المقال الأول
عن نفسي مع الخجل الشديد
لا توجد طريقة لكتابة المقال، أو مجموعة من المقالات، أسوأ من أن يبدأ الكاتب بالكلام عن نفسه، ولكنني أجد نفسي مضطرًّا إلى أن أبدأ على هذا النحو؛ لأن الموضوع الذي أعالجه يتسم — في هذه الأيام بوجهٍ خاصٍّ — بقدرٍ من الحساسية يجعل كلَّ من يتطرق له مطالبًا بأن يُثبت براءته من الدوافع الشخصية، ومن شبهة الرجعية، ومن الجبن والانتهازية، قبل أن يكتب فيه كلمة واحدة، فليتحمَّل القارئ قليلًا بعض الأسطر التي سأحدِّثه فيها عن نفسي، وسوف يجد فيما يلي ذلك من أجزاء المقال ما يُقنعه بأن هذه البداية السيئة، كانت شيئًا لا مفر منه.
ولأبدأ بمسألة الدوافع الشخصية؛ فكثيرون ممن يكتبون عن الناصرية كتابةً نقدية، في أيامنا هذه، لديهم بالفعل دوافع شخصية تُسهم أو تمس المحيطين بهم أو مصالح الطبقة التي يريدون استعادة مجدها. أمَّا أنا فلم تكن لدي، أو لدى واحد من أفراد أسرتي المباشرة أو أقربائي البعيدين، أرضٌ انتزعها الإصلاح الزراعي، أو مصنعٌ أو شركةٌ سرى عليها التأميم.
والأمر الذي أستطيع أن أؤكده بصورة قاطعة هو أن العهد الناصري لم يمسَّ أية مصلحة من مصالحي بالضرر، بل إنني — على العكس من ذلك — أحرزتُ خلاله بالتدريج أي قدر من النجاح أستطيع أن أقول إنني حققته في مجالي المحدود: مجال أستاذ الجامعة والكاتب المفكر.
أما عن شبهة الرجعية، فإنني أصنِّف نفسي من بين التقدُّميين، وربما كنت قد تعرضت في وقت من الأوقات لحملات يعرفها كثيرٌ من القرَّاء، اتُّهمت فيها بما هو أشد من ذلك، وعلى أية حال فإنني أعتقد أن اليسار، إذا كان يعني الدعوة إلى التغيير والتجديد، وإلى إعطاء الأولوية للمشروعات التي تخدم مصالح الفئات العريضة من المجتمع، بدلًا من تلك التي تخدم فئاتٍ محدودة، ومحظوظة في داخله، وإذا كان يعني الدعوة الصريحة القاطعة إلى تحقيق عدالةٍ اجتماعيةٍ حقيقية، لا صورية، يحسُّ بها الإنسان المطحون ويلمس أثرها في حياته المباشرة، وإذا كان يعني صون الكرامة الإنسانية وحمايتها من الذل والفقر والظلم الاجتماعي والسياسي؛ إذا كان اليسار يعني ذلك كله، فإنني أعدُّ نفسي يساريًّا بلا أدنى تردد، وأعتقد أنني كنت أدافع عن هذه المعاني على الدوام.
وأما صفة الجبن والانتهازية، فإن أولاهما تتعلق بموقف من الماضي، والثانية تتعلَّق بموقف من الحاضر والمستقبل.
فهناك بالفعل نقاد للعهد الناصري كانوا ممن يحرقون له البخور طوال أعوامه الثمانية عشر، وكانوا طول تاريخهم ممن يجيدون تغييرَ جلدِهم بتغيُّر الحاكم، ولم يكن التغيير الذي طرأ على موقفِهم من حكم عبد الناصر هو التحوُّل الوحيد في حياتهم، بل إنهم سبق أن مارسوا مثل هذا التحول في أوائل عهد عبد الناصر لصالح عبد الناصر ذاته، وضد أسيادهم السابقين، هذه حقيقة لا شك فيها، ولكني أستطيع أن أقول عن نفسي، بعبارات قاطعة: إنني لست من هؤلاء. أما السؤال التقليدي الذي يُثار في هذه الأيام ضد من يوجِّه انتقادًا للعهد الناصري والذي يقول: أين كنت في ذلك العهد ولماذا لم تتكلم أثناءه؟ ففي استطاعتي أن أجيب باطمئنان كامل أنني تكلمت، ونبهت، وانتقدت، وعلى من يود التأكُّدَ من ذلك أن يعود إلى قراءة مقالاتي في مجلة الفكر المعاصر وغيرها، وسيجد — فضلًا عن ذلك — أن هذه المقالات والكتابات لم تتضمن عبارةَ تملقٍ واحدةً حتى من ذلك النوع الذي اعتاد الكتاب أن يبدءوا به كتاباتهم لكي يضمنوا لانتقاداتهم التالية قدرًا من الأمان، وأنا أقول ذلك مطمئنًّا، وأتحدى من يحاول أن يُثبتَ عكسه.
وأما عن الانتهازية، فتلك شيمة الكثيرين ممن يتصورون أن نقد التجربة الناصرية قد أصبح مطلوبًا، وأنه قد يضمن لهم، في الوقت الحاضر أو في المستقبل، مزيدًا من الحظوة ويكفل لهم سبيل «الوصول».
وتلك بدورها صفة بعيدة عني كل البعد؛ لسبب بسيط هو أنني راضٍ عن نفسي وعن موقعي كلَّ الرضا، ولو كنتُ من أصحاب المطالب أو التطلُّعات لكان لي شأن آخر وطريق آخر، منذ وقت طويل.
وبعدُ، فإني — أيها القارئ العزيز — أشعر بالخجل الشديد إذ أجد نفسي منساقًا إلى مثل هذا الحديث الشخصي عن نفسي، ولكن ما حيلتي وأنا أودُّ أن أكتبَ عن الناصرية كتابةً فيها جانب سلبي، وكل من يكتب سلبيًّا في هذه الأيام متَّهمٌ في شخصه، وفي ماضيه وحاضره وأخلاقِه ألست معي أنني مضطر إلى كتابة هذه المقدمة، حتى أقنع القرَّاء بموضوعيتي، وأضمن عدم الربط بين القضايا التي سأثيرها وبين أية اعتبارات أو مصالح شخصية؟
والآن، تعالَ ندخل في الموضوع …
درس ستالين
بعد عامين أو ثلاثةٍ من موت جوزيف ستالين، بدأت عملية إعادة تقييم واسعة النطاق لعهد ذلك الزعيم الذي حكم الاتحاد السوفيتي قرابة الثلاثين عامًا، والذي حياه الكتاب في مختلف أرجاء العالم، وفي مصر أيضًا عقب وفاته مباشرة بوصفه بطلًا من أبطال السلام، وإنسانًا عظيمًا، ومناضلًا صلبًا من أجل الاشتراكية. وأخذت تتكشَّف بالتدريج صورة أخرى لستالين، ظهر فيها حاكمًا مستبدًّا زج بالألوف في السجن بلا سبب، وأعدم الكثيرين دون محاكمة حقيقية، واستخدم أبشع الأساليب البوليسية من أجل توطيد مركزه الشخصي في الحكم.
ولقد أثارت عملية إعادة التقييم هذه ضجةً كبيرةً في أوساط المفكِّرين والمعلِّقين السياسيين في مختلِف أرجاء العالم، وأحدثتْ رد فعل قويًّا لدى الكثيرين؛ فالبعض، ممن يتمسكون بالخط الشيوعي المتطرِّف، دافعوا بحرارة عن ستالين، مؤكدين أن الإجراءات الاستثنائية التي ربما كان قد لجأ إليها، إنما كانت ترجع إلى أنه كان يبني دولة جديدة، ويؤسِّس نظامًا اشتراكيًّا لأول مرة في تاريخ العالم، ويواجهُ في سبيل ذلك قوًى عاتيةً داخل بلاده وخارجها، وكفاه فخرًا في نظر هؤلاء المدافعين أنه هو الذي وطد دعائم الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وكان هو المنتصر الحقيقي في الحرب العالمية الثانية التي كانت جبهة غرب أوروبا والشرق الأوسط فيها نزهة عسكرية إذا قيست بأهوال المعارك في الجبهة الشرقية، ونستطيع أن نقول إن موقف الدفاع هذا يمثِّل خطًّا لا تزال تأخذ به الصين الشعبية وألبانيا حتى اليوم.
غير أن الخط الذي أخذت به الغالبية الكبرى من المفكرين النظريين الاشتراكيين في مختلف أرجاء العالم، وضمنهم اليساريون المصريون، هو أن نجاح ستالين في دعم النظام الاشتراكي في بلاده، ونقلها من بلد زراعي متخلف إلى بلد صناعي من الطراز الأول، وتحقيق الصمود ثم الانتصار لها في أكبر معارك الحرب العالمية الثانية؛ كل ذلك لا يشفع له فيما ارتكبه داخليًّا من جرائم، ولا يعفيه من محاسبة الحزب له بعد موته، وهي المحاسبة التي بلغ من قسوتها أن نُقل جثمانه من مقبرته، وحُذف اسمه من مدينة «ستالينجراد» التي دارت فيها معركة التحول الحاسمة في الحرب الماضية وأُغفل ذكره تمامًا — وكأنه لم يكن — من القواميس ودوائر المعارف التي أُلِّفت منذ ذلك الحين.
وظهر رد فعل آخر على إعادة التقييم هذه لدى بعض المفكرين من ذوي النزعة الليبرالية؛ إذ رَأَوْا فيها نوعًا من المحاكمة الغيابية لرجلٍ مات ولم يعُد قادرًا على الدفاع عن نفسه، وأبدَوا استنكارهم — من وجهة النظر الأخلاقية — لأن الذين عقدوا هذه المحاكمة الغيابية هم أنفسهم زملاء ستالين ورفاقه على جرائمه، بل كانوا يؤيدونه فيها بصورة ضمنية ولم يتذكروا أنه كان مذنبًا إلا بعد أن مات، غير أن الغالبية العظمى من الكتاب الاشتراكيين، ومن بينهم عدد كبير من اليساريين المصريين والعرب، دافعوا عن محاكمة ستالين بعد موته على أساس أن الاعتبارات الأخلاقية كغدر الزملاء وخيانتهم لزميلهم، والافتقار إلى الوفاء لذكرى زعيم كبير رحل عن هذا العالم، لا ينبغي أن تُؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أعمال رجل الدولة، وإني لَأذكر جيدًا ما كتبه كثيرٌ من اليساريين في مصر عن ضرورة الاتصاف ﺑ «الموضوعية الثورية» التي تترك جانبًا المسائل الأخلاقية وتركِّز على الوجه الموضوعي لتصرفات الحاكم، مؤكدين بناءً على ذلك أن العهد الجديد في الاتحاد السوفيتي كان له كل الحق في محاكمة ستالين بعد موته مباشرة.
وقد حدث مثل ذلك للزعيم الذي أخذ على عاتقه هذه المحاكمة؛ أعني نيكيتا خروشوف، الذي أُعِيدَ تقييم سياسته هو الآخر وكان من نتيجة إدانته أن قضى الجزء الأخير من حياته مهملًا، وعندما مات لم يحضر جنازته إلا عدد من أقربائه يُعد على الأصابع، وامتنع المسئولون؛ كبارهم وصغارهم، عن حضورها.
تلك وقائع أردت أن أسردها لا لكي أبديَ فيها رأيًا بالقبول أو بالرفض، بل لكي أبيِّنَ أن اليسار قد اتخذ في تلك الحالات موقفًا يبدو من الوجهة الأخلاقية مفرطًا في قسوته، ويبدو بعيدًا كل البعد عن صفات المروءة والشهامة والوفاء لذكرى الراحلين، ولكن وجهة نظره هي أن مبادئ الحياة السياسية تختلف عن مبادئ الحياة الشخصية، وأن الاعتبارات الأخلاقية التي تحكم تصرفاتِنا الشخصية لا ينبغي أن تكون أساسًا للحكم على تصرفات الحكام السياسيين، بل يتعيَّن علينا أن نتوخَّى «الموضوعية الثورية» في أحكامنا السياسية، ونترك العواطف جانبًا حين يكون الأمر متعلقًا بمصائر الشعوب.
إنني — بالطبع — لم أكن أهدف، من اختيار الأمثلة السابقة، إلى أن أصدر حكمًا مسبقًا بتشبيه دور جمال عبد الناصر في الثورة المصرية بدور جوزيف ستالين في الثورة السوفيتية، وإنما أردت أن أقارن بين رد فعل اليسار على عملية إعادة التقييم في كلتا الحالتين: ففي حالة ستالين كانت الكتلة الرئيسية من اليسار العالمي، وضمنها اليسار المصري، مؤيدةً لمبدأ توجيه الاتهام إلى ذكرى ستالين، على الرغم من إنجازاته الضخمة التي لا يمكن أن يغفلها التاريخ. أما في حالة جمال عبد الناصر فإن اليسار المصري يتخذ موقف الرفض التام لأي نوع من إعادة التقييم، والهجوم الشديد على كل من يتصدى للعهد الناصري بالنقد، وكأن هذا العهد كان فوق مستوى الخطأ.
ومن العجيب حقًّا أن كثيرًا من اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم حماةً لذكرى العهد الناصري، يلجئون في هجومهم على نقاد ذلك العهد إلى سلاح الأخلاق، ويتحسَّرون على الشجاعة المفقودة التي جعلت هؤلاء النقاد لا يفتحون أفواههم إلا بعد رحيل الزعيم، ويترحمون على معاني الوفاء والإخلاص لذكرى الأموات، أقول إن هذه ظاهرة عجيبة، لا لأني غير معترف بقيم الشجاعة والوفاء، بل لأن اليساريين هم أنفسهم أصحاب مبدأ «الموضوعية الثورية»، وهم الذين يؤكِّدون أن الأخلاق بناءٌ فوقي وأنها ناتج وحصيلة لظروف موضوعية تنتهي إلى بنية المجتمع الأساسية، وبالتالي فإن تقييم السياسات على أسس أخلاقية هو في الواقع نزعة «مثالية» لا يصحُّ أن يكون لها مكان في أية نظرة علمية إلى الظواهر الاجتماعية.
والأمر المؤكد في نظري هو أنه، عندما يكون الأمر متعلقًا بمصير أمةٍ مرت بتجربةٍ معينةٍ في الحكم دامت قرابة عشرين عامًا، فلا ينبغي أن نمتنع عن التقييم الموضوعي الصارم مراعاةً للعواطف و«الشهامة» والنخوة، ولا يجب السكوت عن الخطأ لمجرد أن مرتكبه قد مات، وخاصة إذا كان هذا الخطأ متعلقًا بحياة الشعب بأسره، وإني لَأتساءل: كيف نستطيع أن نرسم خطوط مسيرتنا في المستقبل إذا لم نستوعب دروس الماضي كاملة، إذا لم نحكم عليها بموضوعيةٍ ونزاهةٍ، دون عاطفيةٍ كاذبة أو ولاء ساذج؟
حافز المبدأ وحافز المصلحة
الآن لنُحاول أن نحلِّل موقفَ اليسارِ المصري من القضية التي تُثار في هذه الأيام على نطاق واسع، في العالم العربي عامةً، وفي داخل مصر بوجه خاص، وأعني بها قضية تقييم التجربة الناصرية.
- أولهما: أن الأصوات التي ترتفع من اليمين، في هذه الأيام تهدِّد بالفعل بالقضاء على كل العناصر ذات المسحة الاشتراكية في التجربة السابقة. فلو بحثت عن الأهداف الحقيقية لأصحاب هذه الأصوات، لوجدتَ أنها إلغاء القطاع العام كليةً وعودة القطاع الخاص إلى الاستحواذ على الاقتصاد القومي، وإلغاء التأميمات وإعادة المصانع والبنوك إلى أصحابها القدماء، وربما إلغاء الإصلاح الزراعي ذاته وعودة الملَّاك الكبار بصورة أو بأخرى. هذه الأهداف لا يُعلن عنها، طبعًا، بمثل هذه الصراحة ولكنها واضحةٌ كل الوضوح في الخلفية الفكرية لكثيرٍ من نقَّاد التجربة الناصرية. وهكذا يجد اليسار المصري لزامًا عليه أن يتخذ الموقف المضاد، موقف الدفاع المطلق عن هذه التجربة؛ لأنه بذلك إنما يدافع أيضًا عن عناصر أساسية من عناصر البناء الاشتراكي الذي يسعى إلى إرساء قواعده ويقطع الطريق على دعوات الردة التي تستهدف إعادتنا إلى نمط اقتصادي تمتزج فيه إقطاعية القرون الوسطى برأسمالية القرن التاسع عشر.
- أما العامل الثاني: فأقل موضوعية من العامل السابق، ولكن من الواجب ألَّا نغفل عن أهميته في الموقف الذي نحن بصدده؛ ذلك لأن التجربة الناصرية اقتضت، في مراحلها الأخيرة، تعيين بعض البارزين في مناصب رفيعة، وسوف أتناول فيما بعد هذه الظاهرة بالتحليل والتعليل، أما الآن فإني أكتفي بتسجيلها وبالإشارة إلى نتائجها بالنسبة إلى التصرُّفات التالية لهؤلاء اليساريين؛ فقد ظهر واقعٌ جديد لم يألفْه اليسار المصري في أية مرحلة سابقة من مراحله؛ هو وجود «مصالح» لعددٍ غير قليل من أقطابه، ارتبطت بالتجربة الناصرية وأصبحت تحتِّم على أصحابها الدفاع عن هذه التجربة دفاعًا مستميتًا، كما أصبحت تتحكَّم إلى حدٍّ بعيد في تصرفات عددٍ كبيرٍ من مهاجمي هذه التجربة، الذين يريدون أن يحلُّوا محل اليساريين في تلك المناصب الرفيعة، وأن يسيطروا — ماديًّا ومعنويًّا — على الأجهزة التي كان لليساريين فيها مركز رئيسي. وفي اعتقادي أننا لا ينبغي أن نغفل هذا العامل عندما نتأمَّل موقف الدفاع المطلق أو الهجوم الذي يتخذه اليسار واليمين — وخاصة في قطاع الإعلام — من التجربة الناصرية. فكثير من الأصوات التي نسمعها هي في واقع الأمر أصوات المصالح الخاصة. وعندما تتدخَّل المصالح لا تعود المبادئ وحدها هي التي تتكلم؛ لأن هناك وضعًا يُريد أحد الطرفين أن يحافظ عليه، ويريد الطرف الآخر أن ينقضَّ عليه ويقتنصَه. وربما لم يكن هذا العامل ظاهرًا على المستوى الشعوري لدى كثير من اليساريين (بينما هو لدى خصومهم واضحٌ وواعٍ تمامًا)، ولكنه على الأقل يشكِّل خلفية لا شعورية بدونِها يصعب تفسير هذه الاستماتة في الدفاع عن تجربة في الحكم كانت بلا شك مشوبةً بقدرٍ غير قليل من الأخطاء وكانت أخطاؤها من النوع الذي لا يغتفره الفكر اليساري بالذات، في الأحوال العادية، بل يشن عليه أقوى هجماته.
جوهر الخطأ الناصري
ولنبدأ من هذه النقطة الأخيرة، أعني الأخطاء التي كان المفروض أن يكون اليساريون أول من ينبهون إليها. هذه الأخطاء في رأيي، تتركز في أسلوب تطبيق الاشتراكية ذاتها.
فقد كان من واجب اليساريين أن يُدركوا، قبل غيرهم، أن الأسلوب الذي طُبِّقت به الاشتراكية يُسيء إلى الاشتراكية أكثر مما يفيد قضيتها؛ فالتأميم وإنشاء قطاع عام واسع ليس — بالنسبة إلى الاشتراكية — غايةً في ذاتها، وإنما هو وسيلة لكي تتم سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، ولكي يرتدَّ عائد هذا الإنتاج في نهاية الأمر إلى الشعب.
وفي التجارب الاشتراكية الناجحة ظهر أثر هذه الإجراءات على الطبقات الشعبية بوضوح في فترة وجيزة. صحيح أن الطبقات العليا، وربما الوسطى أحيانًا، يُصيبها الضرر، ولكن الغالبية العظمى من الشعب، ممَّن يكونون طبقاته الكادحة يشعرون على الفور بأثر تطبيق الاشتراكية على حياتهم؛ فقد تتخذ الدولة — مثلًا — قرارًا بأن يُخصَّص لكل أسرة مسكن من حجرتين، وفي هذه الحالة ستشعر مليون أسرة كانت تعيش في أربع حجرات بالضيق، وتنضم إلى قائمة المعارضين وربما هاجر بعض أفرادها وحاربوا النظامَ في الخارج، ولكن عشرات الملايين من الأسر كانت تعيش في أكواخ أو على الأرصفة ستشعر بالامتنان، وتحس بأن حياتها قد تغيرت إلى الأحسن، وتدافع عن النظام بكل ما تملك من قوة، وقد تقرر الدولة للفرد حذاءً واحدًا كل عامين، فيحس من اعتاد تنويع ملابسه بالسخط، ولكن ملايين الحفاة سيفرحون.
وعلى العكس من ذلك، فإن التجربة الاشتراكية الناصرية لم تضع الطبقات الشعبية نصب عينيها دائمًا [فيما] كانت تتخذه من إجراءات، بل كانت في بعض الأحيان تصدر قرارات يعجب المرء حقًّا لصدورها في عهد اشتراكي، كرفع سعر الأرز والكيروسين، وهما مادتان أساسيتان للكادحين الفقراء، في الوقت الذي تحتفظ فيه لكبار الموظفين ورجال الدولة بكل الامتيازات التي وصلت أحيانًا إلى حد الترف والبذخ المقزز. ويكفي أن الجنيهات المعدودة التي كانت تشكل دخل العامل أو الفلاح أو الموظف الصغير كانت تظل ثابتة أو تنقص، في الوقت الذي ظلت فيه قوَّتها الشرائية تضعف عامًا بعد عام. وبقدر ما أعلم فإن التجارب الاشتراكية الناجحة تسعى إلى زيادة القوة الشرائية لأجور العمال، عن طريق إجراء تخفيضات متوالية لأسعار المواد الأساسية — وهو أمر لم يحدث عندنا في حالة واحدة.
أما الفوارق بين الطبقات، فمن المؤكد أنها لم تزل على الإطلاق في تجربة الاشتراكية الناصرية. وإذا كانت هذه التجربة قد بدأت بمجتمع النصف في المائة، فأخشى أن أقول إنها قد انتهت بمجتمع الخمسة في المائة! أعني أنها وسَّعت نطاق الطبقة العليا إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، دون أن تقرب منها الطبقة الدنيا، بحيث كانت النتيجة العملية هي زيادة عدد الأسياد.
وعلى الرغم من أنني أخشى أن أُتَّهم بالسطحية، فإنني سأضرب مثلًا مفرطًا في البساطة للتدليل على وجهة نظري؛ فلقد ألغت الثورة الألقاب بمجرد قيامها، ومع ذلك لا تزال الألقاب تُستخدم في المحادثات اليومية حتى اليوم، لا لأنها عادةٌ يصعب التخلص منها فحسب، بل لأن مبرراتِ وجود الألقاب ما زالت قائمة. ولا يكفي لإزالة هذا الوضع أن تُلغى الألقاب بقرارٍ حكوميٍّ ولذلك استمرت متداولة على الألسن؛ لأن بلادنا بالفعل ما زالت مليئةً «بالبكوات» حتى لو لم يكونوا رسميًّا من حَمَلَةِ اللقب ويكفي أن تقارن بين رئيس إحدى المؤسسات والعامل البسيط فيها، ليس فقط من حيث دخله أو نمط معيشته، بل أيضًا من حيث نظرته إلى نفسه ومدى إحساسه بكرامته كعضو في المجتمع، لكي تدرك بوضوح أن الفوارق بين الطبقات ما زالت على ما كانت عليه.
إنني أدرك جيدًا نوع الاعتراضات التي ستوجَّه إليَّ، وهي أنني لا أنظر إلى الصورة الكلية، بل أكتفي بالجزئيات. والصورة الكلية، في نظر أصحاب هذا الاعتراض، هي نزع مصادر الثروة والإنتاج من أيدي الإقطاعيين والرأسماليين والأفراد، وإقامة قاعدة صناعية قوية يمكن أن تكون نواةً لتحوُّل اشتراكي حقيقي في المستقبل. وأنا لا أُنكر أن هذه الصورة الكلية صحيحة، ولكني لا أستطيع أن أعترف بنتيجتها ما لم يتحقَّق هذا التحول، بمعاييره المعروفة، أو تكون بوادره على الأقل قد بدأت في الظهور.
وطالما أن هذا التحول لم يتحقَّق، فلن يكون في وسع أحدٍ أن يردَّ على النقد الذي كان يتردد من آنٍ لآخر وهو أن الدولة في بعض النظم تسيطر على المرافق الإنتاجية لخدمة جهازها الخاص، وللتخلُّص من الخطورة التي يشكلها وجود المال وأدوات الإنتاج في أيدي طبقة منافسة.
وربما بدا للبعض أن هذا النقد الأخير له مبرراته القوية في حالة التجربة الناصرية بالذات؛ إذ قد لا يكون من المصادفات أن تبدأَ إجراءات التأميم في أواخر أيام الوحدة مع سوريا، حتى بدأت الطبقة المسيطرة على المال في الإقليم الشمالي تناوئ الوحدة بوضوح وتعززت هذه الإجراءات في مصر حين تبيَّن — بعد الانفصال — أن هذه الطبقة تشكِّل خطرًا حقيقيًّا، وأنها تستطيع أن تهدِّد النظام القائم بما لديها من قوة اقتصادية.
كذلك سيكون من الصعب الردُّ على النقد الذي تردَّد على ألسنة الكثيرين، والذي قيل فيه إن هذه السيطرة على مرافق الإنتاج يمكن — في أحوال معينة — أن تنقلب إلى إجراء في غير مصلحة الشعب، إذا كانت السياسة العامة للدولة التي تحدث فيها هذه السيطرة سياسة مغامرات وشراء للأعوان والأنصار في الداخل والخارج. وكلها أمور تحتاج إلى أموال لن تتوافر إذا كان الإنتاج في أيدي أفراد.
ولعل الأمر الذي يدهشني حقًّا سكوت اليساريين عليه، في التجربة الناصرية، هو الانعدام التام للرقابة الشعبية على المال العام؛ فقد تدفقت أموال كثيرة، ابتداء من القصور الملكية المصادرة حتى أموال المجهود الحربي، مرورًا بالحراسات وغيرها في مسارب ليست كلها معروفة، وظهرت حالات عديدة من الثراء غير المشروع لدى أفرادٍ لم يكن إيرادُهم أو دخلهم يسمح لهم بأن يكونوا من الأثرياء. والأهم من ذلك أن الوظائف العامة ذاتها أصبحت، خلال فترة طويلة من هذه التجربة، فرصةً للحصول على مغانم، لا لأداء خدمات عامة ومن المؤكد أن أجهزةً كثيرةً كانت تعرف تفاصيل حالات استغلال النفوذ التي كان معدلها يزداد عامًا بعد عام، ولكنها كانت تصمت أو تتستر عليها، ولا تستغل ما تعرفه من معلومات إلا في الحالات التي تريد فيها أن تفضح شيئًا.
وبوصفي مواطنًا عاديًّا يحسُّ بالقلق على مصير بلاده، وبالحزن على أوضاع الملايين من فقراء شعبه، فإني لا أستطيع أن أتصوَّرَ تجربة اشتراكية يكاد يكون استغلال النفوذ هو القاعدة فيها، والنزاهة هي الشذوذ ولقد كانت تلك بالفعل هي النتيجة المنطقية لانعدام الرقابة الشعبية على المال العام، ولأن معظم المستغلين كانوا يستندون إلى مراكز القوى، بأجيالها المختلفة، ومن ثم كانوا في كثير من الأحيان يرتكبون آثامهم بطريقة شبه علنية، اعتمادًا على متانة «المسند» الذي يرتكزون عليه. وفي شعب فقير مطحون، كالشعب المصري، يصبح مثل هذا الاستغلال جريمةً كان ينبغي أن يُشنقَ مرتكبها علنًا في أوسع الميادين، ومع ذلك فإن التستُّر كان هو القاعدة، وما زالوا يشاركون فيه إلى اليوم بدفاعهم المطلق عن التجربة الناصرية.