الفصل التاسع

ثم تبقى واحد.

كل ما تستطيع إيدي تذكُّره، أنهم كانوا ثلاثة: جيك ورايان وإيدي. قبل جيك وقبل رايان، كانت إيدي وحيدة دائمًا. وها هي أصبحت الآن وحيدة مرة أخرى: وحيدة وخائفة.

آلمتها مقابض أكياس التسوق في راحتَيها؛ إذ سارت إيدي مسافة نصف ميل، في طريق عودتها من محطة الحافلات إلى المسار المؤدي إلى منزل الجرف بأسرع ما يمكن. كان الجو باردًا جدًّا وبدأ الضوء يتلاشى، وبدأ معدل ضربات قلبها يزداد في الارتفاع. لم تكن تستطيع أن ترى في الليل جيدًا؛ فلم يكن من الممكن أن تظل بالخارج بعد حلول الظلام.

كانت قد عادت إلى المنزل الواقع على الجرف منذ شهر. لم يكن لديها خيار آخر؛ فبعد القبض على رايان واتهامه بقتل جيك، ظلَّت إيدي في شقته حتى انتهاء عقد الإيجار. لم تقدر على تحمُّل تكلفة إيجاره بالطبع، وقد باءت محاولاتها لبيع منزل الجرف بالفشل. قليلون مَن أتوا لرؤيته، ولكن لم يقدِّم أحد عرضًا لشرائه. قال لها سمسار العقارات: «حاولي مرة أخرى في الصيف. لا أحد يريد شراء منزل في الظلام.» لا أحد يريد شراء منزل منعزل على جرف متآكل تعرَّض ساكنه الأخير للضرب المبرح حتى الموت، هذا ما لم يقله. لكن إيدي فهمت.

في الوقت الحالي، كانت عالقة هناك، وحيدة في الظلام المتزايد باستمرار. كان المنزل يقع تقريبًا على بُعد ميلَين من أقرب بلدة، لكن فور أن يسقط ستار الليل، كان يبدو كأنه يقع على حافة الأرض. وفيما عدا لسانًا بحريًّا مشجرًا في الشمال وآخر في الجنوب، لم تكن هناك أي علامات أخرى ظاهرة تدل على الحياة باستثناء السفن المارة بصمت. لم يكن هناك ضوء أو صوت، لا وجود لبهجة السكارى ولا ضحك تلاميذ المدارس. لم يكن هناك سوى صوت الريح وهي تعصف بأشجار التَّنُّوب الواقعة خلف المنزل، والأمواج وهي تصطدم بالصخور، وصيحات النوارس التي لا مفر منها.

مشكلات إيدي أيضًا بدا أنه لا مفر منها. كانت هناك على عتبة بابها بينما دفعت الباب الأمامي بكتفها لتفتحه؛ كان بريد اليوم مُلقًى فوق بريد الأمس. كان معظمه فواتير لم تتمكن من دفعها. خطت فوق الكومة، وأشعلت الأضواء والتدفئة، وبدأت في ترتيب مشترياتها الضئيلة. أثار صوت الهواء في تحركه عبر الأنابيب أعصابها للغاية.

بعد أن وضعت مشترياتها من البقالة في أماكنها، جلست على طاولة المطبخ وتفحصت رسائل البريد الإلكتروني الواردة إليها، على أمل أن تجد ردًّا على أحد طلبات العمل التي أرسلتها. غير أنها لم تجد أي شيء؛ لا شيء سوى البريد المزعج والهراء التسويقي، بما في ذلك رسالة من شركة ستوري تايم، شركة لارا، تعرض عليها تجربة مجانية.

أغلقت إيدي جهاز الكمبيوتر المحمول، وهيَّأت نفسها للتعامل مع البريد الفعلي. فرزت المظاريف، واضعة إخطارات «الطلب النهائي» وحدها في جانب. كانت هناك رسالة من المحكمة تبلغها بموعد محاكمة رايان خلال ثلاثة أشهر. وكانت هناك رسالة تحمل ختم «سجن صاحبة الجلالة بإدنبرة».

كانت إيدي قد فتحت الرسائل القليلة الأولى التي أرسلها رايان. قرأت في كل سطر يأسه وعدم تصديقه أنها يمكن أن تعتقد أنه مذنب بقتل جيك. عذَّبتها مناشداته لها أن تأتي لزيارته، وبعد التفكير في الأمر، شرعت في ترتيب زيارة.

وحينئذٍ تدخَّلت نيتا. حذَّرتها قائلة: «قبل أن تذهبي لرؤيته يا إيدي، أعتقد أنه ينبغي لك معرفة الحقائق.» قالت إنَّ القضية المرفوعة ضد رايان تنطوي على أدلة قوية، سواء من حيث الأدلة الجنائية أو الدافع. ولم يكن هناك مشتبه بهم آخرون. قالت إنَّ رايان حاول توجيه أصابع الاتهام إلى شخص غيره. لقد وجَّه اتهامات لا أساس لها ضد امرأة غامضة لا يستطيع تذكُّر اسمها. غير أنه لم يكن هناك ما يشير إلى تورط أي شخص آخر.

قدمت نيتا إلى إيدي ملفًّا مخصصًا للقضية. ومما أثار رعب إيدي أنَّ الملف كشف لها أنها لم تكن تعرف رايان على الإطلاق. وأنها لم تكن تعرف جيك في حقيقة الأمر أيضًا. كشف لها أنهما كانا يكذبان عليها، ويخونان ثقتها، لسنوات. كان الأمر كما لو أنهما كانا يعيشان حياة موازية لا تعرف هي عنها شيئًا.

بادئ ذي بدء، لم تكن لديها أي فكرة عن حجم الديون المستحقة عليها هي وجيك. كان جيك يقترض مبالغ كبيرة من رايان باستمرار، وذلك منذ وقتٍ طويلٍ عندما بدآ يواجهان مشكلات مالية لأول مرة. ومن رسائل البريد الإلكتروني التي كانا يتبادلانها، بدا أنه بعد أن ورث جيك المنزل، بدأ رايان في سؤاله عن الوقت الذي سيحصل فيه على جزء من أمواله. لم يذكر أي منهما أيًّا من هذا لإيدي.

كما أنهما لم يخبراها بحقيقة أن جيك حاول إثناء رايان عن الانتقال إلى إدنبرة في المقام الأول. لقد كتب إلى رايان قائلًا إنه وإيدي «في حاجة إلى الابتعاد» عنه. وقال إن هذا كان أحد أسباب انتقالهما. غير أنَّ ذلك — بحسب اعتقاد إيدي — لم يكن حقيقيًّا على الإطلاق.

في سلسلة أخرى من رسائل البريد الإلكتروني، أشار جيك إلى «ما حدث مع تانيا» وإلى «موضوع إل»، وسأل رايان عما إذا كان يريد حقًّا أن تعرف إيدي «الحقيقة». لم تكن لدى إيدي أي فكرة عما كان يعنيه هذا. كانت تعرف تانيا؛ فهي حبيبة سابقة لرايان قبل بضع سنوات. كان انفصالهما فوضويًّا، وتذكرت إيدي أنَّ كلمتَي «مجنونة» و«مهووسة» كانتا تُستخدمان لوصفها. أما «إل»، فيمكن أن يشير إلى عددٍ كبير من الأشخاص. منهم لارا، بالطبع، التي يعرفها جيك قليلًا، لكن هناك أيضًا كثير من الاحتمالات من مغامرات رايان العاطفية العديدة. واستطاعت إيدي أن تتذكر على الفور اثنتين باسم ليزي، إضافةً إلى ليان ولوسي.

بعد أن أرتها نيتا الملف، بحثت إيدي عن تانيا على الفيسبوك لكنها لم تجد شيئًا مثيرًا للاهتمام: كانت تانيا متزوجة منذ فترة طويلة، وقد نشرت للتوِّ صورًا لأطفالها. لم يكن رايان ولا جيك نشِطَين على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن إيدي اكتشفت مجموعة على الفيسبوك تضم تلاميذ مدرستهم القدامى، حيث أصبح ثلاثتهم مؤخرًا موضع نقاش كبير. نشر زملاء الدراسة القدامى روابط لتقارير إخبارية بشأن مقتل جيك، تضمن الكثير منها تفاصيل مروعة عن الجريمة جرى تسريبها إلى الصحافة. والأسوأ من ذلك أن التقارير المتعلقة بجريمة القتل واعتقال رايان، جاءت تحتها عشرات التعليقات، كلها تقريبًا تكهنات خبيثة ونميمة، على غرار:

انظروا إلى هذا! لا يمكنني القول إنني مندهش، فهؤلاء الثلاثة كانوا دائمًا غريبي الأطوار
كان رايان بيرس غريبًا
جيك بريتشارد كان مثلي الجنس، هذا شجار عشاق بلا شك
هل تلك علاقة ثلاثية باءت بالفشل؟
لقد أفلتت من العقاب، أليس كذلك؟
دائمًا ما كانت عاهرة متكبرة
من المؤكد أنها متورطة في ذلك

أغلقت إيدي المتصفح، ولم تفتح وسائل التواصل الاجتماعي منذ ذلك الحين. لم تكن تعبأ بحياة أيٍّ من هؤلاء الأشخاص البغيضين ولا بآرائهم. هي ورايان وجيك كانوا أفضل منهم، ودائمًا كانوا كذلك. كان الثلاثة أكثر تميزًا بكثير.

لكن ذلك كان في الماضي. والآن، بينما نهضت إيدي من الطاولة، وألقت برسالة رايان غير المفتوحة في سلة المهملات، رأت انعكاس صورتها في زجاج النافذة. حدق إليها وجهها الشاحب، بائسًا ووحيدًا كشبح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥