مئذنة الجامع الأبيض في الرملة
تعمل إدارة الأوقاف الإسلامية بالاشتراك مع إدارة الآثار
والعاديات في فلسطين على رمِّ مئذنة الجامع الأبيض التي استرمَّت
خيفة سقوطها واندثار هذا الأثر الرَّائع الذي يُخيَّلُ للنَّاظر
إليه أنه نُصبٌ تاريخيٌّ أُقيم على مرِّ الليالي والأيَّام؛ ليشهد
للمهندسين الإسلاميين بسلامة الذوق وطول الباع في الإبداع
والتفنُّن.
إنَّ هذه المئذنة هي البقية الباقية التي لم تنل يد الزمان منها
منالًا في الرملة البيضاء مدينة فلسطين ذات التاريخ المجيد،
فأحببنا أن نأتي على شيءٍ من تاريخها ووصف جامعها، ثم وصف مئذنته
البديعة فنقول:
(١) الرملة قبل الحروب الصليبية
أوَّلُ من جاء على ذكر الرملة من المؤرخين والجغرافيين
الإسلاميين أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي المتوفى
بعد سنة ٢٧٨ﻫ/٩٨١م، فقد قال في كتاب «البلدان»
١ ما يأتي:
«ومدينة فلسطين القديمة كانت مدينة يُقال لها: «لُدٌّ».
فلمَّا ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة
٢ ابتنى مدينة الرملة، وخرَّب مدينة لُدٍّ، ونقل
أهل لدٍّ إلى الرملة، وهي مدينة فلسطين، ولها نهرٌ صغيرٌ
منه شرب أهلها ونهر أبي فطرس منها على اثني عشر ميلًا،
وشرب أهل الرملة من ماءِ الآبار ومن صهاريج يجري فيها ماء
المطر، وأهل المدينة أخلاطٌ من النَّاسِ من العرب والعجم
وذمتها سامرة.» ا.ﻫ.
وقال أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البغدادي الكاتب المشهور
بالبلاذري المتوفَّى سنة ٢٧٩ﻫ/٨٩٢م في كتابه «فتوح
البلدان»
٣ ما يلي:
«ولَّى الوليدُ بن عبد الملك
٤ سليمانَ بن عبد الملك جندَ فلسطين، فنزل
لُدًّا ثمَّ أحدث مدينة الرَّملة، ومصَّرَها، وكان أوَّل
ما بنى فيها قصره،
٥ والدَّارُ التي تُعرفُ بدار الصبَّاغين، وجعل
في الدار صهريجًا مُتوسِّطًا لها، ولمَّا بنى سليمان لنفسه
أَذِنَ للنَّاسِ في البناء فبنوا، واحتفر لأهل الرملة
قناتهم التي تُدعى يردة
٦ وولَّى النفقة على بنائها بالرملة ومسجد
الجماعة كاتبًا له نصرانيًّا من أهل لُدٍّ يُقال له
البطريق بن النكا، ولم تكن مدينة الرملة قبل سليمان وكان
موضعها رملة.
قالوا: وقد صارت دار الصباغين لورثة صالح بن علي بن عبد
الله بن العباس؛ لأنها قُبضت مع أموال بني أمية.
قالوا: وكان بنو أُميَّة يُنفقون على آبار الرملة
وقناتها بعد سليمان بن عبد الملك، فلمَّا استُخلف بنو
العباس أنفقوا عليها، وكان الأمر في تلك النفقة يخرج في
كلِّ سنةٍ من خليفةٍ بعد خليفةٍ، فلمَّا استخلف أمير
المؤمنين أبو إسحاق المعتصم بالله
٧ أسْجَل بتلك النفقة سجلًا، فانقطع الاستئمار
وصارت جارية يحتسب بها العمال فيحسب لهم.» ا.ﻫ.
وذكر مؤلف كتاب «العيون والحدائق في أخبار الحقائق» في الجزء
الثالث أن سليمان بن عبد الملك بدأ ببناءِ الرملة سنة
٩٨ﻫ/٧١٦م،
٨ ثم جاء أبو عبد الله محمد بن البشاري المعروف بالمقدسي
الذي أتمَّ كتابه المُسمَّى «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» سنة
٣٧٥ﻫ/٩٨٥م.
فوصفها وصفًا مُسهبًا ننقله بنصِّه:
٩
«الرملة قصبة فلسطين، بهيَّة حسنة البناء خفيفة الماء
مريَّة، واسعة الفواكه جامعة الأضداد بين رساتيق جليلة
ومدن سرية، ومشاهد فاضلة وقرى نفيسة، والتجارة بها مُفيدة
والمعايش حسنة، ليس في الإسلام أبهى من جامعها، ولا أحسن
وأطيب من حواريها، ولا أبرك من كوارتها، ولا ألذُّ من
فواكهها، موضوعة بين رساتيق زكيَّة، ومدن مُحيطة، ورباعات
فاضلة ذات فنادق رشيقة، وحمَّامات أنيقة، وأطعمة نظيفة،
وإدامات كثيرة، ومنازل فسيحة، ومساجد حسنة وشوارع واسعة،
وأمور جامعة، قد خطَّت في السهل، وقربت من الجبل والبحر،
وجمعت التين والنخل، وأنبتت الزروع على البعل، وحوَت
الخيرات والفضل، غير أنها في الشتاء جزيرة من الوحل، وفي
الصيف ذريرة من الرمل، لا ماء يجري فيها ولا خضر، ولا طين
جيد ولا ثلج، كثيرة البراغيث عميقة الآبار مالحة، وماء
المطر في جباب مُقفلة، فالفقير عطشان، والغريب حيران، وفي
الحمام ديوان، ويدور في الدولاب خدام، وهي ميل راجح في ميل
بنيانهم حجارة منحوتة حسنة وطوب، الذي أعرف من دروبها: درب
بئر العسكر،
١٠ درب مسجد عنابة،
١١ درب بيت المقدس، درب بلعين،
١٢ درب لُدٍّ،
١٣ درب يافا،
١٤ درب مصر،
١٥ درب داجون،
١٦ يتصل بها مدينة تُسمَّى داجون فيها جامع.»
ا.ﻫ.
ولم يقتصر المقدسي على هذا الوصف الحافل، بل نوَّهَ بها، وأشاد
بذكرها كلما لاحت له لائحة أو سنحت سانحة مثل قوله: واشتهرت الرملة
بتينها الدمشقي وهو غاية في الجودة.
١٧
وقوله: والرملة لذيذة الثمار.
١٨
«لو كان للرملة ماءٌ جارٍ لما استثنينا أنها أطيب بلدٍ في
الإسلام؛ لأنها ظريفة خفيفة بين قدس وثغور وغور وبحور، مُعتدلة
الهواء لذيذة الماء سرية الأهل، غير أن فيهم جهلًا، خزانة مصر
ومطرح البحرين، رخيَّة.»
١٩
وقوله: وبالشام الرَّملة البهيَّة وخبزها الحواري.
٢٠
وقوله: وميازر الرملة وحواريها لا نظيرَ لهما.
٢١
وقوله: وماء الرملة مَرِيٌّ.
٢٢
وقوله: وجلت قرى الرملة بلا نهر بزيتونٍ وأتيانٍ.
٢٣
وقوله: وعند كلِّ من لم يدخل الرملة أنه ليس في الدنيا مثل خبز
مرو بتركستان، ولكن لا نظير له في بلاد الأعاجم.
٢٤
وقوله:
٢٥ ولا جلَّة البزازين بالرملة حمر «مصرية بسروج».
إلى غير ذلك من الأقوال التي تنمُّ على أن للمُؤلِّف صلة بالرملة
غير الصلة الأدبية، فوصفه لها وافتتانه بكلِّ ما تحويه من جماد
ونبات يدُلَّان على أنه مِمَّن أنجب هذا البلد الطيب، ولسوء الحظ
أن كتب التراجم التي بين أيدينا لم تأتِ على ترجمته لنتحقق
ذلك.
ولا يُعارِضُ ذلك قوله في كتابه أنه أقام في بيت المقدس من
السنين ما عدته كذا، بل هذا يُؤيِّد أنه أتى إليها، وأقام فيها،
ولعلَّه كان يطلب العلم في مدارسها.
وقد تبسطت الرملة في الحضارة، واستجرت في العمران حتَّى عُدَّت
من المدن الجليلة،
٢٦ والأمصار الكبرى، وكانت من كور الشام،
٢٧ وكان يتبعها بيت المقدس، وبيت جبرين وغزَّة وعسقلان
ويافا وأرسوف وقيسارية ونابلس وأريحا وعمان، وهي أمهات فلسطين في
القرن الرابع،
٢٨ وكانت يافا فرضتها وإليها ينفر أهل الرملة.
٢٩
وذكرها بعد المقدسي ناصر خسرو القبادياني المروزي الفارسي في
رحلته التي قام بها في بلاد الشام في أواسط القرن الخامس للهجرة
والقرن الحادي عشر للميلاد، حيثُ بدأ فيها سنة ٤٢٧ﻫ/١٠٣٥م وانتهى
منها سنة ٤٣٤ﻫ/١٠٤٢م، فقال في كتاب رحلته الذي أسماه
سفرنامه:
٣٠
«والرَّملة مدينة عُظمى يُحيطُ بها سور عالٍ متين عُمل
من الحجر والملاط، وهي على ثلاثة فراسخ من البحر، وشرب
أهلها من مياه الأمطار يجمعونه في كلِّ موسمٍ في حوضٍ،
وعندهم منه ما يحتاجون إليه على الدوام، وفي وسط الجامع
الكبير صهاريج واسعة إذا مُلئت يستطيعُ الإنسان أن يستقي
منها بحسب حاجته، ومساحة الجامع الأعظم ثلاثمائة قدم في
مائتين، وقد نُقش في أعلى الصُّفَّة أن الأرض زلزلت
زلزالًا عظيمًا يوم ١٥ المحرم سنة ٤٢٥ﻫ/١١ كانون أول سنة
١٠٣٣م فهدمت عدَّة أبنية، ولم يُجرح أحد من السكان.
والرخام كثير جدًّا في الرملة، وجدران معظم الأبنية
والدور مُغشَّاة بصفائح من الرخام مُرصَّعَة بإتقان،
ومغشَّاة بنقوشٍ ورُسومٍ، ويقطع الرخام بمنشار لا أسنان له
وبرمل تلك البلاد وبالمنشار تقطع قطع من الرخام بقدر طول
السواري والعُمُد، كما تقطع الدفوف من شجرة إلَّا من حيث
العرض.
ولقد رأيتُ في الرملة رخامًا من كلِّ جنسٍ ومنه المجزع
«المبقع» والأخضر والأحمر والأسود والأبيض وبالجملة من
مُختلف الألوان، وفي الرملة يخرجُ نوع من التين اللذيذ،
ولا يُوجد مثله في بلدٍ آخر ومنها تحمل إلى سائر البلدان،
وتعرف هذه المدينة في الشام والمغرب باسم فلسطين.»
وذكرها محمود بن عمر بن محمد الزمخشري المتوفَّى سنة ٥٣٨ﻫ/١١٤٣م
بقوله الموجز:
٣١
«الرملة مدينة من مدائن الشام.»
وقال عنها عبد الكريم بن أبي بكر التميمي السمعاني المتوفى سنة
٥٦٢ﻫ/١١٦٦م:
٣٢
«الرملة قصبة فلسطين كان بها جماعة من العلماء والصلحاء،
وكان بها الرباط للمسلمين، وكان يسكنها جماعة من العلماء
الصالحين للمُرابطة فيها، وذكر فيمن ذكره من المنتسبين إلى
الرملة يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي قال إنَّ أصله من
الكوفة، وإنما قام بالرملة يُجهِّزُ الزَّيت إلى الكوفة وإلى
غيرها.»
(٢) الزيوت الفلسطينية وتصديرها إلى العراق
قلنا وهذا يدلنا على وفرة محاصيل الزيت في فلسطين عامَّة والرملة
خاصَّة، وأن فلسطين كانت تموِّن بلاد العراق بزيوتها النقيَّة
الجيدة الطعم، بينا كانت وسائط النقل مُقتصرة على الخيل والجمال
والبغال.
(٣) القبائل العربية في الرملة وما إليها
ومع أن اليعقوبي يقول بأن أهلها أخلاط من العرب والعجم، كما مرَّ
بك، فإنَّ أبا محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود
الهمذاني المعروف بابن الحائك المتوفَّى سنة ٣٣٤ﻫ/٩٤٥م يقول في
كتابه «صفة جزيرة العرب»:
٣٣ إنَّ ما حول الرملة إلى نابلس كانت مساكن لخم
٣٤ وما يُخالطها من كنانة،
٣٥ كما أن بين الرملة ومصر في الجفار
٣٦ كانت مساكنهم.
٣٧
وكانت مُلتقى الطرق بين مصر والشام والبادية كما ذكره أبو القاسم
عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة المتوفَّى في أواسط القرن الثالث
للهجرة والتاسع للميلاد في كتابه «المسالك والممالك»،
٣٨ واليعقوبي في كتابه «البلدان»،
٣٩ وأبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفَّى
سنة ٣١٠ﻫ/٩٢٢م في كتابه «الخراج وصنعة الكتابة»،
٤٠ والمقدسي في «أحسن التقاسيم».
٤١
(٤) الرملة بعد الحروب الصليبية
هذه حالة الرملة في عهد حضارتها، أمَّا بعد ذلك فيقول عنها شهاب
الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي
المتوفى سنة ٦٢٦ﻫ/١٢٢٨م في كتابه مُعجم البلدان ما
نقتطفه:
٤٢
«الرملة مدينة عظيمة بفلسطين، وكانت قصبتها قد خربت الآن، وكانت
رباطًا للمسلمين وبينها وبين البيت المقدس ثمانية عشر ميلًا وهي
كورة من فلسطين، «وكانت دار ملك داود وسليمان ورحبعام بن
سليمان»،
٤٣ وذكر البشاري:
٤٤ «أن السبب في عمارة سليمان بن عبد الملك للرملة أنه
كان له كاتبٌ يُقال له ابن بطريق سأل أهل لُدٍّ جارًا كان للكنيسة
أن يعطوه إيَّاه ويبني فيه منزلًا له فأبوا عليه، فقال: والله
لأخربنها، يعني الكنيسة»، ثم قال لسليمان:
٤٥ «إنَّ أمير المؤمنين — يعني عبد الملك — بنى في مسجد
بيت المقدس على هذه الصخرة قبَّة فعُرف له ذلك، وإن الوليد بنى
مسجد دمشق فعُرف له ذلك، فلو بنيت مسجدًا ومدينة، ونقلت النَّاس
إلى المدينة. فبنى مدينة الرملة ومسجدها وكان ذلك خراب لد.» وشرب
أهل الرملة من الآبار الملحة، والمترفون لهم بها صهاريج مقفلة،
وكانت أكثر البلاد صهاريج مع كثرة الفواكه وصحة الهواء واستنقذها
صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة ٥٨٣ﻫ/١١٨٧م من الإفرنج
٤٦ وخربها؛ خوفًا من استيلاء الإفرنج عليها مرَّةً أُخرى
في سنة ٥٨٧ﻫ/١١٩١م وبقيت على ذلك الخراب إلى الآن.»
وذكرها ياقوت المذكور في كتابه «المشترك وضعًا والمفترق
صقعًا»
٤٧ بما يُقارب وصفه لها في «معجم البلدان» إلَّا أنه زادَ
على سبب تخريبها بقوله: «ثم كثر الفرنج وأخذوا عكَّا؛ فخاف أن
يرجعوا فيتغلَّبوا عليها فخربها في سنة ٥٨٧ وخرب عسقلان، وهما على
الخراب إلى الآن، إلَّا أن بالرملة قومًا من الإفرنج وهي بأيديهم
إلى الآن.»
وذكرها شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي طالب الأنصاري الصوفي
الدمشقي المعروف بشيخ الربوة المتوفَّى سنة ٧٢٧ﻫ/١٣٢٦م في
كتابه
٤٨ «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» بقوله: «الرملة
بناها سليمان بن عبد الملك بن مروان، وجعلها القصبة، ثم توالت
عليها الزلازل، فانتقل منها أهلها إلى بيت المقدس، ثم بنيت بعدها
مدينة لد على أثر بنائها القديم.»
وذكرها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم
اللواتي ثم الطنحي المعروف بابن بطوطة
٤٩ المتوفَّى سنة ٧٧٩ﻫ/١٣٧٧م بقوله: «ثم سافرتُ منها إلى
مدينة الرملة؛ وهي فلسطين، مدينة كبيرة كثيرة الخيرات، حسنة
الأسواق، وبها الجامع الأبيض، ويُقال: إنَّ في قبلته ثلاثمائة من
الأنبياء مدفونين عليهم السلام.»
وذكرها شهاب الدين أبو العباس أحمد القلقشندي المتوفى سنة
٨٢١ﻫ/١٤١٨م في كتابه «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»
٥٠ بقوله: «هي مدينة إسلامية بناها سليمان بن عبد الملك
في خلافة أبيه عبد الملك.»
قال في «الروض المعطار»: «وسُمِّيَت الرملة؛ لغلبة الرَّمل
عليها.»
وقال في «مسالك الأمصار»: «سُمِّيت باسم امرأة اسمها رملة وجدها
سليمان بن عبد الملك هناك في بيت شعر حين نَزَلَ مكانها يرتاد
بناءها، فأكرمته وأحسنت نُزُلَه، فسألها عن اسمها، فقالت: رملة.
فبنى البلد وسمَّاها باسمها.»
قال في «العزيزي»: «وهي قصبة فلسطين، وهي في سهلٍ من الأرض،
وبينها وبين بيت المقدس مسيرة يوم.»
قال في «الروض المعطار»: «وبينها وبين نابلس يوم، وبينها وبين
قيسارية مرحلة، وكان عبد الملك قد أجرى إليها قناة ضعيفة للشُّربِ
منها.»
وذكرها غرس الدين خليل بن شاهين الظَّاهري المتوفَّى سنة
٨٧٢ﻫ/١٤٦٧م في كتابه «زبدة كشف الممالك وبيان الطرق
والمسالك»
٥١ بقوله:
«الرملة مدينة حسنة بها جوامع ومدارس ومزارات، ومن
جُملتها الجامع الأبيض عجيبٌ من العجائب، قيل: إنَّ
بمغارته من قبور الصحابة أربعين قبرًا، وبها من الأماكن
المُباركة ما يطولُ شرحه، وقبران من إخوة يُوسف عليه
السلام، وقبر أبي هريرة وقبر سلمان الفارسي.»
قُلنا: ولعلَّه يعني بأَخَوَي يوسف راءُوبين الذي سيأتي ذكره،
وبأبي هريرة الذي يُزعم وجود قبرٍ له في قرية «بني» بالقرب من
الرملة، في حين أن أبا هريرة مات بالمدينة «يثرب»، أمَّا سلمان
الفارسي فهو بالعراق.
وذكرها أبو اليمن عبد الرحمن بن محمد مجير الدين العليمي الفخري
الحنبلي المتوفَّى سنة ٩٢٧ﻫ/١٥٢٠م في كتابه «الأنس الجليل بتاريخ
القدس والخليل»
٥٢ بقوله:
«وأمَّا مدينة الرملة وهي واسطة بلد فلسطين، فإنَّها في
أرضٍ سهلة، وهي كثيرة الأشجار والنخيل، وحولها كثيرٌ من
المزارع والمغارس وفيها أنواع الفواكه، وظاهرها حسن
المنظر، وهي من جملة الثغور؛ فإن البحر المالح قريبٌ منها
مسافته عنها نحو نصف بريد من جهة الغرب، وكانت في الزمن
السالف في عهد بني إسرائيل مدينة عظيمة البناء مُتسعة،
وكان جالوت أحد جبابرة الكنعانيين ملكه بجانب فلسطين — كما
تقدم عند ذكر سيدنا داود عليه السلام
٥٣ — وتقدَّم أن سيدنا يونس عليه السلام
٥٤ أقام بالرملة ثم توجه إلى بيت المقدس يعبد
الله تعالى.
وأمَّا صفة مدينة الرملة قديمًا قبل الإسلام وبعده إلى
حدود الخمسمائة، فكان بها سور محيط بها، وكان لها قلعة
واثنا عشر بابًا منها: باب القدس، وباب عسقلان، وباب يافا،
وباب نابلس،
٥٥ ولها أربعة أسواق مُتَّصِلَة من أربعة أبواب
إلى وسطها، وهُناك مسجد جامعها، فمن باب يافا يدخل في سوق
القمَّاحين، وهو مُتَّصِلٌ بسوقِ البصالين حتى يتصل بمسجد
جامعها، وهي أسواق كانت حسنة يُباع فيها أنواع السلع،
ويتصل بباب القدس سوق القطانين إلى سوق المشاطين للكتان
إلى سوق العطارين إلى المسجد الجامع، ويتصل بسوق
الحبالين
٥٦ من باب يازور، ثم سوق الجزارين ثم البقالين
إلى المسجد الجامع، ويتصل ببابٍ آخر من أبوابها سوق
الصياقلة، ثم سوق السراجين إلى المسجد الجامع، ويُقال:
إنَّ الرملة كانت أربعة آلاف ضيعة، وتقدَّم أن السلطان
صلاح الدين هدم قلعتها،
٥٧ وهدم مدينة لُدٍّ في شهر رمضان سنة سبع
وثمانين وخمسمائة، وأمَّا في عصرنا فلم يبق أثر لتلك
الأوصاف التي بالرملة، وقد زالت أسوارها وأسواقها القديمة؛
لاستيلاء الإفرنج عليها نحو مائة سنة، ولم يبق من المدينة
ثلثها، بل ولا ربعها وبُني فيها مساجد ومنابر
مُستجدة
٥٨ من زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون وبعده،
والموجود الآن من الأبنية في المدينة معظمه خراب
مستهدم.»
وذكرها أبو العباس أحمد بن يوسف بن أحمد الدمشقي الشهير
بالفرماني المتوفى سنة ١٠١٩ﻫ/١٦١٠م في تاريخه، فقال عنها:
٥٩ «مدينة الرملة ماؤها من المطر، وأشجارها قليلة حسنة
البقاع، بناها سليمان بن عبد الملك وسكنها، ثمَّ توالت عليها
الزلازل إلى أن خربت وصارت قرية بعد أن كانت مصرًا من الأمصار،
ولمَّا توجَّهَ السُّلطان الأعظم سليم خان العثماني في سنة
٩٢٣ﻫ/١٥١٧م إلى الديار المصرية تأخَّر من جماعته بعض أناس بها،
فشاعَ الخبرُ أن أهل المدينة قتلوهم، فلمَّا بلغ ذلك السلطان
المذكور أمر بقتل عامة أهل البلد فقتلوهم عن آخرهم ولم يبق فيها
دَيَّار ولا نافخ نار، ثمَّ اجتمع بعض جماعة من الغرباء
وسكنها.»
وذكرها عبد الغني بن إسماعيل النابلسي المتوفى ١١٤٣ﻫ/١٧٣٠م في
رحلته الكُبرى التي قام بها سنة ١١٠٥ﻫ/١٦٩٣م في مصر والشام
والحجاز، فقال عنها:
٦٠
«الرملة سقيت وابل الغمام، والرملة واحدة الرمل وبها
سميت أم حبيبة زوج النبي
ﷺ وغيرها، كما في
«القاموس» وفي «الصحاح»: «الرمل واحد الرمال، والرَّملة
أخصُّ منه، ورملة مدينة بالشام.» انتهى. وهي المراد هنا
فإنَّها من جُملة أرض الشام، وذكر فيما ذكره أنه وقف فيها
على مجموعٍ لطيفٍ بخطِّ الشيخ حسن بن محمد المعروف بابن
الجاموس نقل فيهِ ما ذكره القلقشندي في «صبح الأعشى» عن
الرملة، وأن بانيها هو سليمان بن عبد الملك.»
قال:
«وقوله: بناها. أي جدَّدَ بناءها وعمَّرَ ما خرب منها،
وإلَّا فهي بلدة قديمة، واستشهد على ذلك بقول مُجير
الدِّين العليمي الحنبلي، وتقدَّمَ جميع ذلك.»
وذكرها مُحمَّد العطَّار الشامي المتوفَّى بعد سنة ١١٧٩ﻫ/١٧٦٥م
في رحلته:
٦١
«وخرجت من القدس الشريف نهار السبت ثاني شهر صفر الخير
المبارك الذي هو ثاني شهور سنة تسع وسبعين ومائة وألف،
فدخلنا رملة فلسطين، وهي بلدة كبيرة أخربتها الأيَّام
والدهور، وبقي جزء يسير معمور فنزلنا بها.»
وهي واقعةٌ في الإقليم الثالث كما ذكر ذلك أبو علي أحمد بن عمر
بن رُسته المتوفَّى بعد سنة ٢٩٠ﻫ/٩٠٢م،
٦٢ وابن الحائك،
٦٣ والمقدسي،
٦٤ ووافقهم عليه الشريف أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد
الله بن إدريس الصِّقِلِّي المعروف بالإدريسي المتوفَّى بعد سنة
٥٤٨ﻫ/١١٥٣م،
٦٥ وكذلك ياقوت
٦٦ إلَّا أنه قال: إنَّ المُهلَّبي يقول عنها: إنَّها في
الإقليم الرَّابع.
وقال ابن الحائك:
٦٧ «إنَّها على عرض أربع وثلاثين درجة وثماني أضلع وخمسين
من الظل.»
ويقول ياقوت إنَّ طولها خمس وخمسون درجة وثلثان، وعرضها اثنتان
وثلاثون درجة وثلثان وهو الأصح والمُعوَّلُ عليه اليوم من جهة
العرض.
ويقولُ القلقشندي
٦٨ إنَّها في الإقليم الثالث، وإن صاحب «الأطوال» ذكر: أن
طولها ست وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة
وعشر دقائق. وقال في «القانون»: طولها ست وخمسون درجة وعشرون
دقيقة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وأربعون دقيقة. وقال في «تقويم
البلدان»: القياس أن طولها ست وخمسون درجة وست وعشرون دقيقة،
وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وثلاث وعشرون دقيقة.
(٥) الرملة مدينة إسلامية
وبالرغم من أن مدينة الرملة هي المدينة الرابعة من المدن العظيمة
التي أُحدثت في الإسلام، كما نقله علي بن الحسين بن علي من
ذُرِّيَّة عبد الله بن مسعود المشهور بالمسعودي المتوفَّى سنة
٣٤٦ﻫ/٩٥٧م،
٦٩ بل كما اعترف به الغربيون أنفسهم، وهذا «بيدكر» صاحب
«دليل الأرض المقدسة» الموسوم باسمه يقول إنَّ اسمها عنوان
عربيتها،
٧٠ وإن حُجَّاج بيت المقدس من النصارى لم يذكروها قبل سنة
٨٧٠م/٢٥٧ﻫ، ولمَّا ذكروها قالوا عنها رامولة.
وهذا بركهوس
Brockhous مُؤلِّف
«دائرة المعارف الألمانية»
٧١ يقول إنَّ التقليد الكنسي يعتبر الرملة «أريماثيا»
المذكورة في التوراة على أن الفضل في تأسيس الرملة، وبنائها يرجع
للخلفاء الأمويين سنة ٧١٦م/٩٨ﻫ كما جاء في التواريخ
العربية.
وهذا فرونمير
Frohnnmeyer صاحب
«جغرافية التوراة»
٧٢ يقول: «إنَّ الرملة التي اعتبرها تقليدٌ متأخِّرٌ لا
قيمة له أنها أريماثيا التي ورد ذكرها في التوراة بناها
الخُلَفَاءُ في القرن الثامن للميلاد، وكانت وقتئذٍ من أُمَّهاتِ
مُدُنِ فلسطين، كما كانت بلدة لُدٍّ القريبة منها في أيَّام
الرومانيين.»
ثمَّ عادَ فقال:
٧٣ «قد ذكرنا عدَّة قُرى إلى جانبي الطريق بين يافا
والقدس، منها الرَّملة التي أراد كثيرون أن يروا فيها إحدى القُرى
العديدة المذكورة في التوراة باسم «الرامة» وهي ليست أريماثيا،
ولكنها مدينة لم تُبنَ إلَّا في السنة ٧١٦م/٩٨ﻫ.»
بالرَّغمِ من هذا جميعه، فإنَّ بعض المُعاصرين مثل المرحوم شمس
الدين سامي الألباني في «قاموس أعلامه»،
٧٤ وصديقنا العلامة أحمد زكي باشا في «قاموسه»،
٧٥ والمرحوم أمين واصف في «فهرسته»
٧٦ يقولون: إنَّها من المدن القديمة، وإن اسمها أريماثيا
وأرام ورامة، وإنها كانت آهلة بالسكان إبان الفتح الإسلامي كما
سبق. وقال مثل هذا القول مُجير الدِّين العليمي الحنبلي صاحب
«تاريخ القدس والخليل»، وجاراه على ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي
في «رحلته الكبرى» — كما مرَّ بك — ولعلَّ مجير الدين وشمس الدين
ومن جاراهما على شيءٍ من الحقِّ فيما ادعوه، وهم قد رأوا مثل ما
رأينا في كتب التاريخ ذكرًا للرملة أثناء فتوح عمر بن الخطاب — رضي
الله عنه — للأرض المقدسة؛ أي قبل بناء المدينة بسبعين عامًا، وقد
كان الروم وضعوا جندًا عظيمًا في الرملة، فأرسل عمرو بن العاص أبا
أيوب المالكي إليها وعليها التذارق،
٧٧ ثمَّ لمَّا قيَّضَ الله فتح بيت المقدس على يدي عمر بن
الخطاب الذي جاءه قاصدًا إليه من المدينة فرَّق فلسطين على رجلين:
فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بن مجزز
وأنزله إيلياء
٧٨ فأذاقا البلاد حلاوة حكم المسلمين.
قُلنا لعلَّهم على شيءٍ من الحقِّ، فقد اطَّلَعنا في مُستنَدٍ
شرعي على ما يبعث على الظنِّ بأن لمدينة الرملة صلة بالقدم، وهذا
المُستند هو حُجَّة شرعية تتضمَّنُ مبيع بستان وحمَّام وحانوتين
إلى السيد الشريف أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق
سلطان المغرب من قبل مالكها الحاج برهان الدين إبراهيم ابن الحاج
حسين بن محمد التاجر بمدينة الرَّملة، تاريخها اليوم السابع عشر من
جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة هجرية ١٣٥٢م؛ إذ جاء في
الحجة عبارتا البناء الإسلامي وبئر الماء المعين الرومية البناء،
ولو لم يكن هناك مبانٍ رُومية لما مسَّت الحاجة إلى التفريق بين
البنائين الإسلامي والرومي على أن وُجود البئر الرومية لا يقتضي
حتمًا وجود العمارة، فقد تكون هناك حدائق وأعناب قديمة العهد بجوار
مدينة لُدٍّ القديمة، كما أن نسبتها إلى الروم قد تنصرف إلى أنها
من بناء الصليبيين. ونزول الجيش الإسلامي في الرملة التي قد تُطلقُ
على الرمال القائمة بجوار لد لا تتضمَّنُ أنه كان هناك مدينة بهذا
الاسم.
وقد يسائل المرء نفسه: لماذا اختار سليمان بن عبد الملك الرملة
لبناء جامعها الأبيض الذي أنزله المنزلة الثالثة بعد صخرة بيت
المقدس، ومسجد دمشق، وهناك من الأماكن المُقدَّسة ما يستحقُّ
العناية والاهتمام، ويبعثُ على القُربى والزلفى من الله أكثر من
الرملة؟
ولكنه إذا علم أن في كتب التفسير والحديث ما يجعلُ هذه المدينة
في مصافِّ المُدُنِ المُقدَّسَة هان عليه الأمر وعرف أن سليمان لم
يُقدم على عمله العظيم إلَّا بدافِعٍ دينيٍّ، ونزعةٍ خالصةٍ لوجه
الله، وقوَّى هذه العقيدة في نفسه موقع المدينة الطبيعي والجغرافي،
أَضِف إلى ذلك قِصَّة كاتبه الذي حمله على بنائها.
أمَّا النصوص التي وردت في الكُتُبِ عنها، فإنَّنَا ننقلُ منها
ما أحاطت به الذَّاكرة:
قال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ
وَمَعِينٍ﴾. قيل: إنَّ الربوة الرملة.
وقال أبو وعلة — شيخ من عك: إنَّ الرَّملة هي الربوة؛ وذلك أنها
تسيلُ مغربة ومشرقة.
٧٩
وقال أبو هريرة: الربوة ذاتُ قرارٍ ومعينٍ هي الرملة من فلسطين.
وقيل: إنها بيت المقدس.
٨٠
وفي الحديث الشريف: «أكرموا الرملة، يعني فلسطين، فإنَّها الربوة
التي قال الله فيها ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾».
٨١
أما أنا فأعتقد أن هذه التفاسير والأحاديث قد وُضِعَت لأغراضٍ
سياسِيَّةٍ بقصدِ ربطِ المسلمين بتلك المدن الحربية وحملهم على
الذود عنها؛ إذ لم تثبت أكثر الأحاديث التي قيلت عن المدن ما عدا
ثلاثًا منها، وهي: مكة، والمدينة، وبيت المقدس.
وممَّن شرفت بهم الرَّملة من عُظماء المسلمين الذين رفعوا راية
الإسلام، وأعلوا كلمة الله، الفضل بن عباس ابن عمِّ رسول الله
ﷺ الذي تُوفي في طاعون عمواس سنة ١٨ﻫ/٦٣٩م على الرأي
الأعم
٨٢ في هذه الديار، ودُفِنَ في ضاحية الرملة، ومقامه مقصود
للزيارة إلى يوم الناس هذا.
(٦) المواسم الفلسطينية
وبظاهرها من جهة الغرب بالقرب من البحر المالح مشهدٌ يقال إن به
ضريح سيدنا روبيل وهو المذكورُ بالتوراة باسم راءوبين بن يعقوب
عليهما السلام، وهو مكانٌ مأنوسٌ يُقصدُ للزيارة، وفي كلِّ سنةٍ له
موسم يجتمع فيه الناس من الرَّملة ويافا وغزَّة وغيرها، يبتدئ من
أوَّلِ الشَّهر الهجري الذي يدخل مع شهر سبتمبر وينتهي بآخره،
تُضربُ فيه السرادقات، وتُقام فيه المسرَّات والأفراح، وهذا الموسم
يجري عليه الزوار منذُ قرونٍ مُتطاوِلَةٍ نعرفُ منها القرن التاسع
للهجرة والخامس عشر للميلاد؛ لأن مجير الدين ذكره في «الأنس
الجليل»،
٨٣ ولعلَّه أقدم منه بمئين من السنين؛ أي من عهد الظَّاهر
بيبرس الذي بنى سنة ٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م قُبَّة على مقام سيدنا مُوسى الكليم
الذي لم يدخل إلى فلسطين بشهادة التوراة، وهذا المقام يقعُ بين بيت
المقدس وأريحا، وسنَّ هذه السُّنَّة السياسية؛ لتُكافئ القوى بين
زوَّار المسلمين وحُجَّاجِ النَّصارى في بيت المقدس وضواحيه، ولا
تزالُ الأرزاقُ تُجرى على زائري مقام الكليم مُدَّةَ أُسبوعٍ
تَفِدُ فيه الوُفود عليه من جميع أنحاء فلسطين بالطبول والأعلام
والسيوف، وما أشبه ذلك من الحركات العسكرية، وذلك في الشهر الهجري
الذي يُوافِقُ شهر أبريل «نيسان»؛ حيث يكون عيد الفصح عند الأمم
النصرانية ويكثر قدوم حجاجهم فيه، ولموسم النَّبي مُوسى مراسيم
خاصَّة لا زالت مُتَّبعة إلى اليوم، من المُناداة في صحن المسجد
الأقصى بعد صلاة الجمعة أن يوم الخميس القادم ينشر العَلَم، ويقصد
الناس إلى الزيارة بعد صلاة الجمعة، وفي ذلك اليوم تُجرى احتفالات
بالأناشيد والأهازيج، ويهبط الناس إلى المقام، وتستمرُّ أيَّام
الزيارة مُدَّة الأسبوع؛ حيثُ يعودُ العَلَم فيُطوى يوم الجمعة
التالية بعد الصلاة إلى السنة القادمة.
(٧) الجامع الكبير
ورأينا أن ننقل وصف الجامع الكبير الموجود في الرملة عن دليل
الأب مايسترمن ما دمنا قد وفَّينا المدينة حقَّها من الوصف
قال:
٨٤
هو كنيسة مار يُوحنَّا القديمة التي بُنِيَت في القرن الثاني
عشر، والتي حُوِّلَت مسجدًا منذُ القرن الثالث عشر، ولعلَّ هذه
أسلم جميع الكنائس الموجودة من ذلك العصر، شكلها مُستطيلٌ ١٤٤ × ٧٢
قدمًا مقسوم إلى ثلاثة أبهاء، والبهو المتوسط يعلوه عقد رأسي
«غوطي» مُرتَكِزٌ على سبعةٍ منَ الأقواسِ المُتقاطعة، ولمَّا كان
البهوان الجانبيان مُحاطَين «بمصاطب»؛ فقد كان من السهل إيجاد
نوافذ عند أطراف العقد، وقد كانت واجهة البناء قبلًا جميلة جدًّا،
لكنها الآن مُختفية خلف جدار عادي كان بناؤه ضروريًّا لتجنُّبِ
الأقذار، كما أن أرض المسجد رُفعت قدمين لنفس السبب، وتقومُ الآن
منارة حيثُ كانت قُبَّةُ الأجراس الكنسية.
الجامع الأبيض
وكان الأحرى أن نقول المسجد الأبيض، إلَّا أننا جارينا
الجغرافيين المتأخرين الذين ذكروه بهذا الاسم، وأوَّلُ من ذكره
من المؤرخين البلاذري بقوله:
٨٥
«إنَّ سليمان بن عبد الملك لمَّا ولي على جندِ
فلسطين من قِبَلِ أخيه الوليد اختطَّ للمسجد خطَّة
وبناه، فولي الخلافة قبل استتمامه، ثمَّ بنى فيه بعد
في خلافته ثمَّ أتمَّه عمر بن عبد العزيز،
٨٦ ونقص من الخُطَّة، وقال: أهل الرملة
يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه.»
وقال عنه المقدسي:
٨٧
وجامع القصبة في الأسواق أبهى وأرشق من جامع دمشق،
يُسمَّى الأبيض ليس في الإسلام أكبر من محرابه ولا بعد
منبر بيت المقدس أحسن من منبره، وله منارة بهيَّة،
بناه هشام بن عبد الملك،
٨٨ وسمعتُ عمِّي يقول: لمَّا أرادَ بناءه قيل
له: إنَّ للنصارى أعمدة رُخام مدفونة تحت الرمل
استعدوها لكنيسةٍ بالغةٍ. فقال لهم هشام بن عبد الملك:
إمَّا أن تُظهروها، وإمَّا أن تُهدم كنيسة لُدٍّ.
فنبني هذا الجامع على أعمدتها. فأظهروها وهي غليظة
طويلة، وأرض المغطَّى مفروشة بالرُّخام والصحن
بالحجارة المُؤلَّفة وأبواب المُغطَّى من الشريين
والتنوب مداخلة محفورة حسنة جدًّا.
وذكر أيضًا
٨٩ أنه كان: «في أرسوف
٩٠ منبرٌ حسن بُني للرملة فكان صغيرًا، فحمل إلى
أرسوف.»
ونقل المسعودي في كتابه «التنبيه والإشراف» الذي ألَّفَه قبل
وفاته بسنةٍ واحدةٍ ما ذكره البلاذري عن الجامع.
٩١
وذكره ياقوتُ في مُعجمه
٩٢ وابن بطوطة في رحلته
٩٣ في عرضِ كلامهما على مدينة الرملة، كما مرَّ بك.
وذكر ابن شاكر الكتبي المتوفَّى سنة ٧٦٤ﻫ/١٣٦٢م في ترجمة الملك
الظَّاهر بيبرس أنه: «جدَّدَ جامع الرملة، وأصلح
مصالحها.»
٩٤
أمَّا العليمي الحنبلي فقد قال عنه:
٩٥
«وقد صار المسجد الجامع القديم بظاهر المدينة من جهة
الغرب، وصار حوله مقبرة، وقد بنى فيه السلطان الملك
الناصر محمد بن قلاوون منارةً، وهي من عجائب الدنيا في
الهيئة والعلوِّ، وذكر المُساجفرون أنها من المُفردات
ليس لها نظيرٌ، وكان الفراغُ من بنائها في نصف شعبان
سنة ثماني عشرة وسبعمائة (١٣١٨م)، ولم يبقَ حول الجامع
المذكور من الأبنية القديمة سوى حارة بجواره من جهة
الشمال حُكمها حكم القرى، وأمَّا المدينة فصارت
مُنفصلة عنه، وهذا الجامع بناه بعض الخلفاء الأمويين،
وهو سليمان بن عبد الملك المتقدِّم ذكره لمَّا ولي
الخلافة في سنة ست وتسعين من الهجرة الشريفة.
٩٦
وهو جامعٌ متَّسع مأنوسٌ، عليه الأبهة والوقار
والنورانية، ويُعرَفُ في عصرنا وقبله بالجامع الأبيض،
وفي صحنه السماوي مغارة تحت الأرض مهيبة يُقال: إنَّ
بها دُفِنَ سيدنا صالح النبي — عليه السلام — وتقدَّمَ
ذكر ذلك.
٩٧
ثمَّ جدد عمارة الجامع الأبيض في زمن الملك النَّاصر صلاح
الدين على يد رجُلٍ من دولته اسمه إلياس بن عبد الله أحد جماعة
الأمير علم الدين قيصر عين الأمراء بالدولة الصلاحية، كانت
عمارته في سنة ست وثمانين وخمسمائة (١١٩٠م)، ثمَّ لمَّا فتح
الملك الظاهر بيبرس يافا في سنة ست وستين وستمائة عمَّر
القُبَّة التي على المحراب والباب المُقابل للمحراب وهو
المجاور للمنبر الذي يُخطَبُ عليه للعيد، وعمَّر المنارة
القديمة، وقد زالت، وبُني عوضها المنارة الموجودة الآن، وأمَّا
المدينة يومئذٍ فقد تقهقرت ونقصت جدًّا، وقلَّ ساكنها، ومع ذلك
فهي مقصودة للبيع والشراء لا تخلو من بركةٍ في معيشتها ببركة
أرضها وسُكَّانِها من الأنبياء والصحابة والعلماء والأولياء …
وفيها الإمام المحدث الحافظ أبو عبد الرحمن بن شُعيب
النَّسائي
٩٨ أحد أئمة الدنيا في الحديث، مولده في سنة ٢١٤،
ووفاته بالرملة سنة ٣٠٣، وقبره يقال: إنه بظاهر الجامع الأبيض
بلصقِ حائطه من جهة الشرق في حوشٍ هناك، وقيلَ إنَّه في عكا،
والله أعلم.»
قلنا والرَّاجح أن عكةَ مُحرَّفة عن مكَّة.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي:
٩٩
ثم ذهبنا إلى الجامع المبارك المسمَّى بالجامع
الأبيض، وهو جامعٌ كبيرٌ مُتهدِّمٌ شريف الآثار
تُشرِقُ فيه الأنوار، يُقال: إنَّ تحته خالٍ كالمسجد
الأقصى، ويُقال: إنَّ نبي الله صالحًا عليه السلام
مدفونٌ هناك.
وبالرغم من أن مجير الدين العليمي يقول بأن النبي صالحًا
مدفونٌ في مغارةٍ مهيبةٍ في صحن المسجد السماوي، فإنَّ مقام
النبي صالح اليوم في الجانب الشمالي إلى آخر الحدِّ الغربي من
الصَّحن، وعليه قُبَّة، يقصد إليه الزوَّار، وله موسم زيارة
يوم واحد في السنة هو يوم الجمعة الذي يلي عيد الفصح في شهر
أبريل «نيسان» عند النصارى. أمَّا المسجد اليوم فهو من الطلول
الدوارس، وليس حوله حارات ومساكن، ولم يبقَ قائمًا منه إلا
جدرانه، ويظهرُ من آثاره الباقية أنه من عمارة
المصريين.
«ونرجِّح أنه في زمن محمد بن قلاوون باني المئذنة»، وأنه كان
مبنيًّا على ستٍّ وعشرين قنطرة على الجانبين، في كلِّ جانبٍ
ثلاث عشرة قنطرة، وفي الوسط ثلاث عشرة أسطوانة مبنيَّة بالحجر،
ومكان محرابه الكبير الضخم يُؤلف القنطرة السابعة أي في وسط
المسجد، وفي أعلى قنطرة المحراب المصنعة المجوَّفة المُسمَّاة
بالعرف المعماري نصف ترنجة.
وللمسجد من خارجه رواقان في ستِّ قناطر، يظهر أنها مُستقرة
على أساطين في الجهتين الشرقية والغربية، وفي وسط هذه القناطر
باب واحد في كلتا الجهتين. ومئذنته قائمة في الجانب الشمالي
وإلى جانبها باب آخر، وطول حرم المسجد ٧٥ مترًا في مثلها في
العرض، وفي وسطه بقايا بركة ماء لا يُشكُّ في أنها كانت لوضوءِ
المصلين، كما أن في وسطه قبوين معقودين بالحجر تحت أرض الحرم
كانا صهاريج لجمع ماء المطر، فالقبو الذي في الغرب فيه ست عشرة
قنطرة في أربعة صفوفٍ مُتوازية، والذي إلى الشرق فيه عشرون
قنطرة في صفين متوازيين، وهذه القناطر جميعها قائمة على قواعد
مبنية بالحجارة، ولا تزال آثار رشق الشيد بيضاء ناصعة على
جدران القبوين وسقوفهما، وقد قرأنا في مدخل القبو القبلي:
«عزَّ نصره وأثابه الله الجنة ورفع درجاته.»
ويقول «بيدكر»:
١٠٠ إنَّ هذين القبوين كانا ملجأً للمجاذيب في القرن
الثامن للهجرة والسابع عشر للميلاد.
وممَّا أورده «بيدكر»
١٠١ ولم نجد له أثرًا قوله: «إنَّ باب الجامع كان
مُزَخرَفًا مُتقنًا، وإن الأبواب المُطلَّة على صحن الجامع
كانت مُزيَّنَة بأعمدة.» كما قال الأب مايسترمان في «دليله»
إنَّ هذه الأبنية تُمَثِّلُ خانًا مع الأهراء التي اكتشفت في
التربة الرملية الجافة.
١٠٢
قبور الشهداء أو الأولياء
ويقول بيدكر:
١٠٣ «إنَّ المسلمين يقولون بأن: أربعين من أصحاب النبي
مدفونون في مقبرة الجامع الأبيض. والمسيحيون يقولون بأن:
أربعين من الشهداء مدفونون فيها. والحقيقة أن بجوار الجامع
الأبيض مدفنًا فيه أربعون قبرًا مُتلاصقون يقولُ عنهم عوام
المسلمين: قبورُ الغزاةِ.»
بعض أوقاف الجامع الأبيض
علمتُ من بعض المشايخ أن قرية دير شرف — وهي واقعة على
مُفترق الطريق من نابلس إلى طور كرم المعروفة اليوم بطول كرم،
ومن نابلس إلى جينين — كانت موقوفة على الجامع الأبيض، وكان
المتولي عليها الشيخ حسين عبد الهادي مدير إيالة عكا في عهد
الاحتلال المصري لسورية، ثمَّ تولَّى عليها من بعده ابنه
سليمان، وبعد سليمان ابنه يوسف، وهذا الأخير قد تخلَّى عن
الولاية عليها خيفة الإثم؛ فضبطتها الحكومة العثمانية، واعتبرت
الجامع دارسًا، وأضافت الوقف المذكور إلى الأوقاف المندرسة،
ويُجبى ريعه إلى اليوم من قِبَلِ إدارة الأوقاف الإسلامية في
فلسطين.
خلاصة ما تقدَّم
لقد نقلنا ما وصل إلينا من الأخبار والروايات عن مدينة
الرملة البيضاء وجامعها الأبيض في مُختلف العصور والأزمان،
فاتضح لنا أن الرملة مدينة إسلامية بناها سليمان بن عبد الملك
بن مروان سنة ٩٨ﻫ/٧١٦م من سِنِي خلافته، وأن جامعها أيضًا من
بناء المذكور، وأن الرملة هي رابع مدينة إسلامية كُبرى بناها
الخلفاء. نقلنا كل ذلك لنتَّصِلَ منه إلى وصف مئذنة الجامع
الأبيض التي كانت السبب في كتابة هذا البحث.
(٨) المئذنة
أوَّلُ مَن جاءَ على ذكرها من جغرافيي العرب هو المقدسي، فقد
قال
١٠٤ عند ذكره الجامع الأبيض: «وله منارة بهيَّة.» ولم
يزد.
١٠٥ وقد سبق بيان ذلك.
ولكن المئذنة التي سنصفها ليست هي التي رآها المقدسي، فإنَّ هذه
قد انقضَّت في الزلزال الذي حدث سنة ٤٢٥ﻫ/١٠٣٣م وشمل جميع الأرض
المقدسة، وتوالت الحروب الصليبية، فخربت الرملة في جُملة ما خُرِّب
من البلدان، أمَّا المئذنة الحاضرة فقد أُقيمت على أنقاض منارة
ثانية بناها الملك الظاهر بيبرس بعد استرداده الرملة من أيدي
الصليبيين، وكان إنشاؤها — المئذنة الحالية — في سنة ٧١٨ﻫ/١٣١٨م
كما يتَّضِحُ ذلك من الكتابة التاريخية المنقوشة على بابها
الرخامي، فقد نقش على الجانب الأيمن منه «لا إله إلا الله محمدٌ
رسولُ الله أرسله بالهدى ودينه.»
ونُقش على الجانب الأيسر منه: «وكانت عمارة هذه المأذ»،
والكلمتان الأخيرتان مقتطعتان من «دين» و«المئذنة»، ومتروكتان بدون
إتمام عمدًا كأنهما تجربة قلم.
وفي وسط الباب وجانبيه على حجارةٍ من رخام ثلاثة أسطر فيها ما
يلي:
- (١)
«بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا الله﴾. أمر بإنشاءِ هذه
المئذنة المُباركة مولانا السلطان الملك الناصر
العالم
- (٢)
العادل المُجاهد المرابط المثاغر، سلطان الإسلام
والمسلمين، محيي العدل في العالمين، قاتل الكفرة
والمشركين، ملك العرب والعجم، مالك رقاب الأمم، حافظ بلاد
الله، ناصر الدنيا والدين أبو الفتح محمد بن مولانا
- (٣)
السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون
الصالحي قسيم أمير المؤمنين أدام الله أيَّامه، ونشر
بالنصر ألويته وأعلامه، وكان الفراغ من إنشائها في نصف شهر
شعبان سنة ثمان عشرة وسبع مائة.»
والملك الناصر هذا هو التَّاسع من ملوك الترك وأولادهم بالديار
المصرية والبلاد الشامية، ويُعرفون بالمماليك البحرية، تَسَلْطن
للمرة الأولى سنة ثلاث وتسعين وستمائة ١٢٩٣م، وهو صبي لم يبلغ
الحُلُم ودُون العاشرة من العمر، وخُلِعَ منها لحداثة سِنِّه سنة
٦٩٤ﻫ/١٢٩٤م، ثُمَّ أُعيد إليها مرَّةً ثانية سنة ٦٩٨ﻫ/١٢٩٨م، وظلَّ
فيها إلى سنة ٧٠٨ﻫ/١٣٠٨م، ثمَّ خلع نفسه منها.
ومن أعماله الغريبة في سلطنته هذه الثانية رسمه لليهود بأن
يلبسوا عمائم صفراء، والنصارى زرقاء، والسامرة حمراء، ممَّا ترى
آثاره باقية إلى الآن عند بعض الطوائف، ثمَّ عاد للسلطنة مرَّة
ثالثة سنة ٧٠٩ﻫ/١٣٠٩م، وحَكَمَ إلى أن توفَّاهُ الله سنة
٧٤١ﻫ/١٣٤٠م. ولم يذكر لنا التاريخ عمارته لهذه المئذنة إلَّا أنه
ذكر لنا قدومه من مصر إلى غزَّة، ومنها لزيارة بيت المقدس ومدينة
الخليل عليه السلام في سنة ٧١٧ﻫ/١٣١٧م أي قبل سنة من إتمامها،
فترجَّحَ معنا أنه عَرَج على الرملة، وهو في طَرِيقه، وقد كانت إذ
ذاك من الولايات الصغار بها جندي،
١٠٦ ورأى جامعها الشهير ومنارته فأمر بإنشائهما، وتمَّ له
ما أراد بعد انقضاءِ عامٍ واحدٍ.
ولو ظلَّ الجامع قائمًا إلى الآن لعثرنا على ما يُؤيِّدُ هذا
الظَّنَّ والتخمين. وقد ذكر المؤرخون:
١٠٧ أنه في تلك السنة وسَّع جامع القلعة في القاهرة، وأنشأ
به المئذنة الخضراء، أمَّا عمارته للمساجد والقناطر والجسور
وغيرها، فقد أجمعوا على أنها تزايدت في أيَّامه مقدار النصف سواءٌ
في الديار المصرية أو في البلاد الشامية.
ومع أننا لم نتحقَّق اسم المعلم الذي بنى هذه المئذنة البديعة
المعدودة من المُفردات التي لا نظيرَ لها، فلا نعدم وسيلة تاريخية
تبعثُ بنا إلى الظنِّ بأن المعلم ابن السيوفي رئيس المهندسين في
الأيَّام الناصرية هو الذي أنشأها؛ لأن هذا المهندس الفذَّ هو
أوَّلُ من بنى مئذنة بالحجر في المدرسة الأقبغاوية في القاهرة بعد
المئذنة المنصوريَّة
١٠٨ التي أُنشئت في زمن الملك المنصور السلطان الشهيد
قلاوون الألفي الصالحي والد السلطان الملك الناصر، وقد كانت المآذن
قبل ذلك تُبنى بالآجر.
والمئذنة مبنية بالحجر النحيت، مُربَّعة الشكل ذات خمسة طوابق،
طولها من قاعدتها ٢٥ مترًا و٦٣ سنتيمترًا، وطول القاعدة وحدها متر
واحد و١٥ سنتيمترًا، ويُصعد إليها بسلَّمٍ عدد درجاته ١٢٥ درجة
منها ٩٥ درجة كبيرة، وعلى رأس الدرجة الخامسة عشرة والدرجة
الأربعين والخامسة والخمسين، أي الطوابق الثلاثة، شبه غُرفة صغيرة
لها باب ونوافذ يُدارُ به من حولها، ورُبَّما كانت هذه الغرف
أُقيمت لتماسك البناء وتقويته بعضه ببعضٍ أو جُعلت لتكون مقامًا
للمؤذِّنين في الليل أو لأخذهم نصيبًا من الرَّاحة في صعودهم إليها
في النهار، ومن الأدراج خمس عشرة في الطابق الرَّابع وخمس وعشرون
في الخامس و٢٥ درجة صغيرة، حيثُ تضيقُ أطراف المئذنة في أعلاها،
وفي كلِّ جانبٍ من الطوابق الثلاثة الأولى نافذة، وفي كلٍّ من
الطابقين الأخيرين ثلاث نوافذ جميلة مُزينة أطرافها بأعمدة صغيرة
من الرخام بديعة الصنع، وناصية المئذنة وبابها الجميل مُتَّجِهانِ
إلى القبلة تلقاء المسجد، وكذلك أجمل نوافذها فإنها في الجانب
القبلي، ويرى الناظر من أعلى المئذنة منظرًا شائقًا جميلًا على
سهولٍ فسيحةٍ.
ويقول بيدكر:
١٠٩ إنَّ هذه المئذنة — ويُسمِّيها البرج — يُذكِّرُنا
بالمباني التي أنشأها الصليبيون على الطراز الرومي
Roman، وإن في زواياه الأربع
حصونًا مُرتفعةً، وإنه في سنة ١٠٦٣ﻫ/١٦٥٢م وضعت عليه علامة قد
دَرَسَت الآن.
والأغرب بعد هذا كُلِّه أن تدَّعِي إدارة الآثار والعاديات في
فلسطين أن هذه المئذنة من الأبراج الصليبية، ضاربةً بكلِّ الحقائق
التاريخية عرض الحائط. والشكل الأول من الصور الشمسية يصور مدخل
المئذنة، والثاني يصور المئذنة من الجهة القبلية، والثالث والرابع
والخامس للشمال والشرق والغرب.
(٩) الرملة في الشعر العربي
رافقت مدينة الرملة المدنية الإسلامية في جميع أدوارها، وكانت
مقرَّ حادثات عظيمة في التاريخ والسياسة؛ ولذلك فقد كثُرَ ورودها
في الشعر العربي، ونحن نجتزِئُ هنا بنقل ما وعته الذَّاكرة غير
مستقصين.
لكثيِّر عزَّة:
حموا منزل الأملاك من مرج راهطٍ
ورملة لدٍّ أن تباح سهولها
لجميل بثينة:
تذكَّرَ أنسًا من بثينة ذا القلبُ
وبثنة ذكراها لذي شجنٍ نصب
وحنَّت قَلوصي فاستمعتُ لسجرها
برملة لُدٍّ وهي مثنيةٌ تحبو
للمتنبِّي يودِّع أبا محمد الحسن بن عبد الله بن طغج:
ما ذا الوداع وداع الوامق الكمدِ
هذا الوداع وداعُ الروح للجسدِ
إذا السحاب زفته الريح مُرتفعًا
فلا عدا الرَّملة البيضاء من بلد
ويا فراق الأمير الرحب منزله
إن أنت فارقتنا يومًا فلا تعد
لأبي الحسن علي بن محمد التهامي الشاعر خطيب الرملة يرثي
ولده:
أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري
فخُيِّل لي أن الكواكب لا تسري؟
أرى الرملة البيضاء بعدك أظلمت
فدهري ليلٌ ليس يُفضي إلى فجر
وما ذاك إلَّا أن فيها وديعة
أبى ربها أن تُستردَّ إلى الحشر
بنفسي هلال كنت أرجو تمامه
فعاجله المقدار في غُرَّة الشَّهر
للعماد الأصفهاني يمدح السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب:
ويوم الرملة المرهوب بأسًا
تركتَ الشرك منزعج القطين
وكنت لعسكر الإسلام كهفًا
أوى منه إلى حصنٍ حصينِ
وقد عرف الفرنج سطاك لمَّا
رأوا آثارها عين اليقين
وأنت ثبتَّ دُون الدِّين تحمي
حماه أوان ولَّى كل دين
للشيخ عبد الغني النابلسي:
ولربَّ قومٍ فاخروا
في مصر أرض القدس جملهْ
قالوا كثير الرمل في
مصرٍ بدا لا تستقلهْ
فأجبت أن القدس قد
فاقت على مصرٍ برملهْ
وله أيضًا:
عرِّج على الرملة البيضاء بالرغد
يا أخضر العيش واصبر ثم واتئدِ
وأنت يا حظُّ كن طبق المراد لمن
هناك من والدٍ سامٍ ومن ولدِ
وانشر ضياءك يا بدر الكمال على
سماء تلك النواحي الغرِّ واتَّقدِ
ومنها:
بهم فلسطين في عزٍّ برملتها
إن رُمتهُ في سِواها اليومَ لم
تَجِدِ