الفصل الثامن عشر

ساد الهدوء بعد العاصفة. الهدوء التام.

كان الظلام لا يزال حالًّا بالخارج، ولكن إيدي تمكَّنت بفضل الضوء المنبعث من المنزل من رؤية رذاذ المطر الخفيف وهو يتساقط. جلست على الكرسي، ويداها مكبَّلتان خلف ظهرها، وأخذت تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تمنع نفسها من الارتجاف، وأن توقف اصطكاك أسنانها، وأن تمنع جسدها من الارتعاش من شدة الخوف. لم تستطع سماع أي شيء سوى صوت أنفاس لارا في أذنها، ولم تشعر إلا بوقع النصل المعدني البارد على عنقها.

همست لارا قائلة: «اعترفي.» وتابعت: «كل ما أطلبه منكِ هو اعتراف بأنك تعرفين ما فعله رايان. اعترفي بذلك، وربما سيجعلني اعترافك أشفق عليكِ.» أغمضت إيدي عينيها. وابتلعت ريقها وشعرت بالنصل يضغط بقوة أكبر على عنقها. أضافت لارا: «لقد اعترف جيك بهذا.» شهقت إيدي عندما شعرت بالنصل المعدني يخدش جلدها، ثم فجأة اختفى الضغط من على عنقها.

فتحت إيدي عينيها وأخذت نفسًا عميقًا. كانت لارا لا تزال خارج مجال رؤية إيدي، لكن إيدي كانت تشعر بوجودها؛ إذ شعرت بها واقفة خلفها مباشرة، وتخيلت شكلها وهي ممسكة بالأداة المعدنية في يدها.

قالت لارا بصوتٍ أجش، كأنها كانت على وشك البكاء: «راسلني جيك عبر الواتساب مرة أخرى بعد ليلتين من هجركِ له. وطلب مني القدوم لرؤيته. وتكبدت عناء قيادة سيارتي كل تلك المسافة حتى وصلت إلى هنا، لأجده يُسمعني اعتذاراته مرة أخرى وهو مخمور.» ثم أضافت: «سألته مجددًا عن السبب الذي منعه من التكلم حينئذٍ …» توقفَت لحظة عن الكلام، وتنحنحت. ثم قالت: «أجابني بأنه لم يكن يريد تدمير حياة رايان. وقال إنهما تصرَّفا على نحوٍ غير ناضج؛ فقد كانا مراهقَين في نهاية الأمر. وقال إنه كان يشعر ﺑ «الأسف البالغ»، بيد أنه كان يعلم أنه إذا قال الحقيقة بشأن ما فعله رايان، فلن تسامحيه أبدًا. وأن ذلك كان سيؤدي إلى فقده كليكما. لذلك فإنه، بدافع ولائه لرايان وحبه لك، اختار أن يدمر حياتي أنا.»

عضت إيدي شفتها، وامتلأت عيناها بالدموع. وصف لارا ينطبق على جيك بالضبط، أليس كذلك؟ لقد كان مخلصًا لرايان وواهبًا نفسه لها. ولخص قولها علاقة ثلاثتهم بأكملها. لقد كانت تجمعهم علاقة خاصة جدًّا. لم يهمهم كثيرًا أي شخص خارج رابطتهم المقدسة. بل إن أي شخص خارج هذه الرابطة يكاد يكون غير مرئي بالنسبة إليهم! وعلى الرغم من أن جيك قد كفر بقداسة هذه الرابطة في آخر المطاف، فإنه بالتأكيد كان مؤمنًا بها في الماضي.

قالت لارا مرة أخرى: «اعترفي يا إيدي»، ولكن صوتها كان أكثر حدة هذه المرة، ربما بسبب التعب أو التوتر. وأضافت: «لا أريد سوى أن أسمعك تنطقين بالحقيقة.»

أخذت إيدي نفسًا عميقًا. وقالت: «فلنفترض أنني فعلت ذلك. فلنفترض أنني اعترفت بكل ما تريدين مني أن أعترف به. ماذا بعد؟ ما الذي سيحدث بعد ذلك يا لارا؟ ليس لديك طريقة للخروج من هذا المأزق. هلا أخبرك عما سيحدث بعد ذلك؟ ستدخلين السجن. إما ذلك وإما ستكونين مضطرةً إلى التخلص مني، كما فعلتِ بجيك. ولكن هذه المرة لن يتبقَّى أحدٌ لتلقِّي عليه التهمة، أليس كذلك؟ أيًّا كان ما سيحدث، فنهايتك ستكون مأساوية.»

شعرت إيدي بالنصل على عنقها مرة أخرى. قالت لارا بصوتٍ هادئ: «ربما يستحق التخلص منكِ تكبُّد كل تلك المشاق.» أغمضت إيدي عينيها، وعضَّت بقوة أكبر شفتها السفلية. وارتفع صوت لارا وقالت: «أو ربما، يمكننا أنا وأنتِ أن نعقد صفقة. صفقتي تقتضي منكِ الاعتذار لي، وطلب الصفح مني، ثم تركي أرحل من هنا …»

شهقت إيدي وقالت: «لماذا؟»، وكان جسدها كله يرتجف، وشعرت بالنصل على عنقها ينزلق نحو عظمة الترقوة. وأضافت: «ما الذي قد يدفعني إلى قبول تلك الصفقة؟»

قالت لارا: «من أجل رايان.» وجَّهت النصل بزاوية إلى رقبة إيدي ثم سحبته بعيدًا بحدة، فتسبَّبت في خدش جلدها. صرخت إيدي بأعلى صوت وهي تتلوى محاولةً فك قيودها.

صرخت قائلة: «ماذا تقصدين؟ ماذا تقصدين بقولك من أجل رايان؟»

لفَّت لارا حول الكرسي ووقفت أمام إيدي، ويداها خلف ظهرها. وبدت مستغرقة في التفكير. وقالت: «ماذا لو أخبرتك أن في حوزتي دليلًا من شأنه أن يثير شكوكًا منطقية تحُول دون إدانة النيابة لرايان في القضية؟ ماذا لو كان لديَّ مقطع فيديو، على سبيل المثال – لكنه لا يُظهِر وجه القاتل – يمكن أن يُثبِت أن القاتل الحقيقي كان بالتأكيد ذا بنية جسدية أصغر حجمًا وأخف وزنًا من رايان بيرس؟»

هزَّت إيدي رأسها. وقالت: «أنتِ مجنونة لا محالة، أتعلمين ذلك؟ قتلتِ زوجي. ثم ألصقتِ تهمة قتله بأعز صديق له. وبعدئذٍ قمتِ بتقييدي وتعذيبي. والآن تخبرينني بأنكِ ستساعدين في إطلاق سراح رايان؟ أتظنينني غبية؟»

هزَّت لارا كتفَيها. وقالت: «لن يهم ذلك لأنني سأكون قد حصلت بالفعل على ما أردت. سأكون قد سمعتكِ تقولين ما كنت أنتظر منكِ أن تقوليه منذ خمسة عشر عامًا. سأكون قد عاقبتك. سأكون قد حوَّلت حياتكِ إلى جحيم، وحياة رايان أيضًا. لن تجرئي على نسياني بعد ذلك ما حييتِ.»

التفتت لارا لتنظر إلى البحر، وبينما كانت تفعل ذلك، رأت إيدي أنها تحمل في يدها مقص المطبخ. مقص المطبخ! بمجرد أن رأت المقص، بدأ خوف إيدي يتلاشى. لقد تبيَّنت أن لارا لم تكن تنوي قتلها! فليس من المعقول أن تختار ذبحها بمقص في حين أنه يوجد بالمنزل سكاكين حادة.

استطاعت إيدي أن ترى خلف لارا، وخلف النافذة والحديقة، خطًّا رماديًّا باهتًا في الأفق. ها قد أتى الصباح. ولقد خرجت من هذه الليلة سالمة.

قالت إيدي: «حسنًا.»

استدارت لارا، وتقدمت نحوها ممسكة بقوة بالمقص في يدها اليمنى ثم سألتها: «حسنًا؟»

قالت إيدي بنبرة تحدٍّ وهي ترفع ذقنها وتكشف عنقها: «حسنًا. سأقبل صفقتكِ». لم يكن لدى إيدي أي نية لقبول «صفقة» لارا، لكنها صارت مطمئنة بعدما تأكدت أن لارا لن تقتلها. كانت متأكدة من أنه على الرغم من تخطيط لارا المحكم، فإنه لم يكن لديها مخرج. وتيقنت إيدي بأنها ستفوز في النهاية.

سألت إيدي: «هلا ننتقل إلى الخارج؟ هل يمكننا فعل ذلك من فضلك؟ أشعر بألمٍ شديدٍ. سأجيب عن أسئلتك. لكن هلَّا تسمحين لي فقط بأن أنهض من على هذا الكرسي وأتمشى في المكان، رجاءً؟»

نظرت لارا إليها من أعلى إلى أسفل، متفحصة ملابسها الخفيفة، وحذاءها العالي الرقبة الرث من ماركة «أج». نظرت مرة أخرى إلى الظلام في الخارج. كانت منهمكة في التفكير في الاحتمالات. وراهنت على أن إيدي لن تقدِم على الهرب وهي مرتدية مثل تلك الملابس، وفي غياب الضوء الكافي. لكن لارا لم تكن تعرف أن إيدي قد حفظت الطرق في الغابات المحيطة عن ظهر قلب، ولم تكن مدركة لمدى معرفتها بمساراتها ودروبها. ولم تعرف أن إيدي، بعد الأشهر القليلة الماضية التي قضتها هنا، قد تكون قادرة على العثور على طريقٍ مختصرٍ عبر الأشجار يوصلها إلى الطريق العمومي، رغم الظلام.

حبست إيدي أنفاسها برهة. ثم كررت طلبها قائلة: «رجاءً؟»

أومأت لارا باقتضاب. ودارت حول الكرسي ثم قصَّت الأصفاد التي كانت تقيد يدَي إيدي بها. مالت إيدي إلى الأمام، وانحنى ظهرها. وبدا أن الألم الحارق في كتفها يزداد سوءًا قبل أن يغمرها طوفان هائل من الشعور بالراحة من هذا الألم. طوت جسدها، واحتضنت ركبتَيها بين ذراعيها حتى ترخي ظهرها. استراحت لحظة قبل أن تمسك لارا بذراعها، وتسحبها بشدة للوقوف.

كان الجو باردًا جدًّا في الخارج، والهواء مثقلًا بالرطوبة. وقفتا جنبًا إلى جنب في فناء المنزل، والبخار يخرج من فميهما وهما تتنفَّسان، وللحظةٍ كان من الممكن أن تقرِّرا أن تصبحا صديقتين مرة أخرى. أفلتت لارا ذراع إيدي. وخرجت من الفناء، وترنَّحت قليلًا بينما غاص كعباها في العشب. خطت بضع خطوات نحو الجرف. وكانت لا تزال ممسكة بالمقص في يدها، والذي بدا مقبضاه البرتقاليان الزاهيان كإشارة ضوئية تحت سماء غائمة.

نظرت إيدي إلى الخلف نظرة خاطفة. فكرت أنها إنْ هربت عن طريق المرور عبر المنزل، فسيمكنها حينئذٍ أن تغلق الباب الأمامي خلفها، مما سيكسبها بعض الوقت. ولكن كان عليها أن تتمهل قبل القيام بذلك. فكلما زاد الضوء، زادت فرصها في الهروب بنجاح.

سألت إيدي لارا: «كيف عرفتِ؟» ثم أضافت: «كيف عرفتِ أنني استمعت إلى قصتك، وأنني رأيت صورتَيك على جهاز الكمبيوتر الخاص بجيك؟ كيف عرفت كل ذلك؟»

التفتت لارا لمواجهتها، وشعرها يتطاير على وجهها. أزاحت شعرها بعيدًا عن وجهها. وأجابت: «قبل تأسيسي لعملي الحالي، عملت في مجال تكنولوجيا المعلومات لسنوات. أنا أعرف كل شيء عن برامج التجسس. لم يستغرق الأمر مني سوى خمس دقائق تقريبًا لأضع برنامج تجسس على هاتفك، وجهاز الكمبيوتر الخاص بك، وجهاز الكمبيوتر الخاص بجيك أيضًا. ومنذ أن زرت منزلك للمرة الأولى، صارت لديَّ إمكانية الاطلاع على كل ضغطة ضغطتها على كل زر من أزرار أجهزتك، وكل رقم طلبته، وكل تطبيق فتحته. طوال هذا الوقت، كنت أراقب، وأنتظر اللحظة المناسبة.»

استدارت ومشت بعيدًا آخذة خطوة أخرى في اتجاه الجرف. قالت لارا: «عندما انتهى الأمر، نزلت إلى هناك.» وأشارت إلى حافة الجرف. تابعت: «كان المد قد انحسر. وركضت بطول الشاطئ، حتى وصلت إلى اللسان.» اتخذت إيدي بضع خطوات نحوها. وشعرت بالعشب المشرب بالمياه ينسحق تحت حذائها، وتسرَّب الماء المتجمد من خلال قماش حذائها. قالت لارا: «غسلت دمه من عليَّ في البحر، ثم صعدت مرة أخرى إلى الطريق.»

كانت لارا تتحدث عن قتلها لجيك. سألت إيدي: «هل كنتِ تشعرين بأي شيء في أثناء قيامكِ بذلك؟ أي شيء على الإطلاق؟»

رأت لارا تتجه نحوها تحت ضوء الشمس الضعيف. كانت بالكاد تستطيع أن ترى شكل جسدها، وبياض عينيها. أجابت لارا: «شعرتُ بالأسف. وشعرتُ بالخوف. اعتقدتُ أنني بهذا كتبتُ نهاية قصتي. وأنني دمرتُ حياتي بيدي. دمرتها «مرة أخرى». وأنه لم يكن ينبغي لي أن أدمر حياتي مرة أخرى. لم يكن ينبغي لي أن أضيع نفسي هباءً بهذا الشكل. ولكن ماذا كان عساي أن أفعل؟ بمجرد أن رأيتك، لم أستطع إخراجك من رأسي. لم أستطع التوقف عن التفكير فيما فعلتِه بي، وفي مدى عدم اكتراثك بالأمر، ومدى ضآلتي بالنسبة إليكِ. فكرت في مدى السهولة التي تجاهلتِ بها ألمي. لأنكِ اعتقدت أنك وصديقَيك أفضل مني، وأهم مني.»

ردَّت إيدي بحدة قائلة: «كنا أهم منكِ. وما زلنا كذلك. وسنظل كذلك إلى الأبد.» اندفعت موجة من الحرارة عبر جسدها، وبدأت بالصياح بأعلى صوتها. وقالت: «هل ظننتِ حقًّا أنني سأطلب منك الصفح؟ أنني سأعقد «صفقة» معك؟ لا أشعر بذرة ندم واحدة على ما فعلت. وإن تكرر الموقف فسأفعل نفس الشيء بالضبط مرة أخرى. أنا لم أرَ أحدًا يعتدي عليكِ. لم أرَ أحدًا يؤذيكِ. أتعرفين ماذا رأيت؟ رأيت فتاة مخمورة ذات مظهر فوضوي تنورتها مرفوعة حول سروالها الداخلي. فتاة رافقت كل الشباب في صفِّنا واحدًا تلو الآخر، وقررت رمي شِباكها مرة أخرى لتصيد الشاب التالي. فتاة ربما حدث لها أكثر مما كانت تتوقعه.»

فغرت لارا فاها. وبكت بلا صوت. قالت: «كيف يمكنكِ أن تقولي مثل هذه الأشياء؟ كيف يمكن أن يصل عماكِ إلى هذا الحد؟»

ردَّت إيدي بحنق: «أنا لست عمياء على الإطلاق! كنت أعلم بحدوث تجاوزٍ ما. وأخبرني حدسي أن رايان قد ارتكب هذا التجاوز. واخترته رغم ذلك. آثرت اختيارهما رغم ذلك. هل كنتِ تتوقعين مني أن أدمر صداقتي معهما من أجلك؟ أكان من المفترض أن أنحاز إليك بدلًا من الوقوف بجانبهما لمجرد أنك فتاة مثلي؟» هزَّت رأسها. وقالت: «أمِن المفترض أن أقف بجانبك من منطلق أننا ننتمي إلى نفس النوع؟ لم أقتنع قَطُّ بهذا الهُراء. لم أقف في صفك حينئذٍ، ولن أفعل ذلك الآن. وإنْ أتيحت لي الفرصة مرة أخرى، فسأفعل نفس الشيء تمامًا. سأغض الطرف عما حدث.» اندفعت نحو لارا، وكوَّرت قبضتيها بجانبها. وقالت: «لو عاد بي الزمن لاخترت أن أدمركِ مرة أخرى بلا أي تردد.»

أصدرت لارا صوتًا. بدا كأنها أطلقت ضحكة أو صيحة شبيهة بصوت النوارس. تراجعت إلى الوراء ورأتها إيدي تتعثَّر، وغُرِز كعب حذائها في الأرض الموحلة. حاولت أن تحرر كعب حذائها، فانزلقت جانبًا في الوحل. طار المقص من يدها عندما سقطت على جانبها، وتمسكت بقوة بالعشب بينما كانت تحاول سحب نفسها بعيدًا عن حافة الجرف.

اندفعت إيدي بقوة نحوها. جثمت على الأرض، والتقطت المقص ورفعته ثم أنزلته بكل قوتها لتطعن ظهر يد لارا. صرخت لارا من شدة الألم، وأخذت تزحف بعيدًا عن إيدي، ثم جرَّت نفسها بالاتكاء على ركبتيها. نظرت إلى إيدي، وكان وجهها ملطخًا بالطين والدموع، ولم تشعر إيدي نحوها بأي شفقة، أو بأي ذرة رأفة. اندفعت مرة أخرى، موجهة المقص نحو رقبة لارا. سقطت لارا إلى الوراء، ورفعت ذراعيها للدفاع عن نفسها. سقطت إيدي هي الأخرى ولكن إلى الأمام. كانت كلتاهما تزحفان بشق الأنفس في الوحل، تحاولان باستماتة الوقوف على قدمَيهما عندما بدأت الأرض تحتهما بالانهيار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥