الحساب الأخير لعبد الناصر والماركسيين
لا نظن أن هناك يساريًّا يحمل مسئولية والتزام اليسار، أو يعد نفسه واحدًا منه؛ يرى أن هذا هو أنسب الأوقات وأفضلها لبحث قضايا وخلافات وصراعات سُويَت وانتهت من زمن طويل بين أهم فرق اليسار وفصائله.
ولليسار مثله مثل كل العقائد والمذاهب خلافاتُه وصراعاتُه الداخلية، ولكن ما يجمعه — خاصة في أوقات الشدة — أكثر بكثيرٍ مما يفرقه … وليس هناك بين اليساريين أو بين الوطنيين التقدميين مَن يمكن أن يرى أن هذا هو وقت مراجعة الحسابات وتصفيتها بين اليساريين والانتهاء إلى إدانة كل اليسار وأهم أجنحته.
ذلك أن الاشتراكيةَ وهي قضية ومبرر حياة اليسار جميعه، تتعرَّض لحملة ظالمة عاتية … يشنُّها اليمين وقوى الثورة المضادة ويريد تصفية القدر الذي تحقق منها، وإعادة البديل الوحيد عنها … وهو الرأسمالية.
وقد بدأت الحملة في البداية بإثارة عيوب التطبيق الاشتراكي، وأن الاشتراكية حقيقة وسليمة، وأن كلَّ العيب في التطبيق، ثم فُصلت الأخطاء وكُررت وضُخمت حتى اختلط الأصل والفرع.
وتدرجت الحملة إلى أن العلة في جوهرها ليست في التطبيق، ولكن في الاشتراكية نفسها، في الاختبار الذي تم، وأننا استوردناها، وفرضناها، وأقحمناها في غير أرضها وعلى غير شعبها، ومن هنا كان الضرر، وكان محتومًا أن تتعثر وأن تنحرف، وفي ظل الحرب الدائرة بين التقدم والتخلُّف لا يُغتفر لأحد يضم نفسه إلى قوى اليسار أن يقف ليفتعل خلافًا، لا يفيد من إثارته الآن سوى الطرف الآخر المتربص، والمتوحش.
وقد يكون ضروريًّا والتزامًا على كل اليساريين الآن أن يأخذوا مواقعهم، وأن يصححوها، وأن يمارسوا أكبر قدرٍ من النقد الذاتي والنقد المتبادل، ولكن بما يعزِّز تكاملهم وتكافلهم، ومن أجل البحث عن حماية أفضل واشتراكية أعمق، ومن أجل وضع استراتيجية صحيحة لواقع معقد ولمستقبل لا بد من كسبه.
ولا يمكن أن يكون ضربًا من الحكمة، أن يضع «فيلسوف» يساري كل مسوحه ثم يقف فوق منصة ناظرًا من أعلى؛ ليُعلن بكل الثقة أنه لم تكن هناك اشتراكية ولا اشتراكيون، وأن الناصريين لم يكونوا سوى فاشيين أهدروا روح الإنسان المصري.
ولا يمكن أن يكون حرصًا على اليسار وحفاظًا على «أصالته» ومستقبله؛ أن يقف الفيلسوف ليقرِّر تقريرًا قاطعًا أن الجناح الآخر للاشتراكيين؛ وهم «الماركسيون» قد خانوا قضية الثورة والاشتراكية وتخلوا عنها وأنهم باعوا أنفسهم رخيصة حينما وضعوا أيديَهم في أيدي الناصريين، وأنهم خدعوا أنفسهم قبل أن يخدعوا الناس حول الاشتراكية.
وهو يلقي هذه النتائج القاطعة والقاصمة في تجاهلٍ تامٍّ لأوليات العلم بالسياسة وبالواقع القومي … ولبديهيات المواصفات والفروق بين المذاهب والنظم!
حملة «الوعظ» الجديدة
إن ظاهرة جديدة في مصر، هي انتحال مفكرين ليبراليين على أحسن الأحوال لصفة اليسارية «المفرطة» وتقربهم لليسار الماركسي، وتبصيرهم له بأخطائه وخطاياه، وأولها وأخطرها تحالفه مع الناصريين.
وتمتد الظاهرة إلى دوائر كثيرة يمينية وبيروقراطية، لا يفوق حقدها على الاشتراكية «الناصرية» سوى حقدِها على الشيوعية «الماركسية» ولكنها أقامت نفسها فجأة ناقدة وناصحة للماركسيين تنبههم على أنهم ارتكبوا أشدَّ الخطأ بالتحالف مع «العهد الناصري» ذات يوم، ويرتكبون خطأً أكبر بالدفاع عنه اليوم … وأن موقفهم الصحيح هو أن ينضموا إليهم في الهجوم الذي يشنونه لتصفية كل آثار ذلك العهد من أجل الحرية والديموقراطية.
وقد يكون الدكتور زكريا نقيًّا كالبللور طاهرًا كابتسامة الملاك، ولكنه شاء أم أبى يقف مع هؤلاء ويقدِّم لهم أثمن خدمة ممكنة.
كيف؟
دروس الآخرين
إن اليمين في مصر قوةٌ مهلهلة معلقة بلا جذور ولا مستقبل وهي تعيش يومًا بيوم في قلق متصل، وهو قوة مفلسة فكريًّا وسياسيًّا، ليس لديها ما تقدِّمه أو ما تقنع أو تخدع به أحدًا، وقد تجاوزت المشاكل والقضايا كل الحلول إلى اليمين، وتجاوز الوعي العام كل مقومات ودعاوى البورجوازيين والإقطاعيين؛ ولهذا يستورد اليمين المصري في هذه الأيام الوسيلة التي أطال بها اليمين في الغرب حياتَه لبعض الوقت والتي لا يزال يعيش بها هناك وهي التفرقة بين صفوف اليسار، والعمل على استغراقه واستهلاكه في صراعات داخلية تصرفه وتشغله عن الخصم الحقيقي.
وحينما قامت الحركة الاشتراكية الدولية في القرن الماضي في مواجهة الرأسمالية؛ لتحرير كل المستغلين سواء من عمال الغرب أو شعوب الشرق، سخرت الرأسمالية كل الجهود والوسائل لتشتيت صفوفها، ولعبت دورًا كبيرًا في انشقاقِها إلى اشتراكيين «ديموقراطيين» وطنيين وإلى ماركسيين شيوعيين اتُّهموا بالأممية والدكتاتورية، وخيانة الاشتراكية الحقيقية!
وضوعفت الجهود وبلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انتصار الاشتراكية «الماركسية» في مجموعةٍ كبرى من دول العالم، وبعد انتصار الثورة الوطنية في معظم المستعمرات وتطلع شعوبها إلى ثورة اشتراكية جديدة.
ويحرص الغرب كل الحرص على تصدير هذه الاستراتيجية إلى بلاد العالم الثالث، حيث تبلغ المشكلة الاجتماعية ذروتها، وحيث تتطلَّع الشعوب إلى الحل الثوري الاشتراكي.
ومن هنا تتعلَّم قوى الثورة المضادة في العالم الثالث اللعبة بحماس.
وحينما قهر اليساريون في فرنسا خلافاتهم الحقيقية والمصطنعة، وقام ائتلاف وتحالف بين الاشتراكيين والشيوعيين واستطاعوا أن يكسبوا نصف فرنسا في الانتخابات، وكادوا أن يصلوا إلى قمة السلطة، واعتبر هذا أخطر تحدٍّ واجهته البورجوازية الفرنسية، وتجمعت إزاءه كلٌّ من البورجوازية الأطلنطية المؤمنة بالولايات المتحدة والحلف الغربي، والبورجوازية الديجولية «الوطنية» المؤمنة بفرنسا وأوروبا. ذلك أن قيام فرنسا اشتراكية ديموقراطية في ظل حلفٍ يساريٍّ عامٍّ هي بداية ثورة فرنسية اشتراكية جديدة. تسري إلى أوروبا، كما حدث في الثورة الفرنسية الأولى!
والآن، ماذا عن مصر؟ وهل يمكن أن تتكرر القصة؟
التحالف ليس بدعة
إن معظم خلافات اليسار في مصر بيزنطية أكاديمية لا أساس لها، وغير ذات موضوع.
لقد وقف أنجلز يؤبِّن كارل ماركس على قبره يوم وفاته فقال: «إن أعظم اكتشاف اكتشفه كارل ماركس هو أن الإنسان لا بد له أن يأكل ويشرب وينام تحت سقف؛ لكي يفكر ويتفلسف ويتدين.» وهذا هو جوهر الاشتراكية الذي يتفق عليه الناصريون والماركسيون والمؤمنون والماديون أو الذي يجب أن يتفقوا عليه في بلد ٩٩٪ من أهله يحلمون بهذا فقط.
وأشد ما يثير جزع اليمين في مصر هو وحدة قوى اليسار حول هذه القضية، وأن تتمخَّض عن مزيد من الأفكار والحلول لها.
ولا شيء يثير قلق وفزع اليمين مثل أن يتفق الناصريون بشعبيتهم، الناصريون فكر، وتطبيقات الماركسية في إطارهم القومي، وأن ينضم الماركسيون وينصهروا في المجرى العام للثورة المصرية وفي كل التراث المصري والعربي.
ولهذا يسعى اليمين المصري سعيًا محمومًا للفرقة بينهما.
وبينما يلعنون الناصرية والناصريين على كل المنابر يستديرون ليطبعوا قبلة الموت على وجنات الماركسية، وأملهم هو أن يتعاركَ الماركسيون معهم في تصفية الناصرية، ثم يستديروا فيما بعدُ لتصفيتهم، أو لإبقائهم قوة سياسية نظرية معزولة في توازن تحكمه القوى البورجوازية بإحكام!
على أن الخلاف والصراع بين الناصرية وبين الماركسية، الذي تريد قوى اليمين أن تشعلَه مرة أخرى، لم يكن خرقًا لقوانين التاريخ؛ لأن الصراع بين المذاهب والعقائد والأديان وفيما بينها هو تاريخ الحياة الفكرية والروحية للإنسان، وإلى جوار الصراعات المفتعلة هناك صراعات حقيقية تثور لوقتٍ طويل أو قصيرٍ، وتنتهي في أحيان كثيرةٍ إلى تفاعلات ومصالحات تُثري وتخصب التفكير والتطبيق.
ومهما يكن الصراع الذي ثار ذات يوم بين عبد الناصر والماركسيين، إلا أنه أقل حدةً وعنفًا من الصراع داخل حزب شيوعي واحد أو حزب اشتراكي واحد.
وقد كان طبيعيًّا وحتميًّا مثل أي صراعٍ بين ثوار يختلفون حول الطرق ويتفقون حول الأهداف، أن ينتهي إلى تكامل وتعايش، وحينما حمل أحد أقطاب اليسار الماركسي إلى عبد الناصر قرار الماركسيين بالاندماج في الثورة وحل الحزب الشيوعي المصري قال له عبد الناصر على الفور: «الآن نستطيع أن نبنيَ الحزبَ الثوريَّ الذي يضمُّنا جميعًا.»
والصراع بين قوى الثورة وفرقها المختلفة يحل عادة حلًّا متوقفًا على ميزان القوى، وعلى قدرة وعمق جذور كل فرقة من اليسار. وإذا كان الماركسيون المصريون قد انتهوا إلى الاندماج الكامل في المجرى العام للثورة المصرية، فإن هذا لم يكن استسلامًا، أو استيعابًا ولكن كان تقديرًا صحيحًا لموازين القوى ورؤية حكيمة لطريق المستقبل.
والماركسيون المصريون في صفوف الثورة لم يكونوا ذيلًا، ولكن رافدًا هامًّا أضاف إلى قوتها وأصالتها، وأثر فيها بقدر ما تأثر بها، وسد ثغرة كانت قائمة في الوحدة الوطنية والفكرية لمصر.
وليس هذا على الإطلاق بالشيء الجديد، وإنما سبقته في تاريخ الثورات سوابق.
وقد كان أول نموذج للتعاون بين الوطنيين وبين الماركسيين في الشرق هو ما تم في الصين في بداية الثورة.
كانت الثورة الصينية يومئذ بقيادة الزعيم الوطني «الثوري» صن يات صن، وكان أول زعيم آسيوي أدرك مغزى الثورة الاشتراكية في روسيا بالنسبة لثورة التحرُّر الوطني الآسيوية، وقرر التحالف معها ضد الاستعمار الغربي الذي كان يستعبد الصين.
وقد كون «صن يات صن» حزب الكومنتانج الوطني، وقرَّر الشيوعيون الصينيون الذين تألَّف حزبهم في العشرينيات؛ أن ينضموا إلى ذلك الحزب الوطني كأفراد وأعضاء عاديين، وبغير عضوية مزدوجة؛ أي أن يتخلوا تمامًا عن عضوية الحزب الشيوعي.
وربما لو عاش «صن يات صن» وقتًا أطول، ولم ينتكس تشيانج كاي شيك بقضية الثورة، لاستمر هذا التحالف ولأخذت الصين طريقًا آخر نحو نفس الأهداف!
والعلاقة بين الماركسيين وبين الوطنيين تختلف من بلدٍ إلى آخر وفق الواقع والتراث وعلاقات القوى، ولكن تحكمها كلها قوانين ومبادئ ماركسية عامة، تلزم الماركسيين بأن يقفوا وقفةً كاملةً مع أية ثورة وطنية تُقاوم الاستعمار، حتى لو كانت قيادتُها وبرامجُها «بورجوازية».
وقد قال ستالين في دراسة مشهورة له عام ١٩٢٠م «إن أمير أفغانستان الإقطاعي الذي يقاوم البريطانيين قوة تقدمية ونؤيدها كماركسيين، والثورة المصرية التي تقودها البورجوازية (ثورة ١٩١٩م) ثورة تقدمية نؤيدها كماركسيين، لكن حزب العمال البريطاني الذي يقمع الحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا قوة رجعية نقاومها مهما رفعت من لافتات عمالية واشتراكية.»
وقد ينكر الدكتور فؤاد زكريا على عبد الناصر كل فضل أو مزية، ولكن الآسيويين والأفريقيين قبل العرب والمصريين يمجِّدونه ويكرمونه كأحد أبطال العصر في الحرب ضد الاستعمار.
وكان عليهم أن يتقبلوا قيادته ويسيروا خلفها خلال معاركه، ولم يكن ذلك تبعيةً أو ذيليةً ولكن ماركسية صحيحة!
ولهذا فإن من السذاجة وقصور المعرفة بالثورة وبالماركسية أن يقال إن تصالح الثورة والماركسيين في مصر كان صفقة أو خدعة أملتها ظروف دولية.
ولنسأل أنفسنا، والدكتور زكريا: ما هو الموقف النموذجي الذي كان على الماركسيين أن يأخذوه من زعيم مثل عبد الناصر كانت الغالبية العظمى من الجماهير المصرية والعربية تؤيده كل التأييد، وكان الآسيويون والأفريقيون يرونه بطلًا من أبطال التحرير في هذا العصر.
هل يرى الدكتور فؤاد زكريا أنه كان على الماركسيين المصريين أن يعلنوا المقاومة؟
خليط من النقد
لقد كانت المبادئ الماركسية تقضي بأن ينتهي التحالف بين الماركسيين وبين الوطنيين الثوريين «البورجوازيين» بعد أن يتحقَّق التحرير، حينما يتسلم الوطنيون السلطة ويقيمون دولة برجوازية، وحينئذٍ تبدأ بالنسبة للماركسيين معركة الاشتراكية والتحرُّر الاجتماعي، ولكن عبد الناصر قدَّم نموذجًا في الزعامة الوطنية الثورية أدَّى إلى تغيُّرٍ في الفكر والاستراتيجية الماركسية في كل العالم الثالث فقد اختار الاشتراكية، وبعد التحرر الوطني رفض الرأسمالية.
وكانت ظاهرة جديدة استغرقت الكثير من البحث والجدل في الحركة الشيوعية العالمية والمعسكر الاشتراكي، وانتهت إلى الخط السياسي الجديد الذي كان عبد الناصر بدايته. وهو يقضي بأنه إذا ما اختار القيادات الوطنية الثورية في البلاد المتحرِّرة التطور نحو الاشتراكية فإن على الماركسيين أن يكملوا المسيرة والتحالف معها وتحت قيادتها، نحو بناء المجتمع الاشتراكي الجديد، ويكون هذا التحالف وفق ظروف وموازين القوى في كل بلد.
وقد كان واجبًا على الدكتور قبل أن يدين الماركسيين أن يصحِّح معرفته بالماركسية بعض الشيء، وأن يبحث بإنصاف هل كانت الناصرية فاشية سحقت مصر والمصريين، أم اشتراكية حرَّرت جماهير مصر المسحوقة؟
كشف حساب عبد الناصر
يقاس نقد الثورة — إذا كان علميًّا وموضوعيًّا ونزيهًا — بإنجاز واحد: هو ما حققتْه للقضية المصرية. هي قضية واضحة راسخة محورها وجوهرها تحرير مصر، وهذا هو الحلم التاريخي لكل المصريين، والذي ثار وانتفض وناضل وجاهد لأجله الملايين، والذي سجن وعذب ونفي واستشهد في سبيله عشرات الألوف منهم جيلًا بعد جيل، أن تسترد مصر استقلالها وسيادتَها كاملة، وتأمن ألَّا يسلبها أحد ثانية.
ولا ينكر أحد — ولا نظن الدكتور ينكر — أن عبد الناصر قد حقق المهمة، وكانت أول مهمة للثورة كان القائد الذي يدرك أبعاد العصر بقدر ما يدرك عناصر قضية مصر، وكان القيادة الجديدة التي تحتاجها البلاد بعدما تهاوت وفشلت كل القيادات السابقة وتجاوزتها الأحداث.
وقد أدركت الثورة أن مصر المستقلة التي تصر على استقلالها وسيادتها كاملة، والتي ترفض أي مساس بهما وأي تبعية للشرق أو الغرب، لا تستطيع أن تعيش وحدها، ولا تستطيع أن تأمنَ على استقلالها وسط القوى العظمى والأعظم ووسط صراعات وتيارات العصر المتلاطمة، إذا عاشت جزيرة معزولة وسط محيط يلتفُّ حولها من المستعمرات والمحميات ومناطق النفوذ، وإنه لا بد أن يكون هناك مجال حرية حيوي لأبعد مدى يحيط بها، ويؤمن استقلالها.
وكان الالتحام بحركة التحرر الوطني العربية وثورة العرب هو أول الخطوات.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وفي اليوم التالي لنهايتها مباشرة، انفجرت الانتفاضات والثورات العربية وتتابعت من المغرب والمشرق، من الجزائر إلى سوريا ولبنان والعراق، وتداعت الفواصل والموانع التي أُقيمت لعزل العرب عن بعضهم البعض، واندلعت شرارات ونذر الوحدة القومية بين شعوب أمة واحدة عربية، تختلف كل الاختلاف عن الوحدة «الرسمية» التي قامت بقيام الجامعة العربية.
وكانت كل الثورات والانتفاضات تبحث كل منها عن الأخرى، وترى فيها امتدادًا وسندًا متبادلًا، وكانت كلها تبحث عن محور أساسي تلتف حوله، وطليعة وقيادة تاريخية تتقدمها، وهنا قدمت ثورة ٢٣ يوليو كل ما كان مفتقدًا.
ومنذ نهاية الحرب انتفضت شعوب آسيا وملايينها ضد الاستعمار والإمبراطوريات الأوروبية القديمة، والتي اكتسحها اليابانيون خلال الحرب، ولكن عادوا بعد استسلام اليابان يريدون استئناف استعمارها كأن شيئًا لم يحدث، وتتالت الثورات عنيفة عارمة ضد البريطانيين والفرنسيين والهولنديين وامتدت الثورة الآسيوية إلى أفريقيا وإلى أمريكا اللاتينية، وهي القارات الثلاث التي وقعت عليها كل وطأة الاستعمار واستنزافه … والتي قام بها «عالم ثالث» بين العالم الغربي الاستعماري والعالم الشرقي الاشتراكي.
وبدأت الدول المتحرِّرة والثائرة تبحث عن تكافلٍ جماعيٍّ فيما بينها، يواجه الكتلتين ويحمي استقلال من استقلوا، ويقف مع كفاح من لا زالوا يحاربون من أجل حريتهم؛ فالحرية واحدة لا تتجزَّأ، والاستعمار في أي مكان تهديد للاستقلال في كل مكان.
وهكذا قامت مجموعة باندونج وجبهة الحياد وعدم الانحياز، وكانت مصر أحد أعمدتها الرئيسية، والجسر المتين الذي يربط الآسيويين بالعرب وبالأفريقيين، والقيادة الفتية المتحدية في المنطقة الحاسمة.
وبعد قيام مجموعة باندونج ووضوح أهدافها، وتأكيد قوتها وقدرتها غيرت الكتلة الشرقية الاشتراكية موقفها، ولم يعد هناك اختياران فقط أمام الدول التي تحرَّرت، اعترفت الكتلة الاشتراكية بدولتيها الرئيسيتين (الصين والاتحاد السوفيتي) بالطريق الثالث، وبحق كل دولة لا تنحاز لأي من الكتلتين وبأن هذا هو تأكيد للاستقلال وحق تقرير المصير، ومساهمة وضمانة لتحقيق السلام، بينما أصرَّت الكتلة الغربية على رفضها للحياد وعدم الانحياز، واعتباره قصور نظر بل سياسة «لا أخلاقية».
وكان دور مصر في تغيير نظرة وسياسة الكتلة الاشتراكية رئيسيًّا وحاسمًا، فإن صدق الثورة، وقيادتها أقنع الاشتراكيين أن عدم الانحياز ليس انتهازية وليس مناورة «ركوب سرجين أو اللعب بحبلين»، ولكنه تشبث بالاستقلال، وتمسك بالإرادة، ولكل بلد وشعب طريقه وإبداعه الخاص.
وبعد اعتراف الكتلة الاشتراكية بالحياد وعدم الانحياز أصبح التناقض بينها وبين العالم الثالث ثانويًّا، واختلافًا على التفاصيل والطرق المؤدية إلى نفس الأهداف؛ ولهذا توثقت العلاقة بين المعسكر الاشتراكي وبين هذه الدول، واستطاعت أن تكسر الحصار التكنولوجي والاستراتيجي الذي فرضه الغرب على العالم الثالث حتى لا يتصنَّع أو يتسلح.
وأقامت مصر وثورتها أوثق علاقة بهذا المعسكر؛ وذلك لشدة وطأة التحديات ولعمق وصدق التحولات والتغيرات التي أرادتها الثورة، واستطاعت مصر بالسند العربي والسند الآسيوي الأفريقي، والسند السوفيتي أن تبني مكانتَها الدوليةَ وأن تحقق الأهداف الرئيسية للثورة.
لكن الرجعية ندَّدت ويشتد كل يوم هذا التنديد، بسياسة الثورة الخارجية في تلك الفترة «الناصرية» فهي ترى — كما يرى الدكتور فؤاد زكريا — أنها كانت توسعًا ومغامرة تفوق كل طاقات مصر وإمكانياتها.
إن السياسة الخارجية «الناصرية» لم تكن قط مغامرة أو توسعًا، ولكن تحقيقًا للذاتية والوجود المصري على خريطة العالم بعد غياب طويل، ومصر ليست مجرد حقيقة جغرافية كما كان يقول البريطانيون، ولكنها شعب وحضارة ودولة ذات دور وتاريخ لا مناص أن تقوم به في العصر الحديث، بعد استعادة استقلالها وشخصيتها، تمامًا كما قامت به في العصر القديم وعلى مدى التاريخ.
والعالم المعاصر متشابك متكامل وليست هناك قضية أو مشكلة منفصلة عن باقي القضايا … ولا تستطيع دولة ولا يستطيع شعبٌ يريد أن يثبت جدارته وأن يؤكد ذاتيته أن يدير ظهره لصراعات ومتغيرات العالم ويتصور بهذا أنه يحتمي منها، ولا بد للبلد الذي ينشد حماية حقيقية لسيادته أن يواجهَ العصر وأن يحدِّد مبادئَه، كما يحدِّد مواقفه ومصالحه، وبذلك لا يتجاوزه التاريخ أو يجرفه.
وقد أصبحت مصر «الناصرية» بسياستها الخارجية وبدورها العربي، ودورها الآسيوي الأفريقي، وعلاقاتها ومحالفاتها مع قوى الثورة والوطنية والاشتراكية في العالم، قوة لا يملك أحد أن يتجاهلَها ولا أن يمسَّ حرماتها.
وإذا كانت قد حدثت أخطاءٌ في السياسة الخارجية العربية أو الدولية، فإنها لم تقضِ علينا ولم تكسرنا، ولكنها عركتنا.
وقد كانت مصر المستقلة تخرج إلى العالم وتمارس السياسة العربية والدولية لأول مرة، وفي عالم معقد غير متكافئ وكان نجاحها باهرًا، لا يقاس في شيء بالأخطاء التكتيكية التي حدثت.
قام عبد الناصر بثورةٍ وطنيةٍ هدفها الأول هو الاستقلال، وكان يكفيه دورًا وفخرًا أنه حققه.
ولكنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن القضية الوطنية لا تنفصل عن قضية أخرى لا تقل أهمية وهي القضية الاجتماعية، وأنهما وجهان لقضية واحدة، وأن تحرير مصر من الاستعمار لا بد أن يعنيَ تحرُّرها من جوهر الاستعمار وأساسه وهو الاستغلال.
والاستعمار لا يسود الأرض ولكن يستغل ويستنزف الشعب، والحرية لهذا لا تعني فقط استعادة السيادة، ولكن بناء مجتمع جديد يسترد فيه كل مصري وقعت عليه الوطأة الاستعمارية حقوقَه كاملة.
وقد تدرجت القضية الاجتماعية من تصفية الإقطاع ورأس المال الكبير والاحتكاريين حتى تمصير الاقتصاد ورفع كل سيطرة لرأس المال الأجنبي، حتى التأميم وإعلان الاشتراكية ذلك أن تمصير الاقتصاد لا يعني تحريره؛ لأن طبقة جديدة مستغلة سوف تقوم مكان الأجنبي. إنما يجب أن تنتقل الثروة إلى مالكها الشرعي؛ وهو الشعب.
ومنذ إعلان الاشتراكية أصبح تحقيقها هو جوهر كل السياسات الداخلية والخارجية، ولا تقاس مشاق التحرر الوطني في شيء بمصاعب التحمُّل الاجتماعي، خاصةً في مجتمع مثل المجتمع المصري؛ يزخر بالتناقضات ويحمل رواسب استعمارية إقطاعية رأسمالية عمرها آلاف ومئات الأعوام!
كشف حساب الأخطاء
إن العقبات والصدمات محتومةٌ دائمًا في الانتقال من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ في ظل واقع شديد التعقيد، وأول من يجب أن يميِّزها ويراها على حقيقتها هو الفيلسوف المفكر «اليساري».
ولكن الدكتور فؤاد زكريا ينفي ذلك تمامًا، ويؤكد أنه لم تقم أي اشتراكية، وأن ما تم لم يكن غير فاشية أهدرت مصر والمصريين، وكان خليقًا بالماركسيين وهم الاشتراكيون الحقيقيون أن يكشفوها ويفضحوها، لا أن يباركوها ويذوبوا في تيارها بكل المآسي والفواجع التي حدثت.
ولم يحجم الدكتور — خلال تجريده للاشتراكية الناصرية من كل صفة أو مزية — عن الواقع في سلسلة من المتناقضات تبلغ حد العبث.
فهو يقرُّ مثلًا أننا كنا نعيش قبل الثورة في ظل «إقطاع من القرون الوسطى ورأسمالية من القرن التاسع عشر» ويقر أن الثورة قد أخرجتْنا وخلصتْنا منهما، وأن هناك «من يريد أن يعيدَ عقارب الساعة إلى الوراء»، أي بعد أن دفعتها الثورة إلى الأمام، ولا شك أن الخروج من مقبرة القرون الوسطى وفظاعة القرن التاسع عشر كان يكفي الثورة فخرًا، ولكن الدكتور يعود ليكرِّر ويؤكِّد أن الثورة سحقت المصريين، ولم تفعل سوى أن أضافت شريحة إلى المستغلين والمستبدين!
ولكي يدلل الدكتور على صحة دعواه فهو يقول إننا حتى الآن لا زلنا نستعمل الألقاب … ولو كانت الثورة اشتراكية حقًّا، لكانت قد استطاعت أن تمحو الألقاب محوًا من ذاكرة الشعب وحياته اليومية … وهو دليل فريد بالطبع.
فالدكتور لا شك عاش ولا زال يذكر العصر الذي كان المجتمع فيه ملكيًّا، وكان على قمته ملك يلقب بحضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله، ثم يليه أمراء يلقب بعضهم بحضرة صاحب السمو الملكي ويلقب الآخرون بصاحب السمو الملكي فقط، ثم يتلوهم نبلاء يلقَّب بعضهم بحضرة صاحب المجد النبيل، ويلقب بعضهم بالنبيل فقط بلا مجد!
ثم يأتي بعدهم باشوات بعضهم لا بد أن يلقَّب بحضرة صاحب المقام الرفيع، وبعضهم حضرة صاحب السعادة، وبعضهم صاحب السعادة فقط، وآخرون بحكم مناصبهم صاحب المعالي … وتنتهي الألقاب بالبكوات وبعضهم من الدرجة الأولى، ويلقَّب بحضرة صاحب العزة، والآخرون درجة ثانية (صاحب العزة فقط) ثم محيط واسع تحت كل هؤلاء من الأفندية، ويذكر الدكتور أيضًا أنه كان هناك مجتمعٌ آخر من الأجانب بألقابِهم الخاصة، وتتراوح بين اللورد والسير والكونت والبارون وأحيانًا ممن يجمع بين السؤدد والمجد وبين كلا النوعين، وبغير ألقاب، أو بألقاب منتحلة ومصطنعة، كانت هناك فئات فوق فئات وطبقات فوق طبقات، ومن الأعيان والمشايخ أصحاب الوجاهة والفضيلة والحسب والنسب، ثم جيش من النفاية الأوروبية وجيش آخر من النفاية العثمانية، لا هم مصريون ولا عرب ولا خوجات، ويتعالون على القاع الذي يرسف فيه الملايين من المصريين المسحوقين والمجرَّدين من كل شيء.
فإذا لم يبقَ من هذا المجتمع بعد عشرين عامًا من الثورة سوى لقب «بك» يستعمل مجاملة ويموت تدريجيًّا، أو بعض مخلفات ترى في ألقابها كل حياتها، فهل هذه هي الخطيئة الكبرى التي يُستدلُّ منها على فَشل الاشتراكية في مصر؟
إن العادات والعبودية تموت موتًا بطيئًا، أشد بطئًا مما يقدر الثوار … وذلك كما لا بد وقد درس الدكتور في علم الاجتماع!
على أن الدكتور لا يكتفي بهذا، إنما يقدِّم دليلًا قاطعًا آخر على فشل الاشتراكية: وهو الاستقبال الذي لقيه نيكسون في مصر.
وهنا يخرج الدكتور بنتيجة واضحة ومبتكرة، وهي أن استقبال نيكسون كان استفتاء شعبيًّا على رفض الشعب للاشتراكية والثورة «الناصرية» عامة.
ولا ينتهي الدكتور إلى الوجه الآخر للنتيجة، وهو أنه إذا كان الشعب قد صوت باستقبال نيكسون ضد الاشتراكية فلا بد أن يكون قد أعلن ثقته وإيمانه بالرأسمالية والإمبريالية الأمريكية.
وحينئذٍ لا بد أن نعيدَ النظر في كل تاريخنا الحديث، القريب والبعيد، ويصبح لا معنى لأن نترك قواتنا المسلحة في مواجهة مع هذه الإمبريالية في رمال الصحراء، ويصبح علينا أن نبحث عن حقيقة الشعب «الآخر» الذي عاش في معركةٍ متصلةٍ مستميتةٍ طوال عشرين عامًا — ومنذ الثورة حتى الآن — ضد هذه الإمبريالية والرأسمالية!
إن من المؤسف حقًّا أن أول من قام بهذه الدعوى، وسبق الدكتور فؤاد زكريا إليها، كاتب مبتذل من كتَّاب إحدى المجلات الأسبوعية، وقف على أبواب كل الحكام، وأثبت ومجَّد كل شيء قالوه … وقد نقله عنه وتبعه رتل من الكتَّاب الساقطين، وجعلوا منه حجةً ثابتةً في صحبة اليمين.
وإذا كان الدكتور الفيلسوف قد ارتضى أن ينقلَ هذه الفرية ويرفعها إلى مصافِّ الحجج الفكرية على فساد الاشتراكية وفشلها، فإننا نسأله: وفق أي منهج وأي منطق؟ ولا بد أن يقدِّم لنا الدكتور بجرأته وموضوعيته تحليلًا كاملًا لظاهرة استقبال نيكسون، وكيف تنتهي إلى هذه النتيجة!
على أن الأجدى من هذا أن نعودَ إلى موضوعنا.
إن عبد الناصر لم يقل ولا أحد من الناصريين الماركسيين أن الناصرية قد أقامت المجتمع الاشتراكي النموذجي في مصر وقدمت الحلول المثالية لكل المشاكل، أو حقَّقت كل الآمال التي عقدت عليها، ولكن ما يؤيدونه ويؤكدونه هو أن الاشتراكيةَ هي الطريقُ الصحيح والوحيد، وأن الاشتراكيةَ طريقٌ عسير وكفاحٌ متصل من أجل تعميق الفكر وتصحيح التطبيق المستمر.
وما أيَّدَه الناصريون والماركسيون وكل الوطنيين المستفيدين، ولا بد أن يؤيدوه دائمًا، هو أن الثورةَ حينما كان عليها أن تختار اختارت الاشتراكية، وأعلنت في ميثاق وطني عام بينها وبين الشعب أن الاشتراكيةَ التي تختارها هي الاشتراكية العلمية، لا اشتراكية شكلية أو مجرد واجهة وشعارات، وإنما اشتراكية تُؤمِّم المواقع الرئيسية للثروة، وتعترف بالصراع الطبقي، وتُبدع طريقًا خلَّاقًا وسليمًا لمواجهته.
وقد قامت الاشتراكية المصرية في مجتمع معقد، هو أقدم المجتمعات الطبقية في التاريخ، وكياناته وعلاقاته ورواسبه الطبقية قديمة قدم الصراع الإنساني كله.
وقامت الاشتراكية المصرية في قلب منطقة تستميت الرأسمالية العالية لكي تبقى في فلكها، من أجل البترول والاستراتيجية الكونية، وتفعل أي شيء في سبيل ألَّا تقوم أو تنجحَ اشتراكية فيها. وخاصة في أهم دولها.
وقد كانت حرب ٦٧، ذروة محاولات الرأسمالية العالمية لضرب الاشتراكية في مصر، وقد يكون تكرارًا مملًّا أن نعدِّد ما حقَّقَتْه الاشتراكية: مساحة الأرض التي وزعت والأرض التي استصلحت، وما غيرته في حياة الريف وحياة الفلاح، أو عدد المصانع التي أقيمت وما فعلته في حياة العمال، أو عدد المدارس والمعاهد والكليات وما أثرت به في حياة مصر الثقافية، أو عدد القوات المسلحة التي تكوَّنت وما منحته من ثقة وأمن … هذه إحصاءاتٌ يعرفها الجميع، ولا بد كان الدكتور أولَ من يجب أن يراجعها قبل أن يعلنَ بيانَه وتقييمَه.
لن نكرر إحصاءاتٍ معروفة، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكرَ على الثورة أنها ألقَت بذور الاشتراكية في مصر، بطول مصر وعرضها، في القرية والمدينة والصحراء، وأعلنت حتمية الطريق الاشتراكي وقدرة الاشتراكية على حل المشاكل وأن لا حل سواها، وتركت لهذه البذور أن تنموَ في أخصب وأصلح تربة للاشتراكية.
ولا أحد يُنكر أن الاشتراكيَّة قد دكَّت المجتمع القديم الظالم من أسسِه، وبددت الخرافة التي كانت تجعل منه المجتمع الوحيد والأبدي والأزلي، وأكدت في نفوس الملايين أن المجتمع الظالم ليس هو طبيعة الأشياء، وأن من الممكن استبدالَه بمجتمع كفاية وعدل.
لقد قدَّمت هذه الاشتراكية «الأمل» حتى إنها لم تكن قد قدَّمت الفائدة الملموسة كاملة. وعمر الاشتراكية في مصر — على أي حال — لا يزيد عن ١٤ عامًا منذ إعلان القوانين الاشتراكية، وربما كان عمرها الصحيح ست سنوات حتى حرب ٦٧ التي كانت أقسى امتحانٍ لها، والتي وضعت مصر أمام تحدٍّ قلب كل الخطط والمشاريع.
ومن حق الدكتور أن ينكر أنه كانت هناك اشتراكية، أو أنها حققت شيئًا، ولكن أفضل الاقتصاديين في مصر — وطنيين أو اشتراكيين أو ماركسيين — يعترفون بأن القطاع العامَّ الذي أقامته الاشتراكية هو الذي مكَّن مصر من الصمود اقتصاديًّا خلال المحنة الكبيرة.
ويعترف أفضل الاقتصاديين من كل الاتجاهات «الوطنية» أن ما حققتْه مصر من تنميةٍ في ظل الاشتراكية هو أضخم تنميةٍ حققتْها في تاريخها الحديث كله، أي منذ تفتَّحت على الحضارة المعاصرة أيام محمد علي.
وإذا كان الدكتور زكريا يمجد العبور، ويرى فيه بعث الإنسان المصري الذي سحقتْه «التجربة الناصرية» فإن العسكريين الذين قادوا هذا العبور والذين يعرفون أسراره بأفضل مما يعرف، أعلنوا أنه لولا القطاع العام الذي أقامته الاشتراكية لما أمكن العبور والانتصار!
ولا شك أن الدكتور فؤاد زكريا لم يزر قط قرية من قرى الإصلاح الزراعي، ولم يشهد ذات يوم اجتماعًا في قصر الأمير كمال حسين في نجع حمادي، بين الفلاحين الذين وزعت عليهم أرضه، وبين أعضاء مجلس الشعب ورجال الإصلاح الزراعي، وهو ما لم يحلم به فلاح في يوم من الأيام.
ولا شك أن الدكتور لم يزر قط مجمع الألمونيوم في نجع حمادي أيضًا؛ ليرى كيف ينتقل مجتمع من الإقطاع أو ما قبله إلى عصر الصناعة الاشتراكية رأسًا، وبالطبع لم يزُر السد العالي أو مصنع السكر في إدفو؛ أشد مناطق مصر فقرًا فيما مضى.
ولا شك أن الدكتور لم يقرأْ ما ينشره طلبته وطلبة الجامعة التي يقوم بالتدريس فيها على جدران كلياتهم، وهم الجيل الذي أنجبته الثورة، والذي يتدفَّق حيويةً وحرارةً وإيجابيةً حتى في سخطه ورفضه وتمرده، إنه بالتأكيد لم تسحقه الثورة كما يؤكد! وحينما كان الدكتور طالبًا في الجامعة كانت هناك جامعتان في القاهرة والإسكندرية أما الآن فتنتشر الجامعات والكليات في أرجاء مصر؛ في أسوان وأسيوط والمنيا، وفي طنطا والمنصورة والزقازيق … والنظام الذي يسحق الشعب ويضع هذا من أهدافه لا يفتح هذا العدد من المدارس والجامعات.
وقد كان واجبًا علميًّا على الدكتور قبل أن يُلقي بآرائه القاطعة الجازمة؛ أن يطوفَ المواقع وأن يرى الحياة على الطبيعة، وأن يمسحَ التحولات بدقَّةٍ، وأن يراجع الأرقام والإحصاءات.
وإلا فما هي المراجع التي استنبط منها أن كل ما فعلتْه الثورةُ هو إضافة ٤٫٥٪ إلى الطبقات القديمة، وكيف سمح له ضميرُه العلميُّ أن يلقي بهذه الحقيقة متحديًا عدد العمال وعدد الفلاحين وعدد الطلبة وكل التحولات التي حدثت في المجتمع؟
حكاية الطبقة الجديدة
إن الاتهام الوحيد الذي توجهه الطبقات المخلوعة ضد الاشتراكية في كل مكان هو هذا الاتهام؛ أنها خلعت الطبقات القديمة لتحلَّ محلها طبقة جديدة، أو أنها أضافَتْ شرائح أخرى إليها من الثوار الذين تحولوا إلى بورجوازيين.
وقد وجه نفس الاتهام إلى كل الثورات الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي أو في العالم الثالث، بلا استثناء.
إن الطبقة الجديدة حقيقة، ولعنة، وهي تُصاحب الاشتراكية دائمًا، وفي مراحل منها، وهي مشكلة واجهَت الاتحاد السوفيتي والصين ويوغوسلافيا، كما تواجه كوبا أو مصر أو غينيا، فاستيلاء الثوار على السلطة يغري بعضهم بسوء استغلالها … وتعمل الطبقات القديمة بكل ما تستطيع على اجتذاب وإفساد أكبر قدر من الثوار لتثبيت دعائمها ولتمد في أجلها.
ولكن الطبقة الجديدة، ليست «طبقة» بل هي مجرد فئات أو شرائح صغيرة، وهي تنتهي دائمًا باستمرار الثورة؛ لأن الاشتراكية تنجب دائمًا القوى التي تصحِّح أخطاءها وعثراتها. والثورة الدائمة هي المصل المضاد للطبقة الجديدة أو الوسيلة لحصارها وتصفيتها. والاشتراكية لا تتحقق سهلة يسيرة … دائمًا هي صراع جدلي يستمر طويلًا بين المجتمع القديم والجديد.
وربما يستطيع الدكتور أن يعدِّد مائة عيب وعيبًا للاشتراكية، ويوافقه الجميع عليها ولكنها تبقى جميعًا تفاصيل، المهم هو أن الإقطاع قد ضُرب، وأن مصر الصناعية قامت، وأن التعليم صار حقًّا، وحقيقة، وأن جيلًا جديدًا قد نشأ قادرًا على مواصلة الطريق، وتحقيق ما لم يتحقق من الحلم العريض.
وحكاية الديموقراطية
لأنه لم تكن هناك اشتراكية، فلم تكن هناك ديموقراطية والعكس أيضًا!
هكذا لخص الدكتور فؤاد زكريا «التجربة الناصرية» … كل شيء كان زائفًا كاذبًا.
وقضية الديموقراطية هي أهم قضايا العصر، ولكنها أيضًا ذريعةٌ، وباسمها تُرتكب الجرائم والخطايا.
فالديموقراطية مثلًا هي الشعار الذي ترفعه الرأسمالية والإمبريالية الجديدة في حربها ضد الثورة الوطنية والاجتماعية في العالم الثالث، وضد الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي، فهي تزعم أن معركة العصر هي معركة بين الديموقراطية وبين الشمولية، وليست بين الرأسمالية الاستعمارية وبين الحرية والاشتراكية.
والديموقراطية التي تعترف بها وتتخذها نموذجًا يُحتذى للعالم الثالث هي ديموقراطية فورموزا، في ظل المرحوم تشيانج كاي شيك، أو ديموقراطية فيتنام الجنوبية في ظل «ثيو» أو ديموقراطية كوريا الجنوبية، وأخيرًا وليس آخرًا ديموقراطية إسرائيل!
ولكن النظم الأخرى — عبد الناصر في مصر أو سيكو توري في غينيا أو سوكارنو في إندونيسيا — هي نظم ديكتاتورية شمولية شيوعية … لا بد من مقاومتها لأجل الديموقراطية.
إن الديموقراطية في البلاد التي عانت الاستعمار والاستغلال الأجنبي لا بد أن تبدأ أولًا بالديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية وتصفية العهد القديم بكل كياناته وعلاقاته.
لا يمكن أن تقوم ديموقراطية في ظل الأمية أو المجاعة أو المرض أو البطالة … وأغلبية سحقها الاستبداد والاستغلال.
ولم يكن هدم المجتمع القديم ليتم بالحوار والإقناع، بل كان لا بد من العنف والقهر لطبقات قهرت وأذلت الشعب طويلًا.
وكان لا مناص — لسوء الحظ — أن يمتدَّ القهر ويتجاوزَ حدودًا في التطبيق، ولكن مهما كانت الأخطاء التي حدثت فإنها لا تبرِّر اتخاذَ اليمين لها ذريعة للتنديد بالثورة.
إن تجاوز «الشرعية» حدث في كل الثورات بلا استثناء، في الشرق والغرب، والثورة ليست حفلةً وإنما صراع قوي هائل.
ثم إن اليمين لا حقَّ له في الحديث عن القهر والتعذيب فقد حكم مصر طويلًا، وتمخض حكمه عن ٩٩٪ من الشعب في أدنى درجات الإنسانية، وليس هناك قهر أو تعذيب أشد من هذا.
إن تجاوزات القانون والشرعية تعني البحث عن أفضل شكل لديموقراطية اشتراكية، ولا تعني قط إعادة الديموقراطية «الرأسمالية»، وما حدث كان «حالات» واستثناءات ومن الافتراء الاستناد إليها للقول بأن الناصرية قد سحقت الشعب المصري!
وأخيرًا لا نظن أننا في حاجة إلى أن نذكر الدكتور الفيلسوف بعشراتٍ من صفحاته التي كتبها أيام عبد الناصر، وهو رئيس لتحرير مجلة الفكر المعاصر، فقد نشرت روز اليوسف بعضها، ويستطيع أن يعود إليها.
أحب أن أضيف فقط، قوله في إحدى هذه الصفحات:
ولا نظن أن الوقيعة بين اليساريين، أو وصم «التجربة الناصرية» اليوم؛ هي أفضل مواجهة لذلك الارتداد.
أطال الله في عمرنا، حتى نقرأ ما سيكتب الدكتور — إن شاء الله — عام ١٩٩٥م.