الرسالة
وهنا وصلت سفينةٌ من فرنسا تحمل كتابًا لهيلين من عمتها تقول لها فيه: إنها ندمت على ما كان منها في الماضي من قسوتها عليها وَنُبُوِّهَا بها واطِّراحها إياها، وأنها قد بلغت السن التي تحتاج فيها إلى قلب رحيم من قلوب أهلها أو ذوي رحمها يخفق بجانبها؛ لأنها تعيش في بلدٍ لا أهل لها فيه ولا رحم، فهي تقترح عليها أن تحضر إليها بنفسها، فإن حال دون ذلك حائلٌ أرسلت إليها ابنتها بدلًا منها لتكون بجانبها في ساعتها الأخيرة، وقالت لها: إنها قد عزمت على أن توصي لفرجيني بجميع ثروتها من بعدها.
فوقع ذلك الكتاب من نفوسهم جميعًا موقع الدهشة والعجب، وكأنما قد نزلت بهم كارثةٌ من أعظم كوارث الدهر، فقد تمثل لهم أن هيلين ستفارقهم وينقطع أنسها عنهم، وأن ذلك الوادي سيقفر منها ومن فواضلها وأياديها بعد ما عمرته أعوامًا طوالًا، فوجمت مرغريت، وأطرقت فرجيني، وجمد بول في مكانه جمود الصنم، واستعبر دومينج وماري، ومرت بهم على ذلك ساعة لم تمر بهم مثلها مذ وطئت أقدامهم هذه الأرض حتى اليوم، ثم التفتت هيلين إلى مرغريت باسمةً وقالت لها: هدئي روعك يا صديقتي فإنني لا أفارقك أبدًا، وما أحسبني مستطيعة ذلك لو أردته، فقد سعدت بكِ برهةً من الزمان لا أستطيع أن أنساها أو أنسى يدك البيضاء فيها، ثم أقبلت عليهم جميعًا وقالت لهم: كونوا مطمئنين يا أولادي، فسأبقى معكم حتى أموت بينكم وأدفن في التربة التي تعيشون فيها، ولقد جرح الدهر قلبي فيما مضى جرحًا داميًا فكنتم أنتم أطباءه وَأُسَاتَهُ وما زلتم به تنفون عنه غُثَاثَته وتنضحونه بالبارد العذب من ودكم وإخلاصكم، وعطفكم ورحمتكم، حتى التأم أو كاد، فلن أكفر بنعمتكم أبدًا، ولن أجازيكم على إحسانكم شر الجزاء، ولئن كانت قد بقيت في أعماق قلبي بقيةٌ من ذلك الشجن القديم، والذكرى المؤلمة، فذلك ما لا يد لكم فيه، ولا حيلة لكم في أمره، ولا توجد قوةٌ في العالم — سواءً أعشت في هذا الكوخ الحقير أو في ذلك القصر العظيم — تستطيع أن تشفيني من دائي، إلا أن يمد الله إلى يد معونته ورحمته.
فما سمعوا منها ذلك حتى استُطِيروا فرحًا وسرورًا، وداروا بها يُقبِّلُونها ويعتنقونها، ويهنئونها بوفائها وإخلاصها، فلله ما أشرفهم وأكرم نفوسهم، إن الثروة الطائلة التي يقتتل عليها الناس اقتتالًا وينحر بعضهم بعضًا في سبيلها، تعرض نفسها عليهم عرضًا فيأبونها، ويطيرون فرحًا بالخلاص منها.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا ضوضاء خارج الكُوخ وأصواتًا غريبة، فدخل عليهم دومينج وأخبرهم أن سيدًا عظيمًا يركب مركبًا فارهًا ووراءه عبيد كثيرون يقصد هذا الكوخ، وما أتم كلمته حتى دخل ذلك السيد العظيم، فإذا هو حاكم الجزيرة المسيو «لابوردينيه»، فنهضوا له إجلالًا وإعظامًا، وحيوه بتحية الحاكمين، وقدمت له مرغريت كرسيًّا من القش فجلس عليه، وقدمت له هيلين شراب الأرز في إناءٍ بسيط من القرع فتناوله مغالبًا نفسه على كتمان ما شعر به من التقزز حينما شربه، ثم دار بعينيه في أنحاء الكوخ، فعجب لحقارته ورثاثته، وبساطة ما يشتمل عليه من الآنية والأثاث، وبدأ حديثه بمعاتبة هيلين في انقطاعها عن زيارته تلك المدة الطويلة، وأنها لم تلجأ إليه في ساعات شدَّتها وبؤسها ليمدها بالمعونة التي تحتاج إليها، وكان بول واقفًا بجانب الباب يسمع حديثه ويلقي عليه نظرةً شزراء، وكأنما قد أُلهم ما يدور في نفسه، وما قدم من أجله، فتقدم نحوه خطوةً وقال له: إنك لست بصادقٍ فيما تقول يا سيدي؛ لأن أمي ذهبت إليك في بيتك منذ أعوامٍ فازدريتها واحتقرتها، ولم تأذن لها أن تجلس على كرسيٍّ بين يديك، ولقد أراد الله بها خيرًا إذ كفاها مئونة حمل مِنَّتِك أو مِنة أحدٍ من الناس غيرك. فالتفت الحاكم إلى هيلين وقال لها: ألك ولدٌ أيضًا يا سيدتي؟ قالت: لا، ولكنه ولد صديقتي مرغريت وهو يسميني أمه؛ لأنه رُبي مع فرجيني في مهدٍ واحدٍ، ورضع معها ثديًا واحدًا، وأحبها حبًّا لا يحبه الأخ أخاه. فنظر إليه الحاكم وقال له: ادن مني يا ولدي، فدنا منه، فمسح بيده على رأسه، وقال له: إنك لا تزال صغيرًا يا بني، فإذا بلغت مبلغ الرجال وفهمت ضرورات الحياة وأحكامها أدركت مبلغ شقاء هؤلاء القوم الذين تسمونهم حُكامًا، وعلمت أن أعظم ما يشقون به في حياتهم أنهم ليسوا أحرارًا في إجراء العدالة بين الناس، وإراحة الحقوق على أهلها، وتحري الصدق فيما يقولون، والفضيلة فيما يفعلون.
فتناول بول يده وهزها هزًّا شديدًا وقال له: أشكر لك صدقك وصراحتك يا سيدي، وإن كنت قد أسأت إلينا فيما مضى، وأظن أني أستطيع أن أتخذك صديقًا لي منذ اليوم، فابتسم الحاكم وقال: ولي الشرف العظيم بذلك يا ولدي.
ثم أشار إلى هيلين أنه يريد محادثتها على انفرادٍ، فأشارت إليهم جميعًا فانصرفوا، فأقبل عليها يقول لها: لا بد أن تكوني قد قرأت الكتاب الذي أرسلته إليك عمتك اليوم، وقد جاءني منها كتابٌ في البريد نفسه تطلب إلي فيه أن أزورك، وأبذل كل ما أملك من الجهد في حَمْلك على السفر إليها، أو إرسال ابنتك فرجيني بدلًا منك، وأرى أن ترسلي إليها ابنتك، فهي فتاة ناشئة فتية ذات نضرةٍ وجمال، وليس من الرأي أن تدفني مثل هذه الحياة الغضة الندية في مثل هذه التربة القاحلة المحرقة، والحياة السعيدة هنالك تنتظرها وتمد ذراعيها لاستقبالها، وإني وإن كنت أعلم أني أطلب إليك ما يشق عليك ويفت في عضدك، ولكني أعلم أيضًا أنك أرحم بابنتك وأحنى قلبًا عليها من أن تحولي بينها وبين تلك السعادة التي تنتظرها هناك من أجل متعة نفسك برؤيتها جالسة بين يديك، وأعتقد أنكِ لا تَرَيْن بأسًا من التضحية بشيءٍ من عواطفك النفسية في سبيل راحتها وسعادتها وهناءة عيشها طول أيام حياتها، ولقد كتب إلي وزير المستعمرات أن أُعنى بهذه المسألة عنايةً كبرى، وألا أدعها تفلت من يدي ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، ومعني ذلك عنده أن آخذك بالشدة في هذا الأمر، وأكرهك منه على ما لا تحبين، ولكنني لم أحفل بكلامه ولم أكترث له، بل جئت إليك بنفسي لأعرض عليك الأمر عرضًا، لا لألزمك به إلزامًا، وإني أَكِلُ إليك وإلى رحمتك وشفقتك وتعقلك ورزانتك مستقبل هذه الفتاة المسكينة، فاختاري لها ما يجب أن تختاره الأم الرءوم لابنتها، على أن صلتها بك لن تنقطع في مستقبل الأيام، وستسمعين غدًا من أحاديث هناءتها ورغدها ورفاهيتها ونعمتها ما ينير لك ظلمة الوحشة التي تشعرين بها بعد فراقها، على أنها ربما عادت إليك بعد قليلٍ من الأيام، فإن عمتك — على ما أعلم — في الدور الأخير من أدوار حياتها، وهي هامة اليوم أو غدٍ.
فقالت له هيلين: إنني ما تمنيت على الله في حياتي شيئًا سوى أن أرى ابنتي سعيدةً في حياتها، هانئةً بعيشها، إلا أنني لا أحب أن أفتات عليها في أمرٍ من أمورها، فلا بد لي من أن آخذها بالرفق واللين حتى تذعن لما أريد، وأرجو أن يعيني الله على ذلك، وأظن أني أستطيع أن أفضي إليك بالأمر غدًا أو بعد غد قال: أرجو أن تعجلي بقدر ما تستطيعين، فالسفينة موشكةٌ على السفر، ولا أحسبها باقية عندنا أكثر من ثلاثة أيامٍ، ولا أعلم متى تعود بعد ذلك.
ثم نهض قائمًا وأخرج من جيبه كيسًا كبيرًا مملوءًا بالقطع الذهبية ووضعه على المائدة وقال: هذه هدية عمتك إليك لتستعيني بها على شأنك وشأن فرجيني. وودعها ومضى.