الفصل الرابع عشر
كانت هناك عاصفة قادمة.
حذَّرت نشرات الأخبار من طقسٍ سيبلغ أقصى درجات الخطورة؛ إذ إنه أُدرِج تحت فئة اللون الأحمر التصنيفية. إذ تنبَّأت بأمطار غزيرة ورياح تصل سرعتها إلى خمسين ميلًا في الساعة، وتبلغ سرعة هبَّاتها ثمانين ميلًا في الساعة. فلتأتِ العاصفة، هكذا قالت إيدي لنفسها وهي تنزل من الحافلة ذلك العصر. كان الظلام قد بدأ في إسدال ستاره. وكانت الرياح تهب بضراوة قبالة البحر. فلتأتِ العاصفة. فلتهدم المنزل، ولتطمر هذه البقعة اللعينة بأكملها في البحر.
كانت إيدي نفسها تشبه العاصفة؛ إذ اجتاحت أرجاء المنزل باحثةً عن أي أمارات تثبت كلام رايان. فتَّشت بدقة في غرفة مكتب جيك، وكبَّت محتويات مكتبه على الأرض. وأخرجت ملابسه من الخزانة، وشمَّت ياقات قمصانه علَّها تلاحظ رائحة عطر غريب، لكنها لم تميز إلا أثرًا ضعيفًا لرائحة جسده. وفحصت معاطفه علَّها تجد عليها شعرًا داكنًا وطويلًا يفضح سره. وفتشت كذلك جيوب ملابسه باحثة عن أي فواتير تُدينه. لكنها لم تجد شيئًا.
لارا؟ جيك ولارا؟ أيعقل ذلك؟
اتصلت إيدي برقم لارا عشرات المرات. وتركت عشرات الرسائل. كان مضمونها: اتصلي بي من فضلك. الأمر عاجل. أنا في حاجة ماسَّة إلى التحدث إليك يا لارا. لقد أجهدت ذهنها وهي تحاول استرجاع جميع المرات التي رأت فيها جيك ولارا معًا في نفس الغرفة. لم تكن تلك المرات كثيرة. تذكرت أنهم التقوا جميعًا مرة واحدة في المدينة لاحتساء مشروب. كما انضمَّت إليهما لارا لتناول العشاء في المنزل، بعد مشاركتهما في ماراثون نصفي معًا العام الماضي. وقتئذٍ، كانوا جميعًا قد أفرطوا في تناول الشراب. وخلد جيك إلى النوم مبكرًا، تاركًا الاثنتين جالستين بالخارج تواجهان هجمات الهاموش. كان هذا هو كل ما في الأمر.
ألم يكن كذلك؟ تأمَّلت إيدي الحالات المزاجية التي كان فيها جيك على مدى الأشهر القليلة السابقة لوفاته؛ تذكرت نوبات ارتيابه، وغيرته الغريبة، وردة فعله عندما كانت تخبره بتلقيها لرسالة نصية من لارا. أكانت كل تلك التصرفات ردة فعل ناتجة عن تشوش مشاعره؟ ربما لم يكن ما يدفعه إلى التصرف بتلك الغرابة هو «عدم ثقته بها، بل شعوره بالذنب تجاهها».
وضعت على كتفيها أكثر معطف كانت تفضِّله من بين معاطف جيك، ولفَّته بإحكامٍ حول جسدها، ثم تجوَّلت بائسة في أنحاء المنزل مرة أخرى إلى أن وصلت إلى المطبخ. كان يوجد على منضدة المطبخ كيس بلاستيكي شفاف يحتوي على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بجيك. ما زالت الشرطة متحفظة على هاتفه، لكنها أعادت الكمبيوتر المحمول قبل أسبوعين. لم تجرؤ إيدي حتى على فتح الكيس منذ ذلك الحين. ولكن عندما نظرت إليه في تلك اللحظة، بدأ الأدرينالين يتدفَّق عبر جسدها مرة أخرى.
إذا كانت هناك بالفعل دلائل تشير إلى خيانته، فمن المنطقي أن تكون موجودة على جهاز الكمبيوتر، وليست مخفية بين فواتير الهاتف وخطابات الرفض التي كان يتلقاها من الشبكات التليفزيونية. إذا كانت تريد أن تعرف حقًّا ما كان يدور بحياة جيك قرب نهايتها، فينبغي أن يكون جهاز الكمبيوتر هو المكان الذي تفتش فيه. لكن السؤال المهم هنا كان: هل تريد أن تعرف ذلك «حقًّا»؟
نجحت في تخمين كلمة المرور الصحيحة لجهازه بعد بضع محاولات؛ إذ كانت تاريخ زفافهما. إنه لمن سخرية القدر أن يختار ذلك التاريخ، وهو التاريخ الذي تبادلا فيه نذور الزواج، ليخفي آثار ارتباطه بأخرى.
لكن إذا كانت توجد بالفعل أي دلائل، فإيدي لم تستطع إيجادها. فلم تجد شيئًا في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة به؛ لم تجد أي رسائل مرسَلة إلى لارا أو واردة منها، أو حتى رسائل موجهة إلى أي امرأة سرية أخرى أو واردة منها.
فتحت إيدي المجلد الذي خصصه جيك للعمل، وأخذت تتصفح بسرعة أفكار المسلسلات التي دوَّنها، والمسوَّدات غير المكتملة للعروض التي كان ينوي تقديمها لمسئولي الشبكات التليفزيونية لتسويق أفكاره. وعثرت في المجلد المعنون «صور» على نسخٍ ممسوحة ضوئيًّا لصور زفافهما. كما وجدت صورًا التقطت في أثناء قضائهما لعطلة في إيطاليا مع رايان قبل بضع سنوات، وبعض الصور كانت لنزهاتٍ لهما في الحديقة القريبة من مسكنهما السابق في لندن.
ووجدت إيدي داخل مجلد فرعي بعنوان «صور١»، مجلدًا اسمه «إل». انخلع حينئذٍ قلب إيدي. هيَّأت نفسها لرؤية أمر مشين — ربما صور لارا بملابسها الداخلية، أو ما هو أسوأ من ذلك، مقطع فيديو — ثم فتحت المجلد. لم يكن في المجلد سوى ملفَّين. الملف الأول كان صورة للارا، لكنها تخلو من أي إغراء. التقطت هذه الصورة للارا بعد مشاركتها في الماراثون النصفي الخاص بإدنبرة العام الماضي، وكان يحيط بها من الجانبَين في الصورة إيدي وجيك، وظهر ثلاثتهم في الصورة مبتسمين للكاميرا، ووجوههم موردة ومبللين بالعرق.
أما الصورة الثانية فلم تكن للارا على الإطلاق. بل كانت صورة مدرسية قديمة للفريق الرياضي بالمدرسة. إذا أمعنت النظر في الصورة، يمكنك رؤية إيدي في الصف الأمامي، والتي كانت قصة شعرها مفرطة الاستدارة كالطبق. وخلفها، في الصف الثاني، وقف رايان وجيك جنبًا إلى جنب، وذراعاهما مطويتان على صدرَيهما.
أغلقت إيدي الملف. ونهضت لكي تشغل غلاية الماء، بينما تسارع تدفُّق أفكارها. أزعجها أمرٌ ما في تلك الصورة. عادت إلى جهاز الكمبيوتر وفتحته مرة أخرى. انحنت إلى الأمام واستخدمت خاصية التكبير لتكبير الصورة. ها هي! في الصف الأمامي في الصورة، ظهرت بعد مكان جلوس إيدي بشخصين أو ثلاثة فتاة شقراء جميلة ذات عينين زرقاوين. تلك الفتاة كانت «لويز».
بدأ هاتفها بالاهتزاز داخل جيب بنطالها الجينز. أخرجت الهاتف ونظرت إلى الشاشة. وصلت رسالة من رقم مجهول.
«هل حللتِ اللغز بعد؟»
ثم تلتها رسالة أخرى:
«ما الخطوة التالية؟»
ارْتَجَّ جسد إيدي كأنها تعرَّضت لصدمة كهربائية. فتحت الصورة الأولى مرة أخرى. قارنت بين صورة لارا ذات الشعر الداكن الكثيف، والعينين الخضراوين، والذراعين الممشوقتين، وصورة لويز الشقراء، ذات الجسد الممتلئ، والعينين الزرقاوين. لا. هذا غير ممكن. طنَّ صوت متسارع في أذنَي إيدي. شعرت كما لو أنها كانت تتهاوى. حدقت إلى صورة لارا التي اعتادت الذهاب إلى لندن مرة واحدة على الأقل في الشهر؛ لأن بها متخصص صبغ الشعر الوحيد الذي تستطيع أن تأتمنه على شعرها. لارا التي كانت ترتدي العدسات اللاصقة. لارا التي اعترفت ذات مرة، في نهاية إحدى الأمسيات التي قضتاها معًا في الحانة، بأنها كانت ممتلئة في أثناء سن المراهقة، وأنها بذلت جهودًا مضنية ليصبح قوامها كما هو عليه الآن. كانت لارا ولويز موجودتين جنبًا إلى جنب الآن داخل مجلد أنشأه جيك وأطلق عليه اسم «إل».
رنَّ هاتف إيدي مرتين. حدقت إليه، وكانت مرتعبةً جدًّا إلى درجة كادت تمنعها من الإمساك به. وصلت رسالتان أخريان من نفس الرقم المجهول. فتحت الرسالة الأولى. كانت الرسالة عبارة عن صورة. استغرق تنزيل الصورة ثانية واحدة. ثم رأت أنها نفس الصورة المدرسية، ولكن في هذه النسخة من الصورة كان وجه جيك مشطوبًا. ووجه رايان أيضًا. أما الرسالة الثانية فكانت عبارة عن جملة واحدة:
«هناك مكان مخصص في الجحيم للنساء اللاتي لا يساعدن غيرهن من النساء.»
أسقطت إيدي الهاتف من يديها كما لو أن ماءً مغليًّا لَسَعها، وفي اللحظة التي اصطدم فيها بالطاولة بدأ يرن، وجعلته الاهتزازات يدور حول نفسه. رجعت بخطواتها إلى الخلف، وقد ملأ قلبها الرعب فلم تقوَ على الرد، وارتعبت حين دوَّى صوت الرعد المهيب في أرجاء المنزل. مدَّت يدها وأمسكت الهاتف، ثم ألصقته بأذنها بإحكام. فسمعت صوت أنفاس. لكنها للحظة لم تكن متأكدة مما إذا كانت تلك أنفاس مَن يهاتفها أم أنفاسها هي. ثم تحدثت امرأة قائلة:
«هل حللتِ اللغز بعد؟ هيا أخبريني! ما الخطوة التالية؟»