الفصل السابع عشر

كان الألم الذي شعرت به إيدي في رأسها مختلفًا عن أي ألمٍ شعرت به من قبل، فلقد كان حادًّا وشديد التركيز في الجزء الخلفي من جمجمتها، ووصل إلى أقصى درجاته في المقدمة فسبَّب إحساسًا بالضغط والخفقان داخل رأسها. شعرت إيدي كما لو أن شخصًا ما قد وضع صدغيها بين جانبَي مِلزَمة وبدأ يدير مقبضها. وشعرت كأن كتفها قد خُلعت من تجويفها. حاولت التحرك لتخفيف الألم، لكنها وجدت أن يديها مقيدتان خلف ظهرها. وعندما رفعت رأسها، رأت انعكاس وجهها، وبدت عيناها أكثر سوادًا بالمقارنة بشحوب خديها.

كانت الأنوار مضاءة. وكانت إيدي تجلس على أحد كراسي غرفة الطعام، في مواجهة الباب الجرَّار الذي صار مغلقًا الآن. أدارت رأسها ببطء في اتجاه اليمين واليسار، لكنها لم تلحظ وجود أي شخص. ولم تسمع صوت أي شخص أيضًا، وبدا أن العاصفة قد هدأت. كان الصوت الوحيد المسموع في الغرفة هو صوت تنفُّسها المضطرب.

ثم أتى صوتٌ آخر من خلفها. صوت تثاؤب.

سمعت إيدي نقرات كعبين على الأرضية الخرسانية وصوت شخص يسألها: «هل أفقتِ؟» ثم أكمل: «لقد كنتِ غائبة عن الوعي لبعض الوقت. ظننت أنني سأضطر إلى هزك لإيقاظك.» رأت إيدي بطرف عينها شكل جسد. كان جسد لارا. جثمت لارا بجانب إيدي حتى أصبح نظرهما على نفس المستوى. سألتها وهي تجعد أنفها: «كيف حالك؟ تبدين في حالة مزرية. أتريدين بعض الماء؟»

لم تنتظر منها لارا إجابة، ووقفت ثم مشت إلى المطبخ وكعباها يطقطقان. سمعت إيدي الصنبور يُفتَح ويُغلَق، وبعدها بلحظة وقفت لارا أمامها، ووضعت كأس الماء البارد على شفتيها ضاغطةً عليهما. ارتشفت إيدي الماء وابتلعته. ونزلت بضع قطرات من الماء على ذقنها.

جرَّت لارا كرسيًّا على الأرض ووضعته مقابل إيدي. جلست، وأرجعت كتفيها إلى الخلف كعادتها، وأمالت رأسها من جانب إلى آخر كما لو كانت تقوم بتمرين إحماء استعدادًا للجري. أو للقتال. نظرت إلى الوراء فوق مستوى كتفها. وقالت: «أظن أن العاصفة هدأت.» لم تقل إيدي شيئًا. وأغمضت عينيها في مواجهة الضوء. تابعت لارا: «أليس من المضحك أن انتهت بنا الحال هنا؟»

أجابت إيدي: «ما الذي تقصدينه بكلمة هنا؟ أتقصدين كوني مقيدة بكرسي هنا؟»

ضحكت لارا ضحكة خافتة. وقالت: «لا، أقصد هنا. في اسكتلندا. في مكان يبعد بمسافة طويلة عن مقاطعة ساسكس المشمسة.» سمعت إيدي صوت نقرة وهَسهَسَة مألوفًا ثم فتحت عينيها. فرأت لارا تشعل سيجارتها. ابتسمت لارا لإيدي. وقالت: «ليس لديكِ مانع أن أدخن، أليس كذلك؟» ردَّت إيدي على سؤالها بحملقة غاضبة. فسألتها لارا: «لماذا انتقلتما إلى هنا بالمناسبة؟»

استنشقت إيدي نفسًا ملأ رئتيها بالدخان المنبعث من سيجارة لارا ثم بدأت بالسعال. رمقتها لارا بنظرة امتعاض، ثم أخذت في إزاحة الدخان بيدها الأخرى التي لم تكن ممسكة بالسيجارة.

قالت إيدي: «لقد انتقلنا لأننا كنا في حاجة إلى هذا المنزل. أنت تعلمين هذا الأمر. لم يكن لدينا أموال. ولم نتمكَّن من تحمُّل تكاليف السكن في أي مكان في لندن. حينئذٍ لم يستطع جيك إيجاد أي فرصة عمل، ثم تُوفي والده. حكيت لك هذا الأمر من قبل …» بدأت تسعل مجددًا، وتركز الدخان بأسفل حلقها. سحبت لارا الهواء ومرَّرته من خلال صفَّي أسنانها المطبقين لتصدر صوتًا عبَّر عن نفاد صبرها وامتعاضها، ثم ألقت بالسيجارة على الأرض وداست عليها بكعب حذائها. أمسكت كوب الماء وعرضته على إيدي مرة أخرى.

سألت لارا إيدي بعد أن تناولت الأخيرة رشفة من الماء: «ماذا عن رايان؟ متى تبعكما إلى هنا؟»

ضيَّقت إيدي عينيها ونظرت إلى لارا. وقالت: «لم يتبعنا. لقد تلقَّى عرض عمل جيدًا؛ ولذلك انتقل إلى هنا.»

أطلقت لارا ضحكة صاخبة قليلًا. وقالت: «حقًّا؟ أتصدقين أنه ترك عمله في مدينة كبيرة مثل لندن، وقرر القدوم إلى إدنبرة على أساس أنها معقل مهم لنشاط رءوس الأموال المخاطرة؟ هل أنتِ حقًّا بهذه الدرجة من الغباء؟ أم أن اعتقادك هذا مجرد مثال آخر على أنك دائمًا لا ترين سوى ما تريدين رؤيته؟ لقد أخبرني جيك أن رايان قدِم إلى هنا ليلحق بك.»

قالت إيدي نافية: «هذا ليس صحيحًا.»

قالت لارا: «لقد أخبرني جيك أن رايان تبعك إلى هنا لأنه يحتاج إليك. لأنه كان يحتاج إلى شخص متيم به كما فعلت أنتِ. لأنه لم يصادف قَطُّ أي شخص في حياته، منذ أن صار بالغًا، متيمًا به بنفس تلك الطريقة. فالناس كانوا يعرفون أن معدنه الحقيقي متخفٍّ تحت غطاء من المكر والاصطناع. لقد رأوه على حقيقته. مجرد متنمر ونرجسي.»

قالت إيدي: «هذا محض هراء …»

قالت لارا: «أهو محض هراء فعلًا؟ ألم تتساءلي يومًا لماذا لم يبقَ رايان في أي وظيفة أكثر من عام؟ ولماذا لم تستمر علاقاته بمن ارتبط بهن أكثر من بضعة أشهر؟» أسندت لارا ظهرها إلى كرسيها، وعلى شفتيها أثر ابتسامة. وأضافت: «أوه. فهمت طريقة تفكيرك. لقد كنتِ تظنين أن السبب في ذلك هو أنه كان مغرمًا بك، أليس كذلك؟ لقد اعتقدتِ أن علاقاته لم تدُم بهؤلاء النساء لأنه لم توجد بينهن واحدة أمكنها أن ترقى إلى مستواكِ.»

حاولت التحرك وهي جالسة على الكرسي. ورغم حدة الألم الذي كانت تشعر به في كتفها، فإنها هينة مقارنة بالعذاب الذي أحسَّت به في أثناء جلوسها تحت رحمة نظرات لارا القاسية.

قالت لارا: «أتذكرين تانيا؟ صديقة رايان القديمة منذ بضع سنوات؟ أتعرفين لماذا لم تستمر علاقته بها؟ سأساعدك؛ لم تنتهِ العلاقة بسببكِ. بل لأن رايان ضربها وحاول خنقها. جاءت تانيا إلى جيك طالبةً المشورة منه، فنصحها بأن تبلغ الشرطة. لم تفعل ذلك بالطبع، لأنها تعرف أن الشرطة لن تأخذ صفَّها من دون أدلة. وفي تلك الفترة، كان من السهل أن يفلت الرجال بأي فعلة تقريبًا بحجة أنها ارتُكبت تحت مسمى الجنس العنيف. لذلك لم تتخذ أي إجراء. وابتعدت عنه. لكن اللافت في الأمر أن جيك صدَّقها. وعندئذٍ قرر أن عليه الابتعاد عن رايان إلى الأبد. عندئذٍ قرر أن عليه إبعادك عن رايان إلى الأبد.»

هزَّت إيدي رأسها لتنفي هذا الادعاء، واستمرت في هزه. وقالت: «لا، هذا الأمر لم يحدث. لو كان حدث بالفعل لكان أخبرني به جيك …»

أمالت لارا رأسها إلى أحد الجانبين. وقالت: «أحقًّا كان سيفعل ذلك؟» وأكملت: «لماذا تظنين أنه كان سيخبرك بذلك؟ لقد تعلَّم الدرس منذ زمن طويل، والدرس هو أنكِ لن تسمحي بأي كلمة تقال ضد رايان ما حييتِ. أتعرفين ماذا قال لي؟ قال لي: «رايان لم يضطر قَطُّ إلى القيام بأكثر من التحديق إلى عينيها والابتسام لها لتصير طوع أمره، أيًّا كان ما يطلبه منها. إنها تتحيَّز له دومًا».»

فكرت إيدي مرة أخرى في يوم الإثنين الذي تلا الحفلة، عندما وقف ثلاثتهم عند بوابة المدرسة، وكانت نظرة عينَي رايان مثبتة على عينيها. قال لها: «عليكِ أن تخبريهم يا إي. عليكِ أن تخبريهم أن هذا ليس صحيحًا.» حينئذٍ أدار جيك رأسه بعيدًا. انقطع التواصل بين جيك ورايان بعد ذلك لعدة أشهر. ولم يتحدث إيدي وجيك قَطُّ عن التحول الذي طرأ على علاقة جيك برايان. وكلما طرح جيك هذا الموضوع، أغلقت إيدي باب الحديث فيه. كانت تقول له: «لا أريد أن أعرف ما حدث، إنه أمر يخصكما وحدكما. لا أريد التدخل فيما بينكما.»

قالت إيدي وهي ترمق لارا بأقسى نظرة لديها: «أنت مخطئة.» وتابعت: «لم أكن دومًا متحيزة له. فقبل أن تخبريني بقصتك التافهة، كنت أظن أن رايان هو الذي ارتكب جريمة القتل.»

مشت لارا نحو المطبخ مرة أخرى، وكان كعباها يصدران صوت طقطقة على الأرضية الخرسانية.

صاحت إيدي قائلة بصوتٍ عالٍ ليصل إلى لارا: «لكنني كنت مخطئة في ظني هذا، أليس كذلك؟ فرايان بريء، تمامًا كما كان جيك. لم يفعل جيك أي شيء لك!»

عادت لارا للوقوف مرة أخرى إلى جانب إيدي وأمسكتها من كتفها. وقالت: «أي شيء؟» وبينما كانت تتحرك لارا، لاحظت إيدي بريق شيء معدني كانت ممسكة به في يدها، وذلك قبل ثوانٍ من شعورها بنصل أداة معدنية على عنقها. قالت لارا هامسة في أذن إيدي على نحوٍ غاضبٍ: «كان يعلم. كان يعلم ما فعله رايان. كان يعلم، وأنت أيضًا كنتِ تعلمين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥