العاصفة
في نحو الساعة السابعة سمعنا قعقعةً عظيمة، قد انبعثت من جميع جهات البحر في آنٍ واحدٍ، فاهتزت الأرض والسماء، ودارت الأرض الفضاء، وانقلب عالٍ كل شيءٍ سافله وصاح الجميع «العاصفة».
هنا رأينا منظرًا هائلًا مخيفًا جمدت له دماؤنا في عروقنا، ومشت له قلوبنا في صدورنا، وما أحسب إلا أنه ستمر بنا الأيام والليالي ولا نستطيع أن ننساه حتى تبرد أعظمنا في ثراها؛ رأينا الضباب الذي كان يحول بيننا وبين رؤية السفينة قد انحسر دفعةً واحدة، فإذا السفينة ذرة هائمة في ذلك الفضاء الواسع، تُقْبِلُ بها الريح وتدبر، وتعلو بها الأمواج وتسفل، إن حاولت الدنو من الشاطئ وقفت في وجهها الصخور الناتئة المحددة الأطراف كأنها رماح مصوبة إلى صدرها، أو أرادت النكوص على عقبها والانسياب في طريقٍ أخرى غير هذه الطريق عجزت عن مقاومة التيار؛ لأنها أصبحت مجردةً من جميع قواها وأسلحتها، فقلوعها ممزقة، وألواحها متناثرة، وحبالها متطايرة وسواريها منكسة، وأعلامها ساقطة، ورجالها متهافتون على سطحها لما نالهم من الأين والإعياء، وقد بدأ مؤخرها يهبط، ومقدمها يرتفع؛ أي إن الهلاك قاب قوسين منها أو أدنى.
وكانت العاصفة في تلك اللحظة قد بلغت أشدها، فرأينا الموج يرتفع ارتفاع الجبال حتى يصك بمنكبه منكب السماء، ثم يندفع إلى الشاطئ كهَوِيِّ العقاب إلى وكره، فينسف رماله وحصاه، ويطير بشظياته في جو السماء، ثم لا يلبث أن يتراجع مجرجرًا في تراجعه جرجرته في تدافعه، كالسهم الأليم في حالتي وقعه ونزعه، ويترك وراءه بقعةً واسعةً من الرمل كصفحة المرآة في لمعانها واستوائها، ورأينا المضيق الواقع بين شاطئ الجزيرتين يرغي ويزبد كأنما يشتعل من تحته أتونٌ متقدٌ، ويرمي بالزبد من جفافيه كما يتناثر العهن المنفوش عن المندف؛ أما السماء فقد أصبحت ميدانًا تتسابق فيه قطع الغيوم الطائرة إلى غاياتها، فلا تفرغ حلبة حتى تنشأ حلبة أخرى، فأصبح البر والبحر، والسماء والأرض، والماء واليبس، والسهل والجبل، قيامةً كبرى يموج فيها كل شيءٍ، ويضطرب كل شيءٍ، فلم نعد نعلم أنحن وقوفٌ في أماكننا أم طائرون في جو السماء؟ وهل طغى الماء على اليبس فأحاله ماء، أم لا يزال الماء ماءً واليبس يبسًا؟