الفصل الرابع

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢

١

«إن الخلاص الكامل والأبدي لكافة كائنات الكون أجمع، سيتم إذا ما أنشدت البشرية جميعًا وبقوة: نام – مياو – هو – رن – جي – كيو.

إن النمو الروحي السلس واللامحدود لكافة الكائنات في الكون أجمع، الظاهر واللامرئي، لن يتحقق إلا إذا تلقت البشرية كلها اﻟ «نوكو-دو» أمام تيان تان. الخادم المقدس لتيان تاو».

انتهى الإعلان التليفزيوني بأن رفع المذيع كتابًا يحمل هذا العنوان: «أربع خطوات نحو السلام التام، المؤلفات المختارة للبروفسور الدكتور هيلساتو كي كوماكي».

أعجبني إيقاع الكلمات الآسيوية وذكرني بالإعلانات التي ألفناها في السبعينيات للزعيم العظيم كيم إيل سونج «الشمس المشرقة فوق كوريا الشمالية».

فتحت علبة البيرة التي زودني بها جوهر وتخيلت شفيقة أمامي لكي أقول لها وأنا أجرع المنكر: مياو.

كنت منفردًا بالمنزل أنتظر عودتها مع فتحي لنتناول طعام الغذاء الذي تبرعت بالمساهمة في إعداده.

انتهيت من طهي الأرز ووضعت صينية بطاطس بالطماطم والبصل في الفرن ثم عدت إلى الصالة، فاسترخيت في المقعد التليفزيوني وأمامي علبة البيرة. أدرت التليفزيون ومضيت أتنقل بين القنوات. واحدة عربية، أخرى من الإمارات، ثم بي بي سي، وأخرى إنجليزية من هونج كونج. وانتهى بي المطاف عند قناة غربية تقتصر على الأغاني.

دقَّ جرس التليفون فرفعت السماعة المتنقلة إلى أذني. كررت كلمة آلو دون أن يرد عليَّ أحد، أنصت لصوت أشبه بالتنفس ثم انقطع الخط، فأعدت السماعة مكانها.

تناولت أحد مجلدات «موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب» المصفوفة في خزانة التليفزيون، قرأت الكلمات المدونة على ظهر الغلاف والتي تصف الموسوعة بأنها «تجربة فريدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي الحديث»، وتتمثل في جمع وتوثيق وتسجيل الأسماء العربية المتداولة وتحقيق أصولها ونشأتها وتطورها. وتعرضت الكلمة الموجزة إلى الفائدة العملية للموسوعة بالنسبة للمواطن العادي. فقالت إنه سيعرف بفضلها لماذا يسمى ابنه زيد أو عمرو.

قلبت صفحات المجلد الذي يضم حرف ش بحثًا عن اسم شفيقة، ولم يقدر لي أن أتوصل إلى أصل اسمها، إذ دقَّ جرس التليفون فرفعت السماعة، تكرر ما حدث معي في المرة الأولى فأعدتها إلى مكانها، وبعد قليل دق مرة ثانية فتأملتها دون أن أحرك يدي. استمر الرنين مدة طويلة وأخيرًا رفعتها فجاءني صوت غريب: السيد رشدي؟

– أنا هو. من يبغيه؟

– أنت لا تعرفني. هناك موضوع هام أريد أن أراك بشأنه.

كان المتحدث عمانيًّا في الأغلب رغم محاولته تقليد اللهجة المصرية.

قلت: أي موضوع؟

– لا أستطيع الحديث في التليفون. الأفضل أن نلتقي.

فكرت لحظة ثم قلت: تفضل عندي.

– لا. أفضل أن نلتقي في الخارج.

قلت: أين؟ أنا لا أعرف البلد.

قال: يمكن أن نلتقي أمام المدخل الرئيسي لمسجد قابوس. فهو ليس بعيدًا عن منزلك. عشر دقائق على الأقدام.

قلت: متى؟

قال: عند صلاة الظهر.

قلت: وكيف سأتعرف عليك؟

قال: أنا الذي سأفعل. ما رأيك؟

ترددت في الإجابة فقال: الموضوع يهمك.

قلت: أوكي.

قال: هناك شيء مهم. أرجوك ألَّا تخبر أحدًا بهذا الموعد. ولا حتى قريبك.

ترددت مرة ثانية فأضاف: الظهر إذن.

انقطع الخط ووضعت السماعة في بطء. تناولت علبة البيرة فأتيت على رشفتها الأخيرة ثم وضعتها في كيس بلاستيكي ودستها أسفل المقعد وعدت إلى الموسوعة. واصلت البحث عن اسم شفيقة دون جدوى.

نهضت بمجرد أن ترامى إلى سمعي صوت الأذان، فجذبت الكيس وغادرت المسكن. ألقيت به في أول صندوق قمامة صادفني. وسرت حتى مبنى الغرفة التجارية الذي يقع على ناصية شارعين. انحدرت في الشارع الذي يمر فوق الوادي حتى بلغت سينما بلازا ومطعم كنتاكي. واصلت السير حتى أول ناصية فانحرفت يمينًا ورأيت المسجد على مقربة.

كان المصلون ما زالوا يتوافدون وبينهم كثير من الهنود والباكستانيين. ولم يعبأ بي أحد منهم. وتذكرت ضجة القاهرة عندما سمعت سائق ميكروباص ينادي بأعلى صوته: بوشر. بوشر.

انتظرت مدة أمام المدخل دون أن يقترب مني أحد، وعندما انصرمت نصف ساعة قررت الانصراف. مضيت في الشارع حتى نهايته، فمررت بعدة مبانٍ حكومية تلتها السفارة اليمنية إلى أن بلغت تقاطعًا رئيسيًّا فاتجهت يمينًا، وقمت بجولة واسعة حول المنطقة قبل أن أعود إلى المنزل.

وصل رنين جرس التليفون إلى سمعي وأنا أضع المفتاح في قفل الباب. وتوقف بمجرد دخولي ولم يلبث أن تكرر بعد لحظات.

جاءني صوته معتذرًا: جئت لكني لم أتمكن من الحديث إليك. سأشرح لك الأمر عندما نلتقي.

قلت: ليس عندي وقت لهذه الألاعيب.

قال: معلهش. تحملني قليلًا.

قلت: ألا تظن أن المسألة زادت عن حدها؟ إذا كنت تريد أن تراني تعالَ البيت.

قال: جربني هذه المرة. إنها الأخيرة. ولن تندم.

تنهدت في استسلام فسألني: هل ستخرج غدًا؟

قلت: ربما.

سأل: متى ستخرج لو فعلت؟

– ليس قبل العاشرة صباحًا.

– سأكلمك قبلها.

ووضع السماعة.

شممت رائحة غريبة فتذكرت صينية البطاطس. أسرعت إلى المطبخ وأخرجتها من الفرن. تأملت الكتلة السوداء التي طالعتني ولعنت المتحدث التليفوني والموسوعة وشفيقة والبيرة.

ألقيت محتويات الصينية في صندوق القمامة ثم وضعتها أسفل مياه الحنفية. وشغلت هواية المطبخ وفتحت نافذته ثم عكفت على إعداد صينية جديدة.

اعتنيت بعملي هذه المرة فلم أغادر المطبخ حتى نضجت الصينية. وبينما كنت أكشف غطاءها لأتأكد من درجة ملوحتها سمعت صوت ابن عمي وزوجته. حملت حلة الأرز إلى المائدة، وفوجئت بسيدة غريبة ترتدي ثوبًا عصريًّا يكشف عن ساعديها حتى المرفقين، والأهم من ذلك أن شعرها كان عاريًا تم تصفيفه عند الكوافير كما كان هناك أثر مكياج خفيف على وجهها.

سألتها عما حدث، فلم تُعنَ بالرد عليَّ وتبرع فتحي بالإيضاح: قال لها طبيب باكستاني إن الحجاب مسئول عن الصداع، وخيَّرها بين أن ترتديه طول الوقت ولا تخلعه عند النوم كما تفعل، أو تتخلى عنه نهائيًّا كي لا تتعرض لتأثير الهواء المكيف على جيوبها الأنفية.

قالت في تحدٍّ: اخترت الحل الأخير، فالإسلام الصحيح لا يشترط حجاب المرأة.

قلت: يا شيخة. من قال هذا؟

قال فتحي: الأرستقراطيات هن اللاتي يتغطين كاملًا، أما اللاتي من أصل زنجباري فلا يغطين حتى رءوسهن.

أحضرت صينية البطاطس وجلسنا حول المائدة وأنا مستغرق في محاولة فهم فلسفة الأزياء، وانتزعني فتحي من تأملاتي قائلًا إن الفندي، مدير المركز الموسيقي، ينوي دعوتنا للعشاء.

استفسرت شفيقة: في بيته؟

قال: لا. في فندق الانشراح أو نادي الجولف.

قالت: هل سيحضر زوجته معه؟

قال: لا أعرف لا أظن.

قالت: اذهبا أنتما، أنا على أي حال أنوي الصيام.

لم يبدُ عليه الحماس. قال: هذه دعوة ستكلف كثيرًا.

قلت: أليس هو الذي سيدفع؟

قال: لكن لا بد من ردها، وبشكل أفضل. العمانيون كرماء لكنهم يحتقرون من لا يبادلهم الكرم بنفس المستوى أو أكثر قليلًا.

قالت: نصف دَخْلِنا يضيع في الهدايا والمجاملات.

تدخلت في الحديث: ألا يمكن الاعتذار؟

– لا الفندي لا يعتذر أحد عن دعوته، ثم إنها من أجلك فهو يريد أن يتعرف بك.

٢

تلفن في الصباح كما وعد.

قال: ما رأيك في أن نلتقي بعد نصف ساعة؟

قلت: أين؟

قال: في المتحف الوطني.

قلت: أنت نسيت أني لا أعرف البلد جيدًا.

قال: المتحف لا يتوِّه. أنت تعرف مسجد قابوس ومطعم كنتاكي، التقاطع التالي هو دوار رُوي ويمر به شارع قابوس متجهًا إلى المطار. المتحف ليس بعيدًا. ستتبينه بعد أربعة دوارات. خذ تاكسي إلى هناك، وعندما يسألك السائق «انجاج» قل له نعم. لتضمن ألا يشاركك أحد.

استفسرت: ماذا يقول؟

– انجاج. كلمة إنجليزية قمنا بتعمينها. وضحك.

قلت: بعد نصف ساعة إذن.

أنزلني تاكسي انفردت به «انجاج» أمام مبنًى متواضع للغاية، ولجت قاعة واسعة بها تصدرها نموذج لسفينة شراعية قديمة وتحمل جدرانها لوحات للمراحل التاريخية. وأكملت خزانات الصخور وبقايا الأواني الخزفية والملابس والأسلحة صورة مثيرة لتاريخ يمتد إلى ما قبل التاريخ.

خالجني انطباع بأن الخطوة الأولى للحضارة بدأت هنا، وأن عُمان ربما كانت البوابة التي عبر منها الإنسان الأول.

قادمًا من وسط أفريقيا إلى آسيا؟

حقائق أم مبالغات؟

ما ثبت هو أن الجزيرة العربية تعرضت للجفاف قبل الميلاد بعدة قرون، فهاجرت قبائلها إلى عمان. وعندما انهار سد مأرب انضمت إليهم قبيلة الأزد اليمنية. وأقام زعيمها مالك بن فهم مملكة قوية، ربما كانت أول مملكة عربية عرفها التاريخ. واستمرت قائمة إلى أن بعث إليها النبي بعمرو بن العاص يحمل رسالة مكتوبة يدعو أهلها إلى الإسلام فلبوا الدعوة.

كانت الرسالة التاريخية محفوظة في صندوق زجاجي محكم. وبدا الخط — الذي سطره أحد الصحابة — أشبه بالطلاسم. لكن خاتم النبي كان واضحًا: محمد رسول الله.

انقضت نصف ساعة بسرعة دون أن يظهر متحدثي الغامض، فاتجهت إلى الباب وغادرت المبني. وقفت فوق الرصيف أتطلع حولي بحثًا عن سيارة تاكسي، وإذا بسيارة يابانية زرقاء اللون تقترب مني وتقف أمامي مباشرة. كان القائد رجلًا قصير القامة في الملابس التقليدية له وجه حليق شديد السمرة تغلب عليه الملامح الأفريقية. مال على النافذة القريبة مني وفتح لي الباب قائلًا: تفضل.

تعرفت على الصوت لكني لم أتحرك، فابتسم كاشفًا عن أسنان ناصعة البياض: أعتذر مرة أخرى على تأخري. تفضل بالركوب.

– إلى أين؟

– لن نذهب إلى أي مكان. سنتجول قليلًا لنتحدث.

وأضاف عندما لاحظ ترددي: لا تخف. لن تتعرض لأي أذى.

ركبت إلى جواره. وبحركة أوتوماتيكية وضعت حزام الأمان حول صدري.

قال وهو ينطلق بالسيارة في حركة رعناء: على كل حال أعطيتك فرصة لمعرفة التاريخ العماني.

خرج إلى شارع قابوس واتجه في عكس الاتجاه الذي جئت منه وهو يستطرد: هناك خاصية غريبة في هذا التاريخ، ربما بسبب الموقع. فنحن دائمًا مطمع لكل أجنبي.

– ألسنا جميعًا؟

– الأهم من هذا هو أن الأئمة الضعاف كانوا يستعينون دائمًا بالأجنبي ضد منافسيهم، ولو كانوا عربًا مثلهم. استعان أحدهم بالفرس فاحتلوا البلاد. هذا في الماضي البعيد. وفي العصر الحديث برزت قبيلة القواسم في رأس الخيمة وأصبحت قوة بحرية. وخشيهم السلطان السيد سعيد فتقرب من الفرنسيين ثم الإنجليز، وأخيرًا انتبه لقوة الولايات المتحدة النامية، فعقد معها معاهدة في عام ١٨٣٣، وحاول أن يستعين بها للسيطرة على ممباسا.

توقف أمام إشارة مرور، فلزم الصمت إلى أن استأنف السير.

– خاصية أخرى هي قتل الأب، ابن السيد سعيد هذا وخليفته كان اسمه ثويني، فرض ضرائب أثارت استياء السكان وتذمرهم، فاجتذبوا إليهم أكبر أبنائه سالم. وذهب هذا إلى أبيه في الظهيرة، وكان الأب وحيدًا في غرفته مستلقيا فوق فراشه، طلب منه سالم إلغاء الرسوم الجديدة، لكن الأب تمسك بموقفه وبدأ يشرح موجبات وضعها، فما كان من الابن إلا أن شهر مسدسه وأطلق رصاصة على أبيه فقتله … هل رأيت لوحة مالك بن فهم في المتحف؟ هل تعرف أنه لقي مصرعه على يد ابنه؟

لم أكن قد انتبهت لهذه التفصيلة فانطلق يرويها.

– تقول الأسطورة إن أولاد مالك كانوا يتناوبون الحراسة بالليل. وكان سليمة أحبهم إليه، فعلمه الرماية منذ الصغر حتى برع فيها، وأثار هذا الحب حسد بقية الأخوة فدسوا عليه لدى أبيهم. وزعموا له أنه ينام أثناء الحراسة. ماذا فعل مالك؟ قرر أن يختبر دعواهم بنفسه، فخرج متخفيًا ووجده نائمًا على ظهر فرسه، وعندما شعر الفرس باقتراب مالك صهل فانتبه سليمة من نومه مذعورًا ووضع السهم في الوتر ويممه نحو أبيه، وسمع مالك صوت السهم وهو خارج من القوس فهتف به: يا بني لا ترمِ أنا أبوك، فقال الولد: يا أبت ملك السهم قصده. قولة مشهرة تعرفها ولا شك. أصاب السهم مالكًا في قلبه فوقع صريعًا وهو يردد قولة أخرى شهيرة: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني. تعرفها طبعًا.

قصة مؤثرة تدعو إلى التفلسف. قلت: الحياة لا تستمر إلا بقتل الأب.

هز رأسه بشيء من الاستهانة: فرويد.

بلغنا أول دوار في طريقنا فانحرف يسارًا. وبعدها لم أعد أعرف أين أنا، ولحظت أنه لا يكف عن التطلع في المرآة إلى السيارات القادمة خلفنا.

أوشكت أن أبتسم. فمن المؤكد أنه لن يكتشف شيئًا إذا كانت هناك مراقبة ما، سواء من جانب السلطان أو غيره، فعملية التحديثات التي قام بها السلطان لا بد أنها شملت أيضًا فنون التنصت والتتبع والمراقبة.

قلت: ما رأيك في أن نتعارف؟ أنت تعرف اسمي ورقم تليفوني وربما أشياء كثيرة عني، بينما أنا لا أعرف عنك شيئًا.

قال: عفوًا إذا كنت لن أذكر لك اسمي، هذا أفضل، ثم إنه لا أهمية له. بوسعي أن أذكر لك أي اسم، وسوف تدرك بعد قليل سر الاحتياطات التي أتخذها، أنا كنت أمس بالقرب منك كما أخبرتك، لكني لم أغامر بالحديث إليك. كنت أريد أن أتأكد أولًا مما إذا كان هناك من يراقبك. واليوم أيضًا فأنا موجود منذ ساعة هنا.

تذكرت موسوعة السلطان. قلت: سأسميك زيد أم تفضل عمرو؟

ضحك: زيد أفضل. فهو الأكثر انتشارًا في جنوب الجزيرة.

استطرد: كل ما أبغيه هو أن أساعدك في العثور على صديقك.

فوجئت: أي صديق؟

– ذلك الذي تبحث عنه وعن أخته.

– كيف عرفت أني أبحث عن أحد؟ كيف عرفت أساسًا بوجودي؟

ضحك: هذه مدينة صغيرة لا يخفى فيها شيء.

لم أدرِ ماذا أقول فسألته: ولماذا تبغي مساعدتي؟

– لأكسب ثوابًا.

– أتظن هذه إجابة مقنعة؟

– طبعًا لا. لا تقلق. سأذكر لك كل شيء. اسمح لي أولًا بسؤال: ما هي آخر مرة رأيت فيها صديقك هذا أو أخته؟

ترددت لحظة ثم قلت: منذ ثلاثين سنة في القاهرة.

قال وهو يتأملني بإمعان: أليس هذا غريبًا أن تبحث عن شخص لم ترَه منذ ثلاثين سنة؟

فعلًا غريبة، معه حق.

– هل تذكر اسمه الكامل؟

– لا.

– ألا ترى أن هناك غرابة في الأمر؟

– أنت نفسك قلت إن الأسماء لا أهمية لها.

كنا قد اخترقنا عديدًا من الشوارع الجانبية وهو لا يكف عن التطلع خلفه. ولحظت أننا نتحرك في دائرة واسعة حول الطريق الرئيسي السريع.

– وأخته؟

– لم أرَها أيضًا أو أسمع عنها طول هذه الفترة.

– والآن؟

– أريد أن أعثر عليها.

تفحصني بدقة: لماذا؟ لا بد أنها الآن في مثل عمرك؟

لزمت الصمت برهة ثم قلت: ربما كنت أبحث عن موضوع للكتابة. مد يده إلى درج تابلوه السيارة وتناول كيسًا من البلاستيك دفعه إليَّ.

كان الكيس خفيفًا ويحمل شارة محلات «بنيتون، الألوان المتحدة» هممت بفتحه فاستوقفني: ليس الآن، اقرأها في المنزل.

– مجلة أخرى؟

نظر إليَّ متسائلًا: ماذا تعني؟

قلت: هل أنت الذي تركت لي مجلة «صوت الثورة» مع البواب؟

أطلق من فمه صفارة طويلة: وصلوا إليك إذن.

– من هم؟

– ستعرف في الوقت المناسب. ستجد هنا نسخة مصورة من أوراق تهمك. ستجد اسمك فيها. اقرأ ثم نلتقي وأحكي لك كل شيء.

ثم أضاف: لست في حاجة لأن أحذرك من وقوعها في يد السلطة.

كنا قد بلغنا دوار روي، فدار يمينًا وأنزلني قبل ناصية كنتاكي. غادرت السيارة فانطلق على الفور، سرت في اتجاه منزلي وأنا أهز الكيس في يدي اليمنى. تذكرت أيام المنشورات السرية. كانت مطبعة التعليم قد وقعت في يد الشرطة، فاستأجرنا غرفة فوق سطح أحد البنايات في منطقة القبة. وأقمنا فيها مطبعة مؤقتة عبارة عن لوحين من الخشب في حجم مجلد من مجلدات «تاريخ الحضارة» تغطي أحدهما قطعة من القماش الشفاف، وطبعنا أول منشور يعلن التأييد لعبد الناصر بعد عودته من باندونج. ووصف المنشور حكومته ﺑ «الرشيدة» وهو وصف أثار التندر طويلًا، ثم توليت توزيعه على أعضاء التنظيم، وكنت دائم الابتكار في طريقة اللف. فكنت أجمع أكياس البقالة الورقية السميكة وأضع فيها المنشورات وأحملها في الطريق ضامًّا إياها إلى صدري كما يفعل موظف الحكومة عند عودته إلى منزله بعد أن اشترى احتياجات اليوم من خضراوات وفاكهة. فلم تكن الأكياس البلاستيكية قد عُرفت بعد، ولا «بنيتون» وألوانه أيضًا.

هززت الكيس في وجه جوهر، فأعطاني نصيب اليوم من البيرة، ووضعتها في البراد بمجرد دخولي المسكن وجلست في مقعد التليفزيون وأخرجت محتويات الكيس، كانت عبارة عن مجموعتين من أوراق التصوير ثبتت كل منهما بالدبابيس على هيئة كراس. تصفحتهما بسرعة فتبينت أني أمام يوميات بخط واضح جريء، طمست كلماته في بعض المواقع وحملت كل مجموعة تاريخًا باللون الأحمر على صفحتها الأولى، وأشار تاريخ إحداهما وأصغرهما حجمها إلى عامي ١٩٦٠ و١٩٦٥ فقررت أن أبدأ بها.

أعدت المجموعة الثانية إلى الكيس البلاستيكي وحملته إلى غرفتي فدسسته بين طيات قميص في حقيبة السفر. وعدت إلى مقعدي في الصالة. لم تكن الساعة قد تجاوزت منتصف النهار وقدرت أن أمامي وقتًا يسمح لي بقراءة المجموعة الأولى قبل عودة شفيقة من عملها. فلم يكن عندي شك في أن ما بها قمين بأن تصادره السلطة التي أعيش في ظلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤