الفصل الثالث
بقدر ما تتذكر إيدي، لقد كان ثلاثتهم معًا طوال الوقت تقريبًا: جيك ورايان وإيدي.
تعرَّفت عليهما في المدرسة، في ساسكس. كانت قد بلغت لتوِّها الحادية عشرة حين انتقلت مع عائلتها لتكون أقرب إلى المستشفى الذي كانت تُعالجَ فيه شقيقتها الصغيرة، جورجينا، من نوعٍ نادر من السرطان يصيب الأطفال. عندما عادت إيدي بذاكرتها إلى تلك الفترة، كانت الكلمة التي تتبادر إلى ذهنها هي «منبوذة». كان والداها دائمًا في مكان آخر، يثقلهما القلق تجاه شقيقتها الصغيرة التي لا حيلة لها، التي كانت تمتص كل حبهما كالإسفنجة. بينما كانت جورجينا ضعيفة، كان على إيدي أن تكون قوية. كان عليها أن تكون شجاعة. كان عليها أن تعتمد على نفسها.
وقد فعلت ذلك بالفعل. فقد وضعت إيدي مشاعر الهجر والإهمال جانبًا، كبتتها ولم تنشغل بالتفكير فيها، وواصلت العيش. كانت تركب دراجتها إلى المدرسة. وتُعِد عشاءها بنفسها عندما تعود إلى المنزل. حتى إنها كانت تأوي إلى الفراش وحدها في بعض الأحيان.
عندما بلغت الثانية عشرة، بدأت ارتياد مدرسة خاصة. بدت إيدي ناضجة مقارنة بالأطفال الآخرين؛ إذ كانت جادة، وهادئة ورصينة. لكن الفتيات الأخريات في صفها لم يَرَين أنها قوية أو معتمدة على نفسها، بل رأينها مملة ومغرورة. سخروا من جديتها، وكلما سخروا منها، ابتعدت إيدي عنهن أكثر. كانت تعاملهن بالازدراء الذي تستحقه البلهاوات المبتسمات أمثالهن. وسرعان ما وجدت نفسها وحيدة في المدرسة كما كانت في المنزل.
استمر هذا إلى يوم ما في أواخر الفصل الدراسي الصيفي، عندما انزلقت بسبب بعض الحصى في أثناء هبوطها من تلٍّ في طريقها إلى المنزل من المدرسة، وسقطت من على دراجتها. كانت تجلس وسط التراب، تلتقط قطع الحصى من الخدش في ركبتها، عندما جاء إليها ولدان يهرعان فوق قمة التل. كانت تعرفهما من المدرسة، كانا يكبرانها بسنة، وكانا ولدَين طويلَين داكنَي البشرة، عزف الطلاب الآخرون عن مصادقتهما لسببٍ ما. ترجَّلا من دراجتَيهما، ومدَّ الولد الأطول منهما يده لمساعدتها على النهوض. ثم سألها: «هل أنتِ بخير؟» كانت ابتسامته مائلة، وكان لديه غمازة كبيرة وعميقة على الجانب الأيمن من وجهه. لقد كان أجمل شخص رأته إيدي على الإطلاق.
مدَّت إيدي يدها إليه. قال وهو يسحبها من دون عناء حتى وقفت على قدميها: «أنا رايان.»
قال الصبي الآخر، وقد جثا في الأرض المتربة لفحص إطار دراجتها، بهدوء: «أنا جيك.»
وكان هذا كل شيء، شعرت إيدي كأن صاعقة أصابت قلبها حتى كاد يتوقف من فرط الإعجاب. عرفت على الفور أنه الشخص المناسب. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الثلاثة معًا، لا يفترقون.
الآن فقط لم يعُد هناك سوى اثنين: إيدي، التي كانت متكومة ككرة في زاوية على الأريكة، والأرض من حولها مليئة بالمناديل الورقية؛ ورايان، الذي كان يبلي السجادة وهو يخطو عليها ذهابًا وإيابًا. كان رايان في حالة هستيرية، عيناه محدقتان بفزع، مهتاجًا بشدة بحيث لا يمكنه الجلوس بجانبها، متوترًا بشدة ليفعل أي شيء سوى إعادة عرض المشهد المروع لذلك الصباح في رأسه ووصفه لها.
قال رايان: «كان هناك الكثير من الدماء يا إيدي، لم أستطع … فعل أي شيء. حاولتُ … حاولت إجراء الإنعاش القلبي الرئوي، لكنه كان بلا جدوى. أعني، بالطبع كان بلا جدوى؛ فقد كان … ميتًا. ثم وجدت نفسي مغطًّى بالدماء وأنا جالس هناك فحسب، وقلت: إنه أخي. وبعد ذلك أرادوا أن يعرفوا لماذا كذبت، فقلت: لم أكذب. لم أكذب.» هزَّ رايان رأسه. وأردف قائلًا: «كنا نقولها طوال الوقت، أليس كذلك؟ إنه أخي. نحن مثل الأخوين. لا أعرف لماذا قلت ذلك. لا أعرف لماذا قلت ذلك حينئذٍ. يا إلهي، يا إيدي، كان هناك الكثير من الدماء …»
أخذت إيدي نفسًا عميقًا، وقبضت يدَيها. ثم قالت: «رايان، من فضلك كفى …»
قال وهو ينظر إليها لحظة: «أنا آسف. أنا آسف.» صمتَ لعشرين أو ربما ثلاثين ثانية، ثم عاود الحديث مرة أخرى. «انتظرتُ في السيارة بضع دقائق قبل أن أدخل. كنت أتصفَّح هاتفي فحسب، أتعرفين، أتصفح فحسب، مجرد … لم أكن أفعل شيئًا حقًّا، فقط أضيع الوقت … فقط أضيع الوقت …»، وهنا تهدج صوته. كان سيعيد سرد ما قاله مرة أخرى. كانت تعرف ذلك. كان سيقول: «يا ليتني دخلت مباشرة. يا ليتني ركلت الباب الأمامي بدلًا من الانتظار، بدلًا من السير على طول الطريق إلى الجانب الآخر من المنزل. يا ليتني فعلت هذا، يا ليتني فعلت ذاك.»
لقد أخبرها بقصته ما بدا كأنه عشرات المرات: كيف قاد السيارة إلى منزل جيك ليمارسا رياضة الجري الصباحية يوم الخميس. كيف وصل مبكرًا، لأن حركة المرور كانت أفضل من المعتاد؛ لذا قضى بعض الوقت في تصفُّح هاتفه في السيارة. عندما ذهب ليطرق الباب، ما كان هناك من مجيب؛ لذا سار حول المنزل إلى ناحية الجرف. ورأى أن الباب الزجاجي الجرار كان مفتوحًا، ولكنه لم يقلق، لأن جيك غالبًا ما كان يترك الباب مفتوحًا.
لكن في اللحظة التي دخل فيها المنزل، عرف أن هناك خطبًا ما. كان أحد كراسي غرفة الطعام ملقًى على جانبه، وكانت هناك رائحة معدنية غريبة في الهواء. أخبرها رايان كيف وجد جيك مُلقًى على وجهه على أرض المطبخ. حاول أن يقلبه، ونجح في ذلك بعد محاولة أو اثنتين.
قال رايان: «كانت الأرض مضرَّجة بالدماء. كانت هناك فوضى عارمة …»
قالت إيدي مرة أخرى، وهي تمد يدها إليه: «من فضلك.» واستطردت والدموع تتدفق على وجهها: «من فضلك، كفى.»
لمس رايان أصابعها بأصابعه، وبدا أن هذا الاتصال أعاده إلى نفسه. جثا على ركبتَيه أمامها، وسحبها نحوه. كانت تشم رائحة العرق القديم التي يغطيها عطره وهو يقبِّل أعلى رأسها وخدها، ويهمس في شعرها قائلًا: «أنا آسف جدًّا يا إي. أنا آسف جدًّا.» ظل يحتضنها هكذا بضع دقائق، ثم وقف وذهب إلى المطبخ. أخذ زجاجة ويسكي وكأسَين وعاد ليجلس بجانبها. ثم سكب لهما شرابًا.
سأل بصوتٍ هادئ: «ماذا سنفعل من دونه؟»
هزَّت إيدي رأسها. وقالت: «أنا فقط لا أفهم. لا أفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، كيف لشخصٍ أن … لماذا قد يذهب أي شخص إلى هناك من الأساس؟ إن المنزل على بُعد أميال من أي مكان، ولم يكن هناك أي شيء يستحق السرقة أصلًا …»
هزَّ رايان رأسه. وقال: «ما كان ينبغي أن يكون بمفرده»، فجفلت إيدي. ثم أكمل قائلًا: «لا، لم أقصد …» بدا محطمًا وأمسك بيدها. «لم أقصد أنه كان عليكِ أن تكوني هناك. أقصد أنه كان عليَّ أن أكون هناك. كان يجب أن أصل إلى هناك في وقتٍ أبكر. إنني فقط أكره فكرة أنه كان بمفرده … لقد كنت أنا وهو دائمًا معًا، أليس كذلك؟» عضَّت إيدي شفتها. «الحمد لله أنكِ لم تكوني هناك يا إي. الحمد لله، وإلا … لا أريد حتى أن أفكر فيما كان يمكن أن يحدث لو كنتِ موجودة.»
شرب رايان كأسه، وسكب لنفسه كأسًا أخرى. وبينما انحنى ليعيد ملء كأس إيدي، ارتسم على وجهه تعبير غير مفهوم، فقد كان مزيجًا من الحزن، والشعور بالذنب أيضًا. أخذ رايان رشفة من شرابه. وقال: «أشعر كما لو أننا خُنَّاه.» لم يكن ينظر إليها، لكن إيدي كانت تعرف ما كان يفكر فيه. كان يفكر في كل الوقت الذي قضاه معها خلال الأسبوعَين الماضيَين منذ أن تركت جيك. كان الاثنان يجلسان جنبًا إلى جنبٍ على الأريكة ليلة بعد ليلة، يحتسيان النبيذ ويضحكان على بعض الهُراء الذي يشاهدانه على التليفزيون، وساقها ملتصقة بساقه، وعيناهما تلتقيان بين الحين والآخر، وكلاهما يشعران بالقلق يعتصر معدتيهما. وكلٌّ منهما يعلم — دون أن يقول أي شيء — أنها يمكن أن تكون مسألة وقت فحسب، قبل أن تتطور علاقتهما أكثر.
قالت إيدي: «إننا لم نرتكب أي خطأ.»
صبَّ رايان المزيد من الويسكي. أرادت أن تمد يدها لتمسك بيده، لكنها خافت فجأة من أنه قد يستاء منها. بل إنه قد يلومها على ما يشعران به الآن. اغرورقت عيناها بالدموع مرة أخرى، ولكن هذه المرة لم تكن حزنًا على جيك فحسب، بل على نفسها وعلى رايان أيضًا. كانت تفكر أنه، من الآن فصاعدًا، سيظل شبح جيك يقف بينهما دائمًا، وسيشكِّل غيابه اتهامًا مستمرًّا.
•••
استفاقت إيدي مذعورة، وكان رأسها يؤلمها وفمها جافًّا. استغرقت ثانية لتتذكر، ليغمرها الرعب مرة أخرى. لقد مات جيك. مات زوجها. ولم تبقَ سوى ذكرى كل الأشياء الفظيعة التي قالتها له قبل أن تتركه.
كان ذلك قبل نحو أسبوعين. كان جيك وإيدي في المطبخ بمنزلهما الواقع على الجرف. كانت إيدي تُعِد العشاء، وكان جيك يعيد قراءة أحد كتبه الخاصة بكتابة السيناريو. كانا قد فتحا زجاجة نبيذ، وكانا يتسابقان على شربها حتى آخر قطرة، وكان كلاهما بالفعل يحتسيان كأسهما الثانية.
بينما كانت إيدي تقلِّب المرق، سمعت اهتزاز هاتفها. ألقت نظرة من فوق كتفها: كان الهاتف على طاولة المطبخ، على بُعد نحو قدمَين من مِرفق جيك، بعيدًا عنه بما يكفي بحيث لا يتمكَّن من قراءة الشاشة. رأته إيدي ينظر إليه قبل أن يعود إلى كتابه. وبعد نحو ثلاثين ثانية، اهتزَّ الهاتف مرة أخرى. مدَّت إيدي يدها بسرعة لتلتقطه.
شعرت بنظرة جيك مثبتة عليها وهي تقرأ الرسائل.
سأل جيك، وهو يعود بنظره إلى كتابه: «من المرسِل؟»
أعرضت إيدي عنه، وانشغلت بالمرق. صمتت لحظة قبل أن ترد قائلة: «لارا.»
قال بنبرة فاترة: «حقًّا؟ ماذا تريد؟»
صمتت إيدي مرة أخرى. ثم قالت: «إنها تفكر في دخول هذا الماراثون الفائق الذي تحدثت عنه، كما تعرف، سباق «جريت جلين» أو … أيًّا كان اسمه.» واستدارت لمواجهة جيك. وأردفت قائلة: «إنها تريد أن تعرف إذا كنت سأتدرب معها أم لا.»
رفع جيك نظره من كتابه. وقال: «هل تريد أن تعرف إذا كنتِ ستتدربين معها لسباق جريت جلين أو أيًّا كان اسمه؟ هل هذا ما تقوله في الرسالة؟»
أطلقت إيدي تنهيدة كبيرة. وقالت: «قالت سباق الجري الطويل فحسب. لقد تحدَّثنا عنه من قبل. لا أستطيع تذكُّر اسمه. يا إلهي! هل تريد قراءة الرسالة؟ هل هذا ما تريده يا جيك؟» مدَّت إيدي يدها ممسكة بهاتفها. كانت تعض بأسنانها على شفتها السفلية، وتأمل بشدة أن يشيح بنظره ويعود إلى قراءة كتابه. كانت تدعو أن تمنعه شدة الحرج والكبرياء من أن يأخذ الهاتف فعلًا ويقرأ الرسائل ويرى أنها لم تكن من لارا على الإطلاق. بل كانت من رايان، الذي كان يسأل عن حالها وما إذا كانت ترغب في أن يلتقيا لتناول القهوة خلال عطلة نهاية الأسبوع.
لكن جيك لم يكن محرجًا، وكان قد فقدَ كبرياءه تمامًا. ومدَّ يده ليأخذ الهاتف.
وقال: «نعم. دعينا نُلقِ نظرة.»
انتزعت إيدي الهاتف مرة أخرى كما لو أنها احترقت. وصرخت قائلة: «يا إلهي!» كان يستحيل أن تقول الحقيقة. لقد كذبت لأنها كانت تعرف أنه سيبالغ في رد فعله تجاه تلقِّيها رسائل من رايان، لأنه يبالغ في رد فعله تجاه كل شيء هذه الأيام. لقد كذبت لأنها كانت تأمل في قضاء مساء هادئ فحسب. والآن، صار الهجوم هو خط دفاعها الوحيد. أكملت قائلة: «هذا أمر سخيف يا جيك! إنك مجنون بالشك! هل تريد قراءة رسائل هاتفي؟ أنت شديد الغرابة.»
صرخ بدوره قائلًا: «أنتِ من قدَّمتِ الهاتف إليَّ!»
فأردفت قائلة: «كنت أُثْبِت وجهة نظري. كنت أحاول إظهار مدى جنونك. لن أطلب منك أبدًا أن أرى رسائلك!» ثم دسَّت هاتفها في جيبها الخلفي، وعادت إلى الموقد وبدأت تقلِّب الطعام بغضب. «هل لديك أي فكرة عما يعنيه العيش مع شخص لا يثق بك؟»
سمعت جلبة كرسي يسقط خلفها، وجيك يترنَّح واقفًا على قدميه. قال جيك بصوتٍ خفيض وحاد: «هل لديكِ أي فكرة عما يعنيه الشعور بأن الشخص الذي تحبينه يكذب عليك طوال الوقت؟ أن تراقبي وجهه في كل مرة يتلقَّى فيها رسالة وأنتِ تعلمين أنه يخفي شيئًا عنكِ؟ ألَّا تعرفي أبدًا أين كان، وماذا كان يفعل …»
«يا إلهي!» هكذا قالت إيدي واستدارت لتواجهه، ومرق الطماطم يتناثر في كل مكان على الأرض، بينما كانت تلوح بالملعقة الخشبية. «هذا أمر لا يطاق. أكاد أكون سجينة في هذا المنزل اللعين، وأنت تشتكي من أنك لا تعرف أين أنا طوال اليوم؟ ما الذي أصابك؟ من أين تأتي بهذه الأفكار الجنونية؟»
تصاعدت حدة الجدال عند هذه النقطة. وسار في مساراته المعتادة، وهو نفس نوع الجدالات التي كانا يخوضانها منذ أشهر. إلا أن هذا الجدال كان هو الأسوأ حتى الآن. اتَّهمها جيك بالكذب عليه، وبخيانته. أما إيدي فدافعت بشراسة، ووجَّهت إليه السباب واللعنات، وقالت كل الأشياء الفظيعة التي كانت تفكر فيها في أكثر اللحظات سوءًا وشرًّا؛ كل الأشياء التي لم يكن ينبغي أن تقولها قَطُّ، قالت إنه مجنون، ومصاب بجنون الشك، وأناني. وفاشل. وأخبرته كم ندمت على قضاء كل تلك السنوات في دعمه في مشروعات كتابته. وأوضحت له كم كانت تكره منزل الجرف، وكم تمنَّت لو لم ينتقلا إليه قطُّ، وكيف أن كل ما أرادت فعله هو الهرب.
أجاب جيك: «لماذا لا تذهبين إذن يا إيدي؟ لماذا لا تغادرين فحسب؟ هيا! اهرعي إلى رايان كما تفعلين دائمًا.»
وهو ما فعلته بالفعل.