الفصل الحادي عشر

جري، وأكل، ونوم، كان هذا هو ملخص يومها.

في ديسمبر، ازدادت هيمنة الظلام أكثر قليلًا كل يوم. بدا أن عالم إيدي بأكمله لا يتضمن سوى المنزل والغابة والطريق الساحلي، وكل ذلك قاتم ورمادي. لكنها كانت تسحب الهواء إلى رئتيها وتجري أسرع وإلى مسافة أبعد: ثمانية أميال، ثم تسعة، ثم عشرة. ظلَّت تجري حتى لم تعُد تقوى تقريبًا على الوقوف. كانت ترهق نفسها لكي تنام في الليل بمساعدة القصص.

في بعض الأحيان، كانت تستمع إلى القصة نفسها، مرارًا وتكرارًا؛ إذ تجد الراحة في سماعها مرة أخرى، لعلمها أنها لا تحتاج إلى متابعة حبكة جديدة، بل تستمع فقط إلى صوتٍ يهدِّئها للنوم. في بعض الأحيان، كانت القصص تتداخل بعضها مع بعض في أثناء نومها. وأحيانًا، كانت تنام وهي تستمع إلى صوت، وتستيقظ على صوت آخر.

هذا ما حدث لها ذات ليلة في أوائل ديسمبر: نامت وهي تستمع إلى رجل أمريكي يروي قصة ظريفة عن عائلة تعيش في ريف كاليفورنيا، واستيقظت، في الساعات الأولى من الصباح، على شيء مختلف تمامًا. صوت امرأة يروي قصة مختلفة، ويرسم مشهدًا مختلفًا. كان الصوت يصف منزلًا منعزلًا ومن خلفه صف من الأشجار، منزلًا حديثًا من الحجر الرمادي والخرسانة، وبه جدار زجاجي مواجه للبحر.

تسارع خفقان قلب إيدي.

وصف الصوت غرفة معيشة مفتوحة حيث توجد مدفأة حجرية، وكان ثمة كوة في المطبخ، بَنَى نورس فضي فوقها عشَّه.

فجأة جلست إيدي منتصبة في السرير. اندفعت يدها نحو هاتفها، لكنها لم تصبه فدفعت بالمصباح الموجود بجانب السرير إلى الأرض. أمسكت بالهاتف، وباستماتة مرَّرت يدها على الشاشة لفتحه، بينما استمر الصوت واصفًا سطح الجرف المتآكل عند قاع الحديقة … أخيرًا، تمكَّنت إيدي من إغلاق التطبيق. فصمت الصوت.

جلست ساكنة تمامًا بضع لحظات، وهي تضم هاتفها إلى صدرها. وتحت جلد معصمها، كان نبضها يرفرف كطائر أسير. كان عقلها يتسارع، وكانت تتجه نحو حافة الذعر. أخذت نفسًا عميقًا، وذكَّرت نفسها بأن هذا المنزل كان مستأجَرًا. في كل صيف، كان والد جيك يسافر إلى الخارج، وفي أثناء رحيله كان المنزل يؤجَّر للسياح. ولا بد أيضًا أنه كان لديه أصدقاء وزوار. ثم هناك الأشخاص الذين شاهدوا المنزل عندما كانت تحاول بيعه …

تمكَّنت إيدي من تهدئة نفسها، وطمأنة نفسها بأنها كانت تبالغ في رد فعلها. لا شك أنَّ الأمر كان مريبًا، لكنه كان صدفة، محض مصادفة. شعرت بأنها سخيفة بعض الشيء، فقفزت من السرير لالتقاط المصباح، ثم صعدت مرة أخرى وأعادت فتح التطبيق. كان عنوان القصة التي كانت تستمع إليها «مكان خاص في الجحيم». وكان اسم الكاتب مكتوبًا بالأحرف الأولى فقط: جي إيه إل.

جال بخاطر إيدي أن تتجاهلها. أن تغلقها وتستمع إلى قصة أخرى.

غير أنها لم تستطع تجاهلها.

وضغطت على زر التشغيل.

كان يومًا دافئًا من أيام يوليو. الباب الزجاجي الجرَّار الذي يطل على الجرف كان مفتوحًا. ورائحة البحر ونكهة الملح والأعشاب البحرية تتسلل إلى المنزل. وفي الداخل، ساد صمتٌ تامٌّ لمكان سُكِن مؤخرًا لكنه صار الآن فارغًا. المكان الذي كان مليئًا بالحياة أصبح الآن خاليًا. على الأرض كان يرقد رجل. أو ما كان رجلًا، وأصبح الآن جثة. كان لا يزال الدم ينساب ببطء من الجرح الموجود في رأسه، ذلك الشق الموجود في جمجمته حيث هوى جسم زجاجي ثقيل بقوة كبيرة.

كانت تحلم. كان هذا ما كان عليه الأمر؛ لا بد أنه كان كذلك. كانت في خضم واحد من تلك الكوابيس التي تبدو حقيقية للغاية، التي تراود المرء أحيانًا، عندما يحلم أنه قد استيقظ، لكنه يجد أنَّ أشياء غريبة تحدث. ذلك النوع من الأحلام الذي تعلم فيه أنك تحلم، وأن عليك أن تجاهد لإيقاظ نفسك.

لكنها لم تستطع إيقاظ نفسها.

جلست في سريرها والنور مطفأ، وعيناها مثبتتان على النافذة أمامها، على العدم بالخارج، واستمعت إلى صوت يروي لها قصة كانت تعرفها بالفعل.

وكانت القصة عن الانتقام.

مهدت الحلقة الأولى للأحداث: روزي فتاة ذكية اجتازت امتحانًا فلم تدفع أي رسوم في مدرسة خاصة في ريف ساسكس. كانت جميلة وبارعة وتتعرض للتنمر لأنها تنحدر من عائلة فقيرة وفوضوية. كانوا يطلقون عليها لقب الفقيرة. الفقيرة الجميلة! ومع تقدُّمها في السن والجمال، حظيت روزي باهتمامٍ متزايد، معظمه من الأولاد. الاهتمام أصبح مختلفًا الآن وتقبَّلته روزي كما لو أنه يُمنح بسخاء، وهو ليس كذلك. فثمة كتابات في جميع أنحاء جدران الحمام بشأن روزي، بشأن ما تفعله روزي، وأين، ومع مَن.

ثلاثة من زملائها في الفصل لم يشتركوا في هذا التنمر. هؤلاء الثلاثة — مايكل وجوش وإلين — نأوا بأنفسهم عن هذا. إنهم دائرة مغلقة، زمرة صغيرة منفصلة عن البقية. لكن أحد الولدَين — مايكل الوسيم — بدأ ينتبه إلى روزي. كان يبتسم لها بينما يمر بها في الردهة، وهو لا يبتسم شزرًا. إنما شيء آخر. فظنت أنه قد يكون مختلفًا.

في إحدى إجازات نهاية الأسبوع، كانت هناك حفلة في منزل أحد زملائها، واستجمعت روزي شجاعتها للذهاب. تحمَّلت التعليقات الدنيئة حول ملابسها الرخيصة وأقراطها المبتاعة من بريمارك، بإلهاء نفسها بالفودكا. وعندما ظهرت المجموعة المكوَّنة من ثلاثة أفراد، سلَّمت روزي عليهم. وتجاهلتها إلين، وابتعدت لتجلس في مكان ما بمفردها، لكنَّ الصبيَّين بقيا وتحدَّثا معها. شربوا المزيد من الفودكا. وفي مرحلة ما، قرروا الذهاب إلى الطابق العلوي واستكشافه. وجدوا طريقهم إلى غرفة نوم. أحدهما خلع قميص روزي، ورفع تنورتها، وسحب سروالها الداخلي إلى أسفل. وبدأ في تصويرها.

لم يعتقد أحد أن روزي — الفقيرة الجميلة — لم توافق على كل هذا. وسرعان ما رُفِضت ادعاءاتها بالاعتداء باعتبارها خيالًا، لا سيما عندما دعمت إلين قصة مايكل وجوش، وأقسمت أن الولدَين لم يكونا بمفردهما مع روزي قَطُّ.

الآن لم تعُد روزي فقيرة فحسب. ولم تعُد ساقطة فحسب. إنها كاذبة أيضًا. وهكذا أصبح التنمر أسوأ، وما زاد الأمر سوءًا، تداول صور لها، وهي عارية سكرى متجهمة، في الفصل. كسيرة تشعر بالخزي، توقفت روزي عن الذهاب إلى المدرسة. وتوقفت عن الأكل. وشربت نصف زجاجة من الفودكا وتناولت معها بعض حبوب الدواء.

لحسن الحظ، تعافت روزي. أنقذها المسعفون أولًا، ثم معالج جيد ومدرسة جديدة ومعلم عطوف. وتذكرت أنها ليست جميلة فحسب، بل ذكية أيضًا. فحصلت على درجات ممتازة، وذهبت إلى الجامعة، وتخلَّصت من صدمتها كثعبان يبدِّل جلده.

وذات يوم، بعد خمسة عشر عامًا ومئات الأميال من ليلة الحفلة، رأته روزي: رأت مايكل. كان يبدو كما هو، طويل القامة ووسيمًا، يمشي في الشارع متبخترًا. شاهدته وهو يدخل إلى حانة، ويتجه نحو طاولة، حيث كان يجلس جوش وإلين. الثلاثة جميعًا، معًا وبلا همومٍ، يعانق بعضهم بعضًا، ويضحكون، ويعيشون حياتهم السعيدة الخالية من اللوم. اجتاحتها موجة من الغضب الخالص المكبوتة منذ فترة طويلة، وقررت أن هذا لن يستمر.

الحلقة الثانية: في منتصف الليل، قادت روزي سيارتها إلى المنزل البعيد حيث يعيش جوش الآن مع إلين. ولما كانت تعرف أنَّ إلين بعيدة عن المنزل في مهمة عمل، اقتحمت المنزل وقتلته، بوحشية حطمت جمجمته بمزهرية زجاجية ثقيلة. وشرعت بعد ذلك في المهمة الصعبة المتمثِّلة في توريط مايكل في تهمة قتله. وفور أن أصبح مايكل خلف القضبان، ركزت على هدفها الأخير، الجائزة الحقيقية: إلين.

متجمدة من الخوف ومرتعبة إلى درجة أنها لا تستطيع التحرك، كانت إصبع إيدي تحوم فوق رابط الحلقة الثالثة، جاهزًا للنقر عليه. قالت في نفسها: سوف أستيقظ قريبًا بالطبع، هذا لا بد أن ينتهي بالتأكيد. ضغطت على الرابط وقلبها يقرع على ضلوعها. أصدر الهاتف رنينًا، وظهرت رسالة تقول: «ستصدر الحلقة الثالثة من هذه القصة في الثامن من ديسمبر! شكرًا على استماعكم!»

أغلقت إيدي عينيها، وغمرها الارتياح. لم يكن عليها أن تستمع. لم يكن عليها أن تعرف كيف انتهت القصة. اهتز هاتفها في يدها فانتفضت. نظرت إلى الشاشة. كانت رسالة نصية من رقم هاتف مجهول تقول:

«ما الخطوة التالية؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥