الفصل الخامس عشر

كانت العاصفة تزداد جموحًا. وقذفت الرياح حفنات من مياه المطر ورذاذ البحر على نوافذ المنزل بعنف. وأتى صوت عواء الرياح من ناحية أيكة الأشجار خلف المنزل، حتى إنه قد يُخيَّل إلى سامعه أن أغصان الأشجار تنثني إلى درجة أنها توشك على الانكسار، أو أن جذوعها تقتلع من الأرض.

عندما هدأت الرياح للحظة، نطقت إيدي أول كلمة. إذ قالت وقد ألصقت الهاتف بأذنها: «لويز؟» ثم أخذت تمشي مسرعةً في الرواق، وشعرت بالخوف كأنه شوكة توخز جسدها. جرت نحو غرفة النوم ثم صعدت إلى السرير، وشدت اللحاف عليها. قالت مرة أخرى: «لويز؟» ثم أعقبت بسؤال آخر: «أهذا أنتِ؟»

قالت المتحدثة: «ناديني باسم لارا.» وأضافت: «لقد فقدت صلتي باسم لويز منذ اثني عشر عامًا. لقد غيَّرت اسمي بعد خروجي من المستشفى.» توقفت برهة عن الكلام. وفي برهة الصمت تلك، سمعت إيدي صوت نقرة وهسهسة قداحة سجائر. أكملت: «كنت مريضة. لا أدري إن كنتِ على علمٍ بذلك أم لا. حسنًا، أنتِ الآن تعلمين، لأنني كتبت عن مرضي في القصة. لقد حاولت الانتحار؛ لذلك عزلوني في المستشفى.»

صمتت مرة أخرى. ثم قالت: «هل أعجبتكِ القصة؟» كان صوت لارا مبتهجًا بشكلٍ غريب، كما لو كانت مستمتعةً بوقتها. «أظن أنها قصة جيدة جدًّا بالنسبة إلى كونها أولى محاولاتي في الكتابة الروائية. أم أنه يجوز أن نسميها في هذه الحالة كتابة واقعية غير روائية؟ أيًّا كان. الأجزاء الأولى من القصة لم تتطلب مني مجهودًا لأن أحداثها حصلت بالفعل، لكن الجزء الذي أواجه مشكلة فيه هو النهاية. وأعتقد أنكِ يمكن أن تساعديني في ذلك.» ضحكت لارا، وأصاب صوت ضحكتها الحاد إيدي بالقشعريرة.

قالت إيدي: «ماذا تريدين يا لارا؟»

ردَّت لارا: «أريد أن أحْبِكَ النهاية جيدًا! لقد عملت على هذه القصة لعامَين تقريبًا. لقد كان عملًا يدفعه الشغف.»

سألت إيدي: «أكنتِ تخططين للأمر منذ أن تقابلنا؟»

ردَّت لارا: «تقصدين منذ أن «التقينا مرة أخرى». قبل ذلك، كنت منشغلة بحياتي فقط، وراضية بدفن الماضي. لقد تجرعت كئوسًا من البؤس وتألمت عظيم الألم. لكنني استطعت انتشال نفسي من ذلك الوضع إلى وضعٍ أفضل؛ فتمكَّنت من تأسيس مشروعي التجاري، والانتقال إلى مدينة جديدة، إلى مكان لم تلوثه الذكريات المؤلمة. وشاءت الأقدار أن ذهبت يومًا لمقابلة زملائي في نادي هواة الجري وتفاجأت بوجودك هناك، كأنك شيطان لحق بي من أعماق الجحيم. إيدي إيستون …»

قاطعتها إيدي قائلة: «تقصدين إيدي «بريتشارد».»

أردفت لارا: «نعم، بالطبع. إيدي بريتشارد التي تزوجت حبيب طفولتها. أو بالأحرى واحدًا من حبيبَي طفولتها.»

قالت إيدي بصوتٍ منكسر: «وقررتِ حينئذٍ أن تأخذيه مني، أليس كذلك؟»

قالت لارا: «ليس على الفور. في البداية، كنت لا أزال تحت تأثير صدمة لقائك. في المرة الأولى تلك التي التقيتُ بكِ فيها في أثناء تجمُّع أعضاء نادي هواة الجري، ظللت مترقبة للحظة التي ستدركين فيها من أكون. انتظرت رؤية نظرة اندهاش في عينيك، أو ارتسام تعبير على وجهك يوحي بشعورك بالخزي، لكن تلك اللحظة لم تأتِ قَطُّ. نظرتِ إليَّ كأنني غريبة تمامًا. وظللتِ واقفة هناك، تبتسمين ابتسامتك البلهاء …»

في اللحظة التي قالت فيها لارا جملتها الأخيرة، سمعت إيدي صوت قعقعة، كأن هناك قطارًا مارًّا، وغاب صوت لارا للحظة. استطردت لارا: «لقد دمرتِ حياتي ثم ألقيتِ بي في بئر النسيان، أليس كذلك؟ لاحقًا، قابلت زوجك، ولم يتذكرني هو الآخر. كأن شيئًا لم يكن، كأن لويز — تلك الفتاة البائسة، والساذجة التي لم يصادقها أحد — لم يكن لها وجود من الأساس. حينئذٍ قررت أن الوقت قد حان لأذكِّركما بي.»

«ثم … بدأتِ في «إغوائه»؟»

ضحكت لارا. وقالت: «أوه، أثار ذلك غيظك، أليس كذلك؟ من الغريب أن هذا ما يضايقك! ولم يضايقك أنني قتلته، وهشَّمت رأسه، أنت متضايقة فقط لأنني ضاجعته.» وأتبعت قولها بنفس الضحكة القاسية. ثم أضافت: «أنتِ حقًّا تافهة، أليس كذلك يا إيدي؟ على العموم، لا تشغلي بالك بهذا الأمر. لم أضاجعه. لكنني أوهمته بأنني قد أرغب في مضاجعته يومًا ما. لكنه» — أصدرت صوتًا خفيضًا ينمُّ عن اشمئزازها — «بصراحة لم يكن فرصة جاذبة تستحق الاغتنام، أليس كذلك؟ لقد كان رجلًا مفلسًا، وفاشلًا، ومحبطًا من معاملة زوجته المريعة التي كانت على وشك الهرب مع صديقه المقرب …»

قالت إيدي: «إياكِ أن تجرئي على التحدث عن جيك بهذه الطريقة، إياكِ …»

قاطعتها لارا قائلة: «عجبًا يا إيدي؟ لماذا لا تريدينني أن أصفه بالفاشل؟ ألم تصفيه «أنتِ» بذلك؟»

جفلت إيدي. وقالت: «لم أكن على وشك الهرب. لم أكن لأترك جيك أبدًا.»

قالت لارا: «بأي لغوٍ تنطقين؟ لقد تركتِه بالفعل!»

ردَّت إيدي: «لم أكن أنوي تركه «إلى الأبد». كل ما في الأمر أن علاقتنا كانت تمر بفترة صعبة. كنت أنوي الرجوع إليه …»

سألت لارا: «لأنكِ أحببته كثيرًا، أم لأن رايان لم يكن يريدك؟» وأكملت: «لا أظن أن جيك كان سيسمح بعودتك على أي حال. أتعلمين أنني عندما كنت أحاول زرع بذرة الشك في نفس جيك — بشأن علاقتك أنت ورايان — توقعت أن أضطر إلى بذل جهد أكبر من ذلك قليلًا. لكنه صدَّق كل شيء كنت أقوله له. وعندما أخبرته أنك لم تعودي تحضرين فعاليات الجري، صدَّق جيك ذلك. وعندما أخبرته أنك تتحدثين عن رايان طوال الوقت، صدَّق ذلك أيضًا. لقد صدَّق كل شيء من الأشياء الشنيعة التي قلتها عنكِ بكل أريحية. لم أستطع قطُّ تحديد السبب الذي منعه من محاولة الدفاع عنكِ. هل السبب أنه لم يكن يحبك؟ أم لأنه شعر بالذنب الشديد بسبب ما فعلتِه بي أنت وهو؟»

للحظة، انعكس وميض البرق على صفحة البحر. انكمشت إيدي تحت لحافها. وقالت: «أتقصدين بذلك أن جيك اكتشف أمرك؟ أتعنين بقولك هذا أنه عرف حقيقتك؟»

ردَّت عليها لارا قائلة: «لم يكن جيك قطُّ بنفس درجة ضيق أفقِك، أليس كذلك؟ أتتذكرين عندما أتيتُ إلى منزلك بعد فعالية الماراثون النصفي وجلست معكما بالخارج؟ كنا نشرب النبيذ بالخارج وعجَّ الهواء بالهاموش. عندما دخلتِ إلى المنزل لجلب المبيد المقاوم للحشرات، لمحتُه وهو يحدق إليَّ خلسة. ظننته على وشك مغازلتي. لكن سرعان ما رأيتها؛ رأيت نظرة رعب في عينيه. نظرة رعب وخزي. أخيرًا رأيتها! راسلني عبر الواتساب بعدها بيومين قائلًا إنه يريد التحدث معي. التقينا في حانة بالمورال. جلس هناك، وأخذ يتجرع الشراب ويغرق في شعوره بالشفقة على نفسه، متوسلًا إليَّ لأصفح عنه …»

فجأة، صاحت إيدي صيحة اخترقت سكون هذه الليلة الظلماء: «أنا لا أصدق ذلك!» تابعت صياحها: «أرفض تصديق ذلك! جيك لم يغتصبك يا لارا …»

ردَّت عليها لارا بصوتٍ صار منخفضًا وأجش على نحوٍ يشبه الصوت الموجود في القصة: «لا.» وتابعت: «أنتِ على حق. جيك لم يغتصبني. لكنه كان موجودًا في الغرفة عندما اغتصبني رايان.»

كان هناك ضجيج غريب مسموع في الهاتف، صوت هسهسة، ثم انقطع الاتصال فجأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥