حياة الطفولة
ولم أر فيما رأيت من عجائب الأشياء وغرائبها أغرب من تلك الصلة التي كانت بين هذين الساذجين الطاهرين، ولا أعجب من ذلك الامتزاج الذي كان بين روحيهما، فإذا شكا بول شكت فرجيني لشَكَاته، وإذا بكى لا يخفض عبرته ولا يُسرِّي حزنه إلا رؤيتها باسمةً بين يديه، وكثيرًا ما كانت تتألم بينها وبين نفسها لبعض الشئون فلا يدل على ألمها وحزنها إلا بكاؤه ونشيجه، فكانت إذا أَلمَّ بها ألمٌ طوت عليه ضلوعها، وكاتمته نفسها، ضنًّا به أن تراه باكيًا أو متألمًا.
وما جئت هنا مرةً في شأنٍ من الشئون إلا رأيتهما معًا يحبوان، أو يدرجان، أو يتداعبان، أو يتماسكان، أو يستبقان إلى غاية، أو يتخاطفان لعبةً، فلم يكن شيءٌ من الأشياء بقادرٍ على أن يفرق بينهما حتى ظلام الليل ووحشته، فقد كان لهما مهدٌ واحدٌ ينامان فيه معًا عاريين كعادة الأطفال في هذه الجزيرة، وقد تلازما وتآخذا وتوسد كلٌّ منهما ذراع صاحبه كأنما يخشيان أن يفرق بينهما حادثٌ من حوادث الدهر.
وكان أول ما نطقا به من الكلمات كلمتا الأخ والأخت، وهي كلمة جميلةٌ جدًّا، ما خلق الله في الكلم أجمل ولا أحلى ولا أشرف معنًى ولا أطرب نغمةً منها، ويزيدها جمالًا وحسنًا صدورها من أفواه الأطفال الصغار، كأنهما عهدٌ يأخذونه على أنفسهم منذ اليوم أن يكون كلٌّ منهما لصاحبه غدًا، أو كأنها راية السلام البيضاء يرفعونها على رءوسهم ويلوِّحون بها في الآفاق.
ثم أخذت تلك العلاقة الطفلية البسيطة تستحيل مع الأيام إلى صداقةٍ جديةٍ، يشعر فيها كلٌّ منهما بحاجته إلى الآخر وإلى معونته ومساعدته، فبدآ يشتركان في خدمة المنزل ومناظرة شئونه، ومعاونة أُمَّيهما فيما هما بسبيله من طلب العيش ومعالجة القوت، كلٌّ فيما هيأته طبيعته له.
فلحقت فرجيني بالزنجية «ماري» تتعلم منها الطبخ والغسل والنسيج وإعداد المائدة وتهيئة الفراش وخياطة الملابس وصنع السلال، إلا أنها كانت تُعنى بما يتعلق بأخيها بول قبل كل شيءٍ، ولحق بول بدومينج يعينه بفأسه الصغيرة التي كانت لا تفارق عاتقه على فلح الأرض وحرثها، وتخطيطها وتقسيمها، وتحويل مياهها، وقلع حشائشها، وتسلُّق رُبَاها، وتقليم أشجارها، فإذا عثر في طريقه بزهرةٍ جميلة، أو فاكهةٍ طيبة، أو طائرٍ في عشِّه، أو حشرةٍ في حفرتها، أو سمكة ملونة، أو محارةٍ ظريفة، احتفظ بها في جيبه ليقدمها هدية لفرجيني حين يعود إليها.
وكانا على اختلاف شأنهما واستقلال كلٍّ منهما بعمله عن عمل صاحبه على اتصالٍ دائمٍ ببعضهما؛ فحيث وُجدت فرجيني فقد وجد بول معها، أو على مقربة منها، أو منحدرًا إليها، أو مشرفًا عليها، أو هاتفًا بها، ما من ذلك بد.
وأذكر أني كنت منحدرًا ذات يومٍ من قمَّة الجبل، وكان الجو ماطرًا مكفهرًّا، فرأيت فرجيني مُقبلةً نحو المنزل من أقصى الحديقة، وقد رفعت إزارها من خلفها وأسبلته على رأسها لتتقي به المطر المتساقط، فهرعتُ إليها لأساعدها على المسير، فلما دنوت منها رأيت أن ذلك الإزار الذي يضمها لا يضمها وحدها، بل يضم معها أخاها بول، فنظرا إليَّ ضاحكين متهللين كأنهما مغتبطان باهتدائهما إلى تلك الفكرة الجميلة التي استطاعا بها أن يلجئا من ذلك الغيث المنهمل إلى ظلَّةٍ واحدة، فذكَّرني منظرهما هذا ومنظر رأسيهما الصغيرين المتلاصقين في ذلك الإزار بمنظر طفلَي «ليدا»، وقد حفرا معًا في محارة واحدة.
وكانت حياتهما بسيطةً ساذجةً؛ لأن ذهنهما كان بسيطًا ساذجًا خاليًا من مشاغل الحياة المركبة وهمومها، فلا يفكران في شأنٍ غير شأنهما، ولا يسبحان في محيطٍ غير محيطهما، ولا ينتقلان بذهنهما من الحاضر إلى الماضي أو المستقبل، ولا تترامى أبصارهما إلى ما وراء الأفق المحيط بهما، كأنهما يظنان أن العالم ينتهي حيث تنتهي جزيرتهما.
ولقد أراحهما من عناء البحث والتفكير جهلهما وأميتهما وبعدهما عن هموم العلم ومشاغله، فلم يقدَّر لهما أن يسهرا ليلهما منكبين على المذاكرة والمدارسة حتى يغلبهما النوم فيناما في مكانهما، ولم يذرفا الدموع الغِزار يومًا من أيامهما أمام معضلةٍ من معضلات العلم، أو مشكلة من مشكلاته، حتى تتقرح أجفانهما، ولم يُثِر غيظهما وحنقهما عجزهما عن التغلب على خصومهما في ميدان المجادلة والمناظرة حتى تنشق مرارتهما غيظًا وحنقًا، وما شعرا في ساعة من ساعات حياتهما بحاجتهما إلى أن يعرفا غير ما يعرفان؛ لأنهما يعلمان أنهما ما خلقا إلا ليعيشا سعيدين هانئين. وها هي ذي السعادة تظللهما بأجنحتها البيضاء، وتتدفق بحرًا زاخرًا تحت أقدامهما، وإلا ليؤديا واجب الحب والإخلاص لذينك الشخصين الكريمين عليهما، وها هما ذان يقومان لهما بهذا الواجب بأفضل ما يقوم به عبدٌ لسيده، بل عابدٌ لمعبوده.
فما بهما من حاجة إلى من يُعَلمُهما أن الكذب حرامٌ؛ لأنهما لا يكذبان، ولا أن السرقة جريمةٌ؛ لأن جميع ما يقع تحت متناول أيديهما ملكٌ مشتركٌ للجميع، ليس أحدٌ أولى به من الآخر، ولا أن الجشع رذيلةٌ؛ لأن ما يشتمل عليه كوخهما بسيطٌ محدودٌ لا يحتمل جشعًا ولا نهمًا، ولا أن البر بالوالدين واجبٌ؛ لأنهما كانا يعبدان أميهما عبادةً هي فوق البر والإحسان، ولا أن الصلاة فريضةٌ؛ لأنهما وإن لم يذهبا إلى الكنيسة إلا قليلًا فقد كانا يصليان في كل أرضٍ، وفي كل جوٍّ، في البيت والمزرعة، والقمة والرابية، والسهل والجبل، وفي بكور الأيام وأصائلها، وأوائل الليالي وأواخرها.
•••
وكذلك أشرقت حياتهما الأولى إشراق الفجر المنير في صفحة الأفق مبشرًا بيوم صحوٍ جميل، وأخذت تمر بهما الأيام عذبةً صافيةً جريان الغدير المترقرق على بياض الحصباء، سواءٌ ليلها ونهارها، وصبحها ومساؤها.
وكان من شأن فرجيني أن تستيقظ صباح كل يومٍ مبكرةً والطير لم يفارق وكره، فتحمل جرتها وتذهب بها إلى نبعٍ صافٍ كان على بُعد مرحلة من المزرعة فتستقي منه ثم تعود فتجلس لتهيئة طعام الإفطار، حتى إذا برزت الشمس من خدرها وأخذت تنفض بيدها غبار الظلام عن وجه الأرض، وتمسح جبين الطبيعة المكتئب بريشة أشعتها الذهبية، أقبلت مرغريت من كوخها هي وولدها فتبادلوا جميعًا تحية الصباح ثم اصطفوا لأداء الصلاة، وبسطو أيديهم إلى السماء ضارعين إلى الله — تعالى — أن يكلأهم بعين رعايته، ويبسط عليهم جناح رحمته، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدًا. فإذا انتهوا من صلاتهم خرجوا خارج الكوخ لتناول الطعام على مائدةٍ جميلةٍ من العشب الأخضر تحت ظلةٍ دانية من الأغصان المتشابكة، تتساقط عليهم قطع النور من فجواتها كأنها النثار الفضي اللامع.
فكان أثر ذلك الغذاء الطبيعي البسيط تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك الأرض الندية المخضلَّة عظيمًا في نمو الولدين وترعرعهما، ونضرة وجوههما، وحلاوة ملامحهما، فلم تبلغ فرجيني الثانية عشرة من عمرها حتى استقام عودها، واعتدل قوامها، وتهدل شعرها الأصفر اللامع على كتفيها كأنما قد نُسج من خيوط الشمس، وأضاءت عيناها الزرقاوان بنورٍ سماويٍّ غريب كأنه قبس من النور الإلهي، فإن ابتسمت ابتسمتا معها كأنهما ثغران ضاحكان، وإن قَطَّبت سبحتا وحدهما في جو السماء حتى تلتقي زرقتهما بزرقتها.
أما بول فقد كانت قامته أطول قليلًا من قامة فرجيني، ونظره أَحَدَّ من نظرها، وأنفه أكثر شممًا من أنفها، ولونه أقرب إلى السمرة من لونها؛ أي إن ملامحه كانت تذهب مذهب الرجولة في تكونها واستدارتها، وكانت تنبعث من عينيه نارٌ من القوة والنشاط تكاد تلتهب التهابًا لولا تلك الأهداب الندية الحافة بهما.
وكان لا يزال ثائرًا مهتاجًا، ما يهدأ ولا يسكن حتى تُقبِل عليه فرجيني وتجلس بجانبه، فإذا هو الطفل الصغير بساطةً وسذاجةً ووداعةً ولطفًا.
وكثيرًا ما كانا يجلسان معًا صامتين هادئين ساعاتٍ طوالًا على ضفة نهرٍ، أو حافة ينبوع، أو ربوةٍ عالية، أو قمة مشرفةٍ، وقد اضطجع كلٌّ منهما بجانب الآخر ومد قدميه العاريتين، فكأنهما تمثالٌ رخاميٌّ عتيق من تماثيل أولاد «بينوب»، وكأن حياتهما حياة الملائكة الأبرار في عالمها العلوي، لا تشعر بحاجتها إلى الحروف والكلمات في التعبير عن شعورها وإحساسها.
ولم يتكلمان وقد قامت لهما نظراتهما المتمازجة وابتساماتهما المتماوجة مقام الألسنة في نطقها وإفصاحها، ولم يكن حبهما حبًّا صناعيًّا ولا متكلفًا فيحتاجا إلى استدامته واستبقائه وتأريث ناره في قلبيهما بالملق والدهان، والتدليل والترفيه، وخلابة الألفاظ وسحر البيان، لا، بل لو سئل أحدهما عن الحب وتعريفه وصفاته لما استطاع أن يجيب بشيءٍ؛ لأنه لا يفهم من الحب سوى أنه في حاجةٍ إلى بقاء صاحبه بجانبه لا يفارقه، ولا يغيب عن وجهه، لا يزيد على ذلك ولا ينقص شيئًا، ولقد استقر هذا الشعور في نفسيهما ومَلَك عليهما حواسهما وخوالجهما، فلم يفكرا في تشخيصه وتحديده، واستعراض صوره وألوانه، فكان أشبه شيءٍ بالإيمان في قلوب العجائز، والإلهام في أنفس الحيوان، والعبقرية في أذهان الخاملين المغمورين، فهما ينعمان بحبٍّ هادئ لطيفٍ لا جلبة فيه ولا ضوضاء ولا تجاذب ولا تآخذ، ولا شكوى ولا عتاب، ولا سهر ولا قلق، ولا خوف من الطوارق، ولا خشية من الفواجئ.
غير أن هيلين — وقد رأت فتاتها تنمو وتترعرع ويتلألأ وجهها بتلك المحاسن الباهرة — بدأت تفكر في أمرها وأمر مستقبلها، وتقول في نفسها: ماذا يكون مصير هذه الفتاة المسكينة غدًا إن عدت عليَّ عوادي الدهر، وفرقت المنية بيني وبينها، وخلفتها وحدها هنا في هذه القفرة المجدبة بين هذه الخلائق الغريبة وحيدةً منقطعةً لا سند لها ولا معين؟
وكانت لها في فرنسا عمةٌ مثرية ثراءً واسعًا، إلا أنها كانت امرأةً متكبرةً تياهةً شديدة الذهاب بنفسها، مُدِلةً بجاهها ونفوذها متشددةً في آرائها وأفكارها، فنقمت عليها أشد النقمة لاتصالها بذلك الفتى الفقير الذي اختارته زوجًا لها، واعتبرت حادثتها هذه نكبةً من أعظم النكبات التي حلت بها وبأسرتها، فأبت أن تغفر لها زلتها بدموعها وآلامها، وضراعتها ومناشدتها، فسافرت وقد آلت على نفسها ألا تلجأ إليها في شأن من شئون حياتها ما تردد لها نفسٌ على وجه الأرض، أما الآن وقد أصبحت أمًّا يعنيها من أمر فتاتها ما يعني الأمهات من أمر فتياتهن، فلم تر بدًّا من أن تحمل نفسها على ذلك المكروه الذي عافته برهةً من الزمان، فكتبت إلى تلك العمة القاسية كتابًا طويلًا أفضت إليها فيه بخواطر نفسها، ووساوس قلبها، وقصت عليها قصة حضورها إلى هذه الجزيرة، وما كان من وفاة زوجها على أثر حضورها وحياتها الشقية التي تحياها الآن من بعده وحيدةً منقطعة لا ناصر لها ولا معين، وظلت تحدثها حديثًا طويلًا عن ابنتها وما تخشاه عليها في مستقبل حياتها إن نَشِب بها ظفرٌ جارحٌ من أظفار الدهر، وفرقت المنية بينها وبينها، ثم قالت لها في ختام كتابها: «إن كنت ترين أنني لا أزال مذنبةً بعد ذلك، وأن تلك الدموع السخية التي روَّيتُ بها ثرى الأرض اثني عشر عاما لا تكفي لمحو زلتي من صحيفة أعمالي: فارحمي هذه الفتاة المسكينة من أجلها لا من أجلي فهي حفيدة أخيك، وغصن دوحتك، والبقية الباقية من أسرتك.»
لبثت تنتظر ردًّا على كتابها فلم يأتها، فأتبعته بآخر، ثم بآخر، وضرعت في ذلك ضراعةً لم يكن مثلها مما يهون على مثلها لولا عاطفة الأمومة ورحمتها، حتى كانت سنة ١٧٣٨ — أي بعد قدومها هنا باثني عشر عامًا وبعد مرور ثلاث سنوات على قدوم مسيو «دي لابوردونيه» حاكمًا على الجزيرة — إذ علمت أن ذلك الرجل يسأل عنها ليسلمها كتابًا وَرَدَ عليها من عمتها، فاستُطِيرَت فرحًا وسرورًا، وعلمت أن أيام شقائها قد انتهت، وأن الله قد رحمها ورثى لبؤسها وشقائها، وهُرعت إلى «بورلويس» لمقابلته، فدخلت عليه في ذلك الثوب البنغالي الخشن الذي اعتادت أن تلبسه في بيتها غير حافلةٍ بشيءٍ إلا بتلك السعادة التي ستقدمها عما قليلٍ لابنتها، فاستقبلها الرجل استقبالًا جافًّا خشنًا، وهي المرأة الشريفة الطاهرة التي تغضي العيون بين يديها إجلالًا وإكبارًا، والبائسة المسكينة التي تهابها النفوس مرثاةً لها ومرحمةً لبؤسها وشقائها، ولم يزد على أن أومأ إليها برأسه إيماءةً خفيفةً، ثم تقدم نحوها بعظمةٍ وكبرياء وأعطاها كتابها، فاختطفته من يده وأنشأت تقرؤه بلهفةٍ وسرور، إلا أنها لم تقرأ منه بضعة أسطرٍ حتى امتقع لونها، وارتعشت يدها، وترنحت في مكانها ترنج الشارب الثمل، فقد كتبت إليها عمتها تؤنبها وتقرِّعها تقريعًا مؤلمًا مهينًا، وتشمَت بها وبمصيرها، وتقول لها هذا جزاء تمردك وعصيانك وخروجك عن أهلك وقومك، وانقيادك إلى شهوتك البهيمة واسترسالك فيها استرسالًا دفع بك إلى أحضان ذلك الفتى الوضيع المهين الذي لا يليق به أن يحل سيور حذائك، حتى جلبت على نفسك وعلى أهلك العار الذي لا يُمحى، ولقد أحسنت كل الإحسان بمغادرتك هذه البلاد وفرارك إلى تلك الجزيرة النائية المنقطعة لتدفني فيها نفسك وعارك إلى الأبد، وما موت زوجك، وولادة ابنتك، وشقاء عيشك، والوساوس التي تعتلج في صدرك خوفًا على فتاتك وعلى مستقبلها، إلا عقوبةً أنزلها الله بك ليمحص عنك ذونبك ويمهد لك سبيل غفران سيئاتك، فاصبري لها ولا تجزعي حتى يقضي الله قضاءه فيك.
ثم أنشأت تُدِل عليها بنفسها وتفاخرها بعفتها وطهارتها وترفُّعها وإبائها، وأنها قضت أيام حياتها عانسًا متبتلةً ما تزلق بها شهوتها في هوةٍ من تلك الهُوَى التي تزلق فيها أقدام النساء الجاهلات، ولا تسلم قيادها إلى رجلٍ من الرجال — كائنًا من كان — ضنًّا بحريتها أن تعبث بها أيدي المطامع والأهواء.
وكانت كاذبةً فيما تقول، فهي امرأةٌ دميمةٌ شوهاء، غريبة الأخلاق والأطوار، ليس لها من المزايا إلا ثروتها الطائلة، وجاهها الواسع، ومكانتها من البلاط الملكي، وكان كبرياؤها الكاذب يأبى عيها إلا أن تتزوج من رجلٍ من ذوي البيوتات العظيمة والألقاب الضخمة، وليس بين هؤلاء جميعًا من يرضى أن يبيعها نفسه بيعًا مهما بلغ من رقة الحال، وشظف العيش، ولم يزل هذا شأنها حتى تجاوزت سن الزواج وضاعت بين سخافتها وكبريائها.
ثم ختمت كتابها بقولها: «لا بد لك أن تعملي لنفسك، فقد علمت أنك في جزيرة صالحة للعمل والاستثمار، وأن جميع المهاجرين الذين يؤُمُّونها يعودون منها بالثروة الطائلة والربح الكثير، على أنني قد كتبت إلى مسيو دي لابوردونيه حاكم الجزيرة أوصيه بك خيرًا، فاعتمدي عليه وعلى معونته ولا تكتبي إلي بعد اليوم.»
وكانت صادقةً في كلمتها هذه، فإنها كتبت إلى ذلك الرجل كتابًا توصيه بها فيه، إلا أنها ملأته بذمها وثلبها، والاستطالة عليها في عرضها وشرفها، كأنها تلتمس لنفسها عذرًا عنده في قسوتها عليها، وعنفها بها، وضنها عليها بالمعونة والمساعدة.
فكان من أثر ذلك في نفسه أن ازدراها واحتقرها، وتجهم لها حين رآها، ثم ودَّعها بمثل ما استقبلها به، لم يسألها عن شأنٍ من شئونها، ولم يمنحها غير وعودٍ كاذبة كان ينطق بها بلهجةٍ جافةٍ خشنةٍ مملوءةٍ ضجرًا ومللًا، فكأنما أوصته بقتلها والقضاء عليها.