الفصل الثامن عشر

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢–يناير ١٩٩٣

١

قلت: رجعت ريمة لعادتها القديمة.

كنت أعلق على ملابس الحجاب التي استقبلتني بها شفيقة.

لوحت بيدها في ضيق وقالت: أهو ده اللي أنت شاطر فيه.

وضعت حقيبتي بجوار الباب وقلت: إيه الحكاية؟

قالت: لا حكاية ولا رواية.

تناهى إليَّ صوت البيانو. فأومأت ناحية غرفة الأوركستر وقلت: بتهوفن يعمل؟

كانت منهمكة في وضع العشاء على المائدة. تركتها وذهبت إلى الحمام فاغتسلت ثم عدت إلى الصالة.

قلت: احكيلي.

قالت: هل سمعت بما حدث لسارة؟

– سارة من؟

– الخادمة الفليبينية التي قتلت مخدومها ﺑ ٣٤ طلقة عندما حاول اغتصابها. كانت المحكمة قد حكمت عليها بالسجن سبع سنوات ودفع مبلغ لعائلة المجني عليه.

– وتظلم ابنه أمام محكمة أخرى طالبًا إعدامها.

– تمام. المحكمة الجديدة حكمت عليها بالإعدام.

– على أي أساس؟

– قالت إن واقعة الاغتصاب مختلقة.

– ألم يكن هناك تقرير طبي؟

– نعم. استبعدته المحكمة الجديدة على أساس أن القتيل عمره ٨٥ عامًا.

– هل سيعدمونها؟

– الله أعلم.

توقف صوت الموسيقى وتعالى صوت فتحي ينادي عليَّ.

انطلقت إلى الغرفة ودفعت الباب. كان يجلس أمام البيانو.

عزف بضع ألحان وهو يتطلع إليَّ كأنما يتلمس رأيي، ثم أزاح يديه بعيدًا وقال: لقد قررت اتباع نمط السوناتا كخطة للبناء، طبعًا حضرتك مش فاهم. السوناتا هي أرقى الأشكال الموسيقية.

أطرقت برأسي مؤمنًا على المرتبة الرفيعة التي تحتلها السوناتا.

استطرد دون أن يعبأ بِرَد فعلي: السيمفونية التي أؤلفها تصويرية. لا علاقة لها بالشكل الكلاسيكي، ولا حتى بالكلاسيكية الحديثة. لم يكن من الممكن الاقتداء بأمثال سترافنسكي وشوينبرج وبارتوك الذين بدلوا النغم الصوتي بصورة كاملة. ولا كان بإمكاني أن أستخدم النغمات شديدة التنافر، ومع ذلك لجأت في بعض الفقرات إلى أسلوب تتعدد فيه النغمات.

شردت أفكر في وعد وفى نهديها. وانتبهت عندما ساد الصمت بيننا وتبينت أنه شرد هو الآخر.

أشرت بإصبعي إلى الصالة: ما الذي أعادها إلى الجاهلية؟

قال: لله في خلقه شئون.

مرَّ بأصابعه فوق مفاتيح البيانو بسرعة ثم أضاف: أخبرها مدير الإذاعة أمس أنهم لن يجددوا عقدها.

– لماذا؟

أجال البصر حوله في حيرة ثم استقرت عيناه على وجهي، لمحت فيهما اتهامًا فشعرت بانقباض.

استطرد: قيود العمل هنا صارمة ومن الصعب أن تحصل على عمل آخر بسرعة، كما أن فرصه تقلصت بعد حرب الخليج. وأنا ما زال أمامي سنة يمكن أن تمتد إلى سنتين. فإما أن تعود وحدها إلى مصر أو تبقى معي بدون عمل وكلا الخيارين صعب.

قلت: لماذا؟

قال: لمن يحتمل أي منا الحياة بمفرده. ولو بقيت هنا بدون عمل ستجن. أنت تعرفها. وسأجن أنا أيضًا. وهناك أيضًا أقساط شاليه الساحل الشمالي وشقة هبة.

اغتصب ضحكة لكني لم أستجب لها.

– وماذا ستفعل؟

– سألجأ إلى الفندي. وإذا فشل في مساعدتي سألجأ إلى السلطان نفسه. المشكلة فيما يجب دفعه من ثمن.

٢

لم تكن هناك أخبار بارزة في الصحيفة العمانية. ذكر أحد الوزراء أن أول إحصاء للسكان في تاريخ عُمان سيجرى في نهاية العام، وتوقع أن يتجاوز عددهم رقم المليونين، ربعهم من الأجانب. وفي أسفل الصفحة وجدت إشارة إلى اﻟ ٤١٥ فلسطينيًّا الذين أبعدتهم إسرائيل قبل تسعة أيام إلى الحدود اللبنانية وقد غطت الثلوج الخيام التي ما زالوا بها. ورفض رئيس الوزراء اللبناني علاج المرضى والجرحى في مستشفيات لبنان قائلًا إن مسئولية علاجهم تقع على إسرائيل. وأعلنت حماس وعرفات التأييد لهذا الموقف وأن المبعدين يجب أن يبقوا في أماكنهم إلى أن يعودوا إلى وطنهم.

أطلَّ فتحي برأسه من فرجه الباب وأشار إليَّ أن أنتظره لأنه لم ينتهِ بعد من مشاغله. التفت إليَّ سالم وهو يضع شريطًا في جهاز الفيديو وقال: سأريك رقصة عمانية تشبه الزار عندكم. تؤدَّى في ساحة القرية للأشخاص الذين أصيبوا بلوثة ويريدون الشفاء.

ضغط زر التشغيل فظهر على شاشة التليفزيون صف من الرجال بجوار بضع نساء جالسات غطين رءوسهن بطرحات سوداء شفافة. اعتمد أحد الرجال بيديه على طبل طويل يصل إلى منتصف صدره وعلق آخر طبلًا أصغر في رقبته بصورة عرضية وراح يضربه بالكف من الناحيتين. ودار الطبالان حول الميدان بينما تقدم الرجال من النساء يدعوهن للرقص.

أدار الشريط إلى الأمام مسافة ثم أوقفه: هذه رقصة أخرى قد تهمك يلقي فيها الشاعر قصيدة ألفية يبدأ فيها كل مقطع شعري بحرف من حروف الهجاء من الألف حتى الياء.

– من تأليفه؟

– طبعًا. كل شاعر وشطارته.

ظهرت على الشاشة دائرة كبيرة من رجال رفعوا سيوفًا ذات نصال رفيعة وساروا خلف واحد منهم يحمل سيفه في يده اليمنى. كان يلقي شعره أثناء السير وعند كل وقفة في الإلقاء يهز السيف هزَّة مستعرضة في رعشة مرعدة بينما يردد تابعوه: «الملك لله يدوم»، ممددين حرف الألف في لفظ الجلالة.

لم أتبين لهجة الشاعر فردد لي سالم ما يقوله: الألف ألفت الكلام، الباء بذكرك يا إله، الثاء ثاروا للسلام، الجيم عجمة في الزمان، الخاء خلقهم في البلاد، الدال دايم كل دار، الزاي زماني اليوم عاد، السين سنوا المرهفات، الشين شاعت لهم علوم، الواو وردة لكل زمان.

أوقف الشريط وهو يقول: الفندي سيدعوك لسهرة رأس السنة.

قلت: أنت لم تحدثني عنه أبدًا.

قال: أنت لم تسأل.

سكت برهة ثم قال: هل تذكر تحقيقات الكونجرس الأمريكي سنة ٧٧ التي كشفت دور شخصيات مثل الملك حسين في خدمة المخابرات الأمريكية؟ كانت هناك شركة تكرير للنفط تدعى اشلاند أويل وأقر رئيسها اتكينز أمام الكونجرس بأنها عملت واجهة للمخابرات الأمريكية في عدة بلدان منها إيران، وبعد سقوط الشاه بدأت تبحث عن عقود نفط عربية وظهر في الصورة ليبي يدعي يحيى عمر وكندي له علاقات قوية في مسقط والثالث هو صديقنا. والنتيجة عقد شراء نفط عماني مقداره عشرون ألف برميل يوميًّا. كان نصيب الليبي من الصفقة ٥ ملايين دولار. لك إذن أن تتخيل نصيب صاحبنا.

قلت: عادي.

أخذت أقلب صفحات الجريدة وتوقفت عند صفحة مخصصة للشعر. قرأت في أعلاها حكمة بخط كوفي: ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب.

– الشائعات رشحته أخيرًا لرئاسة الوزارة ثم تردد أن ابن عم السلطان هو الذي سيتولاها، لو تحقق هذا سيتم تحجيم الفندي لأن المرشح الجديد صديق شخصي للحارث بن عيشة عدو صاحبنا اللدود.

– من هو؟

– بن عيشة؟ مستشار للسلطان يعمل من وراء ستار.

وضع شريطًا جديدًا في الجهاز وقال دون أن يرفع عينيه عنه: هل علمت بما حدث بعد مغادرتك صلالة؟

– ماذا حدث؟

– عثروا على جثة في الجبل لشخص عُماني من أصول أفريقية.

بذلت جهدًا خارقًا لكي لا يبدو على وجهي شيء: مقتول؟

– الظاهر أنه سقط من ارتفاع كبير. فقد توازنه ربما.

سألت بعد لحظة: هل هناك أخبار عن زكريا؟

أجاب دون أن يرفع رأسه: لا.

قلت: هناك أمور كثيرة لا أفهمها.

ابتسم وكرر كلمتي السابقة: عادي.

٣

كانت توقعاتي عن منزل الفندي رغم مظاهر ثرائه مستمدة من كل ما سمعته وشاهدته: موكيت ومروحة في السقف أو جهاز تكييف، حصير ملون، كولمان للماء البارد، دلاية القهوة المرة، ترمس الشاي، إناء التمر، جلسة رجالية أو في أحسن تقدير بمشاركة نسائية محدودة ومحجبة. لهذا لم أكن مستعدًّا بالمرة لما واجهني.

وقفنا أمام بوابة حديدية في سور حجري، مرتفع. فتح لنا خادم هندي واقتادنا عبر ممشى رصفت أرضيته بالرخام الفاخر يؤدي إلى جاراج كبير. انتقلنا إلى ممشى آخر بجوار حمام سباحة كبير الحجم، توقف الهندي أمام باب سميك من الخشب الثمين وفتحه بالريموت. ولجنا ردهة مزدحمة بمناضد صغيرة أنيقة محملة بالتحف وتشرف عليها ثريات ضخمة. صعدنا الدرج إلى الطابق الأول ثم ولجنا قاعة واسعة دارت بها الأرائك الجلدية الوثيرة.

خطوت فوق طبقات سميكة من السجاد وجلست في مقعد وجلست شفيقة بجوار فتحي فوق الأريكة الملاصقة.

همست وهي تتحسس السجاد بطرف حذائها: تبريزي.

استخرجت نظارتها الطبية الفاخرة التي أحضرتها خصيصى لهذه المناسبة فارتدتها ورفعت عينيها إلى الثريا التي تعلونا مباشرة ثم أضافت بنفس الصوت الهامس: تشيكي.

أدارت عينيها في أنحاء القاعة وبدت على وجهها علامات التقدير والإعجاب. كانت — للحق — تتمتع بذوق رفيع في الملابس والأثاث والديكور المنزلي والأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات وخلافه وتحتفظ بمجموعة قيمة منها بمنزلها في القاهرة. دققت النظر حولي دون أن يخالجني الشك في رقة كل قطعة وفداحة ثمنها. لكني لم أشاركها الشعور بجمالها. فقد كان هناك الكثير منها.

ظهرت عند المدخل فليبينية عريضة البنيان تتحرك بثقة المعلمة وقالت بإنجليزية ركيكة إن المدام ستنزل بعد دقائق.

كانت إلى جواري خزانة من الخشب الثمين تكدست القطع الفنية داخلها وفوق سطحها. وجدت فرصة لأحد التمارين التي أقوم بها بين الحين والآخر عندما أشعر بصدأ أدوات المهنة. بدأت أتأملها واحدة واحدة وأسعى إلى إيجاد الكلمة المناسبة لتسميتها ووصفها. كان من السهل وصف حصان صغير من الذهب أو النحاس (فلم أنجح أبدًا في التمييز بين المعدنين) في حجم قبضة اليد، وصوانٍ من الفضة وبعض التحف الخزفية ذات النقوش اليابانية أو الصينية. لكني لم أتمكن من تحديد هوية المادة أو الأشكال التي صنعت منها قطع صغيرة الحجم استقرت في أمان خلف المصراع الزجاجي المحكم.

أنقذني ظهور المضيف وزوجته من شعور الإحباط. كان يرتدي دشداشة داكنة اللون وكمة من نفس اللون نجحتا في إبراز بياض بشرته. وكانت زوجته سمراء أنيقة في العقد الثالث من عمرها عنصرية المظهر والملابس، منتصبة القامة في اعتداد، ترتدي ثوبًا أسود جميلًا محلى بالورود ينتهي أسفل ركبتيها بقليل.

كانت السهرة شبه عائلية؛ إذ اقتصرت علينا وعلى شقيقة صغرى للزوجة، في حوالي الخامسة والعشرين، ترتدي بنطلون جينز، درست الهندسة وتعمل في شركة أجنبية، ثم انضمت إلينا فتاة عراقية أكبر سنًّا تدعى سعاد ابنة صديق للفندي الذي أوجد لها عملًا في شركة النفط. كانت ترتدي ثوبًا خفيفًا مشجرًا بنصف كم يتألف أعلاه من شقين منفصلين ينداح أحدهما فوق الآخر دون زراير أو كباسين محتضنين صدرًا ممتلئًا.

سألتنا خديجة، زوجة الفندي، عما نريد أن نشرب، طلبت شفيقة على الفور عصير البرتقال، تساءلت في تردد عن الخيارات المتاحة. فقالت خديجة: كل شيء موجود.

قال زوجها: خذ جين تونيك إذا كنت تريد لونج درينك.

وجهت شفيقة نظرة صارمة إلى فتحي فتردد. خففت إلى نجدته قائلًا: خُذ كأسًا من الويسكي، شفيقة يمكنها أن تقود السيارة.

أومأ موافقًا وهو يتجنب النظر إليها، وشاركه المضيفان الاختيار بينما انضمت الفتاتان إلى جانب شفيقة.

أحضرت المعلمة الفليبينية مائدة صغيرة عليها صحون الفستق الإيراني والزيتون الأخضر والروبيان المسلوق والبذر السوري، ثم مرت علينا بكئوس الشراب التي أعدتها في الصالة الخارجية.

تناولت كأسي الذي زينته قطعة ليمون معلقة فوق حافته وقلبت محتوياته بعصا بلاستيكية ثم رفعته إلى شفتي وأنا أنظر إلى شفيقة من فوقي حافته شامتًا.

شعرت أني مدعو للقيام بقليل من المسامرة، فأبديت إعجابي بالمنزل وتركت لصاحبيه أن يشرحا لي مميزاته وكيف أنه يطل على البحر من ناحية وعلى الجبال من الناحية الأخرى. وعندما استهلكنا الموضوع عاجلته بسؤال عن الكيفية التي يبدأ بها يومه. وجد متعة في الإجابة: عند الاستيقاظ كأس مياه معدنية مستوردة من عيون ماء سويسرية لتنظيف الكلى ثم تمارين سويدية في حجرة الألعاب مع الأجهزة الضرورية يعقبها الاستلقاء في حمام جوكوزي بفقاعاته الدافئة المعطرة وعشر دقائق في حمام السونا، تليها أخرى في حمام البخار، ثم جلسة تدليك خفيفة يعقبها حمام بارد. وأخيرًا يرتدي روبًا قطنيًّا ويشرب كأسًا من عصير البرتقال ثم يسترخي في مقعد الحلاقة لتتولى فليبينيتان حلاقة لحيته وقص أظافره وتضميخ وجهه بالعطور. أغرته عملية الجرد بأن يستعيد ذكرى البدايات: كان أبي صائد سمك من الباطنة، أما أمي فلا أذكرها لأنها ماتت بالسل وأنا طفل، كنا نعيش في كوخ من السعف. يوقظني أبي في الفجر لنتناول مزودة التمر وجرة الماء ثم أسير خلفه إلى الشاطئ وأعاونه في دفع الزورق إلى البحر، في الليل نتعشى سمكًا مغليًّا من بقايا صيد الصباح، ثم مرض أبي ولزم بستانه الصغير وعاونته فيه أيضًا. كنت أقوم في الفجر وأذهب إلى البستان لأملأ حوضه بالماء مستعينًا بثور هزيل.

قاطعته متسائلًا: متى إذن كنت تجد الوقت للمدرسة؟

– مدرسة؟ لم يكن في القرية كلها من يعرف القراءة والكتابة، والأطفال حفاة وشبه عراة. لا طبيب ولا مستشفى. والجميع يموتون صغارًا من سوء التغذية والأمراض. أين كنا؟ آه. اضطر أبي إلى رهن بستانه لدى أحد التجار بمبلغ مائتي قرش، وقبل أن تنقضي المدة مات بالسل. ووجدت صعوبة في بيع القت والبطيخ والخيار ولم أجد مفرًّا من بيع البستان، فأخذه التاجر بمائة قرش خصم منها ما تبقى من الرهن ومقداره عشرون قرشًا. وأخذ القاضي عشرة قروش مقابل كتابة صك نقل الملكية.

فرغت محتويات كأسي، فأشرت إلى الفليبينية الواقفة عند المدخل أن تحضر إلى واحدًا ثانيًا.

استطرد: كان شبان آخرون قد نجحوا في التسلل إلى السعودية والكويت. وسمعنا أن بهما مدارس ومستشفيات تعالج الناس مجانًا، خرجت ليلًا في حذر دون أن أخبر أحدًا خوفًا من عيون الوالي؛ لأن الحكومة تسجن كل من يفكر في الهروب من البلاد. وضعت نقودي في الهيمان تحت أثوابي. يممت شطر الحدود وفي مدينة شناص التقيت بصديق يركب حمارًا. قال إنه يمكن الحصول على جواز سفر من عجمان أو الفجيرة، قضينا الليلة على مشارف الفجيرة وعند الصباح دخلناها بعد أداء الصلاة. التجأنا إلى أحد المساجد وبعد ثلاثة أيام بعنا حمارينا واشترينا جوازين بمائتي روبية. الجواز مجرد ورقة تحمل شعار إمارة الفجيرة. اشترينا تذكرتي سفر في باخرة قادمة من الهند ومتجهة إلى الكويت ثم البصرة. وصلنا الكويت بعد أسبوع حيث شاهدنا لأول مرة مدينة تعج بالناس والبنايات وسيارات تقطع الشوارع بسرعة جنونية ويتكلم أهلها لهجة مختلفة لم نفهم منها شيئًا. في الأحمدي سألنا عن مساكن العمانيين واستضافنا واحد منهم.

رفع كأسه وابتسم ثم قال: لا زلت أذكر طعم عصير البرتقال الذي قدمه لنا وشربته لأول مرة في حياتي، قدم لنا اللحم أيضًا وهو ما لم نكن نذوقه في القرية إلا في عيد الأضحى. قال لنا إن هناك ستين ألف عماني يقومون بالأعمال الحقيرة مثل حفر القبور وكنس الشوارع، والمحظوظون يلتحقون عمالًا في شركة النفط، نادرًا ما تجد حضرميًّا أو مهريًّا أو فلسطينيًّا أو مصريًّا يقوم بهذه الأعمال. هؤلاء متعلمون منهم المهندس والطبيب، ويشتغلون في مكاتب الحكومة والشركات ويسكنون في منازل محترمة وعندهم سيارات.

لحظت أن الفتاتين — خولة، شقيقة المضيفة، وسعاد — تنصتان في وجوم، فاستنتجت أنهما تحفظان قصة المسيرة عن ظهر قلب، وسرعان ما كانتا مشتبكتين في حديث نسوي مع شفيقة. وخرجت خديجة عن النص إذ تابعت حديث زوجها في اهتمام رغم ثقتي في أنها سبق أن سمعته أكثر من مرة.

وجد الشاب عملًا في شركة النفط، وانضم إلى مدرسة محو الأمية المسائية في فصل من أربعين شابًّا عمانيًّا، يعلمهم مدرس مصري صبور يعتقد أنه يؤدي واجبًا قوميًّا. بعد سبع سنوات حصل على الثانوية، تعود خلال ذلك على لبس النعال. لكنه لم يتقبل المعاملة السيئة والمهينة الممثلة في عبارة ملعونة هي: تكرم عُماني. اتصل بالسفارة العراقية عن طريق معارفه من البعثيين، وتمكن من السفر إلى بغداد لدراسة العلوم الاقتصادية بجامعتها. وعاد إلى الكويت بعد تخرجه، فالتحق بشركة النفط، ثم قام قابوس بالتغيير وطلب من العمانيين في الخارج العودة للمساهمة في بناء البلاد فاستجاب.

كان يتحدث ببساطة دون شعور بالحرج مستمتعًا بعملية الجرد، ولم يكَدْ ينتهي حتى جاء دور زوجته فأدركت السر في طول صبرها.

– كنت أول طالبة تلتحق بكلية التربية في جامعة السلطان قابوس، ومن صغري أحب عالم البيزنيس. أبي يملك شركة استيراد فطلبت منه أن أكون معه في الشركة بعد الظهر، وافق على أنها نزوة ستنتهي لكن بعد التخرج وضعت قدمي في الشركة. عملت تحت رئاسة مدير إنجليزي ثم حللت مكانه، كنت فتاة هادئة جدًّا لكن نقطة التحول في حياتي كانت بعد عامين من دخولي مجال العمل حيث بدأت أكتشف في نفسي قدرات لم أعهدها من قبل، نجحت في إدارة مول يقوم على الطريقة الأمريكية، وهو استثمار كويتي بخمسة ملايين ريال، وأنوي إقامة فندق إلى جواره ومستشفى لعلاج الأطفال من مرض السرطان.

أبديت إعجابي بمسيرتها فقالت في اعتزاز: المرأة العمانية لها تاريخ حافل في العمل العام. هل تعرف أن امرأة تدعى عالية بنت ناصر حكمت عمان في القرن الخامس عشر الميلادي؟ ليس هذا فقط بل كانت تقود الجيوش وانتصرت في عدة حروب.

وأضاف زوجها: وضع المرأة يتحسن الآن بسرعة. أول أمس أعلن بنك عمان التجاري أنه سيقدم خدمات خاصة للسيدات.

ولا بد أن وجهي ظهر عليه تعبير ما لأنه سارع يقول: هذه مجرد بداية فنحن نواجه معارضة قوية من الشيوخ والمجتمع القديم.

قطعت علينا الحديث طفلة سمراء جميلة في حوالي السادسة من عمرها اقتحمت الغرفة وارتمت في حضن خديجة وشدت ساعدها في إلحاح. سألتها عما تريد فغمغمت ببضع كلمات في دلالٍ.

قالت لها: ضعي في الفيديو كارتون توم وجيري.

هتفت الطفلة في سخط: ماما. مللته.

– أوكي. ضعي البينك بانثر.

– لا يعجبني.

– عندك سلاحف النينجا.

– لا أحبه.

– إذن العبي بالقطار.

لم تعترض الطفلة على الاقتراح الأخير، فنادت أمها على ميليسيا. وحضرت على الفور فتاة فليبينية مليحة الوجه في حوالي العشرين ترتدي بلوزة وبنطلونًا من الجينز وحذاء ريبوك. طلبت منها الأم في رقة بالإنجليزية إحضار القطار.

التفتت إلينا وقالت: ميليسيا خادمتي الخاصة، عندنا منذ شهر وبنت ممتازة.

سألت الفندي عن الخادم الفليبيني ذي القرط.

قال وهو يتابع ميليسيا بنظراته: طردناه.

شرحت خديجة السبب: في يوم إجازته عاد بالليل متأخرًا ساعة ومخمورًا. وضعناه في الصباح على الطائرة إلى بلاده.

ظهر في مدخل الغرفة طفل وسيم في حوالي السنتين من عمره يضع إصبعه في فمه. تهللت أسارير الفندي وهتف به: بوش. تعالَ.

استدار الطفل في حياء واستقر في أحضان خادمة هندية أو سيريلانكية انحنت لالتقاطه.

قال لي الفندي: جاءنا في أعقاب تحرير الكويت، فأسميناه على اسم الرئيس الأمريكي.

وضعت ميليسيا قطارًا كهربائيًّا على الأرض قرب الباب وركعت على ركبتيها لتقوم بتشغيله، كان ظهرها لنا وحانت مني نظرة إلى الفندي فوجدت عينيه مثبتتين على مؤخرتها. نقلت النظر إلى زوجته فوجدت عينيها على نفس المكان.

انتهت الفتاة من تشغيل القطار وبدأ يجري على القضبان وأسفل الجسور وأمام المحطات. استلقت على الأرض إلى جوار الطفلة تشاركها اللعب وفجأة اختلست النظر إلى سيديها واعتدلت جالسة. وهمت بالنهوض، لكن سيدتها أشارت إليها فاقتربت من مقعدها وركعت إلى جواره فوق ركبتيها بحيث صار رأسها في مستوى مسنده.

وضعت خديجة يدها فوق رأس ميليسيا وأخذت تتحسس شعرها وهي تحكي لشفيقة عن زياراتها المتعددة للعاصمة الإنجليزية، ورأيت الأخيرة تحدق فيها بانبهار. لم تكن فكرة التردد على لندن هي التي أثارت انبهار شفيقة، وإنما قول خديجة إنها لا تجد في ذلك أي متعة: في الصباح الإفطار ثم طبيب الأسنان من الواحدة حتى السابعة مساءً، وبعد ذلك أبحث عن مطعم لا أتعرض فيه المعاكسات أو رذالات، فأستقل تاكسي وأمر على كل المطاعم حتى أستقر على واحد يفتح لي أبوابه خصوصيًّا. وبعد ذلك إلى الشقة وحيدة مع التليفزيون.

أدرك الفندي السؤال الذي تكوَّن على لسان شفيقة فقال: أنا أفضل سنغافورة فهي أقرب من لندن بساعتين.

أعلنت المعلمة الفليبينية أن الطعام جاهز فنهضنا. وصدرت عن سعاد آهة وهي تضع يدها على صدرها الذي أوشك أن يقفز من الثوب المنفلت، أسرعت خولة تبحث لها عن دبابيس تثبت بها صدر الثوب وانتقلنا إلى قاعة مجاورة احتلتها مائدة مستديرة تغطَّى سطحها بصنوف الطعام من لحوم وأسماك وطيور ومشويات ومحشيات، ملأنا صحوننا وعدنا إلى أماكننا وجلسنا نأكل في صمت ونحن نستمع إلى موسيقى غربية خفيفة.

عندما انتهينا كانت الساعة قد أشرفت على منتصف الليل، تبادلنا التهاني والأمنيات بينما يد سعاد لا تفارق صدرها. واقترح الفندي أن نشرب الشاي في قاعة أخرى.

تبعناه إلى قاعة واسعة تناثرت في جنباتها الوسائد العريضة الموشاة بالقصب وامتلأت جدرانها بلوحات المستشرقين. واكتملت الصورة بمصطبة في أقصاها أحاطت بها الستائر الشفافية فبدت أشبه بكهف أو كوشة عُرس. أزاح الفندي الستائر وجلس معتمدًا بمرفقه على الوسائد ثانيًا ساقه اليسرى إلى أعلى. دعاني لأن أجلس إلى جواره، فاضطجعت معتمدًا على مرفقيَّ الاثنين مادًّا ساقيَّ أمامي.

جلست شفيقة في حذر وهي تثني ساقيها بصعوبة. وجاورتها سعاد وهي تجلب خولة في حجرها. ومالت خولة على شفيقة قائلة: لو لمست رداءها في أي مكان ستنكشف حلمة صدرها.

جاءنا الشاي في صوانٍ من الفضة. وأدارت خديجة شريطًا لبشناق ثم استبدلته بآخر لوردة الجزائرية يضم أغنية «أتونس بيك».

قالت: ياللا يا سعاد.

شرعت تصفق وقلدناها في حماس. وتدللت سعاد قليلًا ثم تحججت بثوبها الذي سيكشف صدرها فعرضت عليها خديجة، أن تبدله بآخر ثم أحضرت لها مشبكًا معدنيًّا ولفاعة حريرية لفتها حول وسطها.

استسلمت سعاد أخيرًا ونهضت ثم خطت وسط القاعة وما زالت يدها على صدرها وبدأت تهتز مع أغنية وردة وهي تنظر إلى الأرض في خجل، ولم تلبث أن اندمجت في الرقص وأخذت تهز وسطها ببراعة تامة ونسيت أمر صدرها فأبعدت يدها عنه ولم تكترث عندما سقط أحد الدبابيس وانحسر الثوب عن أعلى نهديها.

قال لي الفندي وهو ينهض واقفًا: تعالَ معي، أريد أن أريك شيئًا.

غادرنا القاعة وصعدنا الدرج إلى الطابق الثالث. ولجنا غرفة مكتب أنيقة ازدانت جدرانها بمجلدات الكتب داخل خزائن مغلقة، وتصدرها جهاز تليفزيون ضخم يحمل جهازًا للفيديو.

أشار إليَّ أن أجلس فوق أريكة مقابلة وفتح إحدى الخزائن وتناول منها شريطًا وضعه في الجهاز ثم جلس بالقرب مني وضغط زر لريموت.

لم تكن هناك أية مقدمات أو عناوين. احتلت الشاشة لقطة مهزوزة قليلًا لطاولة مستطيلة يجلس ثلاثة أشخاص بالقرب من أحد طرفيها، كان أحدهم قصير القامة، مممتلئ الجسم، أصلع الرأس، عصبي القسمات. وتحولت الكاميرا إلى باب دلف منه رجال آخرون يحملون حقائب يد جلدية توزعوا حول الطاولة. كانت ملامحهم عربية أو شرق أوسطية. وبدا أن شيئًا من الألفة يجمع بينهم رغم التوتر الظاهر على وجوههم، ثم دخل القاعة حارس مسلح بمدفع رشاش يحمل حقيبة واتجه إلى رأس الطاولة. وتبعه آخر يحمل ترموس شاي. وضع الأول الحقيبة على الأرض قرب المقعد الفارغ الذي يتصدر الطاولة، بينما وضع الثاني ترموس الشاي أمامه، وخطا الأول نحو الباب ثم استدار فجأة رافعًا رشاشه إلى أعلى وصوبه إلى ظهر الرجل الأصلع وأطلق عليه النار من أعلى إلى أسفل، وكان الحارس الثاني قد بدأ يطلق النار من رشاشه بينما انتقلت الكاميرا إلى الجالسين الذين هبطوا أسفل الطاولة وهم يسحبون مسدساتهم ويطلقون النار على الحارسين.

انتهى الفيلم فجأة كما بدأ دون أن تتجاوز مدة العرض دقائق معدودة. بقيت أتطلع إلى الشاشة الفارغة في بلاهة. لقطة من فيلم عن المافيا؟ تدريب على عملية إرهابية؟ استعدت مشهد المذبحة وقدرت أنه أقرب إلى التمثيل منه إلى تسجيل واقعة حقيقية.

سألني: لم تعرف بعد؟

هززت رأسي نفيًا.

قال: ألم تسمع عن مذبحة المكتب السياسي؟

نبشت في ذاكرتي عبثًا فأضاف: عدن ٨٦.

تحركت بعض الذكريات التي قُبرت في عنف.

استطرد: نسيت أو تتناسى؟ واحد مثقف مثلك يجب ألا تغيب عنه هذه الصفحة الدموية.

– لكن من الذي قام بالتصوير؟ كاميرا خفية؟

ضحك ولم يجب. أغلق الجهاز بالريموت وهب واقفًا، استخرج الشريط وأعاده إلى مكانه في الخزانة وأغلقها بالمفتاح. وجذب مصراعي الخزانة المجاورة وانتقى ثلاث مجلدات قدمها إليَّ قائلًا: اقرأها لتنعش ذاكرتك.

أضاف عندما تناولتها: هل عثرت على صديقيك؟

أليس في هذا البلد أسرار؟

أجبت بالنفي.

قال وهو يتقدمني إلى الباب: يمكنني أن أساعدك. سأعرض عليك صفقة. ما رأيك؟

التفت إلى وضع يده على ذراعي، فتطلعت إليه في حيرة.

قلت: ليست لديَّ خبرة بالأعمال التجارية.

ضحك: المسألة لا تحتاج إلى خبرة. هناك قاعدة واحدة: خذ وهات.

العقل والقلب أم اليوميات التي لم تعد معي؟

استدار ناحية الدرج وبدأ يهبط وأنا في أعقابه، وجدت شفيقة وفتحي يهمان بالوقوف معربين عن رغبتهما في الانصراف.

رافقنا صاحبا البيت حتى الباب الخارجي. وقادت شفيقة السيارة في براعة عبر الطرقات المهجورة وهي تعلق على السهرة: بنات مساكين، تعرف ماذا قالت لي أخت خديجة؟ سألتني إذا كنت أخلع النظارة عندما … عندما …

عابثتها قائلًا: تقصدين عند ممارسة الجنس؟

– حاذر في الكلام … يبدو أنك شربت كثيرًا …

صمتت غاضبة وضاعفت السرعة ثم اضطرت إلى الإبطاء عندما أشرفنا على ميدان انتشرت فيه حلقات صغيرة من الهنود.

كنا في الثانية صباحًا. سألت: أيه الحكاية؟ مظاهرة؟

– أبدًا. إنهم يقضون السهرة وقوفًا ليقتصدوا الريال الذي سيتكلفه كوب شاي في أي مقهى. الواحد منهم يتقاضى خمسين ريالًا ويحاول الحياة بالحد الأدنى ليتمكن من إرسال نقود إلى أهله.

أضاف بعد لحظة: مساكين. يعيشون أربعين في غرفة، ولا يتمتعون بأي حقوق ولو أقاموا هنا خمسين سنة. وفي أي لحظة يمكن أن يجدوا أنفسهم على طائرة.

خرجت شفيقة عن صمتها وقالت: هل سمعت التصريح الذي أدلى به السفير الهندي في الإمارات عندما سئل عن مشكلة التفاهم بين العرب والهنود قال إنه لا توجد أي مشكلة لأن أكثرية الشارع — ٦٠ بالمائة — تتكلم الأوردية.

عادت شفيقة بعد قليل إلى سهرة الليلة: ميليسيا مستغربة وقلقة. حاولت طمأنتها فقلت لها إن المدام تحبها. تعرف ماذا قالت؟

كان فتحي مدربًا على أسلوب الحوار مع زوجته فجاراها قائلًا: لا. ماذا قالت؟

– سألتني: ولماذا تحبني المدام؟ المسكينة تحب ولدًا من بلدها وهو هنا في مسقط، لكن المدام منعتها من رؤيته. قالت لي إنها تحلم باليوم الذي تعود فيه إلى بلدها، وهي مذهولة من مظاهر الثراء هنا. ذهبت مرة مع أسرة الفندي إلى عرس في أحد الفنادق تكلف ١٦٠ ألف ريال، والمغني وحده أخذ ٣٠ ألف ريال، ثم سألتني: لو معك فلوس تنفقينها هكذا؟

جاء دوري فسألتها: صحيح … لو معك فلوس كيف تنفقينها؟

قالت بلهجة حالمة: أذهب إلى لندن ببطاقة وان واي.

٤

استيقظت فجأة مبللًا بالعرق. أضأت مصباح الغرفة من زر قريب وتناولت كوب ماء من فوق منضدة صغيرة بجواري، ثم نهضت ومضيت إلى النافذة وأخذت أتأمل الجبال الموحشة الحالمة خلفها. استعدت المشهد الدموي الذي لم يدُمْ على الشاشة أكثر من دقائق معدودة لكنه نكأ جراحًا نزفت عدة سنوات.

عدت إلى الأريكة فجلست وتناولت أحد المجلدات التي أعطانيها الفندي وعكفت على قراءتها ليلة الأيام الأربعة الماضية. كانت تعكس وجهات نظر متباينة وتستند إلى شهادات متناقضة. ومع ذلك كان من شأنها تحريك الذكريات الراكدة وإعادة تكوين الخطوط العامة للمشهد المأساوي.

فمنذ البداية عانت عدن من صعوبات اقتصادية جمة لكن قادتها كانوا ما زالوا يؤمنون بقدرة نهجهم الثوري على إحداث تغيير جذري في منطقة الخليج والجزيرة؛ ولهذا ساندوا الجبهات المتعددة وعلى رأسها جبهة ظفار. ولا بد أنهم تلقوا ضربة قاصمة عندما أعلن السلطان قابوس دحر الثوار في ١١ ديسمبر ٧٥ أمام خمسين ألف مواطن، وتلا ذلك إعلان العفو العام، فاستسلم حوالي ألفين من الثوار وانتفع الأهالي ﺑ «مكرمات السلطان» من التليفزيون الملون في الأماكن العامة إلى البومبون الذي ألقته عليهم طائرات سلاح الجو السلطاني. ولم تمضِ ثلاثة شهور حتى حدثت المعجزة ووقع السلطان اتفاقية هدنة مع اليمن الجنوبي. وتردد في هذا الصدد أن السعودية قدمت مساهمة مالية كبري لعدن ووعدت بتمويل إنشاء مصفاة للنفط بها.

والواقع أن عدن كانت في أمس الحاجة للمساعدة، وهو الأمر الذي عزز داخلها التناقض المألوف بين الدولة والثورة. وخطا النظام مسافة بعيدة عن الأيام الحافلة قبل ثلاث سنوات عندما اجتاحتها حمى التأميمات لحوانيت الفواكه والخضار والأسماك واللحوم، وسارت الجماهير تهتف: «يا سالمين لا تنسى، باقي الدكاكين والتاكسي»، لكن شعبية الرئيس سالمين لم تتأثر بالصعوبات وهي التي استندت إلى بساطته وحرصه على التواجد مع الناس وحل مشاكلها وخبرته الطويلة في التحكيم بين القبائل وضيقه بالبيروقراطية وغرامه بالالتفاف حولها بقرارات مباشرة. ومن ناحية أخرى أدى ذلك إلى تعزيز سلطاته وإثارة حفيظة القادة الآخرين وتوجساتهم، فتكتلوا في سبتمبر ٧٦ ونجحوا في إقناع أغلبية اللجنة المركزية باتخاذ قرارات تحد من سلطاته، لكنها لم تكن كافية لانتزاع فتيل الصراع.

ففي الصيف التالي عاد علي عنتر من موسكو بعد أن اجتاز دورة عسكرية أكاديمية (وكان قد تعلم مبادئ القراءة والكتابة حديثًا) ليجد الخلافات على أشدها بين سالمين وغالبية أعضاء المكتب السياسي بما فيهم علي ناصر ومجموعته برئاسة عبد الفتاح إسماعيل. وبادر هؤلاء بترشيح علي عنتر لمنصب وزير الدفاع فاعترض سالمين بشدة خوفًا من أن يصبح الجيش في يد خصومه. وكان علي عنتر معروفًا بالسذاجة والعُصابية، وتردد أن سالمين قال في حضوره: علي عنتر مجنون ومثل تشومبي وسيعمل بلبلة. وتردد أيضًا أن علي عنتر — الذي كان يحب سالمين ومسحورًا بشخصه — رد عليه قائلًا: «أنا أو أنت في البلد».

واستمر الصراع بين الجانبين وفسره كثير من المراقبين بأنه صراع فكري تارة بين القوى الموالية للسوفييت بزعامة عبد الفتاح إسماعيل (الذي كان يعتبر نفسه منظرًا ويحيط نفسه بهالة لينينية) وبين القوى الموالية للصين بزعامة سالمين (الذي لم يكن يخفي إعجابه بالنموذج الصيني) وتارة أخرى بين الثوريين وبين الذين يسعون للارتماء في أحضان الرجعية العربية. لكن الأحداث أثبتت خطأ كل هذه التفسيرات. فالسياسة الخارجية لم تكن أبدًا محل خلاف حقيقي.

وبالمثل كان الموقف من قضية الوحدة اليمنية التي كانت مطلب كل اليمنيين في الشمال والجنوب. فقد رأت قيادة عدن التريث في أمرها كي لا تتم لصالح القوى الرجعية في الشمال. لكن الانقلاب الذي قام به المقدم الحمدي في يونيو ٧٤ أفرز معطيات جديدة، إذ كان الحمدي متنورًا معاديًا للإقطاع والقبلية.

كما كانت تربطه بسالمين علاقة قديمة منذ الخلايا الأولى لتنظيمات القوميين العرب. ووجد الاثنان في الوحدة بين الشطرين حلًّا لمشاكلهما: فمن شأنها أن تعزز موقف الأول ضد غلاة الرجعيين والقبائل المدعومة من السعودية وتدعم موقف الثاني في مواجهة خصومه.

تعددت تصريحات الرئيسين بشأن الوحدة وبدا تحقيقها أمرًا قريب المنال مما أثار قلق عواصم كثيرة في الجزيرة وخارجها، وخاصة بعد تصريح للحمدي عن ضرورة تأمين البحر الأحمر وإبعاده عن سيطرة القوى الاستعمارية والرجعية. وبلغ القلق أوجه عندما قرر زيارة عدن في ١١ أكتوبر ٧٧ ليعلن عن خطوات جديدة في طريق الوحدة، وهي زيارة لم يقدر لها أن تتم.

ففي العاشر من أكتوبر ٧٧ دعاه نائبه العقيد الغشمي إلى منزله. وعندما وصل الحمدي في سيارته الخاصة الفولكس فاجن التي قادها بنفسه فوجئ بأخيه مقتولًا، ولم يلبث أن لحق به، وقيل فيما بعد إن الزيارة كانت ترويحية اشتملت على لقاء بفتاتين فرنسيتين عُثر على جثتيهما. وتردد أيضًا أن اغتيال الحمدي تم في حضور الملحق العسكري لأحد البلدان العربية المجاورة، فضلًا عن قائد أحد الألوية اليمنية الذي صار شخصية مرموقة فيما بعد. وقع ذلك قبل شهر من الزيارة المشئومة التي قام بها أنور السادات إلى القدس وقلبت كثيرًا من الموازين وغطت أنباؤها على كل حدث آخر. هكذا انزوى الحادث الدموي وتولى العقيد الغشمي رئاسة اليمن الشمالي في هدوء. ولم تمضِ شهور قليلة حتى كان وزير الدفاع الأمريكي يتفق في السعودية على تزويد اليمن الشمالي بدبابات أمريكية ونفاثات ف-٥ مع خبراء أمريكيين بمبلغ ٣٠٠ مليون دولار تدفعها المملكة.

وفي ٢١ يونيو ٧٨ اتصل سالمين بالغشمي وقال له إنه سيعيد إليه بعد ثلاثة أيام عددًا من شيوخ القبائل المختطفين على متن طائرة خاصة يرافقهم مندوب سيعرض عليه وثائق هامة.

وفي يوم ٢٤ يونيو وصلت الطائرة التي تقل شيوخ القبائل ومندوب الرئيس اليمني الجنوبي الذي حمل حقيبة خاصة أصر على أن يسلمها بيده للرئيس الغشمي. اقتيد المندوب إلى مقر الرئيس حيث سلمه الحقيبة. وعندما هم الأخير بفتحها انفجرت فيه وأودت بحياة الاثنين.

اتهمت صنعاء على الفور سالمين بأنه وراء الاغتيال بدافع الانتقام لمقتل صديقه. وردت حكومية عدن على لسان رئيسها علي ناصر محمد بشجب الاغتيال.

وفي اليوم التالي ذهب فضل الله محسن عضو المكتب السياسي وشقيق زوجة عبد الفتاح إسماعيل، مع اثنين من رفاقه إلى صالح مصلح وزير الداخلية لإقناعه بتحديد موقف ضد سالمين، جرى اللقاء في جو شديد التوتر وكل طرف يرقب حركة يد الآخر حتى لا تصل إلى المسدس قبله. وقال له فضل الله: لن أخرج من هنا أنت أو نحن أحياء قبل الاتفاق على موقف. وحاول صالح أن يفدي سالمين بحياته، فقال إنه هو الذي قتل الغشمي من أجل تحقيق الوحدة اليمنية. وإنه انتقى واحدًا من قدامى الفدائيين (مهدي الذي عرف باسم الحاج تفاريش أي رفيق بالروسية بسبب الدورة الدراسية التي قام بها في الاتحاد السوفييتي) وعهد إليه بالحقيبة الملغومة بعد أن أقنعه بالاستشهاد من أجل الهدف النبيل. وأقيم للفدائي حفل خاص تم تصويره بالفيديو تقديرًا لصلابته وتفانيه.

توجه فضل الله محسن على الفور إلى قصر الرئاسة بصحبة علي عنتر ومطيع وعرضوا على سالمين الاستقالة حقنًا للدماء. ونجحوا في إقناعه بعد أن تعهدوا له بأن يتم خروجه من السلطة والبلاد بشكل مشرف، واجتمعت اللجنة المركزية لتعيد تشكيل مجلس الرئاسة ليضم علي ناصر محمد رئيسًا مع عبد الفتاح إسماعيل ومحمد صالح مطيع وعلي عنتر وعلي باذيب (ممثل الشيوعيين). وأصدرت اللجنة قرارًا بتجريد الرئيس سالمين من كافة مناصبه الحزبية والرسمية وتكليف علي عنتر وصالح مصلح وصالح مطيع بوداعه في المطار.

وفيما بعد قيل إن علي صالح عباد (مقبل)، الذي دبر مع سالمين انتفاضة ٦٨ ضد قحطان الشعبي، غادر الاجتماع واتصل بسالمين وأبلغه أن الفرصة مواتية لضرب اللجنة المركزية والتخلص من كافة خصومه دفعة واحدة. كما قيل من ناحية أخرى إن ضابطًا في الحرس الرئاسي يُدعى أم زربة غضب لقرار تجريد سالمين فأشعل الصدام الدموي بمبادرة فردية منه.

ففي أعقاب انتهاء اجتماع اللجنة المركزية انصرف الجميع إلى بيوتهم وتوجه عبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر وصالح مصلح وعلي عنتر ومحمد صالح مطيع وفضل الله محسن إلى منزل علي ناصر للاحتفال بالانتصار على سالمين، فلم تكن تنحيته بالأمر السهل كما أنها قدمت حلًّا للمشكلة مع الشمال التي فجرها اغتيال الغشمي.

وبينما هم يتبادلون الأنخاب أُطلقت النيران والمدافع في الساعة الثانية من فجر ٢٦ فأصدروا أوامرهم للطيران والبحرية بضرب قصر الرئاسة، واستمر القصف حتى السادسة مساء عندما أخمدت كل مقاومة وحوصر القصر، وجرى توجيه نداء إلى الرئيس بالميكرفون بالاستسلام فخرج ومعه عضو في المكتب السياسي وآخر من اللجنة المركزية، ونقل الثلاثة إلى مقر المكتب السياسي حيث حوكموا بسرعة وأعدموا معًا. وأعلنت اللجنة المركزية في بيان للشعب نبأ إحباط محاولة انقلابية قام بها سالمين. واختتمت البيان بالشعار التقليدي: «عاشت القيادة الجماعية ولتسقط وإلى الأبد النزعة الفردية»، أما صالح مصلح فلم يحاكم أو يتعرض للمساءلة، ووضع بقية أنصار سالم ربيع في السجن وعلى رأسهم علي صالح عماد (مقبل) الذي بقي خمس سنوات وراء القضبان.

تلا ذلك انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب الاشتراكي اليمني الذي قرر باقتراح من علي ناصر محمد أن يتولى أمينه العام عبد الفتاح إسماعيل رئاسة الدولة، من أجل تعزيز سلطة الحزب، على الطريقة السوفييتية. وتشكل مكتب سياسي من عبد الفتاح إسماعيل، علي ناصر محمد، محمد صالح مطيع، صالح مصلح، علي سالم البيض، محسن، وأخرين، أما رئاسة الوزارة فقد عُهد بها إلى علي ناصر. ودحضًا لما تردد عن الخلافات الأيديولوجية بشأن السياسة الخارجية أقر المؤتمر التعايش السلمي مع الدول الخليجية. وخرج علي ناصر محمد في وضع الرجل الثاني في الدولة.

لكن الصراع لم ينتهِ فقد شهدت الشهور التالية استعدادات مجموعة من كافة الأطراف، المحلية والخارجية، لجولة جديدة، استخدمت فيها كافة الوسائل من الذهب إلى العصبية القبلية والمناطقية. ودارت المواجهة الأولى حول جهاز المخابرات العسكرية: هل يتبع وزارة الدفاع (علي عنتر)، أم أمن الدولة (محسن)؟ ويبدو أن علي ناصر أفهم علي عنتر أن محسن يعمل من أجل السيطرة على الجيش بإيعاز من عبد الفتاح إسماعيل، وأبلغه أنه يقف إلى جانبه، كما أبلغ محسن بأنه يؤيده ويقف إلى جانبه، وحلت الأزمة بتشكيل لجنة لأمن الدولة تتبع رئيس الوزراء علي ناصر الذي أصبح له نتيجة ذلك وجود مباشر داخل الجيش.

ترددت من جديد الشائعات حول الصراع الدائر واضطر عبد الفتاح إسماعيل لأن يعلن في مارس ١٩٨٠: «إن قراراتنا تتخذ دائمًا بشكل جماعي … والذين ينتظرون جولة صراع قادمة على السلطة في عدن سيطول انتظارهم».

لكن الانتظار لم يطل، وكان عبد الفتاح إسماعيل نفسه هو ضحية الجولة الجديدة.

فقد نجح علي ناصر في إقناعه بأن عددًا من قادة الحزب لم يعودوا مؤهلين لتحمل أعباء مهام المرحلة القادمة مثل علي عنتر وصالح مصلح، اللذين وصفهما بأنهما قتلة متوحشين، وفي نفس الوقت كان يردد أمامهما أن عبد الفتاح رجل مثقف ومنظر وشاعر وأديب يعيش في برج عاجي ولا يصلح كرجل دولة أو زعيم حزب، وأنه محاط بالمثقفين والأدباء، وينظر إلى قادة الحزب القدامى على أنهم متوحشون.

وفي مطلع شهر أبريل أبلغ علي ناصر عبد الفتاح إسماعيل بأن هناك تكتلًا في المكتب السياسي يهدف إلى إبعاده — أي إسماعيل — وإحلاله هو مكانه لكنه، أي علي ناصر، لا يشرفه أن يتحمل المسئولية من بعده ولهذا قرر أن يستقيل، وتبين عبد الفتاح من ذلك أن أحدًا لم يعد يقف إلى صفه في المكتب السياسي فقرر الاستقالة وطلب من علي ناصر أن يحل محله.

وفي ٢٠ أبريل ١٩٨٠ عقدت اللجنة المركزية اجتماعًا مُنع عبد الفتاح إسماعيل قسرًا من حضوره. وفي جو من الإرهاب والتلويح باستخدام العنف قاده علي عنتر تقرر قبول استقالة عبد الفتاح إسماعيل لأسباب صحية من منصبي الأمين العام للحزب ورئيس الدولة، وعُهد بالمنصبين إلى علي ناصر محمد إلى جانب رئاسة الوزراء. واستُحدث منصب جديد لعبد الفتاح على الطريقة العراقية، هو رئيس الحزب، وفي احتفال خاص قلده علي ناصر وسام ثورة ١٤ أكتوبر، وعلى الطريقة العراقية أيضًا شُيع في إجلال إلى المطار ومنه إلى المنفى في موسكو. وأصبح الرجل الثاني في الحزب هو محمد صالح مطيع وزير الخارجية المثقف الدبلوماسي، وأحد أبرز الفدائيين في حرب التحرير، الذي تحمس لتنحية سالمين ثم عبد الفتاح.

حصل علي ناصر محمد أخيرًا على السلطة الكاملة، لكنه لم يشعر بالاطمئنان لوجود محمد صالح مطيع إلى جواره فأبلغ المكتب السياسي بعد أربعة شهور بوجود مؤامرة بينه ودولة أجنبية لإحداث انقلاب، فتم اعتقاله بالرغم من دفاع علي عنتر عنه.

لكن قدامى القادة من أعضاء المكتب السياسي ظلوا شوكة في الحلق. وسعى علي ناصر إلى التخلص منهم، فدعا إلى مؤتمر استثنائي للحزب بعد شهرين، وعمل بدهاء على أن تأتي انتخابات المندوبين للمؤتمر من أنصاره. وعندما انعقد المؤتمر قال لأعضاء المكتب السياسي إن نتائج انتخابات المندوبين عبرت عن رأي القاعدة وكشفت عن تراجع الثقة فيهم، وأن الجماهير لم تعد تطمئن لهم. وطلب الكلمة عبد العزيز عبد الولي الذي عرف بمثاليته وطيبته وسذاجته فقال: «سيادة الأمين العام أنا شخصيًّا أتخلى عن عضوية المكتب السياسي، وأقترح أن نعطي نحن القدامى الفرصة لوجوه جديدة». أقر الآخرون الاقتراح وتشكل مكتب جديد ليس به من القدامى سوى علي ناصر وعلي عنتر.

لم تشفع مبادرة عبد العزيز عبد الولي له. فلدى تفتيش مسافر إلى دمشق عثر على رسالة منه إلى صديقه السفير العدني في سوريا، قال فيها إن بين أعضاء المكتب السياسي الجديد من تعتير البصقة في وجوههم خسارة. وقرر المكتب السياسي على الفور عزله من منصبه الوزاري وإبعاده إلى برلين الشرقية ليتابع دراساته الأكاديمية العليا، حيث مات مسممًا في ١٩٨٣.

ولم تمضِ سبعة شهور حتى حل دور على سالم البيض، فقد وجهت إليه تهمة انتهاك قانون الأسرة الذي يجرم تعدد الزوجات. وأُبعد عن اللجنة المركزية والحكومة التي كان يشغل فيها منصب نائب لرئيس الوزراء.

وفي الشهر التالي، انتهازًا لفرصة وجود علي عنتر في الهند، أُعدم محمد صالح مطيع دون محاكمة. وثار علي عنتر عند عودته وبدأ يهاجم محاولة انفراد علي ناصر السلطة، وتحدث أمام عدد من الضباط عن الحاجة إلى إجراء حركة تصحيحية تعيد إلى القيادة الجماعية معناها.

بلغت الأنباء علي ناصر فعمل على إبعاد علي عنتر عن الجيش، فتم تعيينه (على طريقة الرفس إلى أعلى) نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا لشئون الحكم المحلي. وأسند الدفاع لصالح مصلح قاسم الذي عرف عنبه الانضباط الشديد ورفض حل الخلافات خارج الأطر الشرعية والحرص على القيام بدور حمامة سلام بين التيارات والأطراف المتنازعة.

ثم وقع ما دفع بالأمور إلى المواجهة؛ إذ قبض على حسين قماطة القائد العام السابق لقوات الميليشيا وعضو اللجنة المركزية للحزب، ووجهت إليه عدة تهم لم تنشر، وقبل أن يحاكم قُتل داخل سجنه. وشعر خصوم علي ناصر بالخطر فبدءوا يتجمعون ويتصلون بعبد الفتاح إسماعيل في موسكو. وردَّ علي ناصر بمحاولة استمالة علي عنتر، فعمل على تعيينه نائبًا لرئيس الدولة، كما عين علي سالم البيض وزيرًا للإدارة المحلية دون اعتبار لقانون الأسرة.

وتكوَّنت تحالفات وتوازنات جديدة استخدمت فيها الانتماءات القبلية والمناطقية، بل والأغطية الأيديولوجية؛ إذ وجهت إلى علي ناصر نفس الاتهامات التي سبق توجيهها لسالمين بشأن سياسة المهادنة للأنظمة الخليجية. وكانت هناك مؤشرات تشجع هذه الاتهامات، إذ ظهرت في الأسواق سلع بتمويل سعودي على رأسها التفاح الأمريكي وسفن أب (تمامًا كما حدث في مصر في بداية الانفتاح) وأصدر علي ناصر أمرًا بمنع تفتيش الحقائب القادمة من الشمال، فانهمرت الأجهزة الكهربائية والتليفزيونات بل وحقائب النقود. وفي خريف ١٩٨٣ هرع علي عنتر إلى موسكو لينتقد نفسه أمام عبد الفتاح إسماعيل وتبعه صالح مصلح في العام التالي. وأراد علي ناصر أن يقطع عليهما الطريق فطار هو أيضًا إلى موسكو وعرض على عبد الفتاح إسماعيل العودة، في محاولة لإقامة تحالف معه.

أسفرت هذه الاتصالات عن قرار للمكتب السياسي في فبراير ١٩٨٥ بعودة عبد الفتاح إسماعيل إلى منصب متواضع في سكرتارية اللجنة المركزية وبضم أعضاء جدد للمكتب السياسي يجعل لخصوم الرئيس علي ناصر أغلبية. وانتخب حيدر أبو بكر العطاس (من أنصار عبد الفتاح) لرئاسة الوزارة بدلًا من علي ناصر الذي شغلها لمدة ١٤ سنة متواصلة وأعلنت استقالته كي يتفرغ لقيادة الحزب والدولة.

لم تنجح هذه الترتيبات في إزالة التوتر السائد بين الغرماء. وعقدت جلسات حوار مطولة، شارك في بعضها جورج حبش ونايف حواتمة، استعدادًا لانتخابات المؤتمر العام للحزب، أقرت اقتراحًا من علي ناصر بمركزة عملية الانتخابات ووضع ضوابط لها على الطريقة السوفييتية بالاتفاق المسبق على الأسماء وعدم السماح بسقوط أي منها حتى ولو اعترضت الغالبية.

جرت انتخابات مندوبي المؤتمر كما هو مقرر بطريقة توفيقية وصورية سمحت لطرفي الصراع بترتيب النتائج كل لصالحه. وكانت النتيجة النهائية هي تعميق الصراع بدلًا من حله أو تخفيفه. ولاح شبح المواجهة الحاسمة في الأفق، وتوافدت وقود الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية للتوسط. وشاركت في هذه المحاولات السفارة السوفييتية التي لزمت الحياد التام بين الجانبين.

وفي ٩ يناير ١٩٨٦ اجتمع المكتب السياسي ليناقش اقتراحًا من أنصار عبد الفتاح بإسناد الدائرة التنظيمية له بحيث يصبح الشخص الثاني في الحزب ولم يتم التوصل إلى اتفاق فأرجئ الاجتماع إلى الساعة العاشرة من صباح الاثنين ١٣ يناير.

توافد أعضاء المكتب السياسي على مقر اللجنة المركزية في الموعد المحدد. وعندما وصل علي سالم البيض وجد في القاعة عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وسالم صالح وعلي شايع هادي، أي جميع الأعضاء المناوئين للرئيس علي ناصر (عدا حيدر العطاس الذي كان في الهند)، دون أحد من أنصاره، ولم ينتبه الحضور إلى مغزى الأمر لأنهم شاهدوا لدى وصولهم إلى ساحة المبنى سيارة علي ناصر وأفراد حراسته، كما أن سكرتيرته أبلغتهم بوجوده وأنه سينضم إليهم بعد الانتهاء من اجتماع هام.

وبعد قليل دخل القاعة حسان، أحد حراس علي ناصر وهو يحمل حقيبة الأمين العام حيث وضعها على الأرض قرب المقعد المخصص له، ثم استدار ووجه مدفعه الرشاش إلى ظهر علي عنتر وأطلق عليه النار من أعلى إلى أسفل، هبط أعضاء المكتب السياسي الآخرون على الفور تحت الطاولة بعد أن سحب كل واحد منهم مسدسه وأخذوا يطلقون النار على حسان وعلى حارس آخر كان قد دخل القاعة ليضع ترموس شاي أمام مقعد علي ناصر، وشارك في إطلاق النار على الحاضرين.

التجأ الأعضاء الأحياء وهم عبد الفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض وسالم صالح إلى غرفة خلفية ومزقوا ستائر نافذتها ثم عقدوها على صورة حبل ودلوها إلى أحد حراس عبد الفتاح وحصلوا منه على رشاشين.

خلال ذلك تمت تصفية الجزء الأغلب من أفراد حراسات أعضاء المكتب السياسي في ساحة المبنى بشكل جماعي. وفي نفس الوقت كانت تجري مذبحة جماعية أخرى بنفس الطريقة في اجتماعات عقدت على كافة المستويات الحزبية والعسكرية وخاصة في وزارات الدفاع والداخلية وأمن الدولة بزعم بحث احتمال وقوع عدوان إسرائيلي على عدن، وتمركزت القوات الموالية لعلي ناصر في مفارق الطرق وسيطرت على العاصمة وأخذت تعتقل وتقتل غير الموالين، وقامت قطع البحرية والمدفعية بقصف منازل البارزين منهم ودكت بيت عبد الفتاح إسماعيل.

انعقدت السيطرة على عدن للقوات الموالية للرئيس علي ناصر، فشرع في المرحلة الثانية من خطته. لف أحد ذراعيه بضماد طبي ليبدو كأنه أصيب في تبادل لإطلاق النار، واستقل سيارته إلى محافظته أبين بينما أذيع في الثالثة بعد الظهر بيان باسم المكتب السياسي أعلن إحباط محاولة انقلابية استهدفت اغتيال الرئيس والانقلاب ضد الشرعية الحزبية والدستورية التي يمثلها، كما أعلن أنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام في كل من عبد الفتاح إسماعيل، علي عنتر، علي سالم البيض، علي شايع هادي.

وفيما بعد ذكر علي سالم البيض أن عبد الفتاح إسماعيل هرب في مدرعة من مقر اللجنة المركزية واحترق داخلها عندما تعرضت للقصف. أما هو فقد استقل مدرعة أخرى وتركها بعد أن سارت به ثلاثين مترًا وظل متخفيًا في نفس المنطقة مساء الاثنين ويوم الثلاثاء حتى فجر الأربعاء يجرى الاتصالات الهاتفية برفاقه ويوجه عمليات المقاومة! فبينما انحازت أغلب القطع البحرية إلى جانب علي ناصر، انضمت المدرعات إلى خصومه، وفي مرحلة من المراحل أصبح القتال يدور بشكل رئيسي بين الدبابات التي نجحت في دخول عدن وبين القطع البحرية المرابطة في عرض البحر.

استمر القتال تسعة أيام سقط خلالها وفقًا للإحصاءات الرسمية ٤٣٣٠ قتيلًا وقدرت الخسائر المادية ﺑ ٣٩٫٦ مليون دينار، وأسفر عن فقدان علي ناصر للسيطرة على العاصمة. وعندما أيقن بالهزيمة فرَّ إلى صنعاء بصحبة على صالح عباد (مقبل)، ومنها إلى إثيوبيا.

وما إن استتب الأمر لمن بقي على قيد الحياة من خصومه الأيديولوجيين بزعامة علي سالم البيض حتى أعلنوا التزامهم بنفس السياسة الخارجية التي سار عليها كل من علي ناصر وسالم ربيع من قبل. فأكد البلاغ الصحفي الصادر عن رئاسة الدولة «… حرص بلادنا على مواصلة جهودها لتعزيز علاقاتها مع جارتها السعودية على أساس مبادئ الأخوة وحسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل … وكذلك تعزيز علاقاتها الأخوية مع سلطنة عمان على أساس اتفاق المبادئ الموقع عليه من قبل الحكومتين …»

٥

عاد فتحي من المركز قبل الظهر ليصحبني إلى المستشفى السلطاني بعد أن اشتدت آلام ظهري وحالت بيني وبين النوم طول الليل. تعاون، هو وجوهر على مساعدتي في الانتقال من المصعد إلى السيارة وربط حزام الأمان.

قال ونحن نخرج إلى شارع قابوس: قابلت الفندي في الصباح وكلمته في موضوع شفيقة، قال لي إن الأمر خرج من يده، عبارة غريبة. أليس كذلك؟

تجاهلت ملاحظته وقلت: وماذا ستفعل الآن؟

قال في وجوم: سألجأ إلى السلطان.

كان المستشفى في مبنى حديث رحب مكتظ بالمرضى الذين يبدو عليهم العناء وتوحي ملابسهم وقسماتهم ونظراتهم المتوجسة بأنهم قدموا من أماكن نائية. مشيت بحرص عبر قاعات تكدست بها أحدث الأجهزة وأقلنا المصعد إلى الطابق الثالث. استقبلني طبيب مالاييزي بدا ضيقًا بي ولم تتمكن من التفاهم بالإنجليزية التي يتكلمها كل منا بلهجة مختلفة، طلب مني أن أتعرى ثم فحصني في عجلة وأحالني لعمل أشعة، وعدت بها إليه فألقى عليها نظرة سريعة وكتب لي أقراص فولتارين وعدة جلسات من العلاج الطبيعي. طلبت منه أن يشرح لي حالتي فتمتم ببضع كلمات لم أفهم منها شيئًا واحتد عليَّ عندما نبهته إلى أنه أخطأ في كتابة اسمي.

صحبني فتحي إلى جناح العلاج الطبيعي وتركني ليرى أحد معارفه. جلست في ممر قصير أنتظر دوري وتسليت بقراءة صحيفة اليوم. لم يكن بها جديد: مذابح عرقية بين الهندوس والمسلمين في الهند، وبين الصرب والبوسنيين في يوغوسلافيا، وما زال الفلسطينيون المبعدون في موقعهم على الحدود اللبنانية. وكانت هناك إشارة إلى تقرير أمام الجامعة العربية بشأن ١٢ ألف طفل فلسطيني أصيبوا بالإعاقة على يد القوات الإسرائيلية، بينهم ٦٠٠٠ طفل تقل أعمارهم عن ١٦ سنة فقدوا أطرافهم وحواسهم من جراء الرصاص المطاطي وقنابل الغاز وبعضهم أصيبوا داخل أرحام أمهاتهم.

قلبت الصفحات فاستوقفني إعلان احتل مساحة بارزة:

«دانهيل تقدم يونايتد بيت، حفلة عارمة من الرقص والموسيقى، بيبسي بالتعاون مع فندق الفلج، الساعة الثامنة والنصف مساءً ببركة السباحة، المطرب والراقص العالمي الشهير شيامك دافار، التذاكر في بيتزا هت ومركز التزلج على الجليد وأماكن أخرى».

سمعت نداءً على اسمي بلهجة أجنبية وظهرت في مدخل إحدى الغرف طبيبة هندية. كانت سمراء متوسطة القامة والعمر والجمال، ذات وجه مستدير تزينه النقطة الحمراء التقليدية في منتصف الجبهة. لكن قسماته خلت من الحيوية وأنبأتني بأن صاحبته في المكان الذي أعرفه جيدًا. وعندما تبينت جنسيتي تجلت في عينيها ومضة اهتمام سرعان ما خبت.

قادتني إلى قمرة صغيرة محاطة بالستائر ومددتني فوق وسادة من الجلد أوصلتها بأحد الأجهزة وتركتني. وسرعان ما بدأت أستمتع بانتشار الحرارة في أنحاء ظهري.

لمحت من فرجة في الستائر الحائط الملاصق لمكتبها، كانت تتوسطه صورة حديثة للسلطان ثبتت تحتها بالدبابيس عدة رسومات طفولية لأشجار وبيوت وسيارات. اقتربت مني بعد دقائق وعدلت في صمامات الجهاز، سألتها عن الرسومات المعلقة، فأشرق وجهها وقالت إنها لطفلتها، وعلمت أن الطفلة في عامها الثاني بالمدرسة الابتدائية في بومباي. تجنبت المزيد من الأسئلة كي لا أنكأ جراحًا نطقت بها عيناها.

أرادت أن تعطيني موعدا لجلسة ثانية في بداية الأسبوع القادم، فقلت لها إني سأسافر خلال أيام. نصحتني بأن أقضي الوقت من الآن وحتى سفري راقدًا فوق سطح صلب، وأن أواصل العلاج الطبيعي في أقرب وقت.

أهديتها قلمًا للحبر الجاف نقشت عليه رموز فرعونية، فأخذته في فرح الأطفال. طلبت مني أن أكتب لها عنواني في مصر. وكتبت لي عنوانها في كل من مسقط وبومباي.

صرفنا الدواء مجانًا وعدنا إلى المنزل، فبسط لي فتحي بطانية مطوية فوق السجادة وتمددت على ظهري. وضع إلى جواري عدة كتب وصحيفة اليوم، وأراد أن يعد لي غذاءً فرفضت قائلًا إني سأنتظر عودة شفيقة، أحضر لي جهاز راديو وعاد إلى عمله.

كانت الفكرة أن يبقى رأسي على نفس المستوى مع بقية ظهري، وبالتالي لم أستخدم وسادة. وبدت القراءة صعبة في هذا الوضع فأدرت الراديو. تنقلت بين المحطات إلى أن عثرت على برنامج من أغاني عبد الوهاب القديمة.

إذا كانت البيرة ومضاعفاتها من محظورات شفيقة فإن موسيقى وأغاني عبد الوهاب هي محظورات زوجها الوحيدة. فعبد الوهاب — في رأي فتحي — هو الذي خرب الموسيقى العربية وحولها إلى مسخ مقطوع النسب مستعينًا بأفضل أنغام الموسيقى الغربية، الكلاسيكية والخفيفة. أما أنا فكنت في مراهقتي قد توحدت مع بكائياته التي اشتهر بها في الأربعينيات والخمسينيات وتغنت بالشكوى من النسيان والهجران حينًا واستعذابهما حينًا آخر. وعندما تقدم بي العمر والنضج هجرتها إلى أغانيه الأولى التي تتميز بعذوبة الكلمات والألحان وبساطتهما فضلًا عن عنفوان الصوت ونقاوته. وأعطاني غياب فتحي فرصة الاستمتاع بساعة منها بدأت بأحبها إلى قلبي وهي أغاني فيلم «الوردة البيضاء».

عادت شفيقة من الإذاعة عند العصر، ناديت عليها فأطلت عليَّ برأسها المحجب. وعندما رأتني مستلقيًا على الأرض سألتني عما فعلت في المستشفى.

قلت: طلبوا مني الرقاد هكذا لمدة شهر.

بدت عليها البغتة فضحكتُ. قلت: اطمئني، سأسافر في موعدي.

٦

أعددت خمسة ريالات عمانية ضريبة المغادرة وودعت فتحي. وضعت حقيبتي في جهاز الكشف الأمني وعبرت البوابة الإلكترونية ثم استعدت حقيبة اليد وتلفت حولي بحثًا عن طريقة لنقل الحقيبة الأخرى. أغناني ضابط الجمرك عن الجهد إذ دفعها جانبًا ورفعها إلى منضدة مستطيلة ثم عكف على تفتيش محتوياتها بدقة متناهية. أبدى نفس العناية بحقيبة يدي. وأولى اهتمامًا خاصًّا لما بها من أوراق، ثم قادني إلى قمرة خشبية فأجرى يديه فوق صدري وظهري وبين فخذي.

أُفرج عني أخيرًا فسرت خلف عامل آسيوي حمل حقيبتي ووضعها فوق الميزان. قدمت بطاقتي ثم اتجهت إلى مكتب الجوازات واتخذت مكاني في طابور متعدد الجنسيات. جاء دوري سريعًا فأعطيت جوازي لضابط تصفحه في دقة ثم غادر مقعده دون أن يخاطبني واختفى.

شعرت بالأنظار تتجه ناحيتي فتشاغلت بتقليب صحيفة هندية تركها أحد المسافرين فوق مقعد. كان هناك مربع خاص بأنباء عمان تضمن تصريحًا لوزير الخارجية بأنه على استعداد لدعم أي عمل يهدف إلى إنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل. وكان هناك نبأ عن مداولات بين عمان وبريطانيا بشأن صفقة أسلحة قيمتها ٢٢٧ مليون دولار وصفتها الصحيفة بأنها دفعة هامة للصناعات العسكرية البريطانية وتنقذ وظائف ١٨٠٠ بريطاني.

وعلى صفحة كاملة نشرت الصحيفة حلقة من مذكرات الجنرال بيتر بيليبر الذي قاد القوات البريطانية خلال حرب الخليج، صدرتها بموجز للمراحل الهامة في حياته.

كان تاريخه حافلًا بحق، فقد كان دائمًا في المكان المناسب في الوقت المناسب: قناة السويس والأردن في ٥٦، جبل عمان الأخضر في ٥٩، عدن في ٦٤، ظفار من ٦٩ حتى ٧٤، السودان في ٧٧ وعندما تقاعد بعد حرب الخليج تفرغ لإدارة شركة لتوظيف الأموال. لا للآثار!

عاد ضابط الجوازات وخاطبني في تحفظ طالبًا مني أن أتبعه، علقت حقيبة يدي في كتفي وسرت خلفه في ممر هادئ مضاء بمصابيح الفلورسنت الطويلة على الجانبين. توقف أمام باب لا يحمل أية لافتة وطرقه في رفق، ثم أدار مقبضه ودفعه إلى الداخل وتنحى لي جانبًا.

كانت الغرفة صغيرة يتصدرها مكتب معدني أمامه مقعدان متقابلان وتضيئها أنوار قوية من مربع زجاجي في منتصف السقف، وكانت الجدران عارية إلا من واجهة جهاز تكييف وصورتين لسلطان البلاد، واحدة في إطار مستقل وأخرى في نتيجة حائط فاخرة، لم تكن بها خزانة الملفات أو دلالة ما على هوية شاغلها ووظيفته. كانت غرفة بلا هوية مثل غرف التحقيق أو تلك المخصصة لزيارة السجناء.

أغلق الضابط الباب خلفي وانصرف ووقفت أتطلع إلى الرجل الجالس خلف المكتب منهمكًا في تصفح جوازي. كان يرتدي دشداشة بيضاء ويغطي رأسه بمصرة من نفس اللون وعينيه بنظارة داكنة تكاد تكون سوداء. لكني عرفته من حاجبيه وشاربه الناصعي البياض.

وأشار لي بالجلوس دون أن يرفع رأسه عن الجواز، وضعت حقيبة يدي على الأرض وجلست في حرص خوفًا من آلام الظهر، لمحت مقبض خنجر بارزًا من نطاق موشى بالقصب حول خصره. وشعرت أن عينيه مسلطتان على وجهي رغم تظاهره بفحص الجواز.

ألقى بالجواز فوق سطح المكتب إلى جوار جهاز أسود صغير للاستدعاء. ورفع يده إلى نظارته فخلعها ووضعها إلى جوار الجهاز.

كانت دقات قلبي قد بدأت تتسارع منذ اللحظة التي دخلت فيها؛ إذ اجتاحتني الهواجس والتوقعات. لكنها كادت تتوقف تمامًا الآن. ودوى طنين جهاز التكييف عاليًا في أذني.

تصوروا !

اختفت الحركات الهوجاء والمارلبورو والكتب وحل محلها الخنجر والمصرة وحجر أحمر اللون في خاتم ثقيل من الذهب.

كنت عاجزًا عن الكلام وصبر عليَّ هو لحظة ثم ابتسم ابتسامة خفيفة: لم تتوقعني؟

لم أحر جوابًا فاستطرد: سمعت أنك تبحث عني.

كانت هناك غضون كثيرة حول عينيه ونظرة باردة حاسبة فيهما. استطرد عندما لزمت الصمت: أربعة وثلاثون عامًا منذ آخر لقاء بيننا؟ عمر، أليس كذلك؟ لم تتغير كثيرًا.

وجدت لساني أخيرًا: وأنت صرت الحارث بن عيشة. تراجع إلى الوراء وبسط راحتيه فوق سطح المكتب.

– الحارث أحد أجدادي. كان شيخ قبيلة. وعيشة هو اسم والدتي. لعلك لا تعرف أن البدو …

قاطعته: أعرف. قرأت موسوعة السلطان.

انفجر في الضحك وشعرت أنه متوتر مثلي.

قلت: لكن لماذا؟

قال بنبرة تهكم خفيفة: عملية تصحيح! متطلبات مرحلة جديدة.

كان يبدو واثقًا من نفسه.

استطرد: قل لي، لماذا كنت تبحث عني؟

قلت: كنت أريد أن أعرف ما حدث لك وﻟ … وردة.

– وعرفت الآن؟ أنت قرأت يومياتها.

استجمعت نفسي وقلت: ما زالت هناك بضعة أمور غامضة.

تراجع بجسده كله إلى الوراء: آه … مثل؟

اجتاحتني موجة غضب مفاجئة: مثل ماذا حدث لها بالضبط ولماذا تخليت عنها في الصحراء.

تأملني في إمعان ثم قال في بطء: ماذا تعتقد أنت؟

– إما أنك خفت على نفسك أو أنك ذهبت تستكشف الطريق فتهت. أنا أستبعد ذلك إذ كان من الممكن أن تخطرهما بنيتك، الاحتمال الأغلب أن الأمر كله كان مدبرًا منذ البداية.

ضاقت عيناه لكنه لم يعلق.

استطردت: متي بدأت علاقتك بالسلطة؟ عندما قبض عليك أول مرة في مطرح.

لم يجب.

واصلت دون أن أعبأ: كنت عازمًا على التخلص منها. وفي اللحظة الأخيرة ترددت. ربما أشفقت عليها أو اكتشفت أنها حامل أو كنت أكثر دهاءً، قررت أن تتركها في الصحراء للذئاب والقبائل.

قال بهدوء قاتل: أنت تتحدث عن أختي.

– أعرف أنك كنت تحبها. ربما أكثر مما يجب. ومع ذلك أو بسبب ذلك تركتها، ولا بد أن إحدى القبائل آوتها هي ودهميش إلى أن وضعت ابنتها. أسمتها وعد بدلًا من ثائرة كما كانت تنوي. لتحميها أو لتذكر القبيلة بتعهد انتزعته منهم بأن يسلموا الطفلة إلى أهل أبيها. لا أعرف طبعًا ما حدث بعد ذلك، ربما وقع لهما حادث في الصحراء أو توصلت إليهما السلطة، الأغلب أن القبيلة نفسها تخلت عنهما واحتفظت بالطفلة، ثم وفوا بوعدهم بعد قليل وسلموها لعمها الذي تكتم على الأمر كله. ما رأيك؟

– لا بأس. أكمل.

– المهم أنك قمت بدورك. وكان يمكن أن يمضي كل شيء على ما يرام لولا أن ظهرت اليوميات. عثر عليها أحد أو أراد أبناء القبيلة استغلالها لمكسب ما. كان لا بد أن تعرف ما جاء بها بشأنك.

جذب درج المكتب واستخرج الكراسة الأخيرة ذات الغلاف الأسود، رفعها في الهواء ولوح بها في وجهي: الجميع كانوا يسعون خلفها. أصحابك مثلًا وهم منقسمون كالعادة ويتسابق كل قسم لاستغلالها ضد الآخر. أصحابي أيضًا … أنت قابلت الفندي، ثم هناك الشيوخ والمطوعون. هناك أيضًا جيراننا وجيران جيراننا، تعرف لماذا؟ هل صدقت أن الرغبة في معرفة مصير وردة هي السبب؟

انحنى نحوي: أنا هو السبب.

قلت: لماذا الآن؟

سيطر على أعصابه واستعاد هدوءه.

استطردت: ألأن صديقك ابن عم السلطان سيصبح رئيسًا للوزارة؟ لا أعتقد.

كانت النظرة التي تجلت في عينيه هي التي أعانتني على الفهم.

قلت في بطء: أنت تعد لشيء أكبر من هذا.

حانت منه نظرة خاطفة إلى جهاز الاستدعاء، وتأكد لي أن للجهاز وظيفة أخرى. كما تأكدت أن السهم ملك قصده.

وفجأة أمسك بالكراسة بيديه الاثنتين وأخذ يمزقها إلى قطع صغيرة واستقرت عيوننا على القصاصات وهي تتكوم فوق سطح المكتب في خليط من اللونين الأبيض والأسود.

قال: لم يعد بوسع أحد استغلالها.

قلت: إلا إذا كانت هناك صورة منها.

تجمدت يداه فوق قطع الورق ودقق النظر إلى عيني: لا توجد معك ورقة واحدة منها. التفتيش كان كاملًا. كما أنك لم تقترب من أي جهاز للتصوير من لحظة وصولك إلى السلطنة.

مال على المكتب وهو يتأملني متفحصًا: أين؟

– مع وعد.

ثار فجأة: القحبة.

قلت: هي لا تريد غير شيء واحد.

– ما هو؟

– أن تدخل الجامعة. هنا أو في الخارج.

– وأنت؟

– زوجة ابن عمي.

– ما لها؟

– يريدون إنهاء عقدها، لا بد أنك تعرف. لا تريد أكثر من سنتين أخريين حتى ينتهي زوجها من عمله.

أخذ يدق بإصبعه على سطح المكتب دون أن يرفع عينيه عن وجهي: سنتان إذن. ولا كلمة منك.

أطرقت برأسي.

سنتان وحسب، ثم نرى.

تطلعت إلى جواز سفري فاتجه إليه ببصره وتأمله برهة ثم مدَّ يده فالتقطه وقدمه إليَّ. تناولت الجواز وجذبت حقيبتي ونهضت واقفًا.

ثم استدرت وغادرت الغرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤