آدم وحواء
نشأ بول وفرجيني في هذه الجنة الأرضية منشأ أبوينا الأولين في جنتهما السماوية، فكان بول مثال آدم، له قامة الرجل وشطاطه، وبساطة الطفل وسذاجته، وكانت فرجيني مثال حواء، لها جمال الأنوثة وحلاوتها، ودعة النفس وعذوبتها. وكانا يعيشان في معتزلهما هذا حُرين مُطْلَقَين، لا يسيطر عليها مسيطرٌ من تلك القيود التي تسيطر على عقول الناشئين وضمائرهم في تلك البلاد التي يسمونها بلاد الحرية والطلاقة، ولا تسجنهما العلوم والمعارف في سجنهما الضيق المظلم الذي يحول بينهما وبين التبسط والاضطراب في فضاء الكون كما يشاءان.
ولم تكن لديهما ساعةٌ لمعرفة أوقاتٍ الليل والنهار، ولا تقويمٌ لمعرفة الفصول والأعوام، ولم يتلقيا درسًا واحدًا في علم الهيئة ونظام الكواكب والنجوم، ولكن الطبيعة استطاعت أن تمنحهما من نفسها ما تمنح العلوم والمعارف أمثالها، فاستعانا بالأشعة والظلال على معرفة الأوقات، وبنضج النبات وظهور الأثمار وتلون الأزهار على معرفة الفصول، وبعدد ما غرسا من الأشجار على عدد ما مر بهما من السنين والأعوام، فكانا يقولان «قد حان وقت الغداء» إذا انقبضت ظلال أشجار الموز وتضاءلت تحتها، و«قرب الليل» إذا التفَّت أوراق التمر هندي على أثمارها، وكانا إذا وعدا أحدًا بزيارةٍ جعلا ميعادها ظهور قصب السكر أو نضج أثمار النارنج، وإذا سئلت فرجيني عن عمرها أجابت: قد أثمرت الكروم مذ ولدت أربع عشرة مرةً، وأشجار البرتقال ثمانية وعشرين، وإذا سئل بول بكم يكبر فرجيني؟ أجاب بمقدار ما بين النخلتين الماثلتين على حافة النبع، كأن حياتهما متصلةٌ بحياة النبات، أو كأنهما إلهان من آلهة الحقول التي تعيش بينها وترعاها.
فكانا لا يعرفان تاريخًا غير تاريخهما، ولا يطالعان مصوَّرًا غير مصوَّر جزيرتهما، ولا يقرآن كتابًا غير كتاب الطبيعة المفتوح أمامهما، ولا يفهمان فلسفة غير أن عمل الخير سعادةٌ، وعمل الشر شقاءٌ، ولا يحفظان آية غير آية التفويض إلى الله — تعالى — في كل ما يأخذان وما يدعان.
وكانا إذا خَلَوا بنفسيهما جرت بينهما أحاديث بسيطةٌ ساذجة لا يتكلفان فيها ولا يتعمَّلان، ولا يحاولان أن يضعا حجابًا بين ما يدور في سريرتيهما، وما ينطق به لساناهما.
ولقد سمعتهما مرة يتحدثان من حيث لا يشعران بمكاني وكان بول قد عاد من عمله ساعة الغروب، فرمى بفأسه وحقيبته إلى الأرض وجلس إلى فرجيني يقول لها: إني لأراكِ يا فرجيني وأنا تعبٌ مكدودٌ ما أكاد أتماسك، فأنسى تعبي وشقائي، وكأنني لم أحمل في يومي فأسًا، ولم أفلح أرضًا، وربما وقع نظري عليكِ وأنا على قمة الجبل وأنتِ في سفحه فيخيل إلي أنك وردةٌ بين الورود النابتة حولك، إلا أنك أنضر منها حُسنًا، وأطيب أريجًا، فإذا غبتِ عن ناظري وراء أكمةٍ من الأكمات أو تحت ظُلةٍ من الظُّلل استطعت أن أعرف المكان الذي أنتِ فيه؛ لأنني أشعر أن موجةً من النور تحيط بكِ حيثما ذهبتِ وأنَّي حللتِ، فإذا برق لي شعاعها علمتُ أين تحلين من بطن الوادي، فلا أحتاج للسؤال عنكِ، فإذا رأيتك وأنتِ عائدة إلى المنزل خُيل إلي — لجمال مشيتكِ ورشاقة حركاتكِ — كأنك قَطَاةٌ تنتقل على بساط الخضرة، وأنكِ موشكة أن تستقلي بجناحيكِ في جو السماء.
إنكِ كل شيءٍ لي يا فرجيني، إنكِ حياتي التي لا أستطيع أن أعيش بدونها، بل لا أستطيع فراقها لحظةً واحدة، إن زُرْقَة عينيكِ أصفى من زرقة السماء، وإن نضارة وجهكِ أجمل من نضارة الربيع، وإن ماء الحُسن الذي يجول في أديمكِ لهو الكوثر الذي يصفه الكتاب المقدس فيما يصف من بدائع الجنان.
أسمع صوتكِ الذي هو أشبه شيءٍ بصوت الطائر الغَرِد فيخفق قلبي خفقان أجنحة ذلك الطائر، وأضع يدي في يدكِ فتنبعث في جسمي رعشةٌ شديدة كرعشة الخائف المذعور وما أنا بخائفٍ ولا مذعور.
أتذكرين يا فرجيني يوم حملتكِ على ظهري واجتزت بكِ ذلك النهر المتدفق ونحن عائدان من زيارة ذلك الرجل الشرير؟
لقد كنتُ في ذلك الوقت تعبًا واهنًا، ولكنني ما شعرت بملامسة جسمكِ لجسمي حتى خُيل إلي أنني قد استحلت إلى طائرٍ خفاق الجناحين، ولو أنكِ اقترحت علي في تلك الساعة أن أطير بكِ في آفاق السماء لفعلت. لا أستطيع أن أفهم ما هذا الذي يؤثر علي منكِ يا فرجيني! فإنني لا أخافكِ ولا أخشاكِ، بل أحبكِ وآنس بكِ، فلم أضطرب حين أراكِ؟ ولم أرتعد حين يلمس جسمي جسمك؟!
إنكِ لا تستطيعين أن تحبيني كما تحبني أمي، أو تعطفي علي عطفها، أو تقاسميني همومي وآلامي مقاسمتها، ولكنني أشعر أن الذي أضمره لكِ من الحب والعطف فوق الذي أضمره لها، ولقد عدت الآن من المزرعة وكان أمامي الطريقان: طريقي إلى الكوخ فلم أنتبه إليه، وطريقي إليك؛ فجئتك بدون أن أشعر بما أفعل، أو أعرف لذلك سببًا.
ما أحسب إلا أن حادثة الجارية الآبقة كانت هي السبب في ذلك، فإن أَنْسَ لا أنسى صورة ذلك الألم الشديد الذي ارتسم على وجهِك يوم جاءت تلك البائسة المسكينة تحت قدميكِ وقصت عليكِ قصتها، ولا تلك الدموع الغزار التي ذرفتِها رحمةً بها وإشفاقًا عليها، ثم ما خاطرت به بعد ذلك من راحة نفسك وهدوئها في سبيلها.
إنكِ طيبة القلب يا فرجيني، إنكِ تحبين الخير للخير لا تطلبين عليه جزاءً ولا أجرًا، إنكِ تتألمين لمصاب المساكين والبائسين أكثر مما يتألم الناس جميعًا، فأنا أحبكِ أكثر مما أحب جميع الناس.
تعالي إلى جانبي وخذي هذا الغصن الأخضر الذي قطعته لك الساعة من شجرة الليمون الكبرى وضعيه حين تنامين تحت سريرِك، فإنه يملأ لك فضاء الكوخ عطرًا وشذًى، وخذي هذا القرص من العسل، فقد عثرت به في جوف صخرةٍ عاليةٍ في قمة الجبل، وسيكون فطورنا في الصباح شهيًّا جميلًا.
تعالي إلي يا فرجيني وضعي رأسكِ الجميل على فخذي لأشعر بالراحة من جميع متاعبي وآلامي، وتحدثي إلي قليلًا، فحديثك غذاء نفسي وراحة ضميري.
فتخرج منديلها من جيبها وتمسح له عرق جبينه ثم تضطجع وتضع رأسها على فخده، وتظل تقول له: أترى يا بول منظر هذه الأشعة الصفراء الساقطة على رءوس الصخور وذوائب الأشجار، ومنظر ذلك الشفق الأحمر الممتد على حافة الأفق، وتلك اللآلئ اللامعة الجميلة المنتثرة على سطح الماء؟!
إنها جميلة جدًّا، ولكنها لا تستطيع أن تبعث السرور إلى نفسي كما يبعثه جلوسي بجانبك، وامتزاج أنفاسي بأنفاسك.
إنني أحب والدتي حبًّا جمًّا، ولكنني أحبها أكثر من كل وقت في الساعة التي أراها تحنو عليك فيها، وتضمك إلى نفسها وتدعوك: يا ولدي، وربما غفرت لها إغضاءها عني أحيانًا ولكنني لا أستطيع أن أغفر لها إغضاءها عنك.
قالت فرجيني: إنك تتساءل في نفسك يا بول: لم تحبني أكثر من كل شيءٍ في العالم؟ أما أنا فإنني أحبك هذا الحب نفسه، ولكنني لا أُسائل نفسي عن سبب ذلك؛ لأني أعلم أن الطائرين اللذين ينشآن في منشأ واحدٍ وجوٍّ واحدٍ يتعاطفان ويتآلفان، حتى ما يكاد يصبر أحدهما عن صاحبه لحظةً واحدة … انظر إليهما، ها هما يتصايحان ويتهاتفان على بُعد ما بينهما، كأن كلًّا منهما يقول لصاحبه: تعال إلي جانبي ولا تفارقني، فإنني لا أستطيع أن أجد لذة الحياة بعيدًا عنك.
كذلك نحن يا بول نشأنا في منشأ واحدٍ، ورضعنا ثديًا واحدًا، ونمنا في مهدٍ واحدٍ، وابتردنا في حوضٍ واحدٍ، فأصبحنا شخصًا واحدًا، فإذا افترقنا ساعةً ظل كل منا يهتف بصاحبه ويناجيه، أنت بمزمارك على قمة الجبل، وأنا بأنشودتي في سفحه، كما يفعل ذانك الطائران المتناجيان على أفنانهما حتى نلتقي.
تقول إنك أحببتني منذ ذلك اليوم الذي رأيتني فيه أعطف على تلك الجارية المسكينة، وأنا أقول لك إنني أحببتك من ذلك اليوم نفسه، فإنني لا أستطيع أن أنسى أنك أوشكت أن تخاطر بنفسك في سبيلي حينما عزمت على مقاتلة ذلك الرجل الشرير من أجلي، بل خاطرت بها فعلًا حينما حملتني على ظهرك وأنت تعبٌ مكدود، واجتزت بي ذلك النهر الزاخر المتدفق لا تعلم أتصل إلى ضفته أم تسقط دون ذلك؟
إنني أجثو كل يوم بين يدي ربي أسأله الرحمة لأمي وأمك وماري ودومينج، حتى إذا مر ذكرك على لساني ارتعشت شفتاي وشعرت كأنني أرتشف على الظمأ جرعةً باردةً ما خلق الله أهنأ ولا أطيب منها.
لِمَ تتسلق الصخور من أجلي يا بول؟ ولِمَ تُجَشِّم نفسك هذا العناء الشديد فوق عنائك الذي تكابده طول يومك؟ إنني لا أفكر في شيءٍ وأنت غائب عني سوى أن تعود إلي سالمًا موفورًا، فإذا رأيتك كنت أنت الهدية الثمينة التي تقدمها إلي، وتستحق من أجلها شكري وحمدي.