المقال الثاني
كان العذر الذي يقدَّم لهذا التسيُّب في الداخل، ولهذا التراخي في تطبيق المعايير الاشتراكية الصحيحة على الحياة الاقتصادية للبلاد؛ عذرًا مزدوجًا: فقد كانت مصر تمرُّ بمرحلةٍ تريد فيها أن تثبت وجودَها خارجيًّا، وأن تؤديَ رسالتها على المستوى العربي والأفريقي ومستوى بلاد العالم الثالث بوجهٍ عام. ومن جهةٍ أخرى كان من الضروري بناءُ جيشٍ قويٍّ لدعم هذه السياسة الخارجية، ولتأكيد هيبة مصر في العالم والوقوف في وجه المؤامرات المناوئة، التي كانت إسرائيل هي الأداة المختارة لتنفيذها، وبالفعل أثبتت مصر وجودَها، خلال فترة التجرِبة الناصرية، على نحوٍ لا يستطيع أحد أن يُنكره، وتمَّت إنجازات على الصعيد الخارجي جعلت للتجربة الناصرية سمعةً عالميةً وسط بلاد العالم الثالث.
وإذا كان هناك من مأخذ على هذه الإنجازات، فربما كان المأخذُ الوحيد هو نجاحها الزائد ذاته؛ ذلك لأن هذا النجاح كان يُغري بمزيدٍ من الاهتمام بالسياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب.
- المعنى الأول: معنى تجاهل هذه الأوضاع الداخلية وإبداء اهتمام ضئيل بها، ما دام النجاح الخارجي يحجب سوء الأوضاع في الداخل ويمتص أي سخط يمكن أن يترتب عليه.
- المعنى الثاني: الأقرب إلى المعنى الحرفي، هو الإنفاق المتزايد على العمليات الخارجية من أموالٍ كان الشعب في الداخل أحوجَ ما يكون إليها.
وأنا لا أنكر أن الحدود الفاصلة بين «السياسة الخارجية» و«السياسة الداخلية» مرنةٌ ومطاطة إلى أبعد حدٍّ بحيث لا يكون من الصواب إيجادُ فاصل قاطع بينهما، ولكن هذه الحقيقة هي ذاتها التي تدفعني إلى توجيه هذا المأخذ: فالسياسة الخارجية الناجحة لا بد أن ترتكز على جبهة داخلية قوية، وعلى قاعدةٍ شعبية مؤمنة بها، وقادرةٍ على الاضطلاع بأعبائها؛ لأنها حقَّقَتْ — على الأقل — حدًّا أدنى من طمأنينة العيش، ولكن المؤسف أن عدم التناسب بين الاهتمام الخارجي والاهتمام الداخلي بلغ حدًّا جعل هذه السياسة الخارجية الناجحة مفروضةً «من أعلى» وليست مخططة ومرسومة بوصفها الحصيلة النهائية لموقف المجتمع ككل من مشكلات العالم الخارجي، ولو كانت الجبهة الداخلية التي تستند إليها تلك السياسة الخارجية — التي كانت وجهتها العامة سليمةً بالفعل — أقوى مما هي عليه، لتغلَّبَتْ تلك السياسة بسهولة على كثير من العقبات التي تراكمت عليها، وخاصة في النصف الأخير من فترة التجربة الناصرية.
أمَّا بناء الجيش القوي، الذي كان واحدًا من أهمِّ الأهداف الستة لثورة ١٩٥٢م فكان أمرًا لا مفر منه إزاء التحدِّي الصهيوني الذي أثبت بعد عام ١٩٥٦م أنه لم يَلْتَهم فلسطين فحسب، بل أصبح يهدِّد كل بلدٍ عربي ذي نزعة استقلالية داخل أرضه. ومن المؤسف حقًّا أن الأموال التي أُنفقت في سبيل هذا الهدف، والجهود التي بذلها عسكريون مخلصون يفخر بها تاريخُنا القومي، قد ضاعت هباءً بسبب التفكُّك الذي أصاب القيادات العسكرية في ذلك الحين، والذي جعلها تبدد عرق الشعب المصري وماله الذي كان يعتصره من قُوتِه الضروري، وتتركها تحت رحمة العدو كل عشر سنوات.
والواقع أنه في وسع الكاتب أن يتحدَّث في هذا الموضوع بمزيدٍ من الرؤية الواضحة بعد حرب أكتوبر، التي كانت أول امتحان حقيقي لجيشنا وهو امتحانٌ أثار نجاحه فيه دهشة العالم أجمع. ففي ضوء إنجازات هذه الحرب الأخيرة نستطيع أن ندرك فداحةَ الخسارة التي لحقت بوطنِنا وبجيشِنا، في الحربين السابقتين؛ نتيجة لتفسخ القيادات واهتمامها بكل شيء ما عدا مهمتها الأصلية. والشيء الذي يدعو إلى الأسى هو أن هذا التفسخ كان معروفًا للأجهزة التي كانت تُحصي على المواطنين العاديين حركاتهم وسكناتهم، ومع ذلك لم يحاول أحد تَدارُك الأمر ووضع الجيش في أيدٍ أمينة، جادة، تعلم أن رسالتها الحقيقية هي الحرب والدفاع عن الوطن، لا الإغراق في الملذات والدخول في مناورات ومؤامرات شخصية.
ولم تكن النتائج المترتبة على انحلال القيادات العسكرية متعلقةً بأوضاع الجيش ذاته فحسب، بل لقد انعكست هذه النتائج بوضوح على السياسة الخارجية والداخلية معًا.
ففي مجال السياسة الخارجية، كان إخفاق السند العسكري الذي لا غناء لهذه السياسة عنه مؤديًا إلى انتكاسات أضاعت كثيرًا من المكاسب التي تراكمت على مر السنين، وأوضح دليل على ذلك هزيمة يونيو ١٩٦٧م وما أدت إليه من فقدان للهيبة وللمكانة الدولية، ومن ارتداد بالأهداف القومية إلى مستويات أدنى بكثير مما كانت تسعى إليه طوال السنوات السابقة.
وفي مجال السياسة الداخلية كانت كل هزيمة عسكرية تعني تبخُّرَ عصارة شقاء الإنسان المصري طوال سنوات عدة، وإلحاق هزيمة مماثلة بآمال هذا الإنسان في حياة أفضل، وقد كانت أحوال القيادات العسكرية خلال الفترة الناصرية ذات تأثير كبير في نجاح التجربة الاشتراكية أو إخفاقها، وكان من واجب اليساريين أن يتأمَّلوا بإمعان ما في هذه الأحوال والأوضاع من سلبيات واضحة، انعكست آثارها على التجربة الاشتراكية إلى الحد الذي أدى إلى تشويهها ومسخ معالمها.
القمع والرضا به
على أن سلبيات التجربة الناصرية في الاشتراكية لا تقتصر على الأمور المادية — كالاقتصاد والجيش — فحسب، بل إن السلبياتِ المعنوية أخطرُ وأهم؛ ذلك لأن الاشتراكية الحقة إنما هي إعلاء لشأن الإنسان قبل كل شيء، وعمل دءوب من أجل تحريره من كافة ألوان الاضطهاد والاستغلال، المعنوي منه والمادي. وهي تتعهد أسمى ملكات الإنسان بالرعاية، فتشجعه على التفكير المستقل، وعلى استخدام عقله في معالجة مشكلاته، وتحيي فيه الشعور بآدميته وآدمية الآخرين معه.
والشيء الذي لا أستطيع أن أستسيغه في أية تجربة تصف نفسها بالاشتراكية، هو أن تمتهن الإنسان وتعمل على إذلاله، وأنا لا أعني بذلك تجربتنا السابقة بالذات، بل إن حكمي ينسحب على أية تجرِبة أخرى تتخذ تدابير تؤدي في نهاية الأمر إلى سحق الإنسان. صحيح أن الثورة قد تجد نفسها مضطرة إلى قمع أفراد في طبقة معينة يعملون على مناوأتها، ولكن هذا القمع يتمُّ في نهاية الأمر لصالح القيم الإنسانية التي تُراعى في حالة الطبقات الكادحة مراعاة كاملة. أما أية ثورة تقمع الجميع لحساب الطبقة الحاكمة وحدها، فليطلق عليها أصحابها وأنصارها ما يشاءون من الأسماء ما عدا الاشتراكية.
والحق أن التجربة الناصرية قد تضمَّنَت من عناصر القمع ما يتجاوز بكثير نطاق التدابير المشروعة التي تحمي بها الثورة نفسها من أقلية معادية لصالح المجموع. فالإنسان المصري قد خرج من هذه التجربة مختلفًا، في جوهره الباطن، اختلافًا جذريًّا عما كان عند بدايتها؛ لقد كان في البَدْء يشعر بأنه يستطيع أن يتكلَّم، وأن يناقشَ وأن يعترضَ، وبأن البلد بلده، وله فيها رأي مسموع، صحيح أن كثيرًا من الأحزاب — وخاصة أحزاب الأقلية — كانت تتصرَّف على نحوٍ يجعل من هذا الشعور أمرًا خاليًا من أي مضمون، ومن أية نتيجة عملية ولكن الشعور ذاته ظل موجودًا، وكان يعبِّر عن نفسه حالما تُتاح له الفرصة بانتخاب حزب الوفد — الذي كان بالفعل أكثر الأحزاب شعبيةً — بأغلبية كبيرة. وصحيح أيضًا أن هيكل البناء الاجتماعي والاقتصادي كان من شأنه أن يسلب هذا الشعور كل قيمة له، إذ كانت ثروة البلاد في يد فئة ضئيلة من الإقطاعيين والتجَّار والرأسماليين الذين يتحكمون على طريقتهم الخاصة، في أرزاق الملايين. ومع ذلك فإن الإنسان المصري كان في أحلك الأوقات يشعر بأن الاضطهاد لا بد أن تكون له نهاية، ويقف في وجه مضطهديه إلى الحد الذي يُرغمهم، في بعض الأحيان، على التراجع، كان هناك على الأقل، الشعور بالأمل، وبأن مكافحة الظلم يُمكن أن تأتيَ بنتيجة، ولو على المدى الطويل، وبأن من يقمع الحريات ليس من حقه أن يقمعها ولا بد أن يعرف ذلك.
ولكن هذا الإحساس أخذ يختفي منذ اللحظات الأولى للتجربة الناصرية، ورسمت سياسة لا بد أنها كانت منظمة ومخططة من أجل القضاء على هذه المعاني في نفوس الناس، وبأن إجراءات القمع لا ينبغي أن تقاوَم ولا حتى بالكلام، وحوكم أشخاص، في السنوات الأولى، وعوقبوا سنوات طويلة من الأشغال الشاقة لأنهم رددوا إشاعات، أي عارضوا واعترضوا، في أحاديثهم الخاصة، وتسلَّل الرعب إلى النفوس بالتدريج، ومع الرعب ظهرت السلبية، والنفاق، والتحدث بلغتين، والجهر بعكس ما يؤمن به الإنسان. وفقد الإنسان المصري قُدرتَه على الرفض والاعتراض، والاحتجاج، ومن فقدان هذه القدرة فقد ملكةَ التفكير العقلي المتزن، والحكم على الأمور حكمًا صائبًا: إذ كان القمع مصحوبًا بحملة دعاية منظمة، قائمة على أسس علمية مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألَّا يكون هناك إلا رأيٌ واحد وألَّا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تُردَّد مرة تلو المرة إلى أن يصدِّقَها كل من كان يقاومها ولم يكن مقتنعًا بها في مبدأ الأمر.
هذا التخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله، هو في رأيي أكبر سلبيات التجربة الناصرية، وحتى لو كان الهدفُ الذي تحذقه عملية التخويف، وإسكات الأصوات، وتعطيل ملكات التفكير النقدي، هدفًا وطنيًّا مائة في المائة فإني أعدُّ التجربة التي تلجأ إلى هذا الأسلوب أشدَّ ضررًا على الإنسان من تلك التي تترك له قدرًا من الأمل، ومجالًا للاعتراض، وهي في الوقت نفسه تستغله وتنهبه، إن الأمرين بالتأكيد شر، ولكن ضرر التجربة الأولى أفدح.
ذلك لأن الإنسان هو، في نهاية الأمر هدف كل تجربة في الحكم، وبقدر ما تأخذ هذه التجربة بيد الإنسان لتُعيد إليه الشعور بكرامته، وبأن كلمته مسموعة، وبأن له دورًا يؤدِّيه في وطنه، وبأن الحاكمين يستجيبون لرغباته ولا يفرضون عليه رغباتهم، تكون تجربة الحكم ناجحةً ولقد كانت التجربة الناصرية تؤكِّد، على الدوام، أن هذا عين ما تقوم به، ولكن النتيجة الحقيقية لهذه التجربة أتَتْ على عكس ما كانت تنادي به دعايتها ويؤكده إعلامها. كانت النتيجة الحقيقية هي إحساس الإنسان المصري العادي بأن هناك من يفكر له، وبأنه ليس في حاجة إلى التفكير، وبأنه حتى لو فكر فلن يُجديَه ذلك شيئًا؛ لأن الأمور ستسير دائمًا كما يريد أصحاب السلطة، وكانت النتيجة الحقيقية هي اعتياد الإنسان المصري الانكماش والسلبية، والوقوف موقف المتفرج غير المكترث، وحتى المكترثين منا، والمعجبين بنتائج التجربة، كانوا يصفقون بطريقة سلبية: أعني أنَّهم كانوا يصفِّقون إعجابًا وانبهارًا بقراراتٍ مفاجئةٍ تصدر من أعلى ولا يُؤخذ رأيهم فيها. والفرق هائل بين هذا النوع من التصفيق وذلك الذي يهلِّل فيه الناس؛ لأن القرارات التي طالما نادوا بها، وشاركوا في صنعها وفي الدعوة إليها بإيجابية وفعالية، قد صدرت أخيرًا.
الخطأ، والخطأ المقصود
لقد أصبح الإنسان المصري، من فرط خوفه وانكماشه، يقبل أوضاعًا ما كان ليقبلها من قبل. أصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين وقانون للحاكمين، وصحيح أن، من حيث الأمر الواقع، كانت مصر طوال الجزء الأكبر من تاريخها تعاني من عدم تطبيق قوانين المحكومين على الحاكمين، ولكن كان الشعور بالسخط — يعبِّر عن رفض مكتوم لازدواجية القانون، لكن أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون هذه الازدواجية بوصفها أمرًا طبيعيًّا، ولا يدهشون لها، ولا يعلقون عليها، وكأنها جزء من طبيعة الأشياء هذا هو ما أعنيه بالتخريب الداخلي لنفس الإنسان المصري وعقله. فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم أو استثناءات، بل كانت في اعتياد الإنسان عليها إلى حد أنه أصبح يراها شيئًا طبيعيًّا؛ بحيث تبلد الإحساس بالظلم، وتحوَّل الاستثناء إلى قاعدة لا بد من قبولها باستسلام.
ولكي يدرك القارئ ما أعنيه، أود أن أضرب له مثلًا بسيطًا: ففي أواخر عهد ما قبل ثورة ١٩٥٢م، انشق مكرم عبيد على حزب الوفد المصري وأراد أن يبرِّر انشقاقه ويكشف فضائح الوفد فألَّف الكتاب الأسود الذي عدَّد فيه حالاتِ استغلال النفوذ والاستثناءات في مختلف فترات تولي الوفد الوزارة. ولو ألقى المرء نظرة واحدة على هذا الكتاب، في ضوء التطورات التي حدثت بعد ذلك، لاستبدت به الدهشة وعجب كيف تستخدم وقائع بسيطة كهذه في التشنيع على أكبر حزب في البلاد: إذ تجد فيها حالة الموظف رقي درجتين بصورة استثنائية في مدى عام أو عامَيْنِ، وتجد فيها حالات استغلال نفوذ في بناء مرافق خدمات خاصة وخدمات عامة في الوقت ذاته، في حدود لا تتجاوز بضعةَ ألوف من الجنيهات، ولكن الأمر الذي يلفت النظر حقًّا هو أن هذه الوقائع ظلَّتْ محور أحاديث الصحف ومناقشات الناس فترة طويلة. وأنا لا أضرب هذا المثل لكي أدافعَ عن مكرم عبيد أو أهاجمَه (وإن كنت أفضِّل لو أنه لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب)، ولكن ما يهمُّني في الأمر هو إحساس الناس بأن الاستثناء شيءٌ مستنكر، وبأنه يستحق التنديد والتشنيع حتى لو لم يكن من الممكن القضاءُ عليه بصورةٍ مباشرة.
قارن هذه الحالات المخفَّفة التي كانت أقصى ما استطاع مكرم عبيد أن يجمعه (والتي بالغ في بعضها دون شك)، بما حدث بعد ذلك من استثناءات ومن استغلال نفوذ، وستجد في ضوء هذه المقارنة أن الكتاب الأسود قد أصبح ناصع البياض.
ولكن الأخطر من حالات الانحراف ذاتها، هو رد فعل الناس إزاءها: فبقدر ما استنكروها، وهي قليلة ومخفَّفة، ومتعلِّقة بأشخاص في قمة الحكم، أصبحوا بعد ذلك يقبلونها بوصفها شيئًا عاديًّا، ومألوفًا على الرغم من تكاثُرها وتكاثفها الشديد، وعلى الرغم من أن كثيرًا من مرتكبيها كانوا نكراتٍ بلا وزن، هذا الإحساس المتبلد، الذي لم يعد يستنكر الظلم، أو يسعى إلى محاربته، هو أخطر آفةٍ تصيب الأمة، وهو الخطر الحقيقي في مستقبلها.
ولكي تبرِّر التجربة الناصرية أمثال هذه الانحرافات التي لم يكن هناك مفرٌّ من أن تتسرَّب أنباؤها من آنٍ لآخر، أطلقت شعار «من لا يعمل لا يخطئ» وكان المقصود من الشعار أن هناك عملًا وجهدًا وبناءً متصلًا، وأن من الطبيعي وسط هذا العمل المستمر أن تحدث أخطاء، وأننا كنا نستطيع أن نتجنَّب الخطأ بألَّا نعمل ولا نبذل جهدًا، ولكن من الأفضل، بطبيعة الحال، أن يعمل المرء ويخطئ بدلًا من ألَّا يعمل ولا يخطئ وبقدر ما كان الشعار براقًا، وانخدع به الكثيرون، فإني أعدُّه واحدًا من أخطر الشعارات التي أضرَّت بحياتنا وقيمنا ومعاييرنا الأخلاقية.
ذلك لأن الشعار يرتكب مغالطة كبرى في كلمة «الخطأ» إذ إن نوع الخطأ الذي يمكن أن يجعل لهذا الشعار معنى مقبولًا بالمقاييس الخلقية السليمة، هو ذلك الخطأ غير المقصود، الذي يرتكبه المرء رغمًا عنه من فرط ما يبذله من جهد، أمَّا الخطأ الذي كان هذا الشعار يهدف إلى تبريره والدفاع عنه، فكان خطأ مقصودًا ومتعمدًا، ارتكب برَوِيَّةٍ وتفكيرٍ وعن سبق إصرار وترصد، يرمي إلى إكساب مرتكبِه مغانمَ لا يستحقُّها، من قوت شعب فقير مطحون.
مثل هذا الخطأ ليس من النوع الذي لا بدَّ أن يقع فيه المرء في زحام العمل، بل إن من يخلص حقيقةً في عمله هو أبعد الناس عن ارتكابه. إنه بالاختصار، ليس خطأً، بل جريمة وسرقة. ومن يعمل من أجل بلاده يستحيل أن يرتكب أمثال هذه الموبقات. ويكفي، لكي ندلل عن خطورة هذا الشعار، أن نترجمَه إلى معناه الحقيقي، فيصبح «من لا يعمل لا يسرق»، «من لا يعمل لا يأكل قوت الشعب» والحق أن مجرد التفكير في إطلاق هذا الشعار هو في ذاته عمل يدل على استعداد كامل للانحراف، ومن عجائب الدنيا أن يُطلَق شعار كهذا في عهد اشتراكي، وأن يبتلعه اليساريُّون ويسكتوا عنه.
الوجه السلبي والوجه الإيجابي
إن للنظم التقدُّمية مؤشراتٍ معروفةً تدلُّ — دون حاجة إلى مجهود — على أنها حقَّقَت أهدافها أو سارت في طريق تحقيقها بجديةٍ ومن هذه المؤشرات القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة. وأخشى أن أقول إننا لو طبقنا هذه المعايير على التجربة الناصرية لكان من الصعب أن ندرجها ضمن النظم التقدمية. فالأمية قد ظلت نسبتها على ما هي عليه، مع أن البلاد الاشتراكية — بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة — اتخذت من محو الأمية هدفًا من أوائل أهدافها، وتمكنت فعلًا من تحقيقه دون جهد كبير. وإنا جميعًا لَنعلم، ويعلم اليساريون بوجه خاص، أن اقتراحاتٍ كثيرةً قد قُدِّمت في هذا الصدد، تستهدف الإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في محو الأمية، مع مراعاة ظروفنا المحلية. وأن الكثيرين قد ردَّدوا إلى حد الإملال أن القضاء على هذه الوصمة واجبٌ مقدس على الدولة، وعلى التنظيم السياسي بوجهٍ خاصٍّ غير أن الاتحاد الاشتراكي ظل خارجَ الموضوع كله، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد؛ لأنه كان بطبيعة الحال مشغولًا بما هو «أهم».
أما التعليم فإن التوسع الكميَّ الهائل فيه — وهو عنصر إيجابي بلا شك — قد اقترن بتدهورٍ كيفيٍّ رهيب أصبح يشكل بالفعل خطرًا على مستقبل هذه الأمة. وأما الانحرافات، فإنا لم نسمع مثلًا أن إدمان المخدرات قد توقف، أو تضاءلت نسبته بل على العكس من ذلك ازداد استفحالًا برغم تشديد العقوبات. وبقدر ما أعلم فإن قيام نظام اشتراكي حقيقي في أي مجتمع يؤدي إلى اختفاء ظاهرة إدمان المخدرات، أو تناقص معدلها إلى حد ملحوظ؛ لأن الإدمان هروب من واقعٍ قاسٍ وبحث عن الأمان وسط ضباب الأوهام، والمجتمع الاشتراكي يقدم لأفراده واقعًا أفضل، ويكفل لهم الأمان وزوال الهموم المرتبطة بوسائل العيش.
ولست أودُّ أن أتحدَّثَ عن تدهور الصحة العامة، وعجز الفقير عن أن يجد العلاج ومهزلة الوحدات المجمعة، فتلك كلُّها أوجاعٌ يعرفها الجميع، وتعاني منها الأغلبية الساحقة.
هذه كلها سلبيات لم يخترعها أحد، ولا يوجد فيها أدنى نصيب للمبالغة، وإنما هي تعبير صريح عن واقعٍ موضوعي … ولا جدال في أن من حق المدافعين عن التجربة الناصرية أن يؤكِّدوا أن صورة الواقع الموضوعيِّ لا تكتمل إلا إذا أُضيفت إليها الإيجابيات، ولكن مثلما يتهم هؤلاء المدافعون خصومَهم بأنهم لا يكشفون إلا عن وجه واحد للصورة؛ هو الوجه السلبي، فإن خصومَهم يتَّهمونهم — عن حق — بأنهم لا يكشفون بدورهم إلا عن الوجه الإيجابي لتلك الصورة، متغافلين تمامًا عن وجهها السلبي الذي يشكِّل حقيقة لا جدال فيها.