أحزان بول
نقلنا بول في مَحَفَّةٍ إلى كوخه بعد ما أَبَلَّ قليلًا، وكنت خائفًا عليه وعلى أُمَّيْه أشد الخوف من تلك الساعة التي يتلاقون فيها، ولكن الله، تعالى، جعل خيرًا ما كنت أحسبه شرًّا، فلم يقع نظرهما عليه حتى نهضتا إليه وضمَّتاه إلى صدرهما وانفجرتا بالبكاء، فنَفَّس الدمع عن هيلين تلك الحرقة الكامنة التي ظلت تعتلج في صدرها يومين كاملين، وكأن شعاعًا لامعًا قد انبعث من عينيه اللامعتين إلى قلبيهما فأضاءهما بنور العزاء والسلوى، فطفقتا تُقَبِّلانه وتلثمانه، وتمزجان دموعهما بدموعه، وقد أنزل الله عليهم جميعًا السكينة والصبر، فاستحالت تلك العاصفة التي كانت تعصف بقلوبهم ليلها ونهارها إلى سكونٍ يشبه سكون الموت، فلا نواح ولا عويل، ولا تذمر ولا شكوى، إلا ما كان من تلك العبرات التي تنحدر من آماقهم في صمتٍ وسكون.
وبعد هنيهةٍ حضر الحاكم ليعزي هيلين عن نكبتها، فعزَّاها وحدَّثها طويلًا عن عمتها وعن ذلك المسلك الوحشي الذي سلكته مع ابنتها، فكان جوابها على ذلك كله أن سألت الله لها العفو والمغفرة، ثم اقترب من فراش بول وتناول يده وقال له: يجب أن تسافر يا بني إلى فرنسا وسأعطيك كتاب وُصاةٍ تستعين به على عملٍ ينفعك وينفع أهلك، وسأتولى عنك رعاية أُمَّيْكَ وكفالتهما في غيبتك. فألقى عليه بول نظرةً طويلة لا يعلم إلا الله ماذا يريد منها، ثم جذب يده منه وأدار وجهه للحائط، فاكْتَأَيَ الرجل قليلًا ثم نهض وقال له: سأعود إليك مرة أخرى يا بني، وانصرف.
ولم يكن لي بد في هذه الأيام من أن ألزمهم لأقوم بخدمتهم وقضاء حاجاتهم، ولأتولى بنفسي تمريض هذا الولد المسكين، فلزمت فراشه ليلي ونهاري ما أكاد أفارقه حتى استطاع بعد ثلاثة أسابيع أن ينشط من علته، إلا أنه استحال إلى شخصٍ آخر غير ذلك الشخص الأول، وكأنما انطفأ في قلبه ذلك المصباح المنير الذي كان يمد حواسه ومشاعره بالنور والإشراق، فأصبح ذاهلًا مذهوبًا به، تُحدِّثه فلا يكاد يفهم الحديث، ولا يكاد يرد عليه إن فهمه، وكانت تدنو منه هيلين أحيانًا فتقول له: إنني كلما رأيتك يا ولدي يخيل إلي أن ابنتي لا تزال حيةً باقية أراها وأحادثها، تريد بذلك تسرية همة وإزالة وحشة نفسه، فلا يكاد يسمع اسم فرجيني حتى ينتفض انتفاضًا شديدًا ويخرج من الكوخ هائمًا على وجهه، فلا يعود إليه حتى يعود به من يراه. وكثيرًا ما كان يذهب وحده إلى «مخدع فرجيني» فيجلس هناك تحت النخلتين المسماتين باسمه واسمها شاخصًا ببصره إلى البركة التي كانا يستحمان فيها أيام طفولتهما، ويظل على ذلك عدة ساعاتٍ حتى أذهب إليه وأعود به إلى الكوخ.
وخرج ذات يومٍ فتبعته أنا ودومينج، وكنت أتبعه دائمًا حيثما سار، فصعد جبل «المورن» ثم انحدر إلى سفحه الآخر ومشى في الطريق الموصل إلى كنيسة بامبلموس، فاستطير قلبي خوفًا وهلعًا، وخفت أن ينتهي به المسير إلى قبر فرجيني، وكنت لا أستطيع منعه أو الوقوف في وجهه؛ لأن الطبيب أمرني ألا أحاوله في أمرٍ يريده، وأن أترك له الحرية في جميع ما يأخذ وما يدع، وقال لي: إن هذا هو علاجه الوحيد الذي لا علاج له سواه من وحشة نفسه وكآبتها، فظل سائرًا لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً حتى بلغ مكان القبر لا يخطئه، فجثا فوق تربته تحت ظلال شجرة الخيزران يصلي ويبتهل، فعجبت لذلك أشد العجب؛ لأنني كنت على ثقةٍ من أنه لا يعلم حتى الساعة هل أُخْرِجَتْ جثة فرجيني من البحر أم ذهبت طعامًا للسمك؟ فلم أجد بدًّا أنا ودومينج من أن نجثو جثيه وندعو دعاءه، فالتفت فرآنا، فسألته لِمَ يصلي في هذا المكان؟ فقال: إنه المكان الذي كنا نجلس فيه معًا حينما نأتي إلى هنا أيام الآحاد لزيارة الكنيسة وتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، ويخيل لي أن هذه البقعة أحب بقعة إلي على وجه الأرض وأدناها إلى نفسي، فعلمت أنه أُلْهِمَ، وأن طيب تراب القبرٍ دل على القبر.
ثم نهض قائمًا على قدميه وذهب ببصره في السماء، وظل على ذلك ساعةً، فخيل إلي أنه قد طار بنفسه إلى ذلك العالم الآخر ليفتش عن تلك النفس الحبيبة إليه التي فارقته فراق الأبد، فأصبح لا يهنأ له العيش من بعدها، ثم ما لبث أن انتفض انتفاضةً شديدة وانحدر إلى شاطئ البحر، فذُعرت وارتعت، ولم أجد بدًّا من أن أقف في وجهه، وقلت له: عُد بنا إلى الكوخ يا بول وكن عند ظني بك، فلم يعبأ بما أقول، واستمر سائرًا في طريقه حتى أشرف على البحر، وشَخَص ببصره إلى النقطة التي غرقت فيها السفينة، فخِفْت أن يكون قد حدث نفسه بذلك الأمر العظيم، فدنوت منه وقلت له: إن المنتحر يا بول لا يصعد إلى ملكوت السماء، فلم يزد على أن صاح: آه يا فرجيني! آه يا فرجيني! وسقط مغشيًّا عليه، فحملناه إلى الغابة، ولم نزل به حتى استفاق، فحاول أن يتقدم نحو الشاطئ مرة أخرى، فضرعت إليه ألا يفعل، فأمسك على مضضٍ، وبعد لأيٍ ما استطعنا أن نعود إلى الكوخ.
وأصبح بعد ذلك لا شأن له إلا طروق الأماكن التي عاش فيها مع فرجيني، أو اتفق لهما فيها شأن من الشئون، فزار الملعب الذي كانا يلعبان فيه معًا وهما طفلان صغيران، ويحفران في رمله الحفر العميقة الواسعة ويملآنها بالماء وصغار السمك، ويجلسان على ضفافها يصطادان، واجتاز الطريق التي مشيا فيها تحت وابل المطر وقد أسبلت إزارها على رأسه لتقيه مما تقي منه نفسها، فكان منظرها منظر الدمية في المحراب، ومشى في الطريق التي مشيا فيها يوم ذهبا إلى ضفة النهر الأسود ليشفعا للزنجية الآبقة عند سيدها، ومر بالمكان الذي قطعا فيه نخلة الجوز وأحرقاها ليأكلا طلعها الأبيض حين أزمت بهما أزمة الجوع، ودخل الغابة التي أضلا فيها الطريق حتى أظلهما الليل وهما تائهان مشردان، وجثا عند الشجرة التي جثيا عندها يصليان ويدعوان الله، تعالى، أن يبعث إليهما من يهديهما السبيل، وجلس بجانب الهضبة التي كانت تنتظره عندها حتى يعود من المزرعة تعبًا مكدودًا فتمسح عرق جبينه بمنديلها وتبتسم له تلك الابتسامة العذبة الجميلة التي تنسيه آلامه ومتاعبه، ومر بالشاطئ الرملي الذي كانا يرقصان فيه تلك الرقصة الزنجية الساذجة، ويمثلان على مسرحه بعض قصص الكتاب المقدس، وجلس طويلًا على الصخرة التي جلسا عليها ليلة الوداع يتعاتبان ويتشاكيان. وكان هذا آخر عهده بها حتى قضى الله قضاءه فيها.
ولم يدع هضبةً ولا صخرةً، ولا شجرةً ولا نخلةً، ولا ظلةً ولا كرمةً كانا يجلسان إليها أو يفيئان إلى ظلها إلا زارها وبكى عندها طويلًا، كأنما كان يشعر في نفسه أنه مفارقها، وألا بد له من وداعها، فهو يودعها وداع الآسف الحزين.
وكذلك قضى أيامه الأخيرة وحيدًا شريدًا، هائمًا مستوحشًا، يأكل حيث يجد طعامًا، ويشرب حيث يجد شرابًا، ويأوي إلى كل ظلٍّ، وينام تحت كل كوكب، حتى تَخَوَّنَه السقم، وأضواه الهم، فغارت عيناه، وانكفأ لونه، وذوت نضرته، وأصبح مثل الخلال رقةً وذبولًا، فأزعجني أمره، ورثيت له ولأُمَّيْه البائستين المسكينتين اللتين تبكيانه ليلهما ونهارهما على ضعفهما وسقمهما وإدبار أمرهما، ولم أكن فاتحته حتى اليوم بكلمةٍ واحدة في شأن نكبته التي نُكِبَ بها رحمةً به، وإبقاءً على حشاشته القريحة أن يؤلمها المس ويهيجها العبث. فلما استحالت حاله إلى ما أرى؛ رأيت أن أذهب في معالجته مذهبًا غير المذهب الأول، فجلست إليه ذات يومٍ وقلت له: أتعلم يا بول أن فرجيني قد أخلصت إليك إلى آخر رمقٍ في حياتها إخلاصًا لم يرَ مثله راءٍ؟ ولا يتحدث بمثله متحدثٌ، فانتفض قليلًا ورفع رأسه إليَّ ورنق ينتظر ما أقول، فأخرجت له صورة الرسول بول وأريته إياها، فاختطفها من يدي بيديه الضعيفتين المرتعشتين وقال: وأين وجدتها؟ قلت: عشية، على صدر فرجيني حينما وجدنا جثتها على شاطئ البحر وقد وضعت يدها عليها كأنها تضمك فيها إلى نفسها وتودعك الوداع الأخير. قال: وهل وجدتم جثتها؟ قلت: نعم وجدناها على ضفة الخليج عشية اليوم الذي غرقت فيه تحت طبقةٍ من الرمل قد سترت منها الجزء الذي تحب أن تستره من جسمها، قال: وأين دفنتموها؟ قلت: في الجانب الغربي من كنيسة «بامبلموس» تحت شجرة الخيزران الكبرى، حيث ذهبت وجثوت وصليت من حيث لا تدري. فتنفس تَنَفُّسَةً طويلة كادت تنقطع لها حَيَازِيمُه، وأكب على الصورة يغمرها بدموعه وقبلاته، فافترصت هذه الفرصة وأنشأت أقول له …