مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
عُهِد إليّ تدريس البلاغة في كلية الآداب من جامعة فؤاد الأول حول سنة ١٩٢٦ فاشتقتُ إذ ذاك أن أعرف ما كتبه الفرنج وما كتبه العرب في هذا الموضوع، واستفدت فوائد كثيرة من هذه المقارنة، ثم انتقلت بعد ذلك مما يكتبه علماء الإفرنج والعرب عن البلاغة إلى موضوع النقد الأدبي، فبحثت عن كتب في هذا الموضوع إنجليزية فأعجبني الموضوع. وكنت قد قرأت طبقات الشعراء لابن سلام، وطبقات الشعر لابن قتيبة، والصناعتين لأبي هلال العسكري، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة، والمثل السائر لابن الأثير، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني، وعرفت طريقة هذه الكتب كلها، فلما قرأت كتب النقد الإنجليزية رأيت فيها محاولة كبيرة لتحويل النقد إلى علم منظم، له قواعد وأصول. على حين أن الكتب العربية التي ذكرتها لم تؤصل الأصول، وإنما كانت لمحات خاطفة في النقد، لا تروي الغليل، فاقترحت أن يدرس علم النقد في كلية الآداب، على أن يطبق ذلك على الأدب العربي وبدأت بذلك، وسيرى القارئ أثناء الكتاب أن من رأينا أن هذه القواعد تنطبق على الأدب العربي كما تنطبق على الأدب الغربي، وأتينا بحجج على ذلك، فكان هذا الدرس على هذا الموضوع أول درس في مصر في النقد الأدبي على النمط الحديث فيما أعلم.
وقد تفضل بعض زملائي في الكلية فدرسوا هذا الموضوع بعدي، وأخرجوا فيه بعض المؤلفات القيمة. وقد ظللتُ بعد ذلك نحو عشر سنين أختار كل سنة موضوعًا جديدًا، وأدرسه، فمرة عناصر الأدب، ومرة الشعر والنثر، ومرة القصص … إلخ.
ثم اتجهت إلى تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب فتتبعته في أصوله. وقد تفضل الدكتور محمد النُّوَيهي الأستاذ الآن في جامعة غُردون بالخرطوم بترجمة بعض الفصول في تاريخ النقد الغربي، فاستفدت منه واقتبست من ترجمته، فله الشكر.
وكنت كلما حاولت دراسة موضوع كتبت له مذكراته الخاصة به وحفظتها عندي، فلما كثرت رأيت من الخير أن أجمعها كلها في كتاب بعد تنقيحها وزيادتي ما أرى زيادته عليها، فكان من ذلك كله هذا الكتاب الذي أقدمه للقراء اليوم، راجيًا النظر فيه، والإبانة عن مواضيع النقص. ولعله يعرض على القراء وجهتي النظر الغربية والعربية فيستفيد القارئ من ذلك فائدة كبيرة.
وقد حاولت حين أعرض لقاعدة في النقد غربية أن آتي لها بأمثلة عربية، لتكون أدنى إلى ذوق القارئ العربي.
وقد يؤخذ عليّ في تاريخ النقد عند الإفرنج أني اعتمدت في تاريخ حركة النقد وتاريخ النقاد ومذاهبهم ومزاياهم وعيوبهم، على ما كتبه بعض المؤرخين الغربيين من غير رجوع بنفسي إلى المصادر الأولى نفسها، لأكوّن فيها رأيًا خاصًّا أكون أنا المسئول عنه، وهذا حق. ولكن عذري في ذلك أن هذا العمل الشاق يحتاج إلى معرفة لغات كثيرة من فرنسية وإيطالية وألمانية، بل ومن معرفة يونانية ورومانية، وهذا مع الأسف لم أوفق إليه.
فرأيت الاعتماد على الكتب المعتمدة في ذلك، لعلمي بأن الفائدة ولو قليلة خير للقارئ من الحرمان الشديد، وعندنا في الأمثال «ما لا يدرك كله، لا يترك كله» وأرجو أن يأتي بعدي من له حظ واسع في اللغات فيؤرخ النقد بنفسه ويحكم بنفسه.
وقد رأيت بعد كتابة القسم الأول من الكتاب في عناصر الأدب وعناصر كل موضوع أدبي أن أتبعه بملاحظات مرقّمة متنوعة، تفيد القارئ بموضوعات مختلفة. وقد اتبع هذه الطريقة بعض الفرنج في كتبهم فقلدتهم لما احتجت بعد إلى تعليقات لم أتأكد أين أضعها في محلها.
والله المسئول أن يكون قد وفقني فيه كما عودنا أن يوفقنا في كل ما كتبناه من قبل.