الفصل الثاني عشر
كانت الساعة الرابعة إلا الربع عصرًا، وبعد أن زوَّدتُ إطارَيْ درَّاجتي بالهواء، ذهبتُ إلى دار المُسنين، ولكني لم أجد أبي في غرفة الانتظار. وجدتُه في حجرته مُحدق العينين.
لم يستجب لندائي، فناديته مجددًا، لكن عينَيْه بقيتا مُحدقتَيْن دون أن يُعطي أي استجابة. تأكدتُ من أنه ما زال يتنفَّس؛ فبالفعل كان قفصه الصدري يعلو وينخفض. مع ذلك تسارعتْ دقات قلبي؛ لأن صوتي لم يصل إليه بالرغم من رفع صوتي، وظننت أنه قد أصابته صدمة أو ما شابه، ولكنه في المرة العاشرة أو الحادية عشرة من النداء اهتزَّ ونظر إليَّ مشدوهًا، وكأنه يعجب كيف وصلتُ إلى سريره فجأةً، سألتُهُ وأنا مُضطرب عن حاله، فهزَّ كتفَيْه وقال:
«أتمنى أن أكون بخير.»
•••
إن كل حكاية هي بمنزلة «بروفة نهائية» للموت؛ لأن كل حكاية لا بد أن تنتهي، إلا أن الحكيَّ يُعيد الأشياء الضائعة، عندما يحكيها.
أو كما قال شكسبير: «دعنا نجلس على الأرض ونحكِ قصصًا حزينة عن موت الملوك.»
•••
بعدها جلستُ على الكرسي ونظرتُ عبر النافذة إلى شارع لاوتراخ، حيث تمر سيارة من وقت لآخر، وسألت أبي إذا كان يرغب في الذهاب معي إلى الخارج، ولكنه لم يُرِد ذلك، حاولتُ أن أُغريه بالجلوس في الهواء الطلق، لكن الفكرة لم ترُق له.
«أترغب في الخروج معي يا أبي؟ يمكننا التنزُّه قليلًا.»
«إلى أين؟»
«نتنزَّه في الخارج، بالحديقة.»
«لا أريد.»
«إلى فولفورت إذن يا أبي.»
نظر إليَّ وهزَّ رأسه بالموافقة، وقال مُبرهنًا على أن قلبه ما زال يعرف ما يعشق:
«هذا بالتأكيد أمرٌ مُختلف.»
قام وذهب معي إلى الباب، ولسعادتي بأنه ما زال حيًّا علَّقتُ يدي في يده.
•••
كلما ابتعد المرء عن موطنه شعر بأنه عاش فترةً أطول، وإذا طبقنا ذلك على أبي فإن حياته حتى بداية الحرب كانت قصيرة، ثم طالت لفترة قصيرة، ثم قصُرت لفترة طويلة، ومع إصابته بمرض ألزهايمر عادت طويلة.
•••
جاء أحد النُّزلاء وقال لي إن قصة «الذئب والصغار السبعة» تحكي عن قتل الصغار، فرددت عليه بأنه ربما يكون مُحقًّا، وأنه عليَّ أن أُفكر في الأمر.
تبع أبي الرجل بعينَيْه وكأنه لم يَرَه من قبل، ثم نسيه بعد ذلك.
•••
كان يُسمِّي زملاءه في دار المسنين «الفقراء البؤساء، الذين لا تجتمع فيهم الرغبة والقُدرة»، وأحيانًا «الكسالى»، دون أن يستثني نفسه من ذلك الوصف. ولكنه كان يشعر بالراحة لوجوده بين من يُشبه حالهم حاله. كان يقول أحيانًا:
«يوجد هنا مزيدٌ من الكسالى. لقد جمعتُهم في هذا المكان بنفسي.»
وفي مرة أُخرى قال متضامنًا معهم:
«كلنا هنا مساكين.»
•••
«أنا شخص مُسالم في أرض الرب، شخص لا يقوم بقفزات كبيرة، ويُغادر الحياة في النهاية.»
•••
إذا أردتُ مُقارنة أبي بشخصية من الأدب فسيخطر ببالي ليفين، الشخصية الذكورية الرئيسية في «أنَّا كارنينا»، ليس فقط لأن ليو تولستوي يصفه وهو يجز الحشائش بالمنجل، بل لأن هناك شيئًا يجمعهما؛ ألا وهو الرغبة في جعل الأشياء تُصبح أفضل. حتى اليوم ما زال أبي يتجول في حديقة دار المسنين ويقول:
«توجد هنا أشياء تحتاج إلى تحسين، لقد اكتشفتُ ذلك بعينَيَّ الماهرتَيْن. أَعجب كيف رتَّبوا الأشياء هنا بهذه الطريقة. لا أفهم الميزة في ذلك، ما فعلوه لا يُقنعني!»
كان أبي ينشغل كثيرًا بخطط كبيرة ويقول:
«لديَّ كثيرٌ من الأفكار، لكنها لم تعُد تُعبِّر عن نفسها.»
•••
خطر ببالي شكل جيوبه المُنتفخة، وأنه يومًا قام بطلاء مرأب السيارات وهو مُحتمٍ من الشمس بمظلة، بينما كان الجيران ينامون تحت مظلاتهم. وكثيرًا كان يضع منديلًا على رأسه بعد عقد أطرافه الأربعة ليحتمي من الشمس.
•••
«وما هذا؟!»
«هذه أشجار يا أبي.»
رفع حاجبَيْه وقال:
«ولكنها لا تُعطي الانطباع بأنها أشجار!»
•••
جلسنا على أحد مقاعد الحديقة، وأخذ يراقبني باهتمام وأنا أدوِّن بعض الملاحظات في كراسة قديمة، وأمسك لي بالكراسة حتى لا تنزلق وأنا أكتب. سألني:
«كيف سارت الأمور مع أوراقك؟»
فأجبته: «الأمور تسير مع أوراقي بصورة طيبة دائمًا.»
فقال: «وأنا أيضًا.»
•••
كانت تركيبةً غريبةً؛ فقد كان لا يستطيع الاحتفاظ بما أُعطيه له، وكنتُ أتمسَّك بكل قوة بما يُعطيني إياه.
كانت تلك الساعات تطول، وكان لديَّ الوقت للانتباه لأشياء كثيرة. لم يكد شيء يمُر دون أن ألحظه؛ فقد كنت أظل منتبهًا وحاضر الذهن، وكل الأمور كانت تصلني بوضوح شديد وكأن ضوءًا شديدًا ينتشر فجأة من حولي.
•••
كان أبي يراقبني أثناء الكتابة، ولسان حاله يقول:
«اجلس هادئًا يا ولدي؛ يجب أن تستذكر درسك!»
•••
يوجد شيءٌ بيننا جعلني أنفتح على العالم أكثر، وهو على عكس ما يُقال عادةً عن مرض ألزهايمر بأنه يقطع الصلات؛ فأحيانًا يكون سببًا في توطيد العلاقات.
•••
«عندما ذهب ما تمنيناه أدراج الرياح، عندها فقط بدأنا نعيش.»
•••
زادت السعادة مع الاقتراب من الموت، هناك حيث لم نحتسب.
•••
كما قال الجنرال ديجول ردًّا على السؤال عن الطريقة التي يريد أن يموت بها: «أريد أن أموت حيًّا!»
•••
عندما ذهبتُ بعد ظهر يوم سبت لزيارة العمة بيرتي، زوجة باول الأولى، كنت قد أتممت لتوي عامي التاسع عشر، وكانت العمة ترغب في توديع أبناء وبنات أخواتها الكثيرين، وكان أحد الرُّهبان قد غادر للتو وهو يتمنَّى لها الشفاء، فقالت لي: من السخيف أن يتمنى أحدٌ الشفاء لشخص يُحتضر. وكانت تبدو مُحبطة وتعيسة. وتركت فيَّ هذه اللحظة القصيرة أعظم الأثر، عندما طلبتِ امرأةٌ وأُمٌّ لثلاثة أطفال، اثنان منهم في سنٍّ ما بين الطفولة والشباب، ألَّا نَغُض الطرف عن الحقائق، حتى ولو تعلَّق الأمر بالموت.
أحيانًا نتعلَّم في لحظة واحدة ما لا نتعلمه في عام دراسي كامل.
•••
شهد ذلك الوقت أحداثًا حزينة أخرى؛ إذ مات ثلاثة أطفال ممَّن تبناهم أبي: جوي وماريا وإيرمي. كانت تلك أكبر تعاسة عائلية لم يَسْلَم منها أحدٌ في الأُسرة، بما فيها من مُصادفة رهيبة وحزن يصعب نسيانه.
عندما حدَّثت أبي عن تلك الفترة لم يتذكَّر منها شيئًا.
وقال: «لا، لا أعرف شيئًا عن ذلك.»
ولكنه رغم ذلك كان يعتقد أن أُمَّه، التي ماتت في نفس الفترة، لا تزال حية، وكان كثيرًا ما يقول:
«يجب أن أذهب إلى البيت؛ فأُمي بانتظاري!»
•••
كان مفهوم القَدَر على مدار ألفية كاملة مفهومًا أساسيًّا، أما اليوم فيكاد يُصبح الحديث عن القَدَر أمرًا مُستهجنًا؛ إذ يجب إيجاد تفسير لكل شيء. ولكن أحيانًا تحدث لنا أشياء لا نقدر على تفسيرها ولا على إيقافها. فبالمصادفة يحدث شيء لأقوام، وبالمصادفة لا يحدث لآخرين، لماذا؟ يبقى ذلك لُغزًا.
الشوق لما عشناه وللأشخاص الذين تركونا نحيا ورحلوا.
•••
في لحظة ما سيأخذ أبي نفَسًا لن يتبعه آخر، وهذا يُشعرني بالغضب، كل هذا العناء، ولماذا؟ ثم أُفكر مُجددًا في أن هذا الأمر فيه شيء كتب عنه جوليان جرين في يومياته وهو في سن الثمانين قائلًا: إنه ليست لديه مُشكلة في أنه يفقد بعض قدراته وأنه سيموت؛ فالرب يأخذ الممحاة ويمحو المكتوب على اللوح؛ كي يكتب اسمه فوقه.
على خلافي كان أبي دائمًا مُتدينًا جدًّا، ولكن حتى في ظل المفاهيم الدنيوية يُعجبني ما قال جوليان جرين عن ذلك الآخر الذي يكتب اسمه على اللوح، الأماكن التي نستخدمها يستخدمها من بعدنا آخرون، الشوارع التي نقود عبرها مركباتنا، سيمُر بها غيرنا، المكان الذي بنى فيه أبي بيتًا، سيسكنه أشخاص آخرون، وشخصٌ آخر سيروي يومًا القصص التي أحكيها أنا.
وبقدر ما أن هذا الترتيب عبثي وحزين، إلا أنه يبدو لي سليمًا.
•••
قرأتُ في الصحيفة أن الصراصير قد نجَت من تجارب أُجريت على القنابل الذرية في منطقة بكيني أتول، وأنها ستبقى بعد فناء البشرية. وهذا شيء آخر سيبقى بعد أن أنتهي. كُنت قد تأقلمت مع فكرة أن النبيذ والفتيات سيبقيان بعدي، ولكن أن تبقى الصراصير تستمتع بحياتها بعد موتي، فهذا يؤرِّقني قليلًا.
•••
أردتُ ذات مرة إحضار زجاجة نبيذ من غرفة التخزين، وكانت نافذتها نصف مفتوحة، فسمعتُ أبي، الذي كان يجلس بالخارج على السور الصغير مع دانيلا، يقول:
«ربما يحين الوقتُ يومًا …»
•••
لو كان البشر خالدين لكانوا أقلَّ تأمُّلًا، ولو كان الناس أقل تأملًا لكانت الحياة أقل جمالًا.
لولا غرابة الحياة ووجود الموت لما كُتِبت قصتا «المزمار السحري» و«روميو وجوليت»، ولما كان أحدٌ سيكتبهما أبدًا.
•••
إن الموت من الأسباب التي جعلت الحياة تبدو لي جذابةً؛ فهو الذي يجعلني أرى الحياة بطريقة أوضح.
مع ذلك فأنا لا أرحِّب به، وأعتبره مُزعجًا؛ فخسارة ما يضيع كبيرة، ولكن حقيقة أن الموت أمرٌ لا مفر منه، جعلتني أرى أن الغضب منه يُشبه النُّباح في الليل، هذا بالنظر إلى الحياة التي تفرض نفسها.
بالرغم من كل الاعتراض سيستمر الزمان في مساره.
•••
أعتقد أن الحوار القصير التالي كان في فيلم «سيدة من شنغهاي»:
«لا أريد أن أموت.»
«وأنا أيضًا. وإن كان هذا حتمًا عليَّ، فلأكُن آخر من يموت.»
•••
بقدرِ ما يتعلق البشر بالحياة، فإن الموت في بعض الأحيان لا يأتي بالسرعة المطلوبة؛ وخصوصًا عندما لا تُصبح الحياة جيدة بما يكفي، عندها يدور الحديث بين الأقارب عن الموت الرحيم، في حين يكون من الأفضل أن يتحدثوا عن عجزهم في التعامل مع الوضع الذي تغيَّر. والسؤال هو: هل يرغبون في إراحة المريض من معاناته، أم أنفسهم من عجزهم؟
•••
مُذنب؛ لأنه لا يزال حيًّا! لا يزال!
•••
أُفاجأ دائمًا عندما يضع أبي يده بحنان شديد لم ألحظه فيه من قبل على خدي، أحيانًا باطن يده وكثيرًا ظاهرها، عندها أُدرك أني لم أكُن بهذا القرب منه مثل تلك اللحظة.
•••
سأتذكر ذلك دائمًا، دائمًا، دائمًا! أو على الأقل ما دُمت قادرًا على ذلك.
وضعت يدي على كتفه وقلت:
«كيف حالك أيها المُحارب القديم؟»
فسألني مُتفاجئًا: «أنا؟!»
«نعم، ألستَ مُحاربًا قديمًا؟»
«هذا يتوقف على فهم ذلك … كما تعلم، المُحارب القديم يكون قويًّا …»
ثم نظر إليَّ وتفحَّصني بودٍّ وقال:
«أنت شخصٌ أحبَّ أشياءَ كثيرة، وهناك أشياء لم تُحبها البتَّة.»
فقلتُ: «هناك أشياء أحببتُها كثيرًا.»
«كنتَ تحب المُغامرات، أما أنا فلا.»
«وماذا كنت تحب يا أبي؟»
«الذهاب إلى البيت.»
•••
في مرة أخرى عندما أخذتُ يده وربَّتُّ عليها سألني:
«لِمَ تفعل ذلك؟»
فقلت له: «هكذا وحسب.»
فنظر إليَّ نظرةً اختلط فيها الفضول بالضيق، ثم قال:
«يمكنك إمساك يدي كما تشاء، ولكن يُهمني أن أعرف سبب فعلك هذا.»
فأجبته: «أفعل ذلك لأني أُحبك.»
شعر أبي بالخجل، وقال بلهجة تتعلق بإحساسه بأنه أصبح عديم النفع:
«أنت تقول ذلك وحسب …»
فقلت له وأنا مُضطرب، ولذلك لم يكن كلامي مُقنعًا بما يكفي: «طبعًا، أُحبك.»
فطأطأ رأسه وترك الكلام وغيَّر الموضوع.
•••
عندما أسأل نفسي أي نوع من البشر أبي، أراه مُناسبًا جدًّا لأحد النماذج، ولكنه يعود دائمًا ويُحطِّم جميع الصور الكثيرة التي رسمها لنفسه طوال حياته؛ سواء لديَّ أو لدى الآخرين.
•••
هذه القُدرة التي لا تُستنفد على أن يكون مرحًا ويضحك ويعقد الصداقات بسرعة!
انتفع أبي من موهبته في كسب ود الآخرين عدة مرات عندما كان في طريق عودته من الحرب، واحتفظ في مذكراته عن نهاية الحرب بأسماء الذين ساعدوه في محنته بعناية. كان عليه أن يدفع ثمن تذكرة العبَّارة التي أقلَّته عبر نهر الدانوب، ودفعها عنه شخصٌ يُدعى ألفونس ماير من ريد في إنكرايس. أما في أورفار فقد حصل على قطعة خبز من إيفالد فيشر وجيدو أورزينجر من كينيلباخ، وقام شخصٌ آخر بتزييف شهادةِ خُلوِّه من القَمْل كي يُسمَح له بالرقود تحت سرير سيارة الإسعاف: زيجفريد نوسكو من دورنبيرن. وتقاسم رجلٌ معه وجبته: مُعلِّم الموسيقى فرانتس جروبر من بريجينتس، الذي كان يعزف للأمريكيين موسيقى للرقص.
•••
كان الجميع يفشل في رسم صورة لأبي، ولكن ربما لم ينجح أبٌ مثله في أن يفي بالصورة التي يرسمها الأطفال لأبيهم.
ماذا عساه يحكي لي عن المرض، لو عاد من هناك كما فعل ريب فان فينكل بعد عودته من الليلة التي استمرت عشرين عامًا وهو يلعب «البولينج»؟ بالتأكيد كنا وقتها سنستطيع أن نتحدث بصورة مختلفة معًا، بانفتاح ومباشرة وذكاء أكثر.
وأبناؤه — هذا ما اتضح — سيتعلمون من الأحداث بشكل أو بآخر.
•••
من الواضح، أن الأحداث قد تركت أثرًا عميقًا فينا.
•••
بعد أعوام من الانفصال والاستقلال سامحتْهُ زوجته على زيجتهما الفاشلة، وتحقَّقت رغبته في علاقة تدوم مدى الحياة لدرجة ما.
فقبل أيام كان يجلس في البيت على كُرسي في المطبخ، ثابتًا في مكانه، وأمي تقُص له شعره.
•••
خصوصًا في العلاقات العائلية والثنائية نعرف أحاسيس سارت في مسارات «ملتوية ومُتعرجة وحلزونية».
•••
كثيرًا ما أرى في هذا الإنسان المسكين الذي سُرق منه عقله أبي الذي كنتُ أعرفه في الأيام الخوالي. عندما كانت عيناه تريانني بوضوح ويبتسم لي، وهو الأمر الذي كان يحدث لحُسن الحظ كثيرًا، كنت أعرف أن الزيارة قد آتت ثمارها بالنسبة إليه أيضًا.
وكثيرًا ما كان يبدو وكأنه لا يعرف شيئًا ويفهم كل شيءٍ.
وذات مرة عندما مددتُ يدي لأصافحه، أَسِيَ لحالي؛ لأن يدي كانت باردةً، فقلت له إني أتيت لتوي من الخارج حيث تُمطر، فأخذ يدي بين يديه وقال:
«افعلوا ما عليكم فعله، أما أنا فسأبقى لأُدفئ هذه اليد.»
•••
وبعد ذلك جلسنا على أريكةٍ في نهاية الحُجرة، وعندما كُنا نحدد أين سيجلس كلٌّ منا، قال:
«أنا ولدٌ أكبر سِنًّا ولا أحب الأمور الصعبة.»
وبصوت مُنخفض كانت موسيقى موتسارت تنطلق من مُكبر الصوت، وعندما مرَّ شخص، قال له أبي: «هلليلويا!» (التي تعني «هللوا للرب»؛ أي اشكروه) وتبعه بنظره. ولما كرَّرها ثانية وضحك ذلك الشخص، علَّق أبي مازحًا وهو يشرح لي ولكاتارينا قائلًا:
«تسقُط عليهم تلك الكلمة مثل القنبلة.»
•••
ذلك الرجل العجوز ورغباته الصغيرة، التي كان يفضِّلها على مسكنٍ جديدٍ في الجنة؛ وهي التنزُّه، ومقابلة شخص يمكنه التحدُّث إليه قليلًا.
•••
لا يوجد الكثير مما يُتوقَّع حدوثه في دار المُسنين؛ خدمات ترفيهية بسيطة، وجوه ضاحكة، هرَّةٌ تتمسَّح، دُعابة تُضحك الآخرين. يُعجبني أن الأشخاص الذين يعيشون هنا قد تحرَّروا من المُجتمع القائم على الإنتاج والإنجاز.
أحيانًا يكون نقص الإمكانات شيئًا مُحرِّرًا. أتصور الأمر مثل الانتظار على رصيف المحطة في سيبيريا على مسافة كيلومترات بعيدًا عن التجمُّع السُّكاني التالي، يجلس المرء يأكل اللُّبَّ. بالتأكيد سيأتي القطار وقتًا ما، سيحدث شيء في لحظة ما، بالتأكيد.
•••
ارتشف أبي من فنجان القهوة رشفةً، ثم وضع الفنجان بجوار طبقه، ونظر إلى شخصين وسأل:
«هل هما قريبان؟»
فأجبتُ: «نعم.»
فقال: «اعتقدتُ ذلك أيضًا بسبب اللون.»
•••
كتبتِ الصحيفة أن الخراف السوداء أصبحت نادرةً بسبب ارتفاع حرارة الأرض!
•••
واكتشفتُ أن تخوُّفي من أن الجزء الجيد من القصة قد انتهى غيرُ صحيح؛ فلم تصحَّ توقعاتي إلا نادرًا. لعل أبي في هذا الموقف كان سيقول لي عدة مرات بطريقته الحكيمة: لقد أخطأتَ في توقعاتك. لذلك لم أعُد أنظر إلى المُستقبل بنفس درجة الخوف التي كنت أشعر بها في البداية. لم أعُد أرى الأمر قاتمًا بهذه الدرجة.
•••
بتوقُّعٍ مُطمئن.
•••
أردتُ أن أُعطي نفسي وقتًا لتأليف هذا الكتاب، ووفرتُ له ست سنوات. في الوقت ذاته كان يُراودني أملٌ في أن أكتبه قبل أن يموت أبي؛ لم أُرد الكتابة عنه بعد موته، أردتُ الكتابة عن شخصٍ حي؛ لأني رأيتُ أن أبي، مثل أي إنسان آخر، يستحق مصيرًا تبقَى نهايته مفتوحة.
•••
وفي هذه اللحظة تحديدًا وأنا أكتب هذه السطور، يبلغ عمري نصف عمر أبي. طال الأمد حتى وصلتُ إلى هذه النُّقطة. لقد طال الوقت لاكتشاف الأمور الأساسية التي جعلت منا هؤلاء الأشخاص الذين أصبحنا إياهم.
•••
قال أبي لي ولكاتارينا: «كنت في السابق غُلامًا قويًّا، لا ولدًا ضعيفًا مثلكما!»
•••
والحكمة تقول: مَن ينتظر بما يكفي، يمكن أن يُصبح ملكًا.