التاريخ
وكانوا يسمون هذه الصخرة «اكتشاف الصداقة»؛ لأن بول غرس في قمتها شجرةً دقيقة من شجر الأثل، ورفع في أعلاها منديلًا أبيض يشبه العلم، وناطه بخيوطٍ مختلفة تسترسل في أسفل الشجرة، فإذا لمحني مقبلا على البعد شد الخيط فانتشر المنديل واضطرب في الهواء، وكان ذلك إعلانًا للأسرة بقدومي، كما يُرفع العلم على قمة الجبل إعلانًا بقدوم سفينةٍ إلى الشاطئ.
وكذلك كان شأنهم دائمًا في تسمية الأماكن والبقاع والجذوع والأشجار التي يحبونها بأسماء لطيفةٍ يرمون بها إلى غرضٍ خاص، ويسجلون بها فكرةً معينة، فكان يخيل إلي أنهم يلقون عليها أشعة أرواحهم النورانية السامية فتدب فيها حياةٌ جديدة فوق حياتها الأولى، فأطلقوا اسم «ميدان الاتفاق» على بساطٍ من العشب الأخضر مسوَّرٍ ببضع شجيراتٍ متسقاتٍ من أشجار البرتقال كان بول وفرجيني يرقصان عليه معًا في ضوء القمر، وأطلقوا اسم «الدموع الممسوحة» على شجرةٍ عتيقةٍ جلست تحتها هيلين ومرغريت لأول عهدهما باللقاء، وأخذت كلٌّ منهما تقص على صاحبتها قصتها وتبثها أحزانها وآلامها، فتضمها الأخرى إلى نفسها وتعزيها عن همها وتمسح لها دموعها، وسموا حقلًا من القمح باسم «نورماندي» مسقط رأس هيلين، وآخر من الأرز باسم «بريتانيا» مسقط رأس مرغريت، إلى كثير من أمثال تلك الذكريات القديمة، كأنما أرادوا وقد هجروا بلادهم إلى الأبد، وحالت الحوائل بينهم وبينها أن يستصحبوها معهم تصورًا وخيالًا بعد ما فقدوها سكنًا وموطنًا ليأنسوا بها بعض الأنس، ويلطِّفوا من حرارة شوقهم إليها.
وأغرب من ذلك أن الزنجيين «ماري ودومينج» لم يكن قلبهما خاليًا من ذلك الشعور الطيب الشريف، شعور الوفاء للوطن الأول والحنين إليه، فأطلقوا اسم «أنغولا» و«فول بوانت» على بعض حقول الدخن ومنابت القرع، شغفًا بأوطانهما وعهود صباهما، وضنًّا بذكراها أن تزول.
وكانت تعجبني من هؤلاء القوم كثيرًا تلك الروح الأثرية الغالبة على شعورهم ووجدانهم؛ لأني أعتقد أنها هي بعينها روح الوفاء والإخلاص، وأن من لا خير فيه لماضيه فلا خير فيه لحاضره ومستقبله.
وما زلت مذ نشأتُ لا أوثر منظرًا من مناظر الحياة ولا مشهدًا من مشاهد الحُسن والجمال على منظر أثرٍ قديمٍ أعثر به في سَفْرَةٍ من أسفاري في بادية منقطعة أو صحراء شاسعة، فأقف بين يديه ساعةً من نهار وأرى في نُؤْيِه وأحجاره وصخوره المبعثرة وأعمدته المتناثرة ونقوشه المحفورة على بقايا جدرانه صورة أولئك القوم البائدين الذين كانوا يسكنونه ويعمرون عرصاته ومغانيه، وكأني أسمع في صفير رياحه وعزيف جناته وغيلانه صائحًا يصيح بي: لقد كان يعيش في هذا المكان عالمٌ مثل عالمكم، يشعرون كما تشعرون، ويفكرون كما تفكرون، ويؤمِّلون في الحياة الطيبة الهانئة كما تؤمِّلون، وهم وإن ذهبوا بأجسامهم، وخلا وجه الأرض من سميرهم وأنيسهم، فهم باقون بينكم بأرواحهم وآثارهم، وما أنتم يا أبناءهم وأحفادهم وحملة أسرار حياتهم إلا أرواحهم وآثارهم التي بقيت على الأرض من بعدهم.
هنالك أشعر أنني قد انتقلت من حاضري إلى ماضيَّ، وأنني أعيش في تلك العصور القديمة بين آبائي وأجدادي، أحدِّثهم، وأُفضي إليهم بذات نفسي ويُفضون إلي بذوات نفوسهم، فأقضي على ذلك ساعةً من الزمان، ثم أذهب لشأني وقد فاضت نفسي شعورًا بأن النفس الإنسانية خالدةٌ باقية لا تنال منها عاديات الزمان، ولا تعبث بصورتها الأيام والأعواد.
ومنتُ لذلك شديد الشغف بحفر الكلمات أو نقشها على كل ما يقع عليه نظري من الجذوع والأشجار، والصخور والأحجار، وكل ما أمر به في طريقي مما أحبه وأرضاه، وأتمنى له الخلود والبقاء، كأنني كنت أريد أن أمد الأجيال المقبلة بالذكريات العظيمة، كما أمدتنا الأجيال الماضية بذكرياتها وعهودها، فحفرت على ساق شجرة العَلَم كلمة «هوارس» اللاتيني: «وقاك الله شر العاصفة ولا عبثت بك إلا أيدي النسائم.» وعلى جذع شجرةٍ كان بول يجلس تحتها أحيانًا؛ ليشاهد منظر البحر الهائج قول الآخر: «ما أعظم سعادتك لأنك لا تعرف إلها غير إله النبات!» وعلى باب كوخ هيلين؛ وكان هو مجتمع الأسرة ومنتداها هذه الكلمة: «هنا ضميرٌ صالحٌ ونفسٌ لا تعرف الخداع.»
وكانت فرجيني تستثقل أمثال هذه الكلمات وتراها غامضةً ومتكلَّفة، وقالت لي مرة: حبذا لو أنك كتبت على شجرة العَلَم: «ثابت دائمًا برغم اضطرابه» بدلًا من كلمتك التي كتبتها. فأجبْتُها: ذلك إنما يقال في موقف الحث على الفضيلة، فاحمر وجهها خجلًا وصمتت.
ذلك كان شأن هذا الوادي فيما مضى، أما اليوم فقد عفا فيه كل شيءٍ، ودرس كل أثرٍ، ولم يبق من تلك الرسوم الماضية إلا كما يبقى من الوشم في ظاهر اليد. وأصبحت أعيش في هذا المكان كأنني أعيش بين خرائب أثينا أو أطلال منف، وما مضى على تاريخها أكثر من عشرين عامًا.