الفصل الرابع
أيقظ صوت ماكينة القهوة إيدي للمرة الثانية. ومرة أخرى، حظيت بلحظة من الشعور بالسلام، أعقبتها نوبة رهيبة من الحزن. وبينما كانت تمد يدها لتأخذ علبة المناديل الورقية الموضوعة على طاولة القهوة، نظرت إلى أعلى. فالتقت عيناها بعينَي رايان. كان في المطبخ، يرتدي بذلة وقميصًا أبيض مكويًّا، وربطة عنق مفكوكة تتدلى حول عنقه.
سألته إيدي: «هل ستذهب؟»
بدا متحيرًا. وقال: «سأذهب إلى العمل يا إيدي.»
سحبت نفسها، وجلست في وضعٍ مستقيمٍ، وقالت وهي تلفُّ كيس نومها حولها: «لكن … اليوم؟ لا يمكنك الذهاب. أعني … ماذا عن الإجازة المخصصة للأسباب الإنسانية؟»
لوى رايان شفتيه. وقال: «الإجازة المخصصة للأسباب الإنسانية؟ يا إلهي يا إيدي، تكونين ساذجة في بعض الأحيان.» التفتَ بعيدًا عنها. وقال: «لا يوجد شيء اسمه إجازة مخصصة لأسبابٍ إنسانية في القطاع المالي.»
مسحت إيدي دموعها وهي تشعر بغصة في حلقها. ونظرت حولها إلى الفوضى التي سبَّبتها في غرفة معيشة رايان التي عادة ما تكون نظيفة؛ الأكواب الفارغة والمناديل الورقية المجعدة، وبنطالها الجينز المُلقى بإهمالٍ على الأرض. وأدركت أنه قد لا يريدها في منزله. وبعد لحظات، خرج من المطبخ حاملًا كوبَين من القهوة. وضع كوبًا على الطاولة أمامها وقبَّلها برقة على رأسها.
وقال: «أنا آسف يا إي. لم يكن يجب أن أنفعل. لا أريد الذهاب، لكني فاتني الأمس بأكمله وهناك عملاء لا بد من تولي أمرهم. إذا لم أذهب، سيتولى شخص آخر زمام الأمور، وهذا يعني أنني سأخسر. لا أستطيع تحمُّل ذلك. هذا هو حال الأمور.»
•••
جاءت الشرطة لاصطحاب إيدي في وقت الظهيرة. رجلان آخران ومختلفان هذه المرة يرتديان الزي الرسمي، وامرأة ترتدي ملابس عادية تُدعى نيتا بادامي، قالت إنها ضابطة اتصال عائلي. وقالت لها: «أي أسئلة لديكِ، أي شيء تحتاجين إليه، تعالَي إليَّ، حسنًا؟» كانت نيتا شابة، ربما في أوائل الثلاثينيات من عمرها، صغيرة الحجم ووجهها ذو تعبير حاد خفَّف من وقعه رموشها الطويلة وصوتها المريح.
أوضحت نيتا أن الشرطة تحتاج إلى اصطحاب إيدي إلى منزل الجرف؛ كي تحدِّد ما إذا كان هناك أي شيء مفقود. لم تعثر الشرطة على كمبيوتر محمول أو هاتف محمول في مسرح الجريمة؛ لذا كانوا متأكدين تمامًا أنهما سُرقا. لكنهم تساءلوا ما إذا كان هناك أي شيء آخر، أي شيء مميز، قد يساعدهم في تعقب القاتل.
لم تتمكَّن إيدي من فهم المغزى وراء ذلك. قالت: «ليس لدينا أي شيء يستحق السرقة. سترون. الأثاث كله رديء، معظمه مستعمل … لم نكن نحتفظ بالنقود في المنزل، ولا نمتلك أيَّ لوحات فنية ثمينة على الجدران. لا أفهم لماذا من الضروري أن أقطع كل هذه المسافة إلى هناك.»
ابتسمت لها نيتا ابتسامة مطمئنة. وقالت: «أعرف أنكِ لا تريدين الذهاب إلى هناك يا إيدي. أتفهَّم ذلك. لو كنت في مكانك، لما أردت الذهاب أيضًا. لا شك لديَّ أنها ستكون تجربة مروعة، ولكنني سأكون معك في كل خطوة. هناك احتمال أن هذا قد يكون مفيدًا لنا؛ لأنك لا تعرفين أبدًا ما الذي قد يأخذه اللص. إذا أخذ متعلقًا شخصيًّا، فقد يساعدنا ذلك في تعقُّبه.»
لم يكن هناك جدوى من الجدال. رضخت إيدي لأن تُقاد إلى السيارة. جلست صامتة ومتجهمة في المقعد الخلفي، وأخذت تحدق من النافذة. ارتجفت بينما كانوا يتجهون بالسيارة إلى الجسر، وأضواؤه تومض في الضباب.
قالت نيتا، وقد بدت لأول مرة غير واثقة بنفسها بعض الشيء: «هل يمكنك أن تخبريني متى تركتِ منزلك؟»
عانقت إيدي نفسها، وتكوَّرت حول نفسها بالقرب من باب السيارة. ثم قالت بهدوء: «منذ أسبوعين. لقد تشاجرنا.» وعندما استدارت لتواجه نيتا، التقت عينها بعين السائق في المرآة الخلفية، إذ كان يراقبها بتمعُّن. تابعت إيدي قائلة: «أنا صادقة، لأنه لا يوجد سبب يمنعني من ذلك. كنا نمرُّ بفترة صعبة، نتشاجر فيها كثيرًا.»
سألتها نيتا: «هل كان هناك سبب معين للشجارات؟»
تنهدت إيدي. ثم قالت: «المال، في الغالب. كنت أعمل كمساعدة تنفيذية في شركة كبيرة في لندن. كنت أتقاضى راتبًا جيدًا. ولكن منذ أن جئنا إلى هنا قبل عامين، لم أتمكَّن من العثور على أي عمل دائم. كنت أعمل مساعدةً عبر الإنترنت فحسب لقاء راتب زهيد.»
سألتها نيتا مرة أخرى: «وماذا عن جيك؟ كان يكتب سيناريوهات للتليفزيون، أليس كذلك؟»
هزَّت إيدي كتفَيها. وقالت: «أجل. بين الحين والآخر. إنها مهنة يصعب كسب المال منها بانتظام، كما تعرفين. كان دخلي هو الذي كنا نعتمد عليه.» فرَكت إيدي يديها في حجرها. وأردفت قائلة: «كان لدى جيك بعض الأفكار التي قوبلت بالرفض. وقد تضايق بشدة بسبب ذلك. وأصيب بإحباطٍ شديد.» صمتت للحظة. ثم أكملت قائلة: «لقد تشاجرنا حول المنزل أيضًا.»
سألتها نيتا: «ماذا عن المنزل؟»
أجابت إيدي: «أكره العيش هناك.»
«حقًّا؟» بدت نيتا متفاجئة. «ولكن ذلك الجزء من الساحل جميل جدًّا …»
ردَّت إيدي: «ولكن لا يوجد شيء هناك. لا شيء يحدث، وكنت عالقة فيه. محاصرة. فكما ترين لا أستطيع القيادة، لأنني أعاني من مشكلة في عيني. أعاني من وجود بقع عمياء.»
سأل السائق وقد بدت عليه الحيرة: «ومع ذلك قررتما شراء منزل في مكان ناءٍ؟»
أجابت إيدي: «لم نشترِه. لقد ورثناه من والد جيك. لم أرَ المنزل مطلقًا قبل أن ننتقل إليه. أخبرني جيك أنه في إدنبرة.» ضحكت إيدي ضحكة قصيرة ومريرة. وقالت: «كنت متحمسة جدًّا! وعندما وصلنا إلى هنا، اكتشفت أنه ليس في إدنبرة على الإطلاق. إنه يبعد أكثر من ساعة بالسيارة عن المدينة، إذا كنت تستطيع القيادة بالطبع. أما إذا كنت لا تستطيع، فيمكن أن تستقل حافلة أو قطارًا، وكلاهما يستغرقان وقتًا طويلًا. ويقع المنزل على جرفٍ بلا جيران وتحتاج إلى السير مسافة تستغرق خمسًا وعشرين دقيقة لشراء الحليب.» توقفت عن الكلام لحظة، وأخذت نفسًا عميقًا مرتعشًا. وأكملت قائلة: «في الحقيقة أنا أكره هذا المكان. أردت بيعه واستخدام المال لشراء منزل آخر، منزل في المدينة. قال جيك إنني أنانية كوني أتوقع منه أن يتخلص من منزل والده.»
اهتزَّ هاتف إيدي في جيب معطفها. أخرجته وفحصت الشاشة، وكانت لارا تتصل.
سألتها نيتا وهي تلقي نظرة على شاشة الهاتف: «هل تحتاجين إلى الرد على هذا الاتصال؟»
هزَّت إيدي رأسها نفيًا. وقالت: «إنها صديقة لي. لم أخبرها حتى الآن. أنا تقريبًا لم أخبر أحدًا بالأمر حتى الآن. لا يعرف الخبر سوى إخوة جيك غير الأشقاء وعائلتي، أما باقي الناس — الأصدقاء، وزملاء العمل القدامى — فأنا لا أعرف حتى كيف أخبرهم بما حدث.»
مدَّت نيتا يدها نحو يد إيدي وضغطت عليها سريعًا. وقالت: «يمكننا الحديث عن ذلك إذا أردتِ. يمكنني مساعدتكِ.» صمتت لحظة قبل أن تضيف: «إنني أفكر في هذا فقط لأنك ذكرتِ إخوة جيك غير الأشقاء. لكنني كنت أتساءل إذا كنت تعرفين يا إيدي، لماذا أخبر رايان بيرس المسعفين أنه شقيق جيك؟ هل كنت تعرفين أنه قال ذلك؟»
تفحصت إيدي وجه نيتا. وقالت بهدوء: «أجل. كنت أعرف. لم تكن كذبة. إذا كان هذا ما تظنين. كان يعني ذلك …»، وتحشرج صوتها وأكملت: «كان يعنيه بشكلٍ إيجابي. كانا يتحدثان بهذه الطريقة في بعض الأحيان، عن كونهما أقرب من الأصدقاء، وأنهما شقيقان.»
أومأت نيتا رأسها وهي تفكر. نظرت من النافذة للحظة، ثم التفتت مرة أخرى إلى إيدي. وقالت: «الشيء الآخر الذي قاله هو أنه لم يكن يقصد قَطُّ إيذاء جيك. هل لديك أي فكرة لماذا قال ذلك؟»
نظرت إيدي إلى يدَيها. وهزَّت كتفَيها. وقالت: «أعتقد لأنه … بسماحه لي بالبقاء في منزله، بدا كأنه ينحاز إلى صفي. وهذا من شأنه أن يضايق جيك. كلانا كان يعرف ذلك، لكن رايان صديقي أيضًا؛ لذا …»، وسكتت. ثم أضافت: «كان الأمر معقدًا.»
تباطأت السيارة عندما اقتربوا من المنعطف المؤدي إلى الطريق الساحلي. شعرت إيدي بتقلُّب في معدتها. مدَّت يدها إلى أعلى وأمسكت بالمقبض الموجود في السقف عندما انحرفت السيارة يمينًا. شعرت أن وجهها ساخن، وأنفاسها لاهثة. كانت تشعر بأن نظر نيتا، والسائق أيضًا، مثبت عليها، كلاهما يراقبانها وهم يتجهون نحو منزلها. كلاهما يتطلعان إلى رؤية ما ستفعله، وكيف سيكون رد فعلها. كان الأمر يشبه كونها حيوانًا محبوسًا في قفص.
سألتها نيتا: «هل تحوَّلت شجاراتك مع جيك إلى عنفٍ جسدي يا إيدي؟»
حدقت إيدي إليها. وقالت: «ماذا؟ لا! هل تقصدين … انتظري، إلامَ تُلَمحين؟»
ردَّت نيتا: «لا أقصد أنك فعلتِ أي شيء خاطئ. إننا نعلم من كاميرات المراقبة في مبنى رايان أنك لم تغادري الشقة ذلك الصباح؛ لذا نعلم أنكِ لم تفعلي هذا. لكننا كنا نتساءل عما إذا كان من الممكن أن يكون شخص يهتم لأمرك، ويعتقد أنك في خطر، قد تصرف لحمايتك. ربما لم يكن يقصد أن تصل الأمور إلى هذا الحد البعيد …»
كادت إيدي تضحك وقالت: «أتقصدين رايان؟ إنك لم تكوني تنصتين إليَّ، أليس كذلك؟ كان رايان يحب جيك، يحبه كأخ. وأجل، كنت أنا وجيك نمر بفترة صعبة، لكنه لم يكن ليمد يده عليَّ أبدًا. لم يكن من هذا النوع من الرجال.»
سألتها نيتا: «أي نوع من الرجال كان؟»
ابتسمت إيدي لها. وأجابت: «كان مخلصًا. كان يرى الخير في الناس. لقد رآه فيَّ. كان يحبني كثيرًا.» وبدأت الدموع تنهمر بغزارة على وجهها. أخرجت نيتا علبة مناديل ورقية من حقيبتها وأعطتها منديلًا. أكملت إيدي: «لم يكن يحب أن أكون أنا المُعيلة، كان هذا يزعجه دائمًا. أراد أن يعتني بي؛ كان من الطراز القديم في هذا الشأن. كان عنيدًا. وأبيًّا.» مخطت أنفها. وأردفت قائلة: «يمكن وصفه بأنه كان حالمًا بعض الشيء. كان خياليًّا.»
مسحت إيدي عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا. وقالت للسائق: «عليك أن تبطئ السرعة الآن، فالمنعطف قادم.» عندما انحرفت السيارة عن الطريق إلى مسارٍ غير ممهد، بدأت ضربات قلب إيدي تتزايد. وقالت: «إنه بالقرب من هنا.» كانت تمسك بمقبض سقف السيارة مرة أخرى، ورأسها محني وذقنها منكمش نحو صدرها.
سألتها نيتا: «هل أنت بخيرٍ يا إيدي؟ هل تشعرين أنك على ما يرام؟»
همست إيدي قائلة: «أنا بخير.» كانوا يمرُّون لتوِّهم بالنقطة التي أقلَّها منها رايان ليلة الشجار. كانت قد أرسلت إليه رسالة نصية بينما كانت تحزم حقيبتها، تقول: «من فضلك تعال الآن، لا أستطيع البقاء هنا.» وصل رايان في أقل من ساعة؛ ولا بد أنه قد تجاوز الحد الأقصى للسرعة المحددة طوال الطريق. وعندما استقلت سيارته، استدارت لتنظر إلى المنزل، فرأت جيك يقف عند المدخل، يراقبها. كان الضوء خلفه، فلم تتمكَّن من رؤية وجهه، ولكنها تمكَّنت من تخيُّله الآن، قد ارتسم على قسماته الألم والجرح. كانت تلك هي آخر مرة رأته فيها.