الفصل الثالث

القاهرة

١٩٥٧–١٩٥٩

كان ذلك بعد العدوان الثلاثي بعدة شهور، وبعد أن أتممت عامي التاسع عشر. كنت غارقًا إلى أذني في خضم عملية التمرد التقليدية. وقد انقطعت عن الذهاب إلى الجامعة، وكرست وقتي كله للنشاط السياسي معتبرًا نفسي واحدًا من هؤلاء المكافحين الذين يتخلون عن حياتهم البرجوازية في سبيل هدف أسمى، وكنت أظنني قد عثرت على الطريقة المثلى للحياة: السبيل لتصحيح كافة أشكال الظلم والقهر المحيطة بي، نظرة واضحة للعالم تستند إلى تفسير علمي للتاريخ والاقتصاد، (دون أن أدرك وقتها أن هذا التفسير العلمي بالذات يتطلب خبرة واسعة بالعالم)، ودور متفرد يضعني على الفور في مستوى أعلى بكثير من أقراني ومن الكبار الغارقين في حياتهم الضيقة المبتذلة.

لكن ما بدأ كمغامرة مثيرة تقوم على لقاءات سرية بأشخاص مجهولين، بينهم فتيات من طراز غير مألوف، وعلى التفنن في اكتشاف الشرطة السرية وتضليلها، وفي سبل توصيل الشعارات والمفاهيم الثورية للجماهير، سرعان ما فقد الكثير من بهائه وجاذبيته. فالدكتاتورية العسكرية التي كان الشيوعيون يسعون إلى إسقاطها بدعوى عمالتها للأمريكان وعدائها للطبقة العاملة (الذي كشفت عنه بإعدام خميس والبقري)، قد تحولت بالتدريج إلى طليعة للحركة الوطنية العربية واشتبكت مع القوى الاستعمارية في مواجهات عدة بلغت ذروتها بتأميم قناة السويس وما تلاه من عدوان مشترك من جانب القوتين الاستعماريتين التقليديتين وإسرائيل. وعندما أقدم عبد الناصر على تمصير الاقتصاد وتحريره من سيطرة الأجانب وإنشاء القطاع العام، مغلقًا الطريق في وجه تشكل رأسمالية تابعة للغرب، وممهدًا لخطة تنمية شاملة تستند إلى مصالح الجماهير الشعبية، لم يكن أمام كل وطني مخلص إلا أن يقف إلى جانبه ويدافع عنه.

هكذا صار يومي يتألف من الطواف بأقدام متثاقلة على مراكز التجمعات بحي الدقي الذي أقطن به؛ مصنع تعبئة الكوكاكولا ومصنع تعبئة البيرة ووزارة الزراعة ومعمل المصل واللقاح ومركز البحوث، سعيًا وراء تجنيد العناصر المناسبة للعمل السري من خلال تعبئتها للدفاع عن سياسة الحكم! لم يكن تثاقلي نابعًا من كراهيتي للمهمة، وإنما من صعوبتها فقد كان من العسير إيضاح الالتباس الحادث بين الوضع السري للحركة الشيوعية وموقفها السياسي.

فلم يكن عبد الناصر راغبًا في التعاون مع جماعة من المثقفين الذين يتميزون بوعي مرتفع لا يملكه الضباط وقدرة فائقة على التنظيم والعمل وسط الناس، واستعداد للتضحية دون مقابل (أبدوه في أكثر من مناسبة من مقاومة الاحتلال الإنجليزي والاستغلال الطبقي ووباء الكوليرا في الأربعينيات إلى المقاومة المسلحة أثناء العدوان الثلاثي). ومن ناحية أخرى فهذه الجماعة المسلحة بالوعي كانت غير قادرة على تجاوز الخلافات فيما بينها، فتوزع أفرادها على عدة تنظيمات متناحرة، وأبدى بعضهم سذاجة مطلقة في تطبيق المفاهيم العلمية. لهذا استمر وضعنا السري، وخلق هذا الوضع عقبات جمة لكفاحنا ومصداقية خطابنا. فكم من مرة وجدتني أنجح في تجنيد شخص ثم أكتشف أنه آخر من يصلح لأنه لم ينضم إلينا إلا لتصوره أننا بحكم وضعنا السري نعمل على إسقاط النظام الذي يهدد مصالحه، ولا أنسى يوم قمت بتوزيع أحد منشوراتنا السرية بصورة علنية عندما رأيت أنه لا يحمل ما يستوجب السرية أو التجريم، طالما أنه يدعو إلى حماية النظام والدفاع عنه حتى الموت. واستوقف الأمر أحد المتفذلكين فصاح بأعلى صوته: شيوعي. وسارع الناس الذين لم يفهموا شيئًا من الأمر كله إلى المساعدة في القبض عليَّ وتسليمي للشرطة.

ولم يكن الذنب ذنبنا لأن عبد الناصر في سعيه للانفراد بالسلطة المطلقة ألغى كل التنظيمات السياسية فيما عدا التنظيم الذي أنشأه في أعقاب الثورة باسم هيئة التحرير، وكان مثار التندر والسخرية. أما نحن فقد احتفظنا بتنظيمنا السري إذ كنا مصرين على المشاركة. إنها بلادنا جميعًا فلماذا يكون من حق أحد دون غيره أن ينفرد بالتفكير والعمل من أجلها؟ بل كنا نعتبر أننا بتفكيرنا المستند إلى نظرية علمية أكثر الناس وعيًا بمستقبل البلاد واستعدادًا للتضحية في سبيلها. كما أننا كنا نؤمن بأهمية تنشيط العمل السياسي للجماهير ونعارض محاولة وضعها على الرف ونعي الأخطار المترتبة على ذلك، والتي اتضحت بعد ذلك في تطور الأحداث.

وفي يوم لا أنساه — بعد انتظار طويل أمام مصنع تعبئة الكوكاكولا للقاء أحد عماله — مضيت للقاء الضابط المنوط بفرع هيئة التحرير والذي أصبح فيما بعد من أكبر تجار شرائط الفيديو، كنت قد تعرفت إليه أثناء العدوان الثلاثي إذ ذهبت إليه قائلًا إني أضع نفسي تحت تصرفه ولم أخفِ عنه هويتي السياسية، وفيما بعد حرصت على محاولة إيجاد سبل للعمل المشترك بيننا.

في ذلك اليوم أخذني في سيارته الفيات الصغيرة ومضى يطوف بي في شوارع الدقي الهادئة، وهو يوجه لي أسئلة عديدة متنوعة هدفها معرفة عدد أعضاء تنظيمنا المحلي. وكدت أضحك من سذاجته عندما سألني بشكل مباشر: أنتم خمسين؟ فلم نكن في الواقع نتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وعندما يئس مني قال لي في اقتضاب إنه لا يرى أية حاجة للاتفاق على أي نشاط مشترك، فكل شيء على ما يرام، والفائدة الوحيدة التي يمكننا تقديمها هي أن نلزم بيوتنا ونترك الثورة تعمل.

تركته شاعرًا بالإحباط واتجهت إلى مقهى في الميدان ينتظرني به أحد الزملاء الذي صار فيما بعد شاعرًا كبيرًا. وجدته برفقة شاب قصير القامة ممتلئ الجسم ذي وجه أسمر عريض وملامح بدوية، ولمحت أمامه فوق المنضدة كتابًا عن القومية العربية لساطع الحصري بجوار علبة سجاير مارلبورو، فأدركت أنه ليس مصريًّا. وكانت الدقي وقتها — ولعلها ما زالت بسبب قربها من الجامعة — مركزًا لسكنى الطلاب العرب، فضلًا عن الثوريين واللاجئين السياسيين من يمنيين ومغاربة وفلسطينيين وسودانيين. وكنا نتعرف عليهم بسهولة من الكتب السياسية والأدبية التي يحملونها دائمًا بالإضافة إلى علب السجاير الأجنبية.

قدم لي صديقي الشاب العربي على أنه طالب من البحرين يُدعى خليفة. ولم يلبث الخلاف أن نشب بيننا؛ إذ شن حملة شعواء على الشيوعيين متهمًا إياهم بالعمالة للاتحاد السوفييتي وخيانة قضية فلسطين، قلت له إن لينين أدان المشروع الصهيوني منذ البداية، ثم غيَّرت الدولة السوفييتية موقفها عندما قبلت التقسيم، وهو ما بدا حلًّا معقولًا وقتها؛ لأن البديل وهو الحرب صبَّ في صالح الأنظمة العربية الرجعية والحركة الصهيونية. وذكَّرته بأن الحكام العرب حاصروا الحاج أمين الحسيني وأحبطوا دعوته إلى إعلان الدولة الفلسطينية. وتصالحنا في النهاية على مسئولية الحكام العرب عن الكارثة. وعندما فارقناه أعطانا عنوان مسكنه مؤكدًا علينا أن نزوره.

ذهبنا في اليوم التالي إلى العنوان في منطقة العجوزة الهادئة التي تملؤها الأشجار، وتبدأ إيجارات مساكنها من ثمانية جنيهات، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام. سرنا حتى المتحف الزراعي تم انحنينا في شارع نوال حتى منتصفه. اتجهنا يسارًا وواصلنا السير حتى عبرنا شارع الدرك وبلغنا أطراف الأراضي الزراعية. توقفنا أمام بناية حديثة من أربعة طوابق. خرج إلينا البواب وأنكر وجود شخصًا باسم خليفة، ثم ذكر أن هناك ساكنًا من إحدى البلدان العربية في الطابق الثاني. فتح لنا خليفة الباب وأفسح لنا لندخل وهو يعتذر بأنه نسي أن يذكر لنا اسمه الحقيقي — يعرب — وبلده أيضًا، فهو ليس من البحرين وإنما من عمان. وأسر إلينا بالسبب الذي جعله يخفي علينا هويته في البداية، وهو خوفه من أن يصل أمر لقائه بنا إلى المخابرات المصرية التي أشرفت على إحضاره هو وأخته وعدد آخر من الشبان العمانيين واليمنيين ليتعلموا ويشعلوا الثورة ضد الإنجليز.

لم نجد في الأمر غرابة؛ إذ كان لكل شاب تقريبًا في تلك الفترة اسم سري، بل وأحيانًا اسمان. كما أن أخته ظهرت في تلك اللحظة.

كانت شهلا أضأل منه حجمًا لكن سمرتها كانت خمرية ولها عينان جميلتان وشفتان رقيقتان، وصدر ممتلئ، رحبت بنا وقدمت لنا الفاكهة والشاي، بينما انطلق أخوها في حديث متواصل عن عمان، مرددًا بين الحين والآخر: هل تتصوروا؟

لم نكن، فما حكاه عن ظروف الحياة في بلاده فوق كل خيال. روى لنا كيف حفظ القرآن في طفولته وكيف تعلم القراءة والكتابة أسفل شجرة هو وبقية الأطفال من بنين وبنات. كانوا يجلسون وفي أيديهم كتب مطبوعة في مصر وأمامهم المعلم بلحيته الكبيرة ورأسه العارية يكتب بقطعة من البوص على شكل القلم فوق عظمة حيوان، بعد أن يغمسها في سائل ملون، وقد رشق قلمًا آخر بين إصبعين في قدمه اليمنى الممددة أمامه.

– تصوروا! قائمة الممنوعات التي وضعها السلطان سعيد: التدخين، ركوب الدراجات، كرة القدم، فتح مطعم، قص الشعر، ارتداء الحذاء، امتلاك راديو، الهجرة.

حكى لنا كيف بدأ أبوه التجارة في عمان ثم أفلس فانتقل بتجارته إلى عدن، وفي أثناء الحرب بين إندونيسيا واليابان سمع عن ثمانية آلاف طن سكر معروضة للبيع في سومطرة بثمن بخس، فاشتراها واتفق مع مركب صيني من هونج كونج على نقلها. ومرت ثلاثة شهور دون أن يظهر السكر الذي انعدم تمامًا من السوق اليمني، ثم وصل المركب في أحد الأيام وتم تفريغ شحنته في الليل، وفي الصباح كانت قد بيعت عن آخرها وحقق منها مكسبًا خياليًّا.

تدخلت أخته في الحديث لتصف لنا كيف تضاعفت أرباح أبيها بعد ذلك عندما احتكر شراء الجلود والبن من المزارعين الصغار لينقلها إلى الحديدة فوق الجِمال، وبيعها إلى تجارها كي يصدروها عبر الميناء.

ولا زلت أذكر كيف توقفت عن الحديث ونظرت إليَّ باستنكار قائلة: هل تعرف كم يكسب أبي؟ إنه يشتري من المزارعين المائة كيلو من البن بعشرين ريالًا، ثم يبيعها لتجار الحديدة بمائة.

سألت في سذاجة: وماذا يجبر المزارعين على أن يبيعوا له؟

فضحكت: الواحد منهم لا يستطيع الانتقال بنفسه إلى الحديدة ليبيع محصوله، وهو أيضًا مدين لأبي من قبلُ؛ ولهذا يضطر إلى البيع بهذا السعر البخس. القصة نفسها في عمان. كل إنسان مجبر على أن يشتري من دائنه؛ ولأن صاحب الأرض مدين لتاجر الجملة تجده يبيع له بخسارة فادحة. والتاجر الصغير مدين للتاجر الكبير، وكذلك تاجر التجزئة مدين لتاجر الجملة، أما المواطن العادي فهو مدين لهم جميعًا.

لم أعجب للهجة العداء لأبيها التي ظهرت في أحاديثها. فقد كنا كلنا نتبارى في السخرية بآبائنا وتخلفهم أو جهلهم أو قسوتهم وعدم إنسانيتهم. وكثيرًا ما شاركت في هذه الأحاديث مستنكرًا الحب المفرط الذي يحمله أبي لي، منتهزًا الفرصة لأحكي كيف قضى ليلة شتوية كاملة خارج مركز الشرطة الذي حُجزت به عندما اشتركت في إحدى المظاهرات المعادية. أو كيف اكتشف المخبأ الذي أودعت به نسخة من البيان الشيوعي وأخرى من «كتيب كيف تكون شيوعيًّا حقًّا» لفيلسوف الثورة الصينية ليوتشاو شي، وأراد أن يحرقهما فهددته بالقتل إن فعل.

غادرت المنزل تلك الليلة في حالة غريبة من السعادة. وتذرعت بأمر ما لأذهب إليهما بعد يومين، حيث وجدت صديقي قد سبقني.

في منزل يعرب وجدت الجو الأسري الذي حرمت نفسي منه: كان مسكنًا نظيفًا مرتبًا عامرًا بأصناف الطعام البيتي التي تتولى أمره شغالة مصرية، وبالفاكهة وعلب السجاير الأجنبية. وكان كل منهما يحصل على منحة شهرية من الحكومة المصرية مقدارها تسعة جنيهات في الشهر، ويتلقيان مبالغ إضافية من أبيهما، ولهذا كانا في مصاف الأثرياء بالنسبة لنا، وعلى الرغم من بساطة مسكنهما فإنه كان لا يقارن بالمنزل الذي قضيت فيه طفولتي، والذي ظلت محتوياته تتناقص بالتدريج حتى لم يتبقَّ به في النهاية غير فراشي المعدني الصغير الذي تفككت ملته وهبطت في المنتصف حتى أوشكت أن تلمس الأرض بالإضافة إلى فراش أبي الحديدي الكبير وخزانة رخيصة يتعسر إغلاق مصراعيها وكنبة خشبية تمرح الصراصير في جنباتها وعدة مقاعد متهالكة.

على أن أهم ما كان يميز مسكن يعرب هو بالطبع أخته. كانت تصغره بعامين لكنها كانت أكثر منه وعيًا. وعندما تعلق على قول ما كان ينصت إليها في اهتمام. وقبل أن يبدي رأيه في أمر من الأمور ينظر ناحيتها بشكل تلقائي وإن كانت نظراته تستقر دائمًا على صدرها، وكنت أنا وزميلي الذي عرفني به نتظاهر بأننا مهتمان بالمناقشات السياسية والفكرية معه بينما كان اهتمامنا الحقيقي منصبًّا على أخته، ولعلها كانت أول فتاة في حياتنا نجالسها بحرية وحميمية. وكانت البهجة تشع في كياني عندما يقع نظري عليها ويجتاحني اليأس إذا لم أجدها. وكانت من جانبها ترحب بنا وتستحثنا على الزيارة. ولم نكن وحدنا الذين نتردد عليهما. فقد التقينا لديهما بالعديد من الطلاب العرب الذين لم يخفوا اهتمامهم بها.

كان شتاء ذلك العام قاسيًا، فكنا نتردد عليهما تقريبًا كل ليلة، ونجلس حول المدفأة الكهربائية في الصالة فوق فوتيات حديثة ذات أرجل انسيابية وقماش مزركش، أو نحملها إلى غرفة يعرب ونتجمع فوق فراشه العريض أسفل الأغطية نشرب الشاي ونستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، أو نشتبك في نقاش نحرص على إبعاده عن نقاط الاختلاف، فنسخر من حزب البعث وحديثه عن الرسالة الخالدة للأمة العربية التي تظهر بأشكال متجددة في مراحل التاريخ وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، ومن زعيمه ميشيل عفلق الذي استكتبه الدكتاتور السوري حسني الزعيم تحت ضغط المسدس تعهدًا بالتوقف عن النشاط السياسي.

خلال ذلك كنت أرهف كل جوارحي لإيماءاتها وخلجاتها، متلمسًا أي إشارة لعلاقة خاصة بينها وبين أحد المترددين على المنزل، متمعنًا في تلك النظرة الغامضة التي تطل من عينيها، والتي كانت تبدو أحيانًا متسائلة وأحيانًا أخرى ساخرة وأحيانًا ثالثة متحدية، وقد أتلعت رأسها وتضرجت وجنتاها سواء بفعل الحرارة المنبعثة من المدفأة أو بفعل النظرات المسلطة عليها، فإذا ما التقت عيوننا تدافعت الدماء إلى وجهي وحولت نظري عنها. وفي نهاية السهرة أعود إلى غرفتي حاملًا طيفها معي إلى أن آوي إلى فراشي، وعندئذٍ أنحيها جانبًا وأغرق في طوفان من الحمى الجنسية لا مكان لها فيه.

كانت فترة كالحلم، وككل الأحلام، انتهت.

ففي أحد الأيام وجدت لديهما شابًّا أردنيًّا قادمًا لتوه من بيروت يُدعى شهاب. كان وسيمًا بالغ الاعتناء بملبسه. كان يدرس بالجامعة الأمريكية ويتردد عليهما باستمرار عندما يزور القاهرة. كشف عن انتمائه لجماعة «القوميين العرب» وعرض علينا أفكارها التي بدت لي غامضة وساذجة مصوغة في كلمات فخمة وفضفاضة تحت شعار «وحدة، تحرر، ثأر». انبريت لمناقشته لكني لحظت أنهما يصغيان إليه في احترام. كان هذا وحده كافيًا لأن يثير قلقي، ثم تزايد القلق عندما لاحظت أنه يشترك معها في الحرف الأول من اسمها. وبدا لي ذلك نذيرًا بالشؤم. لكني لم أكن مستعدًّا لما حدث بعد قليل؛ إذ انسحب الاثنان، شهلا وشهاب، إلى غرفة أخرى.

بدت على يعرب علامات التوتر وواصل الحديث بذهن شارد. وكنت متوترًا مثله، وقد تركز اهتمامي على تلك الغرفة. كنت أعرف أن بها مكتبًا خشبيًّا ومقعدين وكنبة صغيرة، وكان بابها مواربًا لكني لم ألتقط صوتًا يمكنني من تبيُّن ما يجري داخله.

أشعلت سيجارة بأصابع مرتجفة. ودخنت عدة سجائر على مدى أكثر من ساعة قبل أن يظهر الاثنان. بدا شهاب كما لو كان مستيقظًا لتوه من إغفاءة هنيئة وفي عينيه نظرة حالمة وعلى شفتيه ابتسامة رضاء. نقلت البصر إلى شهلا التي جاءت في أعقابه. كان وجهها موردًا ويداها مضمومتين أمامها. وعندما غادرتهم في تلك الليلة كنت موشكًا على البكاء.

تكرر ذلك المشهد عدة مرات. في البداية عللت الأمر لنفسي بأن هناك عملًا سياسيًّا ما بين الاثنين. وبالتدريج أيقنت أن ما يربط بينهما لا علاقة له بالسياسة.

كنت أعاني في صمت. وأتابع في تلذذ شرير مظاهر العلاقة بينهما: كيف تستقبله عندما يصل في وجودي. وكيف تودعه إذا انصرف قبلي، وأحيانًا كنت أتعمد الذهاب في مواعيد مختلفة أثناء النهار متذرعًا بأي حجة لأتبين وجوده من عدمه. كنت محاصرًا لا أدري ماذا أفعل، سعيدًا فقط بأن أراها دون أن أجرؤ على مفاتحتها بحقيقة مشاعري.

وذات يوم استقبلنا يعرب منفعلًا: تصوروا! بدأت الثورة في عمان!

كان ربيع ٥٧ ساخنًا للغاية. في مصر كان يجري الاستعداد لأول انتخابات ديموقراطية بعد الثورة. وفي الجزائر كانت المقاومة ضد الفرنسيين تدخل مرحلة حاسمة، وفي الأردن اضطر الملك حسين تحت الضغط الشعبي والقومي إلى طرد الجنرال جلوب باشا الحاكم الفعلي الإنجليزي وجرت انتخابات ديموقراطية أتت بحكومة وطنية، لم يلبث أن انقلب عليها، وكان رد فعل حركة القوميين العرب عنيفًا بتنفيذ سلسلة من عمليات تفجير القنابل.

ولم تكد حرارة الصيف تشتعل حتى تلقى العمانيون رسالة من الإمام غالب تعلن الجهاد وتدعوهم إلى العودة إلى الوطن لتحريره من سلطان مسقط والنفوذ الإنجليزي.

وما لبثت دعوة الإمام غالب أن انتشرت، وسلمت له المدن الرئيسية وعلى رأسها نزوى، وحوصر السلطان في مسقط فاستنجد بالإنجليز. دخل هؤلاء المعركة وهاجموا قلعة نزوى وقصفوها بالطائرات، فاضطر المجاهدون — كما كانوا يسمون أنفسهم — إلى مغادرتها والالتجاء إلى الجبل الأخضر، وأبلغنا يعرب بسقوط نزوى وهو يكاد يبكي، واتخذ قراره بالسفر فانهار الحلم. إذ تقرر أن تنتقل شهلا إلى بيت الطالبات.

طار أولًا إلى البحرين ومنها إلى دبي، ثم واصل الرحلة بالسيارة حتى مسقط حاملًا معه كمية من الأدوية التي يحتاج إليها المحاصرون، وظللنا نتابع أنباءه من خلال رسائل متقطعة يبعث بها إلى أخته التي كنت ألتقي بها في انتظام رغم الصعوبات؛ إذ كانت هناك قيود على الزيارات وعلى خروجها من بيت الطالبات في المساء. كنا نلتقي في العصاري بميدان المساحة القريب ونقترش حديقته الواسعة المرتبة. وأحيانًا لا تأتي إذا كان شهاب في القاهرة، لم أسألها أبدًا عنه كأنما أردت إلغاء وجوده بالتجاهل التام، وكانت تطلعني على رسائل يعرب التي تروي أخبار المعارك والبطولات. ولم تغِبْ عن ذاكرتي قصة رواها عن امرأة عمانية قُبض على زوجها بتهمة مساعدة الوطنيين، وفي الليل فوجئت بدخول ضابط إنجليزي عليها، فهجمت عليه بسكين وصرعته بطعنتين ثم هربت في الظلام.

وفي إحدى الرسائل ذكر لنا ما تردد من أن صلاح سالم — أحد زملاء عبد الناصر الذي اشتهر باسم الصاغ الراقص عندما زار جنوب السودان ورقص شبه عارٍ مع قبائله — قد وصل إلى الجبل الأخضر ليقود الثورة. وقال إن الإنجليز صدقوا الإشاعة وبحثوا عنه في كل مكان.

كانت الرسائل غير منتظمة يحملها المسافرون أو تنظم وصولها المخابرات المصرية. لكننا كنا نجد وسيلة لمتابعة الأخبار عن طريق إذاعة صوت العرب التي كانت تخصص ركنًا لعمان مساء كل خميس، وكنا نشعر بالنشوة عندما نتخيل الجالسين في جبال عمان وهم يستمعون إلى نداءات أحمد سعيد الحماسية التي تنادي العرب من المحيط إلى الخليج، وكان يعرب قد أكد لنا في رسائله أن هذه الإذاعة تُسمع جيدًا في قمم الجبال، وكثيرًا ما تحمل إليهم أنباء المعارك الدائرة في أطرافها.

كانت شهلا تستمع معي وقد تورد وجهها وشردت عيناها والتمعتا بضوء غريب. وعندما ينتهي البرنامج العماني كنا نستمر في جلستنا وتحدثني عن طفولتها. ومن هذه الأحاديث تكوَّنت لديَّ صورة عن مدينة صنعاء التي نزح إليها أبوها وشبت بها: الأسوار الطينية التي تزينها الأبراج من كل جانب وتتخللها أبواب تقفل في الليل. البيوت الشاهقة المتلاصقة المغطاة بالزخارف والنقوش البيضاء وتعلوها المنارات. النوافذ الواسعة العالية المكونة من مصاريع خشبية بعقود من الزجاج الملون الثابت الذي يعكس أشعة الشمس، الأسواق التي تحوي كل شيء من ترامس يابانية وأقمشة هندية وسورية وخزف تشيكي وأدوية إيطالية. الميدان الكبير الذي تتصدره صورة الملك أحمد محاطة بأنوار النيون. أصحاب الحوانيت الذين يتركونها مفتوحة في الظهيرة وينطلقون للصلاة في المسجد وقد سربلوا أكمامهم الطويلة لوقاية أيديهم التي طهروها للتو. وبعد الصلاة يتأخرون في المساجد لأن المقاهي ممنوعة، فيتبادلون الأخبار ثم يذهب الأغنياء لشراء القات ويئوبون إلى منازلهم من أجل التقييلة وتخلو الشوارع.

وذات مرة شرحت لي حكاية القات وكيف أنه شجرة صغيرة ذات أوراق خضراء لها خاصية منبهة، ويقبل اليمنيون على مضغها وتخزينها في جوانب أفواههم ساعات كاملة في مجالس خاصة بالرجال يشعرون خلالها بالسعادة.

سألتها إن كانت قد ذاقته، فضحكت قائلة: طبعًا. النساء أيضًا لهن مجالس يذهبن إليها في كامل زينتهن. الأحمر للشفاه والخدود والأظافر، والكحل للحواجب والجباه وتحت الفم، أما اليدان والقدمان فتزينهما جدائل سوداء في شكل أكاليل من الزهور. تخلع كل قادمة ملاءتها وحذاءها ثم تدخل وتتبادل تقبيل الأيدي مع الجالسات. وتكون النوافذ مغلقة بالستائر والعقود الزجاجية تضيء الحجرة، ثم يبدأن بالتدخين وتخزين القات وبعد ذلك يأتي دور الرقص، فيفسح المجال في الوسط لمغنية تحمل دفًّا وتنهض إحدى النساء وتمد يدها إلى أخرى تدعوها إلى الرقص معها.

قلت: أنتم إذن شعب سعيد.

ضحكت ساخرة: أنت لم ترَ أحد المناظر المألوفة في المدن: رجل يجر الأصفاد في قدميه ويسير في الشوارع. فيكفي أن يكون لأي إنسان نفوذ ما ليأمر بتكبيل من لا يعجبه بالقيود الحديدية أيامًا أو شهورًا يواصل الأخير أثناءها أعماله العادية. وفي معظم الأحيان يكون عبدًا يعاقبه سيده.

كان ذكر العبيد أمرًا مثيرًا لشخص مثلي لم يصادفهم في حياته القصيرة فاستوضحتها، قالت إن في حرض بشمال اليمن سوقًا للرقيق يمكن أن يشتري فيه الواحد آدميًّا بألف ريال. وروت لي كيف أن سفير السعودية طلب من أبيها أن يساعده في شراء جارية بيضاء من أحد أمراء صنعاء ليقدمها هدية لسيده. ونجحت وساطة أبيها وجرى التنفيذ في منزله. وشاهدت شهلا من خصاص الباب كيف أجرت طبيبة أجنبية فحصًا للجارية التي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وكيف قاومت الفتاة الفحص الطبي إلى أن أخضعها الأمير.

لاحظت أنها تتجنب الإشارة إلى أمها، فسألتها عنها، وإذا بملامحها تتبدل وتقسو. أجابتني في اقتضاب إنها ماتت، ثم أضافت بعد لحظة: كانت حاملًا للمرة العاشرة. المرة الأولى كانت عقب زواجها مباشرة في الرابعة عشرة من عمرها. كانت تشكو من متاعب في منطقة الحوض منذ ولدتني، وحذرها الطبيب من الحمل والولادة لكن أبي لم يعبأ. ظلت تحمل ثم تلد جنينًا ميتًا، وفي المرة العاشرة أحضر أبي طبيبًا إيطاليًّا من تعز لرؤيتها. كان يجب أن تشهد هذا المنظر؛ الطبيب يصعد الدرج وخلفه المترجم وأمامه شاب يردد: الله … الله، تنبيهًا للنساء حتى يبتعدن … أبي فوق إلى جوار أمي وباب الغرفة موارب ويقف خلفه مترجم، ثم تبدأ الأسئلة بصوت خافت؛ إذ لا يجوز للمرأة الفاضلة أن تسمع إلا صوت زوجها وألا يسمع صوتها غير زوجها: ينطق الطبيب بالإيطالية، ويترجم المترجم لأبي الذي يهمس بالسؤال في أذن زوجته ويتلقى منها الجواب ويبلغه للمترجم الذي ينقله للطبيب. وبعد قليل أفتى الطبيب بضرورة الجراحة، وفعلًا أُجريت العملية وولد الطفل وسعد الجميع إلا أمي التي قضت الأيام التالية مستلقية غير مكترثة إلى أن توفاها الله.

كنت بعد أن أتركها أمشي طويلًا على شاطئ النيل دون أن أعبأ بالشقوق المنتشرة في حذائي وأنا أستعيد كلماتها وإيماءاتها، مفتشًا بينها عما قد يكشف عن عاطفة خاصة إزائي. ويغشاني الأسى العميق عندما تتناهى إلى سمعي أغنية لعبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ. كم من السجائر دخلت في استغراق وأنا أستمع إلى أغنيات «ظلموه» و«أهواك» و«أسمر يا أسمراني»، أو وأنا أشكو لأحد أصدقائي حبًّا بغير أمل.

في هذه الأثناء تكللت مباحثات الوحدة بين المنظمات الشيوعية المصرية بالنجاح، وأُعلن مولد الحزب الواحد في ٨ يناير ٥٨. وبعد شهر واحد أُعلنت وحدة مصر وسوريا وطار عبد الناصر إلى دمشق حيث حملت الجماهير سيارته. وتلاحقت الأحداث؛ في شهر يوليو سقط النظام الملكي في العراق وانهار حلف بغداد في ثوانٍ بعد أن استولى عبد الكريم قاسم على السلطة. وبدا حلم الدولة العربية الكبرى على وشك التحقق. كان عبد الناصر في عرض البحر عائدًا من زيارة ليوغوسلافيا، فعاد أدراجه إليها وطار منها إلى موسكو، وقد أدرك خطورة الموقف الذي وصل إلى درجة الانفجار، وبالفعل قام الأمريكيون في اليوم التالي بإنزال مشاة بحريتهم إلى لبنان.

لكن الخطورة الحقيقية جاءت من ناحية أخرى.

فقد أدارت الانتصارات المتلاحقة رأس عبد الناصر، خاصة بعد أن نجح في أن يفرض على سوريا مفهومه عن الديموقراطية، وتمكن من تصفية التحالف المؤلف من البعثيين والشيوعيين. وبدوره آمن عبد الكريم قاسم بأنه الزعيم الأوحد. وتخاصم الزعيمان فانطلقت إذاعة صوت العرب تدعوه بقاسم العراق، واستغل الإنجليز والأمريكان الفرصة بذكاء من خلال أنصارهم من المستشارين المحيطين بالزعيمين والصحفيين المغامرين (أمثال مصطفى وعلي أمين) في الحيلولة دون أي محاولة للمصالحة.

وانجرف الشيوعيون إلى المعركة.

في العراق أشفق الشيوعيون الذين قاموا بدور رئيسي في إسقاط النظام الملكي أن يُحرموا من حقهم في الوجود الشرعي، إذا نجح عبد الناصر في فرض مفهومه للوحدة على العراق، وهو المفهوم الذي يقوم على اعتباره هو شخصيًّا القوة السياسية الوحيدة الفاعلة؛ لذلك ساندوا عبد الكريم قاسم وانجرفوا إلى الحملات الموجهة ضد عبد الناصر وعقليته الانفرادية. ووجد هذا الموقف صدًى له في صفوف الحزب الشيوعي المصري الذي لم تمضِ على توحيده سوى بضعة شهور.

كان شيء مثل الذي فعله عبد الناصر عندما تحالف مع البعثيين ضد الشيوعيين السوريين توطئة للتفرغ بعد ذلك للأولين، يجري داخل صفوف الحزب الوليد. فلم يتمكن المتحدون من إزالة العداوات الشخصية التي ولدتها صراعات دامت منذ الأربعينيات، ولا تمكنوا من الاتفاق على خط سياسي واحد، لهذا تكتل تياران رئيسيان من أجل تصفية التيار الثالث. وبسرعة صار الموقف من عبد الناصر محل الخلاف السياسي، ولم يلبث الحزب الوليد أن انقسم من جديد إلى حزبين، واحد يساند القوى الديموقراطية في العراق وسوريا دون تحفظ، والثاني يؤيد عبد الناصر ويدعو إلى المصالحة بين القوى الوطنية لمواجهة المخاطر الاستعمارية.

في هذا الجو عاد يعرب فجأة من عُمان.

وعندما التقينا في الشقة التي استأجرها من جديد مع أخته راعني التغير الذي طرأ عليه. وجدته جالسًا في الشرفة وأمامه زجاجة بيرة وبجوارها علبة المارلبورو العتيدة. بدا واجمًا عازفًا عن الحديث ولم يلبث أن حدثنا عن صعوبة الحياة في الجبل الأخضر وانتشار الأمراض وعدم وجود طبيب أو دختر كما يسمى هناك. قال: تصوروا أننا نخرج الرصاصة من جسم المصاب بالحبال!

وأضاف مبتسما بمرارة: نضع الحبل مكان الجرح ونمرره داخله حتى يصل إلى الرصاصة ثم نسحبه فيخرج بها، وطبعًا ينجم تسمم عن ذلك.

روى لنا في تلك الأمسية قصصًا لا تُصدق عن سذاجة المجاهدين. كان بعضها أقرب إلى النكتة. مثل ما حدث عندما ترددت إشاعة بأن الميجور ووترفيلد القائد الإنجليزي لقلعة نزوى صرح بما معناه: إذا كان الثوار جدعانًا فلماذا يتحصنون بالجبال، لماذا لا يأتون إلى نزوى ويواجهونه؟ وعندما بلغ هذا التصريح أسماع المجاهدين سارع خمسة من زعمائهم بمغادرة الجبل وانطلقوا إلى القلعة عازمين على اقتحامها والوقوف أمام الميجور الإنجليزي ليقولوا له: ها نحن قد جئنا يا ميجور فافتح الباب! فإذا فعل قضوا عليه وإذا لم يفعل سجلوا عليه جبنه وجبن حرسه!

وعاد المجاهدون الخمسة من رحلتهم ليروا أنهم طرقوا باب القلعة، فلم يستجب لهم أحد، فضاعفوا الطرق، وهنا وصل إلى سمعهم صوت الميجور يصرخ في الحرس: لا تفتحوا البوابة لأي إنسان، ما دامت مغلقة فنحن في أمان. وأخيرًا قرر المجاهدون الخمسة الانصراف، فصاح أحدهم مخاطبًا البوابة المغلقة: يا عقيد القلعة قل لسيدك إننا جئنا فلم يخرج لنا!

تمالكت نفسي كي لا أنفجر ضاحكًا بينما مضى يعرب في حزن: الإنجليز هاجموا البيوت والطائرات خزقت (أي ألقت قنابلها) فوق كل مكان. حتى منابع المياه قُصفت بالقنابل والتجأ الجميع إلى الكهوف. لكن الإنجليز تمكنوا من إسقاط جنودهم فوق الجبل ونجحوا في احتلال قسم منه بإرشاد جندي كان مع جيشهم في كينيا وانضم إلى المجاهدين. وتمكنوا من اعتقال بعض الزعماء فوضعوهم في زنازين تحت الأرض بقلعة الجلالي وأحرقوا بساتين الآخرين ونسفوا منازلهم وصادروا أملاكهم.

أذكر أنه صمت طويلًا ولم نجرؤ على مخاطبته بينما كانت شهلا تحدق في الفضاء، ثم تحولت إليه وقالت في سخرية: وهرب الباقون.

شعرت أنها تواصل حديثًا سابقًا معه. وقال هو في اضطراب: لم يبقَ إلا القليل من المجاهدين في الجبال فقد نجا كثيرون بأنفسهم وفروا إلى الدمام والكويت والبحرين.

قاطعته شهلا، أو جاءوا إلى القاهرة.

أضاف في حمية مفاجئة: أنا لم أهرب. لقد جئت برسالة إلى السلطات المصرية طلبًا لدعم عسكري، كما أني مكلف بإعادة تنظيم المجاهدين.

لكن ما شاهدته من سلوكه في الأيام التالية كان يُكذِّب ذلك. فقد كان يقضي معظم الوقت جالسًا في الشرفة مع زجاجات البيرة. التمست له وقتها الأعذار، فقد كانت الأنباء تتوالى من عمان مؤكدة حتمية الهزيمة. ودبَّ الخلاف بين زعماء المجاهدين وانقلب رؤساء القبائل مؤثرين السلامة، بل قام بعضهم بالإرشاد عن مخابئ الثوار وأسلحتهم، وعقب يعرب على ذلك بأن الثورة لم تُخَضْ عن وعي وفهم، وكانت أقرب إلى القبلية، فإذا سكت رئيس القبيلة سكت الجميع.

وما لبث أن انخرط في الصراع الدائر بين الشيوعيين المصريين، كان القوميون العرب يؤيدون عبد الناصر على طول الخط، بل ويدعونه لسحق من أطلق عليهم لقب الشعوبيين، أي أعداء الوحدة الفورية مع العراق. ورحبوا بحل كافة الأحزاب السياسية في سوريا، وشكلوا في الكويت لجانًا لمقاومة الشيوعية. ومن الطبيعي أني توقعت أن يكون موقفه متسقًا مع موقفهم بحكم علاقته الوثيقة بشهاب. لكني فوجئت به يأخذ جانب من كنا نسميهم باليساريين الذين رفعوا شعارات تساند عبد الكريم قاسم وتدعو عبد الناصر إلى الاقتداء به. ولم تفرق أقفال الحديد التي لوح بها هيكل مهددًا في مقاله الأسبوعي بين يمين ويسار. ففي الساعات الأولى من أول أيام العام الجديد — ٥٩ — كان الجميع، بما فيهم أنا، مقبوضًا عليهم وفي الطريق إلى السجون والمعتقلات. وكان ذلك آخر عهدي بيعرب وأخته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤