مدام دي لاتور
في عام ١٧٢٦ قَدِم هذه الجزيرة فتًى من «نورماندي» اسمه «مسيولاتور» ليطلب رزقه في هذه الجزيرة المقفرة بعد ما أعياه طلبه في فرنسا، وعجز عن أن يجد له فيها مُعينًا حتى من أهله وذوي رحمه، وكانت تصحبه زوجته، وهي فتاةٌ نبيلةٌ، جميلة الصورة، كريمة الخلق، طيبة العُنْصُر، أحبَّها وأحبته، وأراد أن يخطبها إلى قومها فأبَوْها عليه؛ لأنه كان فقيرًا مُقلًّا، ولأنهم كانوا من المدلِّين بأنفسهم وبوفرهم وثرائهم ومكانتهم في الهيئة الاجتماعية، فلم يكن مما يهون عليهم أن يصهروا إلى رجلٍ ليس من أكفائهم ولا نظرائهم، فتزوجها سرًّا بدون مهرٍ، وهاجر بها إلى هذه الجزيرة علَّه يجد سبيلًا إلى العيش فيها، فتركها هنا وسافر إلى جزيرة «مدغشقر» ليبتاع منها طائفة من الزنوج يستعين بهم عند عودته على استصلاح بعض الأراضي المهجورة، فيقتات منها هو وزوجته، فلم يتَح له الحظ الذي أراد؛ لأنه سافر إلى «مدغشقر» في الفصل الذي يوبأ فيه مناخها ويمتلئ فيه جوها بالحميات والرياح السامة القاتلة، فلم يلبث أن اشتكى شكاةً ذهبت بحياته، وكان يحمل معه بعض الأثاث وشيئًا من المال، فتناهبته الأيدي هناك، كما هو الشأن دائمًا في تراث الغرباء من الأوروبيين الذين يموتون بعيدًا عن أوطانهم في تلك الجزر النائية.
فأصبحت امرأته من بعده أرملةً مسكينةً لا سند لها ولا عضد ولا من يعينها على أمرها إلا جارية زنجية كانت قد ابتاعتها عند حضورها ببعض دريهماتٍ، ولم تكن تعتمد على ما يعتمد عليه أكثر المهاجرين المقيمين في هذه الجزيرة من عون الحاكم ومساعدته، أو الصلة ببعض أصحاب الجاه والنفوذ؛ لأنها كانت أجل في نفسها من ذلك، ولأنها لم يكن يعنيها بعد أن فقدت ذلك الزوج الكريم الذي كان موضع آمالها ووجهة حياتها أن تكون لها صلة مع أحد من الناس كائنًا من كان.
فأكسبها يأسها هذا قوةً وجلدًا، وصحت عزيمتها على أن تعتمد في حياتها على نفسها، وأن تتخذ لها قطعةً من الأرض تستصلحها بيدها هي وجاريتها علها تجد قوتها ومرتزقها.
والأرض في هذه الجزيرة على جدبها وإقفارها لا يعدم أن يجد فيها الإنسان بضع قطعٍ خصبةٍ صالحة للنماء والاستثمار، ولكنها كانت تريد العزلة والانفراد والفرار بنفسها عن أبصار الناس وأسماعهم، فتركت المواضع الخصبة الميثاء وأوغلت في المجاهل البعيدة تفتش عن قطعة أرضٍ معتزلةٍ في سفح جبلٍ أو بطن غورٍ أو وراء منقطع لا يطرقها طارق ولا يمر بها سابلٌ حتى وصلت إلى هذا المكان الذي نحن فيه، فأعجبها منظره الهادئ المنفرد، وسكنت نفسها إليه سكون الطائر الغريب إلى العش المهجور، وكذلك شأن البائسين المنكوبين، يشعرون دائمًا بحاجتهم إلى الفرار بأنفسهم من ضوضاء العالم وجلبته إلى المعتزلات النائية القصية، والمواطن الخشنة الوعرة، كأنما يخيل إليهم أن صخورها وهضابها قلاعٌ حصينةٌ يعتصمون بها من كوارث الدهر وأرزائه، أو كأنما يتوهمون أن هدوءها وسكونها يسري إلى قلوبهم وأفئدتهم فيروح عنها بعض ما بها ويملؤها راحةً وسكونًا، إلا أن العناية الإلهية — التي تتولى حراسة الإنسان وتمده بلطفها وعنايتها من حيث لا يقدِّر ولا يحتسب، وترى له دائمًا خيرًا مما يرى لنفسه؛ أبت أن تسلمها إلى وحشتها وكآبتها، فأتاحت لها صديقةً كريمة تؤنس وحشتها، وتعينها على أمرها.