الربع الخالي
٧ يناير
… نسير ونسير. الحقائب على الظهور وفوق الإبل. الكلاشينكوف في الكتف. الترانزستور رفيق لا يقدر بثمن. الهضاب الشاسعة تلونها الخضرة والزهور. طيور الجنة صائدة الذباب بألوانها البنية الحمراء والسوداء والخيوط البيضاء الطويلة على ذيولها. الطرق الجبلية غير المطروقة بها علامات عبارة عن أكوام من الأحجار في جانب. آثار قبيلة كانت تنصب خيامها على السفوح. انتقلت منذ شهر إلى أسفل الجبل وجمعت ماشيتها في حظائر كبيرة. هل هبطت هربًا من القصف أم استعدادًا لموسم الأمطار؟ يا رفاق … يا رفاق. التفتنا نبحث عن مصدر الصوت. صبي في العاشرة يحمل إناءً نحاسيًّا بين يديه يمده لنا لنشرب الحليب الطازج. تأمل ملابسنا وأسلحتنا باهتمام. سألني في انفعال: وردة؟ احتضنني وقبلني في خدي، قال يزهو: اشربي. الحليب مغلي. عندما ابتعدنا رفع أصابعه في خجل بعلامة النصر. لم يضِع إذن كل شيء. فلن ينسى هذه اللحظة. ماذا لو عرف أننا ننسحب؟ عند العين نشرب ونغتسل. أزيز الطائرات، يتفرق الموجودون بين الجذوع العالية للوبيا. عيون الماء هدف دائم لقصف الطيران المعادي، بعد الغارة يعود الجميع لذبح الماشية المصابة قبل أن تنفق، كالعادة اشترينا كمية من هذه اللحوم لمساعدة أصحابها والتخفيف من خسارتهم. امرأة عجوز تغطي رأسها برقيقة من المعدن داخل قماش خفيف أحمر، حلقة من الذهب في أنفها. قدمت لنا الطماطم. أصرت أن نأخذها وهي تضحك في ودٍّ. إلى متى سيستمر هذا التعاطف؟
٨ يناير
… شاه إيران في القاهرة. دبر له السادات استقبالًا حافلًا. لم يرتفع صوت معارض، وهبة ٧ يناير انطفأت على الفور. المصريون هكذا: يصبرون طويلًا ثم ينفجرون في فورة حماس سرعان ما تنطفئ، ويعود كل شيء إلى ما كان عليه. ترى ماذا يفعل رشدي الآن؟
١١ يناير
… نجحت القوات الحكومية غرب خط هورنبيم في الاستيلاء على مقر قيادة وكمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة.
… قضينا الليلة في مغارة زوج من المقاتلين محاطين بقطيع من الأولاد. لم أتمكن من النوم، ظل أحد الأطفال يتقلب ويسعل ساعات طويلة. في الصباح ألفينا عينيه ملتهبتين بحمى السل. لجان المناصرة في أوروبا تجمع الأدوية والأموال والأدوات الطبية والجراحية. هل يمكن الآن أن تصل إلى هنا؟
١٥ يناير
… القذافي يتحدث عن كتاب أخضر سيسهم به في إقرار نظرية متكاملة للعمل الثوري العربي.
… أنباء عن خط دفاعي مكهرب جديد يقيمه الإيرانيون غرب خط هورنبيم وفي موازاته. أطلقوا عليه اسم دامافاند. يمتد من رخيوت في اتجاه الشمال. الهدف منه حصرنا في منطقة الحدود اليمنية.
… التقدير المبدئي لضحايا رخيوت قرابة الألف قتيل.
٢٠ يناير
… استضافنا أحمد مسلم، من رجال الميليشيا وله ابن من المقاتلين. أشعلت زوجته نارًا في الداخل لإعداد الأرز لأن ذلك في الخارج يمثل خطرًا شديدًا. فمن البحر تلتقط السفن الإيرانية أضأل ضوء وتنقله إلى الطائرات التي تغير مع مطلع اليوم الجديد. في أحد الأركان صناديق الذخيرة الروسية الخضراء. فوق الأرض شبكات من البلاستيك ومصباح عاصفة.
… انتقلنا إلى كهف كبير تجمع به قرابة ثمانين امرأة وطفلًا. الرجال في مكان ما يقاتلون. أنصتنا للبلاغات العسكرية للجبهة من إذاعة صوت الثورة التي تغير نقطة إرسالها يوميًّا. شرحت لهم التطورات الأخيرة. أعقبني سعيد زينان المسئول الإقليمي للميليشيا. أبلغهم قرارات المجلس الشعبي بشأن الإعاشة والكهوف المختارة للتخبئة وكيفية إخفاء المزروعات عن الطائرات. في النهاية هتف: عاشت حرب التحرير الشعبية والنضال من أجل الديموقراطية. ردَّ الجالسون وأنا معهم: عاش. عاش نضال الشعب العربي في فلسطين، عاش، تسقط الإمبريالية والرجعية. تسقط. تسقط الصهيونية. تسقط. يسقط الخدم والمرتزقة. يسقط. عشت طويلًا أيها الشعب والحياة الطويلة لك أيها الشعب! كيف؟ لو كانت الشعارات تتحقق بسهولة! تفرق الجميع بسرعة دون أسئلة أو استفسارات. التجمعات الآن إذا طالت تصبح خطرة. صواريخ. قذائف مدفعية. قنابل وألغام. كل أسلحة الدمار عدا النابالم، فهل هو قادم؟
٢٤ يناير
… واصلنا السير حتى المساء. قادنا أحد الرفاق إلى كهف قريب لنتعشى لدى أسرة. دخلناه على أربع لأن ارتفاع المدخل لا يتجاوز نصف المتر. جلسنا نشرب الشاي الأحمر. نيران الموقد تبعث فينا الدفء بانتظار العشاء. حضر الجيران للترحيب وشاركونا الأكل وأكواب الشاي والحليب. قرصات الناموس. أعدوا لي مكانا مريحًا. غلبني النوم بسهولة.
٢٨ يناير
… نهبط نحو السهل الساحلي. الكوفيات تحمينا من النسيم الرطب الذي يهب من البحر، لا يخلو بيت أو كهف هنا من بعض المقاتلين يرتاحون بضع ساعات. غارات جوية طول اليوم يتخللها قصف مدفعي وقصف بحري ابتداءً من المساء.
أول فبراير
… الحوف. اللاجئون العمانيون يعيشون في الكهوف المحيطة بالبلدة. حصيرة على الأرض وعدة حقائب أو صناديق للأشياء الشخصية. ترموس وأحيانًا راديو ترانزستور. نتجمع في المساء للإنصات إلى إذاعة الجبهة من عدن التي تستمر ٤٥ دقيقة. يتعين المشي أحيانًا عدة ساعات للوصول إلى مصدر ماء للإنسان والحيوان. أقيم مع أسرة من ١١ شخصًا كانت تعيش داخل ظفار ممتلكة ٢٥ جملًا و٥٠ من الماعز. قتلهم القصف البريطاني ودمر قريتهم. سأبدأ من الغد في إعادة تنظيم القوات والأهالي المنسحبين. فهد في المكلا ينتظر طائرة إلى عدن ليعالج من إصابة خطيرة في العمود الفقري. دهميش في الغيضة. يعرب إما في عدن أو ذهب إلى بيروت.
٢ فبراير
… في المعسكر الذي يحمل اسم الشهيد بخيت بن حيجلا. أربعون رجلًا يقودهم علي. ينامون في كهف ضخم يتسع ﻟ ١٢٠ إنسانًا. الذخيرة والأسلحة وبضع علب من التونة. علي ثائر بسبب اختفاء بعض المعلبات. نظر إليَّ وقال: ما زال بيننا برجوازيون صغار! فوق قماش رقيق قطع من لحم الإبل تجف في الشمس. الجمل ذُبح في الصباح. يتم التهام القطع الممتازة: الأقدام والكبد والقلب والأوراك. يؤكل لحمه مسلوقًا مع أرز مطبوخ بسمن هولندي. جربناه مرة في القاهرة وكرهت رائحته القوية التي تتسلل إلى الأيدي والملابس. الآن لا أعبأ. نحن محظوظون، الجمل مقطع وموزع باقتصاد يسمح بإطعام الجميع لمدة يومين، الأرز حمَّرته صلصة الطماطم، بعد ذلك إطفاء كافة النيران. فقط أطراف السجاير المتوهجة.
… تحدثت عن الموقف العسكري وضربت مثالًا من مسيرة ماو. عندما حوصر جيشه الأحمر سنة ١٩٣٤، لم يجد مفرًّا من الانسحاب، فتراجع مع مائة ألف من أتباعه إلى الشمال. ساروا مسافة عشرة آلاف كم، واجهوا خلالها الجوع والعطش والمعارك والأمراض، انتهت المسيرة الطويلة بعد سنة وقد تبقى من رجاله خمسة آلاف فقط. وبعد ١٤ سنة حقق النصر التام وأسس الصين الشعبية. وأنا أتحدث بدت لي الأرقام غريبة: ١٥ سنة أخرى؟ مائة ألف يبقى منهم خمسة آلاف؟ عددنا كله لا يبلغ هذه الآلاف الخمسة، نزل منهم أكثر من ألف وخمسمائة إلى صلالة، ثم أين نذهب؟ الشمال هو الربع الخالي. اليمن الجنوبي بلد آخر. العدو في الشرق والبحر من ورائنا. فضلت مثال كاسترو. دخل هافانا بعد ثلاث سنوات من فشل ثورته الأولى.
… أهم شيء الآن هو رفع الروح المعنوية للمقاتلين. لا بد من مواصلة العمليات العسكرية داخل ظفار.
٣ فبراير
… توفيت أم كلثوم. خسارة كبيرة، عبرت عن عصرها بكل ما فيه من جوانب. من تطريب إقطاعي إلى أناشيد ثورية، لعبت دورًا هامًّا في تعبئة المقاومة بعد هزيمة ٦٧.
… وضعنا نظامًا صارمًا للتدريب العسكري.
١٣ فبراير
… وفد عسكري أردني برئاسة زيد بن شاكر رئيس الأركان في مسقط.
… أقنعت الرفاق بأن أقود هجومًا على الموقع البريطاني الإيراني في صرفيت.
١٥ فبراير
… نهضنا في الفجر. تجمعنا حول إناء الشاي فوق نار الحطب، تناولنا بالتناوب أكواب البلاستيك والألومنيوم. قمت بتوزيع الكمية الضئيلة المتوفرة من أكياس التتن وعلب الكبريت. كنا نوزعها في السابق بواقع كيس وعلبة كبريت كل صباح. يصنعون سجائرهم اللف. تركت عشرة رفاق بالمعسكر بقيادة علي. سيتناوب بعضهم الحراسة بينما يطوف البعض الآخر على المدنيين القلائل في المنطقة للتوعية وتعليم الأبجدية والتأكد من الأمان. عندما غادرنا المعسكر غنينا: «جيش تحرير الشعب هو أطفال الشعب». أحد المقاتلين حمل على ظهره مدفع هاون ٨٢، صناعة سوفييتية، حمل آخر الحامل. توزعت القذائف على الباقين. لم يعد هناك لاندروفر أو نصف نقل تيوتا أو قوافل الجمال. الطابور يتسلق نحو الهضبة. اثنا عشر مقاتلًا يقفزون من صخرة إلى صخرة في خفة وبراعة الماعز. مرت بنا سيارة عسكرية كبيرة بها عشرات المواطنين في طريقهم لزيارة أبنائهم في المدارس والمعسكرات عبر الحدود. السائق يلتقط المواطنين في الطريق. أكوام السردين على الساحل. ننتظر قاربًا يقلنا إلى نقطة قريبة من صرفيت. لم يعد من الممكن الوصول بغير البحر. نتأمل السماء باستمرار، نرهف السمع لأزير الطائرات. ينتظر معنا عدد من النساء والشيوخ والأطفال يحملون السلال والأكياس. أستطيع أن أفهم ما في عيونهم. هل يحملوننا مسئولية المشقة التي يعانونها؟ نمشي خطوات في المياه لنصل إلى القارب. أكثر من أربعين شخصًا يحملهم القارب القديم. القاعدة تبعد عشرة كيلومترات عن الحدود. مساحة هائلة مربعة يحتلها ٨٠٠ جندي إيراني وبضع عشرات من الإنجليز، تحميها أربع بطاريات مدفعية مسنودة بالهليكوبترات. من هذه القلعة المحمية يتم القصف المنتظم والأعمى للأهداف المدنية والعسكرية في غرب ظفار. قام الرفاق بتركيب الهاون فوق حافة نتوء مجوف في الصخر، وزعنا أنفسنا بحيث نشرف على الموقع من عدة جهات. كان بوعارف بجانبي ومعه اللاسلكي والمنظار. سيتولى توجيه قذائف المدفعية. ناولني المنظار. شاهدت تحصينات الموقع. دشم عسكرية من الحجارة والأسمنت لا يبين شيء من خلفها. بدأت العملية بقذيفة آر بي جي مباشرة في أكبر الدشم، ثم اختلطت النيران من الرشاشات المختلفة، ظل العدو يتلقى القذائف دون ردٍّ. كان بو عارف يشعر بالنشوة كلما أعطى إشارة صائبة. يجد متعة في التحدث باللاسلكي مع موقع الهاون، بعد إطلاق قذائف الهاون اﻟ ١٦ استلقينا تحت سفح عمودي لصخرة، وزع مسالم علينا محتويات صندوق من البلح المضغوط. بعد نصف ساعة ظهرت طائرتا ستراكمايستر وألقتا بقذائفهما. ظللنا في مواقعنا والطائرات تروح وتجيء فوقنا بينما جلس حسين في العراء فوق كومة من الحجارة مرتديًا قميصًا أحمر. رفض الانضمام إلينا تحت الصخرة، قال إن الطائرة لا ترى الأشياء الثابتة. عندي شك أني السبب في هذا الاستعراض من جانبه. لا يستطيع أن يحول عينيه عن صدري. بعد رحيل الطائرات بدأنا رحلة العودة. تناثرت القذائف حولنا. بدأت القاعدة ترد علينا. أعددت تقريري في رأسي: قصفنا القاعدة لمدة ساعة. الهدف هو إرهاق العدو وإجباره على إخلائها كما حدث في ثقبيت منذ عامين. هذه المرة أتساءل: من يرهق من؟
١٧ فبراير
… أهدت الأردن لقابوس ٣١ طائرة هوكر هنتر.
٢٠ فبراير
… دخلت القوات الحكومية لأول مرة منطقة وادي ريشم بعد مقاومة خفيفة.
… تصاعد القتال بين الحركة الوطنية الإريترية والنظام الإثيوبي الجديد. المجلس العسكري يطلب من أمريكا إمداده بالسلاح لمواجهة متطلبات القتال. من يقع في فخ قمع المطالب المشروعة للشعوب والقوميات لا بد أن ينتهي به الأمر في أحضان الإمبريالية.
٢٢ فبراير
… الغيضة داخل اليمن ﺑ ١٠٠ كم، على الطريق الترابي سارية تحمل علم اليمن الديموقراطي. جنود يمنيون. منطقة المدارس، استقبلنا المدير وبعض المقاتلين/المدرسين. المدير القديم الذي نظم مظاهرة الأطفال ضد الإمبريالية السوفييتية استشهد منذ فترة. تلاميذ المدرسة الابتدائية يقفون في سبعة صفوف والكراريس تحت سواعدهم. بعضهم مشي ٥٠٠ كم حتى وصل إلى هنا. فجأة تركوا الكراريس تقع على الرمل وتفرقوا، أسرع المدرسون والبالغون من التلاميذ إلى الآليات المنصوبة حول المدرسة. جاجوار إيرانية تطير على ارتفاع منخفض للغاية. الفناء تغطى بالأطفال الذين انطرحوا أرضًا، كان من الممكن أن تحدث مذبحة لكن الطائرة لم تقصف. أتردد الطيار عندما رأى الأطفال؟ أم أنه في طلعة استكشافية؟
… أقمت مع أسرة عرجون أحد أعضاء المجلس الشعبي اليمني.
… دهميش في مهمة على الحدود ويعود غدًا. لم أرَه منذ سقوط رخيوت. اشتقت إليه.
٢٣ فبراير
… في الغيضة ثلاثون امرأة تجتمع لتزرع سنويًّا عدة مئات من الهكتارات، يتم اقتسام الناتج حسب الحاجة. لا شيء يخضع لقواعد التجارة: اكتفاء ذاتي اقتصادي تام. يتولى رجال الميليشيا تقديم الإرشادات الزراعية وتوفير الأدوات اللازمة. قال لي أحد مسئولي التعاونية: مشكلتنا الآن هي الأمان. العدو يقصف حقولنا أثناء البذار والحصاد بقنابل حارقة.
٢٤ فبراير
… عاد دهميش ظهر الأمس. سألته إذا كان استوحشني. ابتسم في خجل لا يعبر عن مشاعره بحرية. استحممت وغسلت شعري بالشامبو. أعطتني زوجة عرجون قليلًا من الطيب وهي تبتسم في تواطؤ. دهنت جسدي. أقرضتني بلوزة بيضاء بكمين قصيرين وجوبة ملونة وصندلًا. تعشى دهميش معنا ثم سحبته إلى الخارج. تمشينا في الطرقات المتربة المظلمة، طاردتنا الكلاب، حكيت له مغامرتي في صرفيت، تحدث عن محاولات تجميع المنسحبين على الحدود. ناقشنا الاحتمالات. أصبحنا خارج البلدة. توقفنا بجوار بستان صغير بلا سياج. التفت إليه وسألته: ألا تريد أن تقبلني؟ بهت. شعت عيناه السوداوان بضوء غامض. كشف عن قلة خبرة بالتقبيل. ترك شفتيه فوق فمي فقط. التهمتهما التهامًا. امتصصت لسانه وأعطيته لساني. احتضنني. تعثرنا وسقطنا فوق العشب. عندما أردت أن أركب فوقه أصر على أن يجعلني تحته. شل حركتي بساعديه. نفرت من القيد. قاومته لحظة ثم استرخيت. وجدت متعة في أن أكون امرأة، رقيقة وخاضعة ومتلقية. لكني كنت قادرة على أن أعتقله بين ساقي في قوة تمنعه من الحركة. ساعدته على أن يدخلني بعد محاولات مرتبكة كشفت لي نقص خبرته ودفعت بي إلى الذوبان. وضع يده على فمي ليكتم تأوهاتي.
أول مارس
… عمليات جديدة للعدو في المناطق المركزية والشرقية. لم نعد قادرين على مواجهة الحكومة شرقي خط هورنبيم. القوات الحكومية تتمتع الآن بحرية تامة في الحركة.
… وافقني دهميش على أن الوضع أكثر من حرج وربما ميئوس منه.
١٠ مارس
… ضربة قاصمة: الاتفاق الإيراني العراقي.
… تحدثت مع بعض الرفاق عن الوضع. قلت إن حرب العصابات حرب شعبية أي حرب الجماهير، ادعاء القيام بها دون تأييد الأهالي يؤدي إلى كارثة محققة. العصابات في طليعة الشعب المقاتلة المتمركزة في مكان معين والمستعدة للقيام بسلسلة من العمليات الحربية بهدف استراتيجي ممكن هو الاستيلاء على السلطة، لكنها يجب أن تكون مؤيدة طول الوقت من جماهير الفلاحين والعمال في المنطقة. أضفت أن جيفارا أشار في كتاب منهج لحرب العصابات سنة ٦٣ إلى أن العصابات ليست الصيغة الوحيدة لانتزاع السلطة في كل أمريكا، وإنما واحدة من الصيغ الممكنة للكفاح. أيدني محمد أحمد عضو اللجنة المركزية بطريقة غير مباشرة. قال: الصراع العسكري محدود بظفار. في بقية عُمان تخوض الجبهة معركة سياسية. الشعب العماني بأكمله ليس مستعدًّا للكفاح ضد قابوس نتيجة الإصلاحات. هناك أيضًا تناقص التأييد العالمي.
ردَّ سعيد مسعود بحدَّة: لقد قلنا دائمًا إننا يجب ألا نعتمد على أحد. تساءلت: هل تكفي بطولة وتضحيات المقاتلين؟ إنها ليست فيتنام أخرى، أضفت: علينا أن نفهم مطالب الجماهير ونبلورها ونقود من خلف وليس من أمام، فإذا غيرت الجماهير رأيها لسبب ما يجب الانصياع لها. عارضني سعيد مسعود: علينا أن نقود من أمام ولا نكون ذيليين وإذا غيرت الجماهير رأيها يجب ألا نكف عن محاولة توعيتها بخطئها، لا بد أن نظل دائمًا متقدمين من الجماهير بخطوة. انفعل وصاح: ماذا نفعل بالمقاتلين الموجودين في الجبل؟ هل تطلبين الاستسلام؟ قلت إني أطلب تقديرًا موضوعيًّا للوضع ومواصلة الكفاح بالشكل المناسب. قال إنه مفاجأ بموقفي.
١٥ مارس
… وصل يعرب من عدن، أحضر لي تفاحًا وسفن أب وشامبو للشعر. قال إن سلعًا كثيرة تدخل من اليمن الشمالي مع الانفتاح في العلاقات مع دول الخليج. علم أن العقيد القذافي سيتولى تمرير الصواريخ السوفييتية إلينا. أحضر معه العدد الجديد من مجلة ٩ يونيو. بها نص الرسالة التي بعث بها القذافي إلى قابوس. تضمنت سطورًا طريفة: «… واستغربنا يا أخي كيف تسمح لنفسك وكرامة شعبك وشرف أمتك أن تحمق إلى درجة السماح لجيوش أجنبية نظامية باحتلال مسقط أولًا ثم ظفار ثانيًا. إننا نهيب بك لآخر مرة أن تطلب سحب الجيوش الأجنبية فورًا، وإذا رفضَت طلبك فبلغنا برفضها لنقاتلها معك جنبًا إلى جنب، وإذا لم تفعل فننذرك بحرب قد تكون أنت فيها في صف الأجانب الغزاة ونحن في صف شعبنا العربي هناك … أرجو أن تعود إلى رشدك … وإلى حظيرة أمتك قبل أن تجد نفسك مذمومًا مدحورًا. إننا ننذرك ونعطف عليك في نفس الوقت، ننذرك لأنك أتيت شيئًا فريًّا، ونعطف عليك لأن مصيرك سيكون مصير البعير الأجرب، وما كنا نتمنى لك هذا ولا ذاك».
… سألته عن اعتقالات مطرح. ثار في وجهي. وجه إليَّ السباب، قال إنه لم يتوقع هذا مني أنا بالذات، هل أتصور أنه خان رفاقه وسلمهم إلى السلطة؟ هدأت روعه، قال إنه ربما أهمل بعض الشيء في احتياطات الأمان. لكن هذا هو كل شيء.
١٦ مارس
… حال يعرب تذكرني بأيام القاهرة عندما عاد من مسقط بمعنويات منخفضة. تحدث عن الوضع في عدن. هناك صراع مكتوم بين اليمين واليسار داخل الجبهة. شوكة اليمين تقوى بسبب المصاعب الاقتصادية. رغم إلغاء الاتحاد السوفييتي لديونه (٥٠ مليون دولار في يوليو ٧٤) ورغم المعونة التي تقدمها كوبا. يتطلع كثيرون في السلطة إلى أموال البترول. البعض يعتبر كفاحنا في ظفار عقبة في سبيل ذلك.
… وزعت السلطنة منشورًا به اسمي ومكافأة عشرة آلاف ريال لمن يأتي بي حية أو ميتة. قلت ليعرب: ارتفع ثمني ثلاثة آلاف ريال. تأمل المنشور طويلًا. قال: لم يحددوا لرأسي ريالًا واحدًا. يبدو أني بغير قيمة عندهم. شعرت بعدم الارتياح. كأنما ضايقه أن تكون لي كل هذه الأهمية.
١٨ مارس
… يعرب لا يستريح لدهميش. يعامله بجفاء. لم أحدثه بشيء عن علاقتنا. لكنه لا بد لاحظ أن هناك شيئًا بيننا. تذكرت موقفه من شهاب.
٢٥ مارس
… اغتيال الملك فيصل. لا أستبعد يد الموساد أو المخابرات الأمريكية في الأمر. هل لأنهم فقدوا السيطرة عليه عندما ركبته فكرة تحرير القدس؟
… بلغت عائدات البترول العربي في العام الماضي أربعين ألف مليون دولار وضعت في مصارف أوروبا وأمريكا واليابان.
٢٦ مارس
… أقامت السلطنة مراكز جديدة غرب خط دامافاند. هناك الآن خط من هذه المراكز بين صرفيت والبحر تربطها أسلاك شائكة. مما أدى إلى إغلاق غرب ظفار في وجهنا تمامًا.
… عددنا يتناقص. كل يوم نكتشف اختفاء أحد المقاتلين.
… أعددت تقريرًا طالبت فيه بإعلان وقف العمل العسكري والتركيز على العمل السياسي.
٣ أبريل
… أصدرنا بلاغًا عسكريًّا هذا نصه: «بتاريخ ٢ أبريل ٧٥ انفجر لغم أرضي في سيارة عسكرية من نوع بيدفورد على متنها حوالي ٢٠ جنديًّا أردنيًّا في الطريق من صلالة إلى الخط الأحمر على الشريط الساحلي على مسافة ٨ كم من صلالة وذلك في تمام الساعة الثامنة صباحًا» … ابتهج دهميش وارتفعت معنوياته. لم أشأ إحباطه. لا أظن ما حدث عملية جديدة. في الغالب لغم قديم.
٥ أبريل
… المناقشات مستمرة حول تقريري. هناك تردد كبير بين زملاء اللجنة التنفيذية. لا يستطيعون اتخاذ قرار. هل ينتظرون رأي الرفاق العدنيين؟
… توصلنا إلى حل وسط، هو إعادة بناء الحركة في الشمال على أساس العمل السياسي. سنتولى أنا ودهميش ويعرب المسئولية.
-
أعضاء الأسرة الحاكمة الذين حصلوا على أهم المناصب بصرف النظر عن مؤهلاتهم.
-
كبار الموظفين التقليديين من أسرة بوسعيد كالولاة والسكرتيريين ذوي الخبرة.
-
أعضاء المؤسسة القبلية.
-
التجار العمانيون العرب. استبعد من السلطة.
-
الزنزباريون بسبب عجز الكثير منهم عن معرفة اللغة العربية بالإضافة إلى لغتهم الأصلية السواحلية والإنجليزية والشك في ولائهم السياسي، حيث تعلم بعضهم في تنزانيا.
-
البلوشيون بسبب وضعهم التقليدي كمواطنين من الدرجة الثانية وندرة المتعلمين بين صفوفهم.
-
العمانيون من أصل هندي (خوجة وهندوس) الذين يشكلون العمود الفقري التجاري للبلاد. أتاح لهم ثراؤهم تعليم أطفالهم في الخارج، لكن الدين والعرق وقفا في طريقهم.
هذه هي الفئات التي سنبدأ منها.
… أشعر بالقلق والرهبة. المرحلة القادمة مختلفة وربما أكثر خطورة.
٦ أبريل
… كان فوقي. كنت قد شرحت له مواعيد الأمان لكنه لم يستوعبها أبدًا. ترك لي الأمر. سألني لاهثًا: هل أنت آمنة؟ عددت على أصابعي: اليوم الثالث عشر. أخطر يوم. البويضة تتحرق شوقًا للنزول. في أوج حيويتها واستعدادها للالتقاط. كنت على وشك أن أقول هذا. فجأة أمسكت لساني، التقطت أنفاسي في قوة. لمَ لا. لقد حان الوقت. قلت وأنا أبتسم في الظلام: نعم آمنة، وأحطته بذراعي.
٧ أبريل
… يقول يعرب إن الطريق الساحلي مستبعد. بالمثل الطريق البري الذي يمتد من صلالة إلى نزوى ثم مسقط والذي استعملته عند مجيئي لأول مرة. الاثنان تحت سيطرة الحكومة والقبائل الموالية لها. لم يبقَ إلا عبور الصحراء. أحضر خارطة قديمة للجزيرة العربية. تحتل الصحراء الجنوبية زهاء نصف مساحتها. تمتد لمسافة ألف وخمسمائة كم من حدود اليمن في الغرب إلى سفوح جبال عُمان في الشرق، وثمانمائة كم من الساحل الجنوبي إلى الخليج العربي وحدود نجد في الشمال. الجزء الأكبر صحراء داخل صحراء هي الربع الخالي. لم يعبرها أحد سوى بعض المستشرقين الإنجليز. برترام توماس في ١٩٣٠ من الجنوب إلى الشمال، ثم جون فيليبي في نفس السنة من الشمال إلى الجنوب، وأخيرًا ثيسجر في ١٩٤٦ و١٩٤٩. في رأي يعرب أنه الطريق الأمثل أمامنا.
قال دهميش إن التفكير في عبور الربع الخالي هو الجنون بعينه، اقترح أن نذهب إلى عدن ومنها بالطائرة إلى بيروت، ثم ندخل عمان عن طريق الإمارات. تراءت لي شوارع بيروت وشعرت بالحنين. توقعت أن يرحب يعرب بالفكرة لكنه فاجأني بمعارضة حادة لها. قال إن الأمر لم يعد كما كان في الستينيات. كل أجهزة الأمن في الخليج الآن تعرف بأمرنا ولديها صورنا. حتى العراقيين لا يمكن الاطمئنان إليهم بعد اتفاقهم مع الشاه.
٨ أبريل
… احتددت على دهميش. سألته ماذا ينتظر؟ أن نتسلل إلى ظفار ونقوم بعلميات صغيرة بائسة مثل عملية صرفيت؟ نطلق عدة قذائف أو صواريخ ثم نجري؟ هذا إذا تصورنا إمكانية التسلل نفسها. أو نبقى هنا نأكل ونشرب ونقوم بتدريبات في انتظار اليوم الموعود؟ نلقي المحاضرات بينما عددنا يتناقص والصعوبات تتزايد؟ أم نذهب إلى عدن لنعمل في مكتب نوزع نشرات وبلاغات عن عمليات وهمية؟ لقد وهبنا حياتنا لقضية ظفار وعمان وعلينا أن نواصل بالشكل المناسب.
… أقر المؤتمر السادس للجبهة القومية في عدن نظامها الداخلي. تنص المادة السابعة عشرة منه على احترام حقوق المرأة. تم الاتفاق على تكوين الحزب الواحد من التنظيم السياسي للجبهة والحزب الشيوعي وحزب الطليعة (البعثي). اعتبر المؤتمر أن الدعوة الحالية لوحدة اليمنين تمثل انتكاسًا للثورة لأنها تغفل اختلاف المراحل. لو تحققت الآن ستؤدي إلى تغليب أوضاع الشمال.
٩ أبريل
… عدنا إلى مشروع الربع الخالي وشرح لنا يعرب أن الرحلة ستستغرق بين ثلاثة شهور وأربعة في أحسن الأحوال. هناك طريقان: الأول عبر جبال القرا شمال صلالة ثم نتجه يمينًا إزاء حافة الربع الخالي حتى ندخل السعودية في وادي موقشين المجاور لأرض جدة الحراسيس ثم رملة الغافة. لا بد من دخول السعودية لتجنب الرمال المتحركة، ثم ندور حول عروق الشيبة والسبخات، وعند واحة ليوا نعود إلى الشرقي وندخل عمان تحت نزوى. الطريق الثاني من حضرموت إلى منوخ ويعبر مسافة ٦٠٠ كيلومتر تقريبًا داخل الربع الخالي بلا ماء. قطعها ثيسجر في ١٦ يومًا. بعدها نصبح في السعودية فنتجه شمالًا ثم يمينًا حتى أبوظبي.
واضح أن يعرب درس المشروع جيدًا. دهميش ما زال مترددًا، يقول إن الصحراء ليست سهلة. المياه الآسنة المرة. الرياح المحملة بالرمال. البرد القارس. القيظ الملتهب. الوهج الذي يعمي الأبصار في أرض لا ظل فيها ولا غيوم، ثم العزلة والمفاجآت.
… هناك دائمًا مشاكل وتحالفات بين القبائل. وعداء تاريخي بين الرواشد والدروع، كل القبائل بين حضرموت وعمان تنتمي إلى إحدى الفئتين المتصارعتين، بعض القبائل تستضيف الغريب لثلاثة أيام ثم تضمن له يومًا إضافيًّا من الأمان. لكن هناك دائمًا حاجة إلى ربيع أو مرافق من إحدى القبائل يكفل الحماية للمسافرين معه. المشكلة هي في العثور على من يقبل مرافقتنا في هذه الظروف، ثم إننا نحتاج إلى دليل خبير بأودية ودروب جبال القمر والقرا.
١٠ أبريل
… وافق دهميش أخيرًا على عبور الربع الخالي، اتفقنا على استبعاد طريق حضرموت–منوخ؛ لأنه يضعنا في يد السلطات السعودية التي لن ترحمنا، لم يبقَ إلا طريق موقشين. صحيح أننا سنخترق الأراضي السعودية لكن ذلك سيجري في مناطق غير مأهولة. وعلى العموم أقل ضررًا.
… يجب أن أتنكر. إما أن أصبح رجلًا بشعري القصير وأرتدي الفوطة بدلًا من البنطلون الكاكي، أو أتحول إلى امرأة بدوية ترتدي قناعًا من القماش الأسود به فتحتان للعينين. قررت أن أكون الشخصيتين.
يعرب لا يستقر في مكان. دائم التجوال. يختفي أحيانًا اليوم بطوله.
١١ أبريل
… تبينا أننا أغفلنا شيئًا هامًّا. المفروض أننا سننطلق من شيصر على حافة الربع الخالي ونقطع مائة وخمسين كم حتى موقشين. هذا الطريق موازٍ لطريق صلالة–مسقط البري ويبعد عنه بحوالي ثلاثين كيلومترًا، صحيح أن المنطقة بعيدة عن العمليات العسكرية إلا أن الطريق كله أصبح تحت سيطرة الحكومة، ولا يستبعد أن تكون به دوريات. كما أن موقشين نفسها تقع عليه ولا بد أن يكون بها موقع حكومي، لم يبدُ على يعرب أنه فوجئ بهذا الاكتشاف. أجمعنا أنا ودهميش على عدم المغامرة باجتيازه على عكس يعرب. قال إنه يوفر علينا السير في الربع الخالي مسافة مائة وخمسين كيلومترًا، أصر على موقفه فلم نجد مفرًّا من الإذعان.
… بدأنا استعداداتنا.
١٤ أبريل
… هاجمت أمس ميليشيا الكتائب اللبنانية في بيروت باصًا يقل عددًا من الفلسطينيين واللبنانيين، قُتل في الهجوم ٢٩ راكبًا أغلبهم من الأطفال.
… لدينا الآن مائتا رطل من الطحين وكمية كافية من الأرز وقليل من الذرة والسمن والقهوة والشاي والسكر والمعلبات (تونة، ماكريل، خضراوات، عصائر، كمبوت). هذه الكمية يجب أن تكفي مجموعة من خمسة أشخاص لمدة شهرين على الأقل.
… يحتاج الفرد لربع جالون من الماء في اليوم بين شرب وطهي. لا بد أن يكون معنا في المرحلة الأولى ما يكفي لمدة شهر على الأقل.
١٧ أبريل
… اتفقنا مع اثنين من الرفاق من بيت كثير. كانا معي أثناء الانسحاب من رخيوت. سيرافقاننا حتى شيصر ثم يعودان إلى الغيضة بعد أن يزورا قريتيهما. لم نصارحهما بوجهتنا الحقيقية. قلنا إننا ذاهبون إلى المنطقة الشرقية لتنظيم المقاومة، تمكنت من تدبير رشاشات جديدة ما زالت في لفافاتها. تفقدتها ثم أعدت لفها في الورق المشحم الذي يحفظها من الرطوبة.
١٨ أبريل
… سألته ماذا يفعل عندما لا تكون معه امرأة. قال لا شيء، قلت إن هذا مستحيل. أصر على إجابته. أبديت عدم اقتناعي، تحداني: وأنت؟ قلت: يمكنني أن أقول لك، أنا لا أخجل من شيء طبيعي. قلت له فاحمر وجهه.
٢٠ أبريل
… إذاعة بيروت الساعة ٥ مساءً: الملك حسين يقول إنه تفقد في صلالة قواته التي تقوم بحراسة الطريق إلى تمريت.
… أكملنا استعداداتنا. خيمتان صغيرتان. ذخيرة احتياطية. بطاطين. كوفيات ثقيلة. بطاريات للراديو. كراسة فارغة. كتب لينين وماو. رواية الفولاذ سقيناه لاوستروفسكي. الهزيمة لفادييف. الدون الهادئ لشولوخوف. صندوق أدوية صغير، حلتان للمطبخ. خمس قرب ماء. حبل طويل. كرة خيطان. دزينة كبريت. مطواة. مصباح ببطارية. كمية من الريالات السعيدية في كيس خيش.
٢٢ أبريل
… السادات في طهران. الساعة الخامسة والربع تعليق لإذاعة القاهرة يقول: «موقف إيران موقف مشرف من القضية العربية منذ ٦٧، وكان لها خط عربي واضح من إسرائيل … ودور مشرف في حرب أكتوبر». يا للعار! نسوا كيف هرع الشاه لنجدة إسرائيل بالنفط في الأيام الأولى للحرب، السادات يسيل لعابه في حضرة الملوك والأباطرة.
… دهميش في قرية مجاورة، يبحث عن نياق جيدة نشتريها أو نستأجرها. المفروض أن نستأجر الجمال من أهالي قرَّا ثم نستبدلها كلما اجتزنا واديًا إلى آخر لأن كل وادٍ يملكه بطن مختلف من القبيلة.
٢٥ أبريل
… استأجرنا خمس نياق من قبيلة المهرة. سنستبدلها في حبروت. اقترحت أن نبدأ السير في الحال كي لا يعوقنا موسم الأمطار، قال دهميش إننا سنكون ساعتها بموازاة السفوح الشمالية وقريبًا من حافة الربع الخالي، وتكون القبائل في الكهوف والحركة محدودة تخليت عن البنطلون الكاكي، تخلصت من السوتيان ولففت قطعة من القماش حول صدري وضغطتها بقوة لكي تخفي بروزه. وضعت معوزًا كبيرًا حول وسطي فغطاني حتى القدمين. ابتسم دهميش في خبث عندما اقتعدت الأرض وانحسر طرف المعوز كاشفا فخذيَّ.
٢٩ أبريل
… أشعر بالدوار والغثيان. أعتقد أني حامل.
أول مايو
… استولت جبهة التحرير الفيتنامية على سايجون. أصبح النصر النهائي على الإمبريالية الأمريكية على الأبواب.
… أعددت كيسًا من الجلد يتسع لدفاتر يومياتي. ثبت قميصي عند الخصر بزنار جلدي بحيث صنعت جيبًا وضعت فيه الكيس، حملنا أسلحتنا، معي أيضًا مكاروف ٩ ملم. تضم خزانته ثماني طلقات. فائدته قاصرة على الأهداف القريبة المحدودة العدد، انطلقنا في الفجر على أقدامنا الحافية خلف الجمال، سرنا ثلاث ساعات. النباتات الشوكية تلقي خيوطًا من الظلال على الصخور. الجمال لا تسير دائمًا في خط مستقيم وإنما تنحرف في اتجاه موطنها. لا بد من توجيهها بالعصا. ناقتي مطيعة لكن خطواتها قصيرة. اخشوشنت الأرض فأمسك كل واحد بمقود ناقته، ربطت ناقي في ذيل ناقة دهميش. اشتدت الحرارة فارتقى الجميع نياقهم. فضلت أنا المشي. في المساء توقفنا بجوار عين ماء صغيرة، طرحنا الأمتعة بين الأشواك والحجارة، أطلقنا النياق لترعى. اشتركنا في إعداد الأرز. شربنا الشاي بعد العشاء. نصبنا خيمة واحدة لي. فضل الرجال النوم في العراء، قررنا أن نقتصد في تشغيل الراديو ونقصر الاستماع على الأخبار. رتبنا نوبات الحراسة. لجأت إلى دفتري.
٣ مايو
… يعرب غارق في التفكير، لا يتكلم كعادته.
… أتحرق شوقًا إلى جسد دهميش. لكننا اتفقنا على أن نحرص على المظاهر أمام الرفيقين ويعرب.
٤ مايو
… حبروت. عائلات كثيرة من المهرة تسقى نياقها من الآبار الضحلة بالقرب من بستان النخيل. النساء في هذا الجزء غير محجبات ويرتدين أثوابًا زرقاء قاتمة تضع واحدة خاتمًا فضيًّا في أنفها، أكل الأطفال معنا. قضينا المساء في تنظيف أسلحتنا.
… انضممت أمس إلى دهميش في نوبة حراسته. قضيت الوقت كله جالسة في حضنه.
٦ مايو
… استبدلنا الجمال. وجدنا صعوبة في الحصول على ناقة احتياطية لتحل مكان أي ناقة تتعرض لحادث. يمكن أن نذبحها عند الضرورة ونأكلها، وجدنا ناقة سوداء اللون. اشتريناها بثمن بخس. القوم هنا لا يحبون اللون الأسود. الأفارقة مساكين حقًّا. الناقة صغيرة السن ذات خطوات طويلة جدًّا وحبلى في شهرها الرابع. تلد بعد ثمانية شهور أخرى.
… قلت لدهميش إني أعتقد أني حامل، أنبني. كان يجب أن نحتاط، قلت إني لن أتمكن من التخلص منه في الصحراء. كنت أختبره. بهت وصاح بي: هل جننت؟ احتضنني وقبلني، سألد في نزوى أو الجبل الأخضر أو مسقط. سنكون هناك بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر.
٧ مايو
… ألحَّ على أن أعتلي ناقتي، يُبدي نحوي رقة شديدة. أناخها لي، ثم خفض رأس ناقته واعتلاها. ركع فوق السرج جالسًا على بطن قدميه وسلاحه تحت ذراعه في موازاة الأرض، لم أتمكن من تقليد هذه الطريقة التي تعتمد على التوازن.
٩ مايو
… صعدنا من حبروت إلى منبسط حصوي. عدد من أبناء قبيلة المهرة يسقون الجمال. امرأة منهم صبغت وجهها باللون الأخضر، أخرى رسمت خطوطًا زرقاء وخضراء على أنفها وذقنها. الهضاب فقدت خضرتها وكشف الجبل عن وجهه المتجهم.
… لم أذكر شيئًا عن الحمل ليعرب، ساورني شعور بأني يجب ألا أفعل.
١٠ مايو
… اعترضتنا جماعة من بيت جداد. طلبوا منا مالًا ليسمحوا لنا بالمرور. رفضنا. قررنا أن نعود مسافة قصيرة ثم نسلك الطريق المحاذي للحدود. سنتجنب بذلك اختراق جبال القمر، سنعبر الحدود عند سفوحها الشمالية.
١٢ مايو
… يسير الرفيقان في المقدمة يتبعهما بعرب، يحرص على الانفراد بنفسه. يتيح لنا هذا الترتيب أن نكون أنا ودهميش متجاورين. لا نكف عن الحديث. وجدت نفسي قادرة على التعبير عن أفكار كنت أتهرب من صياغتها في كلمات أو البوح بها لأحد، قلت له: كنا نقول دائمًا إن القوتين المحركتين للثورة هما العمال والفلاحون، لم تسأل أنفسنا أبدًا أين هم العمال معتبرين أننا الطليعة ووجودنا نحن كافٍ.
١٣ مايو
… حكيت له عن شهاب ووليد. كنت أرقب ملامح وجهه. أثارتني الغيرة التي بدت عليه.
١٤ مايو
… مررنا بعدة نياق ترعاها امرأة عجوز مع صبي صغير، سألناها قليلًا من الحليب فهتفت بالصبي: أسرع. أسرع. أحضر بنت السنتين. أهلًا أهلًا بالضيوف. قدمت لنا طاسة حليب تغطي سطحها بالرمل البني. جلسنا القرفصاء الواحد بعد الآخر. نفخنا الرغوة جانبًا وشربنا، سألتنا عن وجهتنا، أجبناها إجابة غامضة مشيرين إلى الجبال، قالت بحماس: الله ينصركم، هل تدرك هويتنا؟ منذ سنة فقط كنا سنقول لها إننا من الثورة. أصرت أن تهب لنا حليبًا في قربة صغيرة وقالت إننا نستطيع مزج القليل منه كل يوم مع مياه الشرب لتحسين طعمها. اكتشفنا أن إحدى قربنا ترشح فصبت بها قليلًا من الحليب لوقف تسرب المياه.
١٥ مايو
… اتجهنا يمينًا نحو الشرق مقتفين أثر بعض الأودية التي تتخلل الهضاب.
… سألني يعرب عما أكتب بالضبط كل ليلة. قلت له إني أحرص على تدوين يوميات الثورة، وإني تعودت على كتابة يومياتي من أيام بيروت. قال: هل تذكرين كل شيء؟ قلت: بقدر الإمكان. فكر برهة ثم قال: هل تذكرين الأشخاص بأسمائهم؟ قلت إن أغلب الأسماء مستعارة. تساءل عما إذا لم تكن هناك خطورة في ذلك. لم أجبه. كثيرًا ما داعبني هذا الخاطر وتجاهلته.
١٦ مايو
… قال لي اليوم: سنتزوج بمجرد وصولنا إلى العمران. قلت: بدأت تفكر مثل البرجوازيين، نحن متزوجان فعلًا ولا نحتاج إلى ورقة تثبت ذلك. قال إننا مقبلون على مرحلة مختلفة تتطلب الحياة طبقًا للقواعد القديمة. علينا أن نفكر في الجنين، ابتسم ابتسامته الماكرة التي أحبها، قال: المفروض حسب تقاليد بيت كثير ألا يكون الزواج في شهر صفر وأن يقوم أبوك بالإنفاق على الزفاف والإعداد له. رددت عليه أنه حسب هذه التقاليد نفسها يجب عليه أن يقدم مهرًا يذهب نصفه لأبي والنصف الآخر ليعرب.
٢١ مايو
… شعرت بالغثيان في الصباح. لاحظت أن حلمتي صدري ملتهبتان وأن فخذيَّ منتفخان.
٢٣ مايو
… عبرنا وادي غودون بعد أسبوعين من مغادرة حبروت. استرحنا ظهرًا على مقربة من بستان نخيل تقطفه قبائل بيت كثير في شهر سبتمبر، مرَّ بنا عدد منهم مسلحون بالبنادق الإنجليزية ٣٠٣، منهم اثنان يحملان رشاشين روسيين. زعيمهم عجوز قصير القامة بعينين براقتين وذقن تتدلى منه بضع شعيرات بيضاء. ممتلئ حيوية ويتحرك بخفة. من بيت موسان. تعرفوا على عائلة دهميش. انزويت داخل الخيمة وأعطيتهم ظهري، لم يُبدوا أي فضول، سمعت دهميش يخبرهم بأننا ذاهبون إلى المنطقة الشرقية، قالوا إن المعارك هدأت بها. تجنبوا أن يكشفوا عن موقفهم من الصراع لكن هذا في حد ذاته كان يعني أنهم في جانب السلطان. كان موعد صلاة المغرب قد أزف فتوضئوا وصلوا، كل واحد في مكانه بعد أن وضع سلاحه أمامه، قرءوا سورة الفاتحة التي لا تعرف أغلب القبائل غيرها. يكتفون بصلاة الفجر والمغرب ويهملون باقي الصلوات. يصلون وهم يتلفتون حولهم بالطبع كي لا يفاجئهم الأعداء من القبائل الأخرى. واصلوا السير بعد الصلاة مباشرة، عندما امتطوا نياقهم تعمد زعيمهم أن يلتفت نحوي متفحصًا. شعرت بالقلق.
٢٤ مايو
… انتقلنا شمالًا ببطء متتبعين وادي غودون، وهو واحد من خمسة مجارٍ نهرية جافة تنحدر من جبال القرا. كانت كتل الصخور المتساقطة من الجرف تملأ الجانبين، فاضطررنا للسير بصعوبة في قعر المجرى.
٢٥ مايو
… قضينا الليلة لدى عائلة أحد الرفاق من بيت كثير تقيم أسفل شجرتين دون خيام، ذبحوا لنا عنزة رغم تواضع إمكاناتهم. الزوجة مكشوفة الوجه نحيفة جيدًا تسعل باستمرار. ممتلكاتهم: بضعة قدور وطاسة ماء وبعض القرب وكمية من سمك السردين منثورة على قميص ممزق وبعض الخرق. كيس من جلد الماعز مليء إلى منتصفه بالطحين. سألتهم عن الربع الخالي. تطلعوا إليَّ في استغراب، قال الرفيق: تعنين الرمال؟ سألته: هل صحيح أنها خالية من البشر تمامًا؟ قال إن ابن عمه سافر فيها مرة أربعين يومًا دون أن يشاهد أحدًا، سألته إذا كان من الممكن عبورها. قال ممكن ولكن لا بد من وجود ربيع. احتد دهميش عليَّ فيما بعد. قال إن الأخبار تنتقل في الصحراء بسرعة البرق. كلما التقى أعرابي بآخر كان السؤال الأول عن الأخبار، والإجابة تشمل أي شيء والجميع ينصتون بانتباه ليعرفوا ماذا يجرى وأي القبائل تحركت من أماكنها وفي أي اتجاه.
٢٧ مايو
… غادرنا الرفيقان على مشارف شيصر. خيمنا بعيدًا عن طريق القوافل، عندما تأكدت من رحيلهما استبدلت ملابسي. تحولت إلى بدوية في رداء أسود سابغ وضعت على وجهي قناعًا أسود من الجلد لا تبدو منه غير العينين. انزويت في خيمتي مضى يعرب ودهميش يستكشفان القرية. هناك كهف يحتوي على تماثيل قديمة على شكل طيور. آثار حصن حجري قديم. لا بد من تحويل هذا المكان بعد النصر إلى متحف. هناك أيضًا بئر ماء نقي على عمق ١٥ قدمًا بين الصخور، حمل كل منا قربة وذهبنا لمائها. الرجال والنساء يسحبون الحبال معًا وهم يغنون. يفرغون الدلو المليء في حوض جلدي كبير فتتدافع النياق إليه. صفوف من القرب المليئة بالماء. عندما جاء دورنا كانت البئر قد جفت فانتقلنا إلى أخرى على مقربة. تبادلنا الحديث في اقتضاب مع الأهالي، فاجئونا بسؤال عن بقية جماعتنا. قالوا إنهم كانوا يتوقعوننا. مرت بهم جماعة بيت موسان التي التقيناها عندما عبرنا بوادي عودون. حدثهم زعيمها عنَّا. قال لهم إننا أربعة رجال وامرأة، لم ينطلِ عليه تنكري إذن. قلنا للأهالي إن رفيقينا تخلفا لمرضهما. سألنا عن الاتجاه الذي مضت فيه جماعة بيت موسان. قالوا إنهم اتجهوا إلى موقشين. لم أسترِح لهذه المعلومات.
… أعربت عن رأي بضرورة تغيير طريقنا. قلت إن اهتمام جماعة بيت موسان بأمرنا مريب. قال يعرب إنها عادة القبائل. قلت إننا لن نخسر شيئًا إذا اتخذنا الحيطة. عاد إلى حجة المائة وخمسين كيلومترًا التي يوفرها طريق موقشين. كررت الإشارة إلى خطر الدوريات الحكومية. انضم دهميش إليَّ في الرأي، اضطر يعرب إلى الموافقة. قلت إننا لن نتمكن من إخفاء عزمنا على عبور الصحراء. لكننا نستطيع تضليل من يفكر في مطاردتنا. سنذيع أننا ذاهبون إلى موقشين ثم نغير طريقنا بمجرد خروجنا من شيصر.
… بعد العشاء أعلنت أني سأنام مع دهميش في خيمة واحدة. لم يبدُ على يعرب أنه فوجئ، لكنه لم يكن سعيدًا. رتبنا مواعيد الحراسة. اشتركنا أنا ودهميش في نوبتنا، عندما رقدنا عرَّى بطني وأغرقها في القبل، استسلمت للنوم ورأسي على صدره، أشم رائحة عرقه النفاذة.
٢٨ مايو
… ذهب دهميش يبحث عن ربيع، لزم يعرب الصمت واستغرق في التفكير. هل هو غاضب مني؟ هل أحدثنا أصواتًا بالليل؟
… عاد دهميش قبل الغروب يائسًا، لا أحد يرغب في عبور الرمال كما يسمونها، جماعات كثيرة ضلت طريقها فيها وهلكت. عددنا أيضًا قليل ويمكن أن نقع وسط معارك بين القبائل أو نتعرض للاعتداء.
٢٩ مايو
… اختفى يعرب طول اليوم، دهميش ما زال يبحث عن نياق وأدلاء، نحتاج إلى أكثر من مرافق لدافع الأمان والدفاع.
٣١ مايو
… أحضر يعرب دليلين: شابًّا في الثامنة عشرة من عمره يُدعى ابن نجم. شعر رأسه طويل وشفتاه مكتنزتان وأسنانه ناصعة البياض، يحمل بندقية إنجليزية. الثاني خشعت أكبر منه في السن والحجم. لم تعجبني نظرات عينيه التي تحوم طول الوقت حول حاجياتنا. معه كلاشينكوف، سألته من أين حصل عليه، ضحك ولم يجب. ازداد نفوري منه، اتفقنا على أن نكمل استعداداتنا في الغد وننطلق بعده.
أول يونيو
… عوضنا النقص في إمداداتنا، معنا من الماء ما يكفي لعشرين يومًا إذا خصصنا ربع جالون في اليوم للطهي والقهوة والشاي، بالإضافة إلى ربع آخر لكل واحد من أجل الشرب. هناك كمية أخرى ستتبخر أو ترشح. قررنا أن نعتمد على الرمال في غسيل أيدينا أو تنظيف أجسامنا. سقينا النياق لآخر مرة. شرب كل جمل بين عشرة واثني عشر جالونًا من الماء. كلما توقفت الناقة عن الشرب نحك بين ساقيها الخلفيتين ونتحدث إليها مشجعين. عشرون يومًا بلا ماء هو أقصى ما يمكن أن يتحمله الجمل بشرط توفر المراعي، وإلا فيومين أو ثلاثة. معنا أيضًا صندوق تمر، انضم إلينا مرافقانا بناقتيهما وحاجياتهما البسيطة.
٢ يونيو
… استيقظنا في الفجر. صباح قارس. رياح باردة تهب من الشمال الشرقي. ستمحو آثار أقدامنا إذا استمرت، أكلنا بقايا الطعام المتبقي من أمس. شربنا الشاي والقهوة المرة. بدأ تحميل النياق. ثارت وعلا رغاؤها. هل تشعر بأنها مقبلة على رحلة خطرة! كممنا أفواهها بلا فائدة. شد خشعت ناقته من عقالها إلى أسفل قائلًا: خر … خر. ناخت على ركبتيها، ربط ساقيها بنهاية عقالها لمنعها من النهوض أثناء التحميل. حددنا الاتجاه على البوصلة. هتف: توكلنا على الله. انطلقنا في اتجاه الصحراء، رددت نشيد دقت ساعة التحرير، انضم إليَّ دهميش. فجأة ارتفع صوت مرافقينا بأغنية قبلية قديمة: «القبائل تهدر بالصوت العالي». أعادتنا إلى أرض الواقع.
… توقف خشعت بعد ساعة أمام كومة من الأحجار على يمين الطريق. أشار جهة اليمين وقال إنه الطريق المؤدي إلى موقشين. أبلغناه بأننا لن نأخذه وسنتجه شمالًا في خط مستقيم. كنت قلقة بشأن رد فعله فربما رفض لأننا لم نتفق معه على ذلك في البداية. دهشت لأنه لم يعترض، مشينا حوالي سبع ساعات. الأرض منبسطة وسهلة. حططنا الرحال عند الغروب بجوار بعض الأعشاب. نصبنا الخيام وأشعلنا نارًا، أنخنا النياق حولها. غرف خشعت رطلًا من الدقيق أضاف إليه كميات قليلة من الماء ثم عجنها إلى أن أصبحت سميكة. قسم العجين إلى كتل متساوية رققها بيديه ثم وضعها على مفرش، تولى ابن نجم إشعال النار. استعان بطرف من كوفيته. صنع من بعض الجمرات موقدًا متوهجًا وضع عليه أقراص العجين. قلبها مرتين ثم دفنها في الرمل تحت الجمر ووضع الرمل والحجر فوقها. راقبنا الفقاقيع تخرج من طبقة الرمل والرماد إلى أن نضجت الأقراص. رفعها ونظفها من الرمال ووضعها جانبًا لتبرد. كان طعمها كنشارة الخشب. بعد الأكل كان دوري في تنظيف الأواني، دعكتها جيدًا بالرمال، ثم جلسنا حول النار، شربنا الشاي، استخرج خشعت تبغه من كيس جلدي صغير يحمله تحت قميصه، حشاه في غليون حجري ثم أشعله. سحب نفَسين ثم قدمه إلى زميله. أنزلت سرج ناقتي وأنا أتأمل موضع قدمي في حذر خوفًا من أن أدوس على عقرب أو أفعى من ذوات القرون. حملته إلى خيمتي وبسطته فوق الرمال. استخدمت الخرج وسادة. وضعت حزام الذخيرة تحته. والرشاش إلى جانبي. حفرت مكانًا في ركن الخيمة القريب يتسع لكيس دفاتري حتى الصباح.
٣ يونيو
… ظل الرجال أمس يتحدثون ساعات طويلة وهم جلوس حول النار، مع ذلك سمعتهم في الفجر وأنا شبه نائمة ينقلون النياق من مكان رقودها وهي ترغي. استيقظت تمامًا عندما بدأ أحدهم يطحن البن في هاون نحاسي، ثم ارتفع صوت أحدهم بالأذان. أخرجت رأسي من الكيس فلمحت خشعت يتوضأ. قفزت من مرقدي عندما رأيته يغسل وجهه ويديه وقدميه بالمياه التي عانينا في ملئها وحملها. سألته لماذا لا يتيمم بالرمال كما هي العادة. قال من الأفضل أن نصلي على أن نشرب. بذلت مجهودًا للسيطرة على غضبي.
… مشينا على أقدامنا ساعتين. شعرت بالتعب فشددت رأس الناقة إلى أسفل ووضعت قدمي على رقبتها. ارتفعت إلى السرج. لم أتمكن من تقليدهم بفتح رجلي على السرج أو الركوع فوقه. لذلك كنت أشعر طول الوقت بطرف السرج يخز فخذي. بعد مسيرة قصيرة شاهدنا رمال الربع الخالي ممتدة أمامنا كحائط وردي. توقفنا مبهوتين نحدق في المشهد في رهبة. بدأنا السير في بعض الرمال الناعمة عسيرة على الجمال بعكس السطح الصلب الممتلئ بالحصى الذي كنا تسير عليه حتى الآن. عند العصر نصبنا خيامنا بجوار بعض أشجار الغاف: شجرة كثيفة الأغصان عميقة الجذور. تبعثرت النياق ترعى، فجأة صاح واحد محذرًا. لمحنا مجموعة من البدو تقترب منا بسرعة فوق نياقهم، بنادقهم في وضع الاستعداد. التقطنا أسلحتنا وانبطحنا أرضًا. صاح خشعت إنهم ليسوا من دهم أو سعر بسبب سروجهم ولا من العوامر بسبب ثيابهم. نهض واقفًا وتقدم منهم ببطء ويده على زناد بندقيته. فجأة أرخى بندقيته بينما أسرع إليه واحد منهم. تعانقا … نهضنا واقفين ونحن نتنفس الصعداء. رحبنا بهم وقدمنا إليهم القهوة. قالوا إنهم بحثوا عنا في الطريق إلى موقشين. سمعوا في شيصر أننا ذاهبون في هذا الاتجاه. تبادلت النظرات مع دهميش، يريدون سفاد جملهم. كان الجمل متهيجًا يجلد نفسه بذيله ويصر على أسنانه وينفخ من فمه فقاعات كبيرة ذات لون وردي ثم يمصها مغرغرًا. قدمنا إليهم ناقة صغيرة السن. أناخوها على الأرض وفرشحوها. ركع أحدهم بجوارها ليساعد الجمل. الجمل لا يستطيع العثور على المكان الصحيح بمفرده.
… سألني دهميش بالليل عندما انضم لي في فراشي: أتعرفين الفرق بين الإنسان والجمل؟ قلت: التفكير، قال إن الجمل يفكر أيضًا. انقلب فوقي ثم أضاف هامسًا: الفرق هو أن الإنسان يعرف طريقه ولا يحتاج إلى مساعدة. ابتسمت في الظلام وأنا أذكر المرة الأولى.
٤ يونيو
… شرح لي ابن نجم في الصباح كيف يتم التعرف على القبيلة التي ينتمي إليها الغريب في الصحراء: طريقة شد حزام الرصاص، وضع الكوفية (مدلاة على الصدر أو ملفوفة حول الرأس)، قراب البندقية، النقوش التي تزين السرج، طريقة المشي والكلام. كان يقوم بتحميل النياق. وكان شعره الطويل ينسدل على عينيه فيدفعه إلى الوراء بيديه، استقرت عيناي على صدره العاري. أبعدتهما بصعوبة. لمحني دهميش. رأى شيئًا ما في عيني أغضبه، خاصمني.
… لففنا أنفسنا بالعباءات وتلثمنا بالكوفيات بحيث لم يعد يظهر من وجوهنا سوى العيون. الملابس الإضافية تمنع العرق من التبخر فتشكل طبقة باردةً من الهواء بين الجسم والملابس.
… أتأمل التغيرات التي تحدث لجسدي، معجزة الحياة واستمرار النوع.
… ليس هناك أروع من مشهد الصحراء ساعة الغروب عندما تكسوها الشمس بغلالة وردية.
٥ يونيو
… عندما هجعنا بالأمس كان دهميش ما زال غاضبًا. أعطاني ظهره. داعبته. استدار نحوي واحتضنني بعنف. شعرت في عناقه بشيء من الغضب، لماذا يفترض الرجل أن مشاعر المرأة يجب أن تقتصر عليه وحده دون غيره؟ إذا أعجبني جسد رجل أو شيء ما فيه فليس معنى هذا أني وقعت في غرامه أو أريد أن أنام معه. وحتى لو داعبني الخاطر. المعنى الوحيد هو أن جسدي عواطفي حية ومتوقدة ومتوهجة. أني أحيا. لا بد من إعادة تثقيف دهميش في هذا المجال … استمتعنا جيدًا ببعضنا البعض. تمنيت لو كانت هناك بحيرة قريبة لأغطس فيها … أليس ابن نجم هو السبب بشكل ما في درجة المتعة التي حصلنا عليها؟ أمامنا وقت كافٍ نستكشف فيه كل المسارب اللذيذة الخفية لأحاسيسنا ورغباتنا ومتعتنا.
… التقاط الإذاعات صعب بعض الشيء. نبأ جيد لرفاقنا في عدن: إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية، نبا آخر يبعث على الأسى: تكوين لجنة مصرية أمريكية لتنمية الاستثمار في مصر تضم روكفلر رئيس بنك فيرست ناشيونال، رئيس موبيل أويل، رئيس يونيون كاربيد، فؤاد سلطان، زكي هاشم، عادل جزارين، وغيرهم.
… تحدثنا عن شخصية ستالين وعبادة الفرد. أبدى يعرب إعجابه بستالين. قال إنه استطاع أن يقود بلاده في فترة صعبة وواجه الغزو الألماني ووضع أساس البناء الاشتراكي. قلت إن جرائمه لا تغتفر فقد قضى على مئات الكوادر الحزبية والعسكرية المخلصة وزرع الخوف في نفوس أبناء الشعب. وهو المسئول عن قرارات المؤتمر التاسع للحزب السوفييتي الذي اعتبر أن إعلان موقف مخالف لمواقف القيادة يعتبر سلوكًا انقساميًّا. اعترض دهميش على كلامي قائلًا: ماذا يحدث لو أعلن فهد مثلًا على الملأ معارضته لقرار مركزي بالدخول في معركة أو الانسحاب منها؟ قلت إن هذه لحظات خاصة تخضع لمنطق العسكرية، وهو منطق استبدادي مطلق بحكم الضرورة وغير إنساني. فكرت أن الموضوع أعمق من ذلك وله علاقة بالفلسفة. هل يمكن أن يحتكر أحد الحقيقة المطلقة؟ المادية الجدلية تقول لا. العلم أيضًا. لكن كيف يمكن إقناع مقاتل بأن يعرض صدره للموت إذا كانت القضية التي يحارب من أجلها ملتبسة أو تحتمل وجهتي نظر؟ وهل الموت في سبيل القضية أمر ضروري؟
٦ يونيو
… صادفنا بئرًا صغيرة مطمورة. قضينا ساعتين في تطهيرها، الماء تتصاعد منه رائحة الكبريت الكريهة، عندما ذقتها بصقتها في الحال. رفضت النياق الشرب منها. كمَّمناها وصببنا الماء في أفواهها بالقوة. كنت أتلهف على الاغتسال لأزيل لزوجة العرق. ملأنا قربة وحملناها بعيدًا. بسط بطانية بين ذراعيه ليحجبني عن الأنظار. عندما أصبحت عارية أدار وجهه بعيدًا في خجل.
… سقط مني الكيس الذي أحتفظ فيه بدفاتري. انحنيت واستعدته. عندما اعتدلت لمحت خشعت يرقبني في تركيز. لم أسترح لنظرة عينيه، اقترح عليَّ يعرب أن أعهد إليه بدفتر يومياتي كل ليلة. ربما ظن خشعت أن الكيس به مال وحاول الاستيلاء عليه. قلت إني أعرف كيف أعنى بنفسي وبيومياتي.
٧ يونيو
… قبيل الظهر لمحنا عاصفة ترابية تقترب منا من الجانب الأيمن، ثم تكشفت عن جماعة من البدو الراكبين يتجهون نحونا بسرعة. وضعنا أيدينا على أسلحتنا. أطلق خشعت طلقتين في الهواء. لوحوا بكوفياتهم وقفز أحدهم من فوق ناقته وقذف رملًا في الهواء فاطمأننا. أوقفوا نياقهم على مبعدة وأناخوها بعصيهم. اقتربوا منا وهم يصيحون بالسلام. رددنا السلام. تبادلوا التحيات بلمس الأنوف. تقدم خشعت ودهميش منهم. أعددت لهم إناءً كبيرًا من القهوة. وضع دهميش صحنًا من التمر أمامهم. بعد أن شربوا وأكلوا التمر قدمنا لهم القهوة مرة أخرى، ثم بدأ تبادل الأخبار: الزيجات والطلاقات والمواليد والوفيات، ثم سألونا عن سعر الطحين في صلالة. هل كانوا يستشفون هويتنا؟ كانوا يجلسون دون حركة وعيونهم السوداء اليقظة تدور في كل اتجاه تسجل كل شيء. قالوا إنهم في طريقهم إلى شيصر دون أن يذكروا شيئًا عما جاء بهم إلى هذا المكان، مضوا في الطريق الذي جئنا منه. تابعناهم بنظراتنا حتى اختفوا. قال دهميش إن أحدهم كان يتطلع نحوي طول الوقت، وإنه ليس من هذه الأنحاء. استدل بشكل قدميه. أقدام البدو لم تتعود صعود الجبال وتميل إلى التقوس من كثرة الركوب، بينما الأقدام المائلة للخلف هي أقدام سكان المرتفعات الجبلية. كما أن البدو يمشون منتصبي القامة بخطى قصيرة. لكن صاحبنا كان يمشي مثل الجباليين بخطى طويلة منحنيًا إلى الوراء.
٨ يونيو
… أضعنا اليوم عدة ساعات في البحث عن صيد، نريد أن نحتفل غدًا بمرور عشر سنوات على اندلاع الثورة. اصطاد الربيع غزالًا بمساعدة دهميش. شوينا نصفه. وضعنا الباقي فوق سطح خيمتنا لحمايته من الرمل. طها ابن نجم أرزًا.
٩ يونيو
… لم نجد اللحم عندما استيقظنا في الصباح، دلت آثار الأقدام على أن ثعلبًا سرقه فحزنا، تتبع خشعت آثار الثعلب حتى وجد المكان الذي دفن فيه ما تبقى من اللحم. نظفناه من الرمال وسلقناه.
… تذكرت شجرة اللبان التي زرعتها في أول معسكر لنا وسط ظفار منذ عشر سنوات. ستبدأ الآن في الإدرار. قلت لدهميش إنها رمز نجاحنا، ما خرجنا من أجله يتحقق جزء منه الآن. فهل خرجنا من أجل أنفسنا؟ أم من أجل تحقيق حياة أفضل للجماهير؟ نحن منتصرون وسنواصل الكفاح بالوسائل المتاحة. داعبني بأن هناك شجرًا لا يعطي وإذا أعطى فبكميات ضئيلة ونوعية أقل جودة، وهو الشجر الذكر الذي يقوم بعملية اللقاح ويسمونه التيس.
… نجحنا في التقاط إرسال من عدن. أذاعوا عدة كلمات بهذه المناسبة من أبو إياد، جورج حبش، نايف حواتمة، أحمد جبريل، الحزب الشيوعي اللبناني، الجيش الأرميني السري، الجبهة الشعبية في البحرين وأريتريا والأهواز (عربستان)، منظمة فدائي الشعب الإيرانية، جبهة تحرير بلوجستان الغربية، منظمة مجاهدي الشعب الإيرانية، شعب الساقية الحمراء ووادي الذهب، الحزب الشيوعي الكوبي، لجان التضامن الأفروآسيوي، لجان المناصرة في أوروبا وكندا وأمريكا وغيرها. سعدت عندما قرءوا رسالة من ميشيل كامل باسم الحزب الشيوعي المصري بعنوان «النهج الثوري في المنطقة يكتسب قوة متعاظمة والطبقة العاملة تنتزع استقلاليتها وتحقق نهضة عارمة والطاقات الكامنة للحركة الثورية العربية تنبئ بتحولات جذرية».
… دارت بيننا مناقشة طويلة بدأها يعرب، قال إن ماركس تنبأ باندلاع الثورة البروليتارية من أكثر البلدان تقدمًا في النظام الرأسمالي، ثم ابتدع لينين عشية اندلاع ثورة أكتوبر مقولة انطلاق الثورة من أضعف الحلقات ليبرر انطلاق الثورة من أطراف النظام الرأسمالي مثل روسيا المتخلفة اقتصاديًّا. تساءل عما إذا كانت التجارب قد أثبتت صحة هذا الرأي. قلت إن تروتسكي ساند عملية حرق المراحل وأكد أن البلد المتخلف ليس عليه بالضرورة أن يتبع نظامًا متسلسلًا كالذي سارت عليه البلدان الأكثر تقدمًا. بوسعه أن يتبنى الأنباء الجاهزة وأن يقفز بذلك عددًا من المراحل الوسطية. أعربت عن شكي في هذه المقولة. تذكرت عشرات المواقف التي بدت فيها صعوبة تقبل المجتمع القبلي الظفاري لأفكار الثورة. ضربت مثلًا من واقع الخليج، فقد بدأنا نسمع عن مشروعات عمرانية ضخمة من أموال النفط بنظام تسليم المفتاح. تساءلت عن الآثار السلبية لمجتمع الخيمة عندما ينتقل فجأة إلى مبنى عصري لم يشيده بنفسه أي لم يأتِ من خلال تطور طبيعي لحياته.
١٠ يونيو
… توقفنا لنطعم الجمال من نبات يابس يسمى زهرة. قال خشعت إن قليلًا من المطر سيحول هذا النبات الجاف في خلال شهر إلى الخضرة ويغطس سيقانه بالزهور. لا تموت هذه النباتات بسهولة فجذورها طويلة جدًّا. فكرت أن الثورات أيضًا كذلك.
… الراديو لا يعمل. هل عبث به أحد؟ هل تم تخريبه عن عمد؟
١١ يونيو
… قال خشعت إنه اجتاز الصحراء منذ سنتين. وصف عروق الشيبة الهائلة في أقصى الشمال الشرقي بأنها جبال متتابعة من الرمل تليها الرمال المتحركة في الشرق، إذا استطعنا اجتيازها فإننا نصل بعد قرابة شهر من الآن إلى واحات ليوا الغنية بالنخيل والتي تمتد مسيرة يومين على ظهور الجمال. أعرب عن قلقه بشأن الجمال. قال إنها في حالة سيئة. لن تتمكن من اجتياز العروق. سألته إذا كان هناك طريق حول هذه الرمال فقال لا إلا إذا ذهبنا بعيدًا في الغرب، على طريق دكاكة لأن الرمال هناك سهلة. سألته عن المسافة إلى دكاكة. أنصت إلى حكاية طويلة استغرقت حوالي نصف ساعة عن تجربته في عبورها. احتوت الحكاية على أسباب سفره والأماكن التي توقف فيها والولاة الذين صادفهم واسم الناقة التي كان يركبها وتاريخها وتاريخ أمها وممن اشتراها وأين هي الآن والسلاح الذي كان يحمله ساعتها ومن أين جاء به والطعام الذي كان يأكله وكيف كان يخشى الالتقاء بأحد من قبيلة سعر القوية الملقبة بذئاب الصحراء والذين ينسبون أنفسهم إلى النبي ولا يصلون زاعمين أنه أعفاهم من الفرائض. لم نصل أبدًا إلى المسافة.
… نتجه شمالًا إلى رمال غانم. لاحظت أن مرافقينا يتباطآن في السير. أمس قابلنا بعض العشب فتركا النياق ترعى، تكرر هذا عدة مرات. النتيجة أننا قطعنا مسيرة ساعة في يوم كامل. بدأت أشك في أنهما يتعمدان إطالة أمد الرحلة. هل يخشيان التوغل في الصحراء أم هناك سبب آخر؟
١٢ يونيو
… رأيت اليوم مهاة لأول مرة. لم أتصورها أبدًا بهذا الجمال. كانت في حجم غزال سمين ولها قرون طويلة وجسمها أبيض نقي. لكن أجمل ما فيها عيناها. أدركت لماذا تغنى بهما الشعراء القدامى. أراد يعرب أن يصيدها. منعته. لا بد أننا قريبون من أراضي قبيلة الحراسيس، لهم لغتهم الخاصة غير المدونة وأدباء وشعراء. اكتسبهم قابوس إلى صفه منذ ثلاث سنوات. اختار أرضهم لتكون محمية مساحتها ١٤ ألف كيلومتر مربع. أعيد توطين حيوان المها المنقرض فيها.
… قلت لدهميش إني أتمنى بنتًا بعينين مثل عيون المها. قطب حاجبيه ولم يعلق. ظل شاردًا مدة طويلة. سألته عندما شرعنا في إنزال حمولة النياق عما به. لم يجب.
١٣ يونيو
… أظن أني أفهم مشاعر دهميش. هو ببساطة يفكر في الجنين على أنه ولد. ليس من السهل التخلص من ميراث قرون من تميز الذكر.
… بنت أم ولد؟ سمعت مرة أن الحامل يمكنها أن تعرف على وجه اليقين لو كان رأس الجنين في الجانب الأيسر يكون ولدًا ولو كان في الجانب الأيمن فهو بنت. متى يتكون الرأس داخل الرحم؟ لا أعرف شيئًا تقريبًا عن أروع عملية في الوجود. لم يخطر الأمر على بالي من قبل. لم أتصور نفسي أمًّا. لا بد من الحصول في أول فرصة على كتب حول الحمل والولادة والرضاعة والتربية.
… مررنا بآثار غريبة في الرمال. ارتبت في أنها آثار أقدام حديثة شوهت الرياح معالمها. قال دهميش إنها آثار جمال فنفى خشعت ذلك بقوة. قال إنها لضبع. بدا يعرب مقتنعًا بقول الربيع على العكس مني. قال دهميش إن البدو يعرفون من نظرة واحدة نوع الأثر، عمق أثر خف الجمل يدل على ما إذا كانت محملة وعما إذا كانت حاملًا. من الروث يمكن تحديد المرعى الذي أكلت منه ومتى شربت آخر مرة. بالتالي من أين جاءت وإلى أين هي ذاهبة. وأين هي الآن.
أشعر بالقلق.
١٤ يونيو
… أشرفنا على كثبان قرميدية اللون ترتفع إلى أكثر من مائة متر. اضطررنا للالتفاف حولها لصعوبة تسلقها على النياق. الكثبان التالية كانت سهلة فصعدتها. فوجئنا بمنحدر شديد عند النزول، ترددت الناقة السوداء وفجأة سقطت على جانبها، أسرعنا إليها. رفعنا عنها حمولتها، قامت بصعوبة على ركبتيها، بدأت تعرج. جهزنا بعض فروع الأغصان الصلبة وقوينا ساقها. جلسنا إلى جوارها نطرد الذباب عنها. قال خشعت إنها لم تعد بذات فائدة ولا يمكن أن نبقى إلى جوارها. ذبحناها وقطعنا لحمها شرائح. ثبتنا بضعة عصي في الرمال وعلقنا فوقها شرائح اللحم كي تجف. وضعنا عظام النخاع في معدتها التي ربطناها بشريط من الجلد ودفناها في الرمال. أشعلنا النار فوقها.
… الصحراء مرعبة. يعتقد البدو أن الكثبان موئل للجان، يتلفت رفيقانا حولهما طول الوقت ويرددان أن الله وحده هو الدائم.
… كنا نتحدث عن التدخل الإيراني عندما ذكر دهميش أنها المرة الثانية خلال قرنين التي توجد فيها قوات إيرانية على أرضنا. في الأولى نجح جد قابوس الأكبر في طردهم. قال يعرب إن قابوس قلق بشأن أهداف الشاه. سألته كيف عرف، قال إن له علاقة بابن عم السلطان الذي يكره الإنجليز ويحمل أفكارًا تقدمية. وهو مرشح لأن يكون وليًّا للعهد، وأنه يطمح إلى تجنيده لمبادئ الثورة. عندئذٍ يمكن أن يحل محل قابوس بسهولة. بذلك نحقق أهدافنا بضربة واحدة. استنكرت هذا القول. نحن ضد انقلابات القصور. الثورة عملية تتم من أسفل لا بد أن يشترك فيها الناس ولا يمكن فرضها عليهم وإلا كانت العواقب وخيمة. لم يجادلني.
… العناكب منتشرة ويبلغ عرض الواحد منها عشرة سنتيمترات. أرجلها حمراء مكسوة بالشعر وليست مؤذية.
١٥ يونيو
… نبشنا معدة الناقة. وجدنا مزيجًا من الدم والدهن عائمًا بين العظام الفارغة، صبه خشعت في قربة فارغة. تناولنا الطعام عند الغروب أكلنا وشبعنا رغم أن اللحم كان كريه الرائحة وقاسيًا للغاية.
… قضيت ساعات طويلة أتخيل مصائر مختلفة لطفلتي. أفكر في الجنين دائمًا بصيغة المؤنث. هل هذه نرجسية مني؟ هل ستكون مناضلة ثورية مثلي؟ أم ستكون الحاجة لأمثالي قد تلاشت وحل محلنا المهنيون وأصحاب المهارات؟ اتفقت مع دهميش على أن أسميها ثائرة، وثائر إذا جاءت ولدًا.
… معنويات يعرب في هبوط. يتحامل على نفسه، يتخلف عنا معظم الوقت. كأنما يبغي العودة؟ اشتكى من ألم في بطنه فنصحه خشعت بشرب بول الناقة. يغسل يديه ببولها عندما يهم بحلبها. يعتقدون أن الناقة يجف حليبها إذا حلبت بيد قذرة أو في إناء ملوث.
… حكى لنا خشعت عن قريب له قتلته قبيلة أخرى … حمله أبوه وركب بجثته إلى خيمة القاتل وجد بها صبيًّا في الرابعة عشرة. حاول الصبي الفرار لكن الرجل لحق به. وضع الصبي إبهاميه في فمه علامة الاستسلام. توسل الرأفة دون جدوى، ترجل الرجل واستل خنجره. غرزه بين أضلاع الطفل الذي سقط وهو يصرخ: يا أبي يا أبي. ظل الرجل واقفًا فوقه إلى أن لفظ أنفاسه.
… قال خشعت إن النياق منهكة ولا بُدَّ من استبدالها. كيف؟
١١ يوليو
… دار بيننا نقاش طويل حول الإصلاح أم الثورة في تغيير المجتمع؟ قلت إنه ليس من الضروري وضع الاثنين في مقابل بعضهما. الإصلاح يمكن أن يتراكم إلى أن يصل إلى درجة التغيير الجذري بما يعني الثورة. لينين كتب عن إمكانية التحول إلى الاشتراكية سلميًّا ولم يقل إطلاقًا حتمية أن تصبح الثورة عملية عنف وصراع دموي، الصراع الدموي في تاريخ الثورات بدأته القوى الرجعية. ليس من الضروري أن تعني الثورة العنف. (هل أنا الذي أقول ذلك؟) لكن ليس كل الإصلاحيين ثوريين. بعضهم يكتفي بعملية ترقيع ولا يبغي تغييرًا جذريًّا. تطرقنا إلى طبيعة التغيير الذي ننشده، قال يعرب إنه قطيعة تامة مع الماضي. لا أظن أنه يؤمن حقيقة بذلك. الماضي ليس سيئًا كله، لينين قال إن النفي الجدلي لظاهرة ما لا يعني إلغاءها كلية، وإنما تطويرها والارتقاء بها إلى وضعية جديدة تحتفظ بكل ما هو إيجابي فيها.
… سألني دهميش عن طفولتي، لا أتذكر من بيتنا في عُمان سوى سقوط سن لبنية. ألقى بها أبي في وجه الشمس قائلًا: يا عين الشمس خذي سنة الحمار وأعطيني سنة الغزال. أتذكر جيدًا بيتنا في صنعاء، بيت قديم في حي برجوازي هادئ تظلله أشجار السرو. الدور متباعدة لكل منها بستان من الكروم والمشمش واللوز والخوخ والرمان. لا يقطع الهدوء سوى صرير الآبار وعجلاتها وحبالها. في الحديقة بركة مربعة ونافورة أمامها حجرة المفرج أو قاعة الاستراحة. في الطابق الأسفل المظلم سكن الخدم. الحريم في الطابق الأوسط. الحمام واسع مفروش بالبلاط المربع. فيه حوض وموقد فحم لتسخين الماء، في واجهة البيت فتحات صغيرة تنصرف منها المياه المستعملة إلى بالوعة الشارع، الحجرات مفروشة بالحصير وخالية من الأثاث. هناك رف يتسع لكل الأغراض. النوافذ تتيح للجالسين على الفرش والمساند النظر إلى الخارج. العقود الزجاجية الملونة تعكس ضوءًا مبهجًا.
١٧ يونيو
… الماء يوشك على النفاد. قررنا استخدام المياه المرة بعد خلطها بالحليب، خفضنا نصيب كل واحد من الشرب إلى النصف. قال خشعت إن الأمطار يمكن أن تسقط في أي وقت. وقد لا تسقط على الإطلاق. لا بد من سقي الجمال كل يومين أو ثلاثة إلا في الأودية. يمكنها أن تبقى أسبوعًا دون ماء إذا أتيحت لها فرصة الاستظلال بالشجر. سألته عما إذا كان يعتقد أننا سنعثر على مراعٍ قال: علم الله. سمعنا عواء ذئب بالليل، الصوت مخيف في هذا الفضاء.
١٨ يونيو
… هبت نسمات باردة عبر الصحراء حاملة معها قليلًا من الرمال، النجوم ساطعة جدًّا. نبشنا بضع جذور جافة وأشعلنا نارًا. بعد العشاء كنت لا أزال جائعة. طلبت من دهميش شايًا. انهمكت في تنظيف رشاشي، انشغل يعرب بإعداد عصا جديدة للناقة، أخذ خشعت ينقب بطن قدميه الصلبة بطرف خنجره بحثًا عن شوكة. يثرثر طول الوقت. تحدث عن كيفية مداواة جرب الجمال وعن غارات القبائل والفروق في أسعار الحاجيات بين العهد الحالي وأيام السلطان سعيد. وعن مشروعات آبار البترول في شرق جدة الحراسيس. شارك دهميش بقصة عن شيخ واحد من بيوت كثير المعروفين أصيب بطعنة خنجر في بطنه، قال إنه صرخ كالنساء. غضبت من التشبيه وخاصمته. فكرت وأنا أتطلع إلى رأسه أنها مليئة بميراث معقد تحتاج معالجته إلى مدة طويلة. أول خصام بيننا.
١٩ يونيو
… نمنا أمس منفصلين. أمكنني أن أتقلب كما أشاء. استغرقت في نوم عميق. لم يوقظني صحن البن كالعادة ولا حركة مرافقينا بين النياق. عندما أخرجت رأسي من تحت البطاطين في الصباح شعرت أن هناك شيئًا غير عادي. قفزت واقفة. ناديت على دهميش. قام متثاقلًا، لم نجد أثرًا ليعرب والمرافقين ونياقهم. لم تكن هناك سوى ناقتنا. اختفى سلاحانا أيضًا. أين ذهبوا؟ الآثار تتجه إلى اليمين. إلى جدة الحراسيس؟ هل يعرفون بئرًا قريبة أم خرجوا يبحثون عن واحدة؟ لماذا إذن لم يقولوا أو يتركوا إشارة ما؟ ولماذا يأخذون السلاح والمؤن؟ حتى الراديو العاطل؟ نسوا بعض التمر والشاي وحسب، هل اختطفوا يعرب؟ لم نجد أية آثار تشير إلى عراك أو مقاومة. نبشوا الأركان التي تعودت أن أدفن فيها دفاتري. لا بد أن أحدًا منهم رآني وأنا أفعل، لحسن الحظ أني وضعتها أمس تحت رأسي بدافع الكسل. هي والمكاروف والخنجر. لم يقتربوا منا خشية إيقاظنا. كان في وسعهم القضاء علينا. انتظرنا على أمل أن يعودوا. فكرنا أن نتتبع آثارهم. لكن على فرض أن الرياح لم تزلها فسنكون معرضين للضياع. أخذوا كل القرب عدا قربتي وبها مياه قليلة، هل نسوها أم تعمدوا تركها؟ لتبقى في مكاننا حتى يعودوا؟ لتر واحد من المياه المرة التي يتعين علينا الاكتفاء بها … حتى متى؟
… بقينا في مكاننا حتى بعد الظهر ثم واصلنا السير، حددنا لكل منها أربع بلحات ونصف كوب من الماء في اليوم، البلح يضاعف عطشي. عند الغروب نصبنا خيمتنا خلف جبل من الرمل، يحمينا قليلًا من الرياح الشمالية الباردة. أشعر بالوحشة التامة مع تراجع ضوء النهار. الصحراء تمتد إلى ما لا نهاية منذرة بالخطر.
… لا نكف عن مناقشة ما حدث. تذكرت عدة مواقف ليعرب. استعدت التفاصيل الخاصة باعتقالات مطرح. معقول؟ استيقظت شكوك دفينة، عبر دهميش عن اتجاه تفكيري بطريقته الخاصة. حكى لي قصة بطل أمهري في نجد. كان أعداؤه يبحثون عنه فدلهم أخو زوجته على خيمته. نجح في الفرار إلى مكان مرتفع. قتل عددًا منهم بكرات من الرصاص، نفذت ذخيرته فصعدوا إليه. طعن أحدهم بخنجره الذي انكسر. أمسك بزعيمهم من خصره وقفز به من القمة ليموت الاثنان. عرفت زوجته أن أخاها هو الخائن. بحثت عنه في معسكر الأعداء وقتلته بمسدس.
… قررنا أن نتناوب الحراسة بالليل.
٢٠ يونيو
… خلال نوبتي بالليل غفوت. نهضت ناقتي فجأة فاستيقظت. لمست دهميش، انتصب واقفًا في حركة واحدة وخنجره في يده. وقفنا ظهرًا لظهر. درنا حول أنفسنا مدققين النظر. لم نرَ شيئًا في الظلام. أو نسمع صوتًا. هززنا عقال الناقة إلى أن ناخت. استلقينا ثانية. سيطر علينا الخوف والتوتر.
… عثرنا في الصباح على آثار ذئب بالقرب من خيمتنا. نقطع خمسة كيلومترات في الساعة. أما في الرمال كثيرة الكثبان، شديدة الانحدار فنقطع كيلومترًا واحدًا فقط. ربطنا ناقتي في ذيل ناقة دهميش وانضممت إليه فوق ناقته. كثيرًا ما تمنيت أن نحب بعضنا فوق ظهر الجمل بإيقاع حركته المتمهلة. لم يكن هذا ممكنًا في وجود الآخرين، الآن نحن وحدنا في الكون الفسيح وأنا في حضنه فوق الجمل. مع ذلك لا توجد لديَّ رغبة. عند العصر شعرت بالجوع والغثيان. الكثبان العالية تبدو بالليل أعلى منها بالنهار. القمر يضيء المنحدرات، الظلال في ثناياها حالكة السواد. ماذا سنفعل إذا لم نتمكن من الصعود بناقتينا فوقها؟ يمكن أن تنهار في أي لحظة إذا لم نسقها في أقرب وقت. المسافة الباقية أكثر من التي قطعناها حتى الآن. بدأت أرتعش من البرد. تمنيت شرابًا ساخنًا. خيمنا. أشعلنا نارًا صغيرة وتدفأنا عليها. لحسن الحظ أنهم لم يأخذوا الكبريت. ماذا يحدث لو مرض أحدنا أو أصيب بلدغة عقرب أو أي شيء؟
٢١ يونيو
… أيقظني دهميش قرب الفجر. نهضت الناقتان وهما ترغيان. أكلنا بعض التمر وتجاهلنا الشاي والقهوة. اتجهنا نحو الكثبان. عندما اقتربنا منها كانت الشمس قد ألهبت الرمال، ارتعشت ناقتي بشدة. رفضت متابعة المسير شعرت بالدوار. غابت قدماي حتى الركبتين في الرمل. عدت بصعوبة وأنا أجرها خلفي. بدأ قلبي يخفق وعطشي يزداد. وجدت صعوبة في الابتلاع. شعرت بانسداد أذني، أحاول إيجاد لعاب أرطب به فمي. أردت أن أستلقي على الرمال ناداني دهميش. قلت في نفسي: لن نستطيع العودة وليس من مكان نلجأ إليه ولا يمكن أن أصعد كثيبًا آخر من هذه الكثبان المفزعة. لقد انتهينا. لو تهنا غربًا وقعنا في يد السعوديين وشرقًا في يد الحراسيس. وطول الوقت معرضان للوقوع في شباك قبيلة ما أو حيوان ما. هذا فضلًا عن العطش. قال دهميش إننا يمكن أن نفعل مثل البدو، نضع عصي في حنجرة الجمل ونشرب قَيأه. وربما صادفنا ناقة تائهة ما زالت تدر لبنًا.
… طول الوقت نشعر أننا مراقبان!
٢٢ يونيو
… حلمت أمس بأني أفتح براد منزلي في بيروت، قفز منه قط متوحش. درت الناقتان أقل من نصف لتر بدلًا من اثنين في العادة. السبب هو الإجهاد وقلة الطعام. كانت الشمس شديدة الحرارة والتهبت الرمال. لم يتأثر باطنا قدمي اللذين تكونت عليهما قشرة شديدة الصلابة. لكن الجلد الناعم على الجانبين هو الذي كاد يحترق. امتطيت ناقتي.
… أحاول التغلب على الجوع بالقراءة لكني أجد نفسي أفكر في الشاورمة واللبنة والحمص والطعمية والفول المدمس والكباب، أتذكر بيت أبي في صنعاء. كنت أستيقظ قبل الفجر على نداء المؤذن. عندما تشرق الشمس ينثر الخدم روث البهائم على السلالم والممرات بدلًا من نشارة الخشب حتى لا يثور الغبار أثناء الكنس. تنتشر رائحة قوية لكنها غير كريهة إلى أن يتم الكنس بحزم من الأغصان. بعد الإفطار تقوم النساء بأعمال المنزل. ينفضن المفارش. يلمعن الأواني النحاسية بالليمون والرماد. يغسلن الملابس وينشرنها بعد ذلك في الشرفات وعلى السطح. يقمن بإعداد الطعام فوق فرن فخار تشعله أقراص السباخ. تضع عجوز العجينة على جدران التنور، تتولى أخرى تحضير الشعيرية. ثالثة تسحق الخضرة فوق صخرة. رابعة تهز اللبن في الجرة لصنع اللبن الرائب. يأكل أبي بمفرده ثم يصعد إلى المفرج. فتجلس النساء مكانه. بعد الظهيرة يخرج الرجال إلى مجالس القات يحملون ربطها وصناديق التنباك تحت أكمامهم، تظهر النساء في الشوارع وقد تغطين كاملًا بملاءات هندية متشابهة ذات ألوان حمراء وزرقاء وخضراء. على الوجه حجاب أسود شفاف تزينه دوائر بيضاء وحمراء فيبدو كرأس إحدى الحشرات. تشد الأنيقة منهن الملاءة حول جسدها وتسير متهادية فوق أحذية ضخمة ذات كعب منبسط. أو يخلعن الأحذية ويضعنها على رءوسهن.
… عند منتصف النهار استرحنا إلى جوار كثيب، ظهر بدويان على كثيب بعيد وأخذا يراقباننا. تراوحت مشاعرنا بين الأمل والخوف. لوح لهما دهميش بيده فاختفيا. سرنا نحوهما … لم نجد لهما أثرًا. هل هو سراب؟
٢٣ يونيو
… استيقظت اليوم متلهفة على الأكل. استلقيت على معدتي وضغطت عليها فشعرت بشيء من الارتياح والدفء. في بيت صنعاء كان الإفطار يتكون من بيض وزبادي وخبز أو فطير بالعسل والسمن. شعرت بحركة أخرى في بطني. أمامنا سلسلة مشابهة للتي اجتزناها بالأمس لكن قممها أكثر انحدارًا. سقنا الجمال المرتعشة المترددة إلى أعلى كثيب. سمعت فجأة أزيزًا منخفضًا ثم ازداد قوة إلى أن بدا كصوت طائرة على ارتفاع منخفض. شدت الناقتان عقاليهما في خوف. التفتتا إلى الخلف. توقف الصوت عندما وصلنا إلى أسفل، طمأنني دهميش أن الصوت ينتج عن انزلاق طبقات الرمل بعضها فوق بعض.
… حتى الآن أراه متماسكًا. لكن عندما لجأت إلى دفتري سخر مني، قلت له إن جيفارا كان حريصًا على تدوين يومياته حتى اللحظة الأخيرة من حياته؛ لهذا نعرف ماذا حدث له بالضبط والعناصر التي وشت به ومن قتله. اليوميات هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على الوقائع ودراستها واستخلاص الدروس منها. سلاحنا ضد الغدر والهزيمة. قال إنها ستفنى معنا. قلت إننا يجب أن نصونها بأي شكل. من سيحول دون يعرب وإحداث مزيد من الأضرار؟ طلبت منه أن يعدني بالمحافظة عليها إذا ما حدث لي شيء. قال مقلدًا لهجتي: وإذا حدث شيء لنا نحن الاثنين؟ تطلعت حولي في الصحراء الخالية. قلت إني سأجد طريقة لإخفائها. خطر رشدي على بالي. يمكنه أن يصنع منها شيئًا مفيدًا. هو أو عماد. أتمنى ألا تقع في يد أحد غيرهما.
٢٤ يوليو
… يوم مغبر كئيب ومثقل بكتل من الغيوم. هل ستسقط الأمطار هنا أم على سفوح الجبال في ظفار وحدها؟ غطيت وجهي بالكوفية. مشينا إلى جانب الناقتين بمعنويات واهنة. ماذا يحدث لو لم نقابل مراعي؟ لا الجوع ولا العطش يخيفان البدو. يستطيعون البقاء فوق ظهور الجمال سبعة أيام دون ماء أو طعام. ما يخيفهم هو انهيار الجمال نفسها. إذا حدث هذا كان الموت مؤكدًا. شعرت أن ناقتينا لن تعيشا ليوم آخر.