الشيخ
كان يَلَذ لي كثيرًا أن أختلف إلى هذا المكان الجميل صباح مساء، وأن أستريح إلى منظره الهادئ الساكن، فإني لجالسٌ ذات يومٍ على صخرةٍ من صخور العالية أقلب الطرف بين أرضه وسمائه، وأفكر في شأن هذين الكوخين الدارسين، وفيما تنطق به آياتهما من العظات والعبر، وآثارهما من الأحاديث والسير، إذ مر بي شيخٌ هرمٌ من سكان تلك الجزيرة قد نيف على السبعين من عمره، يعتمد على عصًا عجراء في يده، ويلبس سراويل واسعةً وصدارًا ريفيًا بسيطًا وقبعةً عريضة من الخوص، كشأن سكان تلك الأصقاع، وله شعرٌ أبيض مستطيلٌ مسترسلٌ على كتفيه، وقد تلألأ وجهه الأبيض النحيف الضارب إلى السمرة بذلك النور الساطع الذي يتلألأ دائمًا في وجوه الريفيين الأتقياء، نور البساطة والطهارة، والنبل والشرف.
فأنست به وبمنظره الجميل الأنيق، وبدأته بالتحية، فرفع رأسه إلي متوسمًا وألقى علي نظرة هادئة مطمئنة ثم رد تحيتي ردًّا جميلًا، وكأنما شعر لي بمثل الذي شعرت له به من العطف والود، فأقبل نحوي باسمًا متهللًا، وجلس على صخرة محاذية للصخرة التي أجلس عليها، وألقى عصاه تحت قدميه ووضع قبعته بجانبه، فأقبلت عليه وقلت له: لعلك تعيش في هذه الجزيرة يا سيدي منذ زمنٍ طويل، قال: نعم، طويت فيها رداء شبابي، وهأنذا أطوي فيها رداء شيخوختي، وستبرد عظامي غدًا تحت صخورها وجنادلها، قلت: هل لك أن تحدثني قليلًا عن شأن هذين الكوخين الدارسين وعمن كان يسكنهما قبل أن تعبث بهما يد البلى، وتعصف بهما عواصف الدهر وأرزاؤه؟ فوجم قليلًا وظل صامتًا لا يقول شيئًا وقد انتشرت على جبينه اللامع المتلألئ غمامةٌ رقيقة من الهم والاكتئاب، ثم تنهد تنهدةً طويلة اختلجت لها أعضاؤه وقال: نعم يا بني إن هذا الوادي الذي تراه اليوم خرابًا يبابًا لا يمر به المار إلا ليقف على ربوعه وأطلاله وقفة المتأمل المعتبر، كان منذ عشرين عامًا روضةً غناء يعيش فيها أقوامٌ سعداء بأخلاقهم وفضائلهم، ما كان يخطر ببالهم ولا ببال من يراهم أن مصيرهم سيكون هذا المصير الذي تراه اليوم، وإن قصتهم لقصةٌ غريبةٌ مؤثرة تستثير الأشجان وتستذرف الدموع، إلا أن أبطالها ليسوا ملوكًا ولا قادةً، ولا من أصحاب القصور والدور، والحدائق والبساتين، والمسارح والملاعب، والوقائع العظيمة، والحوادث الجسيمة، كما هو شأن أبطال الراويات التي تقرءونها، بل كانوا قومًا فقراء مغمورين تقتحمهم العيون، وتتخطاهم الأنظار، ومن كان هذا شأنهم لا يحفل بهم أحدٌ من الناس، ولا يعنَى بسماع شيءٍ من أخبارهم وتواريخهم؛ لأن الناس لا يستطيعون أن يفهموا السعادة إلا من الطريق الذي ألفوه واعتادوه، فهم لا يصدقون أن قومًا فقراء متقشفين يعيشون في أرضٍ قفرةٍ جرداء منقطعة عن العالم بأجمعه قد استطاعوا أن يكونوا سعداء من طريق الفضيلة والبساطة.
فأكبرت الرجل في نفسي وأعظمته، وعلمت أنه يحمل بين جنبيه نفسًا كبيرةً ساميةً تختلف صورتها عن صورة هذه الأسمال الحقيرة التي يلبسها، وقلت له: نعم يا سيدي إنني أعترف لك أننا — معشر الأوروبيين — لا نفهم من معنى السعادة إلا ذلك المعنى الذي تقوله، ولا نعجب بالقصة إلا إذا كان أبطالها أولئك الملوك الظَّلمة، والقواد السفاكين، ولكننا نستطيع أن نصغي في بعض الأحايين بلذة وسرور إلى أحاديث الفقراء والبائسين، ومهما بلغت القسوة بالقلب الإنساني وغمرت الشهوات شعوره ووجدانه، فلا بد أن تهب عليه من حينٍ إلى حينٍ نفحةٌ من نفحات الفطرة الإلهية تنعشه وتوقظ شعوره، فيستطيع أن يعود إلى نفسه قليلًا، وأن يفهم أن في العالم صنوفًا من السعادة غير التي يعرفها ويألفها، وربما أكبرها وأعظمها وتَمَنَّاها لنفسه، وود لو طال استمتاعه بها.
فَقُصَّ عَلَيَّ قصتك يا سيدي، فما أنا لو علمت إلا رجلٌ بائسٌ مسكين، قد أخطأته السعادة حيث طلبها في المدن والحواضر بين الدور والقصور، فلعله يجدها في القفر الموحش بين الهضاب والصخور.
فوضع يده على جبينه المغضَّن كأنما هو يفتش في طياته عن بعض الذكريات القديمة، أو يستجمع ما تفرق من شواردها، وأنشأ يحدثني ويقول.