الفصل السادس

مسقط

ديسمبر ١٩٩٢

أنزلني التاكسي «انجاج» أمام فندق انتركونتيننتال، مضيت من أمام فتاة أفريقية في بلوزة وجوب تحتل مائدة صغيرة في مواجهة المدخل. ألفيت نفسي في مساحة رحبة غير مسقوفة تحف بها من مختلف الجوانب طوابق الفندق. مضيت أستكشف البهو فاستوقفني صانع قهوة افترش وسادة على الأرض. صبَّ لي فنجانًا صغيرًا من دلة نحاسية. ارتشفت القهوة المرة ثم واصلت تجوالي. لمحت شابًّا في الرداء العماني والكمة يتطلع إليَّ باسمًا. بدا وجهه مألوفًا لي ورأيت على صدره شارة تعريف. اتجهت نحوه وانحيت أقرأ ما هو مكتوب على صدره: «وزارة البيئة»، قال: هيا بنا.

قلت: إلى أين؟

وبدا عليه الارتباك وقال: ألست مشتركًا في المؤتمر؟

اتسعت ابتسامته عندما اكتشف الخطأ الذي وقع فيه. وتركته دون أن أدرك ما هو مقدر لي.

كانت ثمة مصعد زجاجي مثبت في الباحة غير المسقوفة، ورأيته يهبط على مهل مقلًّا فتاة أوروبية ذات شعر نافش وثوب قصير، وشيئًا فشيئًا تجلى فخذاها في كامل بهائهما، ممتلئتين في تناسق ومتلامستين تمامًا.

مضيت إلى نهاية البهو بحثًا عن مطعم القرم والسيد جين ميلر. وجدته مغلقًا وأمامه لافتة تحدد موعد العمل في المساء. واصلت السير فألفيت نفسي بعد لحظات أمام حمام السباحة انتشرت حوله الأجساد شبه العارية، الأوروبية بالطبع.

كنت ما أزال تحت تأثير الفخذين المتناسقتين المتلامستين اللتين غطتهما الجوبة إلى منتصفهما فلم تجذب انتباهي أي من تلك الأفخاذ التي تعرَّت تمامًا دون أن تترك شيئًا للمخيلة، ولهذا لم أنتبه إلى المرأة التي اتجهت نحوي فجأة هاتفة باسمي.

كانت جوليا واحدة من الأجانب الذين يترددون على القاهرة بانتظام ويقيمون فيها بعض الوقت بذرائع شتي (مثل البحث العلمي والتحقيقات الصحفية والاشتراك في المؤتمرات) ثم يختفون ويعودون إلى الظهور بعد فترة. كانت تحمل جواز سفر دنمركيًّا وتعرفت عليها لدى صديق لي من الكتاب. أهلت علينا في جلابية بلدية ملطخة بالبقع وطفل رضيع على كتفها. خلعت صندلها عند الباب ثم انضمت إلينا حافية القدمين. بهرتنا بشرتها اللبنية وعيناها الزرقاوان وجسدها الفارع وإجادتها للعربية، فصحى وعامية، بينما نحن نتحدث بكى طفلها فأخذته في صدرها وأخذت تهدهده لكنه واصل البكاء. ففكت أزرار الجلابية وأخرجت ثديًا بضًّا مثل الكمثرى الناضجة ألقمته فم الطفل دون أن تكف عن الحديث ودون أي تحول نظرها عنا كما تفعل أي بائعة خضار في باب الشعرية.

سألتها وأنا أتفحص الغضون الخفيفة التي أحاطت بعينيها الجميلتين: ما الذي جاء بك إلى هنا؟

قالت: ما الذي جاء بك أنت؟

أضافت بلهجتها السريعة وهي تتجنب التقاء عيوننا كعادتها مع كل من تتحدث معه، أنها زارت مقبرة يهودية قديمة على بعد ميل ونصف من صحار، إلى الشمال من مسقط.

علقت متعجبًا: يهود في صحار!

قالت: ويلستد سجل وجود عشرين أسرة يهودية بها في العقد الأول من القرن التاسع عشر. يبدو أنهم عراقيون لجئوا إلى هذا المكان خوفًا من بطش داود باشا حاكم بغداد في ذلك الوقت.

سألت: وهل ما زال أحد منهم هناك؟

– ولا واحد، لم يبقَ من أثر لهم سوى المدفن. لقد رأيت بنفسي على جداره أسماء يهودية كثيرة مثل موسى ويوسف ويعقوب مكتوبة بلغة عبرية.

جذبتني من ذراعي قائلة: ألا تريد أن تتثقف قليلًا؟ تعالَ.

قادتني عبر ممرات إلى قاعة تتصدر مدخلها لافتة تعلن عن مؤتمر دولي لمناقشة أزمة المياه في الشرق الأوسط. كان المؤتمر الذي تقاعست عن حضوره قد بدأ. وجلس حوالي ثلاثين شخصًا أمام منصة اصطف خلفها عدد من المتحدثين بينهم اثنان بالملابس العمانية وأوروبيان فضلًا عن واحد شعرت من ملامحه أنه مصري.

لمحت في الصف الأول الصحفي السعودي يعبث بأزار جهاز تسجيل صغير الحجم، كان المتحدث يستعرض بالإنجليزية الأبعاد المختلفة لمشكلة المياه. وقدرت من لهجته أنه من أبناء الجزيرة التي غربت عنها الشمس.

– الشرق الأوسط ككل يحتاج إلى ضعفي ما لديه من المياه لإطعام سكانه، وهذا يسري على مصر أيضًا حيث إنها تستورد نصف ما تحتاجه من الغذاء. هناك أزمة إذن لكن حلها بسيط في نظري ويكمن في شراء الحبوب زهيدة الثمن من السوق الدولية وليس زراعتها. إنك مثلًا تحتاج ألف طن من المياه لري طن واحد من القمح. إلا أنه من السهل عليك نقل طن من القمح أكثر من نقل طن من المياه.

رفع السعودي يده طالبًا التعليق فابتسم البروفسور الإنجليزي، واستطرد: إن البلدان التي قررت زراعة الحبوب لتأمين نفسها ضد ارتفاع الأسعار مثل المملكة السعودية لم تؤثر في الأسعار. هناك مبالغة وانفعالية في النظر للأمر. لبنان مثلًا يريد الاستفادة من مياه نهر الليطاني لتطوير الإنتاج الزراعي. وإسرائيل تريد من جهتها شراء جزء من مياه لبنان. لكن الوضع النفسي والسياسي السائد يدفع بيروت للتفكير في كيفية استخدام المياه وليس بيعها، على الرغم من أن الطرح الأخير مفيد اقتصاديًّا للبنان، خاصة أن الوكالات الدولية قد لا تتحمس لإقراضها في الحالة الأولى.

لم يتمسك السعودي بالتعليق والتزم الصمت. وخيل إليَّ أن أحدًا لم يستوعب حديث البروفسور الإنجليزي وما به من مغالطة. ومضى المؤتمر على هذه الوتيرة في جو هادئ إلى أن تكهرب فجأة عندما عرض العضو المصري بالمنصة مشروعًا لتحلية مياه البحر يتكلف عدة مليارات، ويتطلب اشتراك دول الشرق الأوسط جميعًا في تنفيذه بما فيهم إسرائيل، كان يدرك الألغام التي يسير عليها، فختم كلمته بهذه العبارة: التعاون وليس التسوية السياسية هو طريق السلام.

طلب أحد الحاضرين من القاعة الكلمة بانفعال وقال بلهجة شامية: حرب ٦٧ وقعت أساسًا حين أرادت إسرائيل تحويل مياه نهر الليطاني، وأسفرت هذه الحرب عن زيادة مصادر المياه العذبة لإسرائيل بمقدار ٢٥ بالمائة من أنهار الأراضي التي احتلتها. وهي تؤكد الآن باستمرار أن أنهارها هي الأردن والليطاني واليرموك، أي أنهار جيرانها، وتطالب في مباحثات السلام بعدم الحديث عما أسمته بحقوق الماضي، أي المياه التي اغتصبتها، فضلًا عن الأراضي، وبأن ينطلق أي حديث من الأمر الواقع.

سكت برهة ليهدئ من انفعاله ثم أنهى كلمته بقوله: إن تجربة نصف قرن من التواجد الإسرائيلي لا تترك مجالًا للثقة في الوعود والاتفاقات، واقتناعي أن أي تعاون لا بد أن تسبقه تسوية سلمية عادلة وليس العكس.

ويبدو أن هذه الانفجارة شجَّعت الحضور فعقب شاب عماني قائلًا: هناك نوع من الإجحاف في توزيع المياه واستهلاكها في المنطقة. الفرد في إسرائيل يستهلك من المياه خمسة أضعاف ما يستهلكه أي فرد من جيرانها، والمستوطنون يملئون حمامات السباحة بالمياه العذبة المسروقة من البلاد العربية.

وقف أحد الحاضرين معلنًا أنه أستاذ جيولوجيا المياه في هيئة الطاقة الذرية المصرية ووجَّه سؤالًا إلى المنصة: إسرائيل حصلت على مليار متر مكعب من المياه الجوفية في سيناء بقيمة ملياري جنيه، وحفرت ٢٠٠ بئر على الحدود المصرية لسحب مليون متر مكعب يوميًّا من مياه خزان وادي الجراض. فما موقف القانون الدولي من ذلك؟

تولى الإجابة خبير هولندي في القانون الدولي فقال باقتضاب: إسرائيل بحاجة إلى كميات من المياه أكثر من تلك التي تمتلكها.

رفعت هذه الإجابة من درجة حرارة الجلسة ولوَّح كثيرون بأصابعهم رغبة في التعليق. لكن منظمي المؤتمر العمانيين سارعوا برفع الجلسة لاستراحة قصيرة، وتقدمت أنا وجوليا إلى مائدة صفت فوقها أصناف البسكويت والمشروبات الساخنة والباردة.

انضم لنا الأستاذ الهولندي الذي يعرف جوليا وقال عندما قدمتني إليه: المصريون حكماء وعرفوا كيف يتبعون سياسة سليمة.

أدركت أنه يقصد ما سمي ﺑ «سياسية السلام»، فقلت: تقصد النظام المصري.

فكَّر برهة في إجابتي ثم استطرد بلهجة تقطر حكمة: الحضور في التاريخ شرطه الاعتراف بالأمر الواقع، إنه القانون الذي لم يدركه الهنود الحمر مثلًا.

قاطعته متسائلًا: من هو الذي اغتصب أرض الآخر ولا زال يحتلها ويرفض …

استوقفني بحركة من يده: الأمر الواقع الآن في صالح إسرائيل. يجب أن تتقبلوا ذلك وإلا كنتم غير علميين وغير واقعيين وخرجتم من التاريخ تمامًا.

فكَّرت وأنا أتطلع إليه أني لو كشطت جلده الأبيض المُدهن لقطر عنصرية. ويبدو أنه التقط أفكاري إذ تجاهلني وطلب عنوانها عارضًا عليها عنوانه. أخرجت من حقيبة يد منتفخة مفكرة ضخمة امتلأت صفحاتها بالعناوين. قلبت صفحاتها بسرعة ثم سجلت عنوانه وأعطته بطاقتها فتناولها وابتعد.

حملنا فنجان قهوة وتنحينا عن المائدة. سألتها عن مشروعاتها القادمة فقالت: ماذا تعرف عن سيف بن ذي يزن؟

قلت: أظن أنه من أبطال الأساطير اليمنية.

تطلعت إليَّ في خبث وابتسمت: هل تعرف أنه يهودي؟

قلت: يا ألطاف الله، ربما أكتشف غدًا أني أيضًا يهودي.

ضحكت: اسمع القصة. قبل الميلاد بخمسة قرون تدهورت مملكة سبأ وقامت مكانها الإمبراطورية الحميرية التي استمر عهدها عشرة قرون حتى القرن الخامس الميلادي. وعندما انهار سد مأرب فرض آخر حكامهم الدين اليهودي على المسيحيين الذين كانوا يتعايشون مع اليهود والوثنيين فقامت حرب أهلية استنجد فيها المسيحيون بإخوانهم في الحبشة التي تمكنت من فرض سيطرتها على البلاد لمدة نصف قرن. إلى أن التجأ سيف بن ذي يزن إلى ملك فارس طالبًا العون في تحرير بلاده. وبالفعل هبطت جيوش الفرس في عدن وطردت الأحباش من اليمن، واقتسم ملك الفرس السلطة مع سيف لفترة قصيرة، ثم انقلب عليه وانفرد بالحكم.

– وهل يعني هذا أن سيف كان يهوديًّا؟

– ما يهمني هو أنه كانت هناك دولة يهودية في الجنوب اليمني في بداية التقويم الميلادي.

– لو ثبت هذا تقع كارثة.

– لماذا؟

– ستطالب إسرائيل بضم اليمن وعُمان إلى أراضيها.

ضحكت وقالت: نكتة. بس ممكن والله. هل تعرف أن جزيرة سقطرى اليمنية كانت مرشحة في سنة ١٩٣٩ لتكون وطنًا لليهود بدلًا من فلسطين؟ من حسن الحظ أن هذا لم يحدث.

قلت: حسن حظ اليمنيين وسوء حظ الفلسطينيين. يمكن لمصر أيضًا أن تطالب بالكعبة أو بضم السعودية.

قالت: كيف؟

– هناك من يزعمون أن عائلة عبد مناف أتت من مدينة منف المصرية. وبذلك يكون الرسول من نسل الفراعنة.

– ولمَ لا؟

نهضت واقفة وهي تقول: أشعر أني ملزقة. سأصعد لآخذ حمامًا.

– والمؤتمر؟

مدَّت يدها وتأبطت ذراعي: تعالَ، أريد أن أتكلم معك.

سألتها عن طفلها فقالت إنه لم يعد طفلًا فهو في العاشرة من عمره الآن.

– معك هنا؟

– لا، مع أبيه في لندن.

أقلنا المصعد الزجاجي إلى الطابق الثالث، وتقدمتني إلى غرفتها بخطوات سريعة وهي تخرج المفتاح من حقيبتها. كان ثمة شيء ملفت في تكوين جسمها ومشيتها وتصلب قامتها يذكر بالعسكر. فتحت الباب وتنحت جانبًا.

قالت: تفضل.

قلت: ليديز فيرست.

أصرت أن أتقدمها وانتظرت حتى تجاوزت المدخل ثم تبعتني وأغلقت الباب خلفها.

استدرت إليها ورأيت عينيها تجولان في أرجاء الغرفة بسرعة وتركيز، ثم خطت نحو الفراش وألقت بحقيبة يدها فوقه ثم تهالكت على حافته. أشارت إلى المقعد المجاور فاتجهت إليه وجلست بعد أن وضعت حافظتي الجلدية على الأرض.

سألتني: ماذا تحب أن تشرب. سكوتش؟

قلت: نحن ما زلنا في بداية النهار.

قالت: وهل هذا يهمك؟ على العموم عندك الميني بار، سأدخل أنا لأستحم.

فتحت خزانة الملابس بحركة سريعة ثم أغلقتها. ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة إلى أن استقرتا على حقيبة يدها، فانحنت وتناولتها ومضت إلى الحمام. ولحظت أنها لم تهتم بإغلاق بابه جيدًا.

مددت ساقي ورفعت عيني إلى النافذة التي كانت ستائرها نصف مسدلة.

خرجت بعد لحظات مرتدية روبًا من الكشمير الأبيض أحكمت إغلاقه بحزام الخصر، وكان شعرها ملفوفا بمنشفة من نفس القماش على شكل عمامة.

جلست إلى جواري على حافة الفراش وطلبت أن أشعل لها سيجارة. جذبت نفسًا عميقًا ثم وضعت السيجارة في المطفأة ورفعت يديها إلى العمامة وفكتها وشرعت تجفف بها جدائل شعرها.

قالت: قل لي ماذا تفعل هنا حقًّا.

لم أتمالك نفسي من الضحك. كان روبها قد انحسر عن ركبتيها واستقرت عيناي على فخذيها ثم رفعتهما إلى وجهها فرأيتها تتأملني في ترقب. كان الفضول وليس الرغبة هو ما دفعني إلى أن أمدَّ يدي وأضع راحتي فوق ركبتها ثم أحركها ببطء إلى أعلى دون أن أحول عيني عن عينيها.

وضعت يدها فوق يدي واحتوتها بأصابع حديدية ثم جذبتها بعيدًا وهي تقول في حزم: من فضلك.

لمحت في عينيها نظرة ظفر، فنهضت واقفًا وأنا أتناول حقيبة يدي: يجب أن أذهب.

وضعت ساقًا فوق ساق فانحسر الروب تمامًا عن فخذيها. قالت: ألن تواصل جلسات المؤتمر؟

قلت وأنا أتجه إلى الباب: ليس عندي وقت … إلى متى أنت هنا؟

قالت وهي تلقي بالمنشفة جانبًا: بضعة أيام.

قلت وأنا أفتح الباب: سأراك إذن. باي.

غادرت الغرفة وهبطت إلى البهو، أدرت البصر حولي بحثًا عن اﻟ «كوفي شوب» فوجدته إلى يسار المدخل. كان خاليًا إلا من أوروبي يقرأ صحيفة إنجليزية باهتمام. أدركت أن فتحي صدقني القول عدما نصحني بالالتجاء إلى هذا المكان إذا شئت الانفراد بنفسي أو الهروب من شفيقة التي لزمت المنزل بسبب إصابة برد. اخترت مقعدًا في ركن منزوٍ وأخرجت من حقيبة يدي المجموعة الثانية من اليوميات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤