارتدت ثوبها وسوت شعرها ثم اقتربت مني وانحنت فوقي فقبلتني.

قلت: كيف سأعيدها إليك؟

قالت: لا تقلق. عندي صورة منها.

هبطت من الفراش ورافقتها حتى الباب. عبثت قليلًا بالمرتاج وأظنها أدخلت فيه المفتاح وفي النهاية سحبت المزلاج.

همستُ: سأشعل النور لأكتب لك تليفوني في مسقط وعنواني في مصر.

– لا. هات قلمًا. يمكنني أن أكتب في الظلام.

تذكرت أني وضعت حقيبة يدي بجوار الباب فالتقطتها وبحثت داخلها حتى وجدت قلمًا من الحبر الجاف. ناولتها القلم فسجلت التليفون والعنوان فوق راحة يدها ثم جذبت المصراع وتسللت خارجة.

أوصدت الباب خلفها في رفق ووقفت أتنصت. وعندما لم أسمع صوتًا غير عادي أضأت النور وتفحصت الرتاج. حركت المزلاج حتى انزلقت أصابعه في الثقوب الثابتة وتأكدت من إحكام الغلق، ثم مضيت إلى المقعد الدوار وأنا أقلب صفحات الكراسة الصغيرة ذات الغلاف الأسود وأتأمل الخط المتحدي المألوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤