المقال الثالث
من حق اليسار، قبل أن نفسِّر موقفَه من التجربة الناصرية أن نردَّ على سؤالِه المشروع: لماذا التركيز على سلبيات هذه التجربة في هذه الأيام؟
إن هذه الظاهرة قد لا تكون كلها عن سوء نية، أو عن رغبةٍ في اصطياد الأخطاء؛ ذلك لأن الإيجابياتِ معروفة، وهي ليسَت معروفة فحسب، بل ظلَّت تُعاد وتُكرَّر وتُردَّد على مسامعنا حتى حفظناها عن ظهر قلب.
وأصبحت تؤلف نسبة كبيرة مما يتعلمه أبناؤنا في المدارس ويمتحنون فيه آخر العام. وإنه لمن الطبيعي تمامًا، بعد أن ظلَّت وسائل الإعلام كلُّها تردِّد على مسامعنا وأمام أعينِنا الحديثَ عن هذه الإيجابيات ثمانية عشر عامًا، أن يكون ردُّ الفعل بعد ذلك هو التركيز على السلبيات، فتلك ظاهرة إنسانية لا مفر منها. ولو شئنا أن نحدِّد المسئوليةَ الحقيقيةَ عن الحملة التي تركِّز على سلبيات التجربة الناصرية في هذه الأيام، دون إيجابياتها؛ لقلنا إن المذنب الأكبر في ذلك هو أجهزة الإعلام في العهد الناصري؛ إذ إن تركيزها على الدعاية للإيجابيات وحدها، والأسلوبَ المفرطَ في المبالغة، الذي كانت تلجأ إليه في هذه الدعاية، يتحمَّل النصيب الأكبر من المسئولية عن رد الفعل الذي يظهر في هذه الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن الوعيَ السياسيَّ الناضجَ لا يجد غضاضةً في التركيز على السلبيات، مهما كانت قيمة الإيجابيات التي تقف إلى جانبها. ولدينا على ذلك مثل واضح في موقف الصحف الأمريكية من نيكسون أيام أزمة ووترجيت: إذ كان نيكسون قد اكتسب قبلها رصيدًا إيجابيًّا، وخاصةً في ميدان السياسة الخارجية يضعُه في مستوى الرؤساء الأمريكيين القلائل جدًّا الذين نجحوا في تغيُّر وجه السياسة الأمريكية تغييرًا جذريًّا نحو الأفضل، ولكن ظهور فضيحة ووترجيت جعل الجميع يركِّزون على الجوانب السلبية في حكمه، ولم يشفع له نجاحه التاريخي في الميدان الخارجي، ولم يحاول هو ذاته أن يلتمس لنفسه عذرًا بهذا النجاح؛ ذلك لأن الخطأ يظل خطأً حتى لو أحاط به الصواب من كل جانب.
وقل مثل هذا عن تشرشل حتى أسقطه الشعب البريطاني في الانتخابات عقب الحرب العالمية الثانية التي أحرز فيها تشرشل انتصارًا سيذكره له التاريخ، أو عن ديجول الذي سقط في آخر انتخابات دخلها، بعد أن أنقذ بلاده من تخبُّط الجمهورية الرابعة وسياستها الحمقاء، ووضع السياسة الفرنسية في طريق الاستقرار؛ فضلًا عن اعترافهم به بطلًا قوميًّا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وبالاختصار، فقد تكون المسألة راجعةً إلى عاطفيةٍ مفرطةٍ لدى الشرقيين، أو إلى عدم النضج الذي يجعلهم يخلطون بين العواطف على المستوى الشخصي والأحكام على المستوى السياسي الموضوعي. ولكن أيًّا كان الأمر فإن من يهتف في كل مرةٍ يقرأ فيها حكمًا سلبيًّا على التجربة الناصرية: لماذا لا تذكرون الإيجابيات؟ ليس دائمًا على صواب. ومن يركز حديثه على السلبيات وحدها ليس دائمًا على خطأ.
والآن، أعود فأتساءل: ما الذي جعل اليسار يتخذ هذا الموقف، ويدافع دفاعًا مطلقًا عن تجربة لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية، بالمقاييس العلمية الصحيحة، إلا أقل القليل؟
هذا السؤال يدخل بنا إلى لب الموضوع، ومن خلال إجابتنا عنه يمكن أن توضعَ قضية اليسار والتجربة الناصرية في موضعها الصحيح.
والأمر المؤكَّد أن موقف اليسار، في الوقت الراهن، يمثِّل رد فعل على الاتجاهات اليمينية التي انتعشت بعد موت عبد الناصر، والتي تصورت أنها تستطيع أن ترثَ التركة، وتُعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فاليسار، بدفاعه المستميت عن الناصرية، إنما يهدف إلى قطع الطريق على اليمين في اتخاذه هذا الموقف؛ إذ إن هناك خطرًا حقيقيًّا من المدِّ اليميني الزاحفِ ومن الوسائل الفعَّالة لإيقاف هذا المدِّ التمسك بما أنجزتْه التجربة الناصرية.
وأنا أعتقد أن هذا الموقف اليساري، الذي يبدو سليمًا لأول وهلة، خطأٌ من أساسه. وليس مرد هذا الخطأ هو أنني مقتنع، بأي معنى من المعاني، بدعاوى اليمين، أو أنني مؤيدٌ لمطالبهم، بل إنني لم أكتب هذه السطور — كما سيرى القارئ بعد قليل — إلا لكي أجرِّد اليمين من أسلحةٍ يُعطيها إيَّاهم اليسارُ دون أن يشعر، وذلك حين يتخذ موقفَ الدفاع المطلق من التجرِبة الناصرية، وحين يربط مصيرَ اليسار بنتيجة تقييمنا لهذه التجربة.
إن اليمين غول بشع يريد أن ينقضَّ على هذا الشعب؛ لكي ينهشَ لحمَه من جديد، ولكن اليسار الذي يتصوَّر نفسَه حارسًا للشعب، وهو حارس غافل، يساعد اللصَّ المعتديَ دون أن يدري، ويقدم إليه — بقصر نظره — ما لم يكن يحلم به من خِدْمات.
ولذلك أودُّ أن أكون في هذا الصدد واضحًا وضوحًا تامًّا؛ فأنا أعدُّ دعوة اليمين الرجعي دعوةً عدوانيةً ينبغي التصدِّي لها بكل قوة، وأنا أرفض بشدةٍ أيةَ محاولةٍ من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب من أجل تأييد قضيته التي أقف فيها ضده دون أي لبس أو غموض، ومن المستحيل أن أقبل استخدام ما أكتب لصالح مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين، أو لصالح أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو. ولو حدث أن استخدم أحدٌ ما أكتب على هذا النحو المشين، فسيكون الخطأ في ذلك مرة أخرى هو خطأ اليسار ذاته، كما سأبيِّن الآن.
ذلك لأن اليسار، بتجاهلِه لسلبيات التجربة الناصرية وإغماضِه عيونه عن نقاط ضعفِها التي ظهرت نتائجها أمام الشعب واضحةً للعيان، في هزيمة ١٩٦٧م بصورة سريعة صارخة وفي المصاعب الاقتصادية الرهيبة بصورة تراكمية بطيئة، قد ترك لليمين وحده شرف التنديد بهذه السلبيات، وإعلانَ نفسه حاميًا للقيم التي أهدرتها تلك التجربة.
فاليمينيُّون، الذين كانوا يستهترون بالحريات والقوانين حين كان حكم البلاد في أيديهم، أصبحوا هم أصحاب أعلى الأصوات في المناداةِ بالحرياتِ وسيادةِ القانون.
ولم يكن في وسعهم أن يجرءوا على هذه المغالطة الصفيقة لو لم يكن اليسار قد ترك لهم الميدان ليصولوا فيه ويجولوا، على حين ظل هو متمسكًا بالدفاع عن تجربة يتمسك بأنها كانت اشتراكية تقدُّمية، بينما يثبت الواقع اليومي عكس ذلك.
وحين أتحدَّث عن الواقع اليومي، فإني لا أعني واقع رجل الأعمال الذي انتزعت منه مصالح أو سلب منه نفوذ، بل أعني الواقعَ اليوميَّ للإنسان البسيط، صاحب المصلحة الحقيقية في الاشتراكية. هذا الإنسان البسيط هو الذي أحس بعيوب التجربة، وهو الذي أعلن سخطه عليها بشتَّى الصور المباشرة وغير المباشرة، وهو الذي لا بد أن ينقل هذا السخط إلى كل من يتمسَّك بالدفاع عنها بلا تمييز، على حين أن من ينبهه إلى سلبياتها يكتسب رضاءه.
ولقد كان سخط الإنسان المصري على التجربة الاشتراكية واضحًا جليًّا — على سبيل المثال — في استقبال نيكسون، كان ذلك استفتاءً غير رسمي على التجربة الاشتراكية المزعومة، ولم يكن الذي أعلن رفضه للتجربة هم الذين أضيروا منها فحسب، بل هم أولئك الذين لا يظهر أي مذهب اشتراكي إلا من أجلهم.
وموضع الخطر هنا هو أن الإنسان العادي حين يجد التجربة قد أخفقَت، لا يستطيع أن يميِّز بسهولةٍ بين المبدأ والتطبيق. وهكذا أصبحت طاقة السخط لديه منصبةً على مبدأ الاشتراكية ذاته، مع أن ما يشكو منه ليس إلا تطبيقًا خاطئًا لمبدأٍ لو طبِّق بالطريقة السليمة لكان هو ذاته أول المستفيدين منه.
ولا جدال في أن تمسك اليساريين بصواب التجربة السابقة، وإصرارَهم العنيدَ على أنها كانت «اشتراكية» فعلًا، كفيل بأن يفقدهم تلك القواعد الجماهيرية العريضة التي كانت تحوطهم بالعطف والتأييد حين كانوا يدعون إلى اشتراكية حقيقية، أي في تلك الفترات التي لم يكونوا فيها قد ارتبطوا بتجربةٍ محددةٍ في الحكم أصبحوا يدافعون عنها كما لو كانت تجربةً تنتمي إلى صميم مبادئهم.
أمنا الغولة
ولنتساءل هنا: هل كانت تلك التجربة مؤيدة لليسار إلى الحد الذي تصوره اليساريون؟ وهل ساعدت بالفعل على خدمة المبادئ التي ظل اليساريون يدعون إليها طوال حياتهم؟
إن هذا السؤال، على الرغم من أهميتِه القصوى، يثير إشكالاتٍ يصعب البتُّ فيها برأي نهائي في المرحلة الراهنة؛ نظرًا إلى التعقيد الشديد للموضوع ووجود عناصر كثيرة فيه لن تتكشَّف إلا بمضيٍّ للزمن، ولكن في وسعنا أن نشير إلى بعض التساؤلات التي تطرحها التجربة، والتي تساعد القارئ على استخلاص النتائج المترتبة عليها بنفسه.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه قرارات التأميم، كانت قد مضت على اليساريين سنتان ونصف في المعتقلات، ومن الأمور التي ربَّما لم يخطر ببالهم التفكير فيها أنهم قضوا بعدها سنتين ونصفًا أخرييْنِ في نفس المعتقلات أليس لهذه الظاهرة دلالتُها؟ ألم يكن من المنطقي، إذا كانت تلك القرارات قد اقتربَت مما ينادون منه ولو لمنتصف الطريق، أن يفرج عنهم بعدها؟
أما الإفراج الفعلي فقد حدث بدافع الرغبة في مجاملة طرف رئيسي في التوازن الدولي، على الرغم من نفور اليساريين الشديد من هذا التفسير، وتأكيدهم أن الإفراج كان نتيجة «لظروف موضوعية».
ومن المؤكد أن تفسيرهم هذا أكثر إرضاء لهم؛ لأنه يعطي لتضحياتهم معنى، ولكن من المؤسف أنه غير صحيح؛ إذ لو كان الدافع الحقيقي هو تلك «الظروف الموضوعية»، وحدوث تغيُّرٍ حقيقي في موقف السلطة الحاكمة تجاههم، لما ظلوا في المعتقلات بعد قرارات التأميم مدةً تساوي تلك التي قضَوْها قبل صدورها.
ومما زاد في اضطراب أحكام اليساريين، بعد خروجهم، أن عددًا كبيرًا من أقطابهم عينوا في مراكز رئيسية في الدولة، وفي ميادين الإعلام والثقافة بوجهٍ خاص، فازداد في نظرهم رجحان كفة التفسير المفضل لديهم، وهو أن سياسة الدولة الرسمية تزداد اقترابًا منهم، وحتى عندما كانت تظهر من آنٍ لآخر شواهدُ قاطعةٌ تدل على بطلانه، كانوا يغمضون أعينهم عنها وكأنها لم تكن.
ولا جدال في أن النقلة المفاجئة من جحيم الواحات إلى رئاسة مجالس الإدارات، كانت عاملًا من العوامل التي تساعد — ولو بطريقةٍ لا شعورية — على استخدام منطق التبرير في مثل هذه الحالة، وهم على أية حال كانوا يعلمون جيدًا، من تجربتهم السابقة، ما هو البديل المطروح أمامهم.
ولكن هل كان هذا التكريم والتمجيد لليساريين دليلًا على تحوُّل حقيقي، في السياسة الرسمية، نحو اليسار؟
في واقع الأمر، لم تخسر التجربة الناصرية شيئًا من هذا التغيير الذي أحدثتْه فجأة، ومن النقيض إلى النقيض، في معاملتها لليسار.
فهي أولًا قد اكتسبت رضاء الاتحاد السوفيتي في وقت كانت فيه أحوجَ ما تكون إليه، ولكنها في الوقت ذاته لم تتحول تجاه اليسار، بل حولت اليسار تجاهها!
وبلا جدال في أن أيسر الطرق وأسرعها لانتزاع المخالب الثورية من التأثر هي أن نضعَ بين يدَيْهِ المال والنفوذ بلا حساب؛ ومن هنا فإني أنظر إلى هذا التكريم لليسار على أنه هو الوجه الآخر لوضعه في المعتقل: فالأمران يؤدِّيان نفس الوظيفة، وهي أن تسلبه الطاقة الثورية وكل ما في الأمر أن أسلوب التكريم أذكى، وأنفع، وأقل جلبًا للمشكلات.
ولا ينبغي أن ننسى، بعد هذا كله، أن اليساريين هم الأوسعُ ثقافة، وهم الأقدر على الإقناع، والأقوى جاذبية في ميدان الصحافة والإعلام، ومن هنا فإن كسبهم إلى صف التجربة الناصرية كان مصدر نفع كبير لها؛ لأنه قدم لها «التنظير» الذي كانت تفتقر إليه، فبين اليساريين تجد أفضل المثقفين وأعمق المحللين وأبرع الكتاب، وكل ذلك كان أمرًا لازمًا وحيويًّا لتجربة تحتاج إلى الدعاية أشد الاحتياج.
وإذن فلم يكن إغراء اليساريين، في رأيي، تعبيرًا عن تحوُّل التجربة الناصرية تجاههم، بل كان في الواقع كسبًا خالصًا لهذه التجربة، التي ظلَّتْ تسير في طريقها الخاص، وتخدم مصلحتها الخاصَّة حتى اللحظة الأخيرة.
على أن أكثر الأطراف ربحًا في هذه العملية كلها كان خصوم الاشتراكية الذين كانوا يتفرَّجون على اللعبة وقد فركوا أيديَهُم مسرورين … فها هو ذا النظام يقدم إليهم خدمةً لا يحلمون بها، إذ نجح في ربط الاشتراكيين بعجلته، وجعل سمعته الاشتراكية كلها مرتبطةً بتطبيق غير سليم لها، وهكذا تطوَّعت التجربة الناصرية بإعطاءِ صورةٍ غير مستحبةٍ للاشتراكية في أعين الجماهير.
ومن هنا أكاد أكون موقِنًا بأن المعسكر الرأسمالي العالمي كان سعيدًا كل السعادة بهذه التجربة التي قدمت إليه خدمة مجانية جليلة، وكان ينتظر الوقت الذي يصبح فيه إخفاقها مدويًّا؛ لكي يتقدَّم هو باعتباره البديل المنقذ، وهو واثقٌ من أن الجماهير التي لم تنل شيئًا من مكاسب الاشتراكية الحقيقية لن تتردَّدَ في تلبية دعوته.
فالتجربة الناصرية، في رأيي، كانت تحمل في داخلها كل العوامل التي تؤدي إلى انتعاش اليمين وإضعاف اليسار وفقدانه للقاعدة الشعبية، على الرغم من أن ظواهر الأمور توحي بعكس ذلك. وليست التطورات التالية على الإطلاق، في رأيي، «ارتدادًا» أو «انحرافًا» نحو اليمين، بل إن منطق الأحداث كان يحتِّم أن يكون رد الفعل في اتجاه البديل، وفي صف الطرف الآخر لمجرد كونه شيئًا «مختلفًا» عما جرب وأثبت فشله.
لقد كان موقف التجربة الناصرية من اليسار، في سنواتها الأخيرة على الأخص، أشبه «بأمنا الغولة» في الحكايات الشعبية: فقد كانت تقتله وهو في أحضانها، ولم يكن القتل يحدث عفوًا، ولا من شدة ضغط الأحضان، بل لقد كانت تعرف جيدًا ما تفعل: فالقتل بالأحضان كان في ذلك الحين أفضل بكثيرٍ من القتل بالمخالب والأنياب.
ولو فهم اليسار معنى ما كان يحدث لعرف أن هذا الاحتضان هو الذي سيؤدي فيما بعدُ إلى فقدانِه قواعدَه الجماهيريةَ لفترةٍ طويلة، لا بد أن تدوم حتى الوقت الذي يعرف فيه كيف ينفض عن نفسه غبار التجربة الفاشلة، على حين أنه لو كان قد قتل بالمخالب والأنياب لكان الأمل كبيرًا في أن تظل هذه القواعد متعلقة بذاكرة، بوصفه المنقذ والملاذ، حتى يحين الوقت الذي يُبعث فيه من جديد.
وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى ضرورة استشهاد اليسار؛ لكي يحتفظ بقواعد الجماهير، بل إنني أقارن فقط بين طريقتين في محاربة اليسار، إحداهما أشد فعالية وأطول أمدًا بكثيرٍ من الأخرى. وهي في الوقت ذاته أدهى وأذكى فضلًا عما تتيحه من قدرةٍ أعظم على المناورة في الساحة الدولية.
والمهم في الأمر أن النتيجة كانت محتومة، وأن امتصاص التجربة الناصرية لليسار، الذي بدأ في ظاهره، ولوقتٍ ما، نصرًا عظيمًا له، كان ينطوي في ذاته على عنصر «النكسة» التي حدثت فيما بعد للقوى اليسارية، ولم يكن تمسك اليسار خلال هذه النكسة بالتجربة الناصرية وإصراره على «يساريتها» سوى معول آخر … يهدم به اليسار بناءه الذي شيَّدَه على مدى كفاحه الطويل.
لقد كان الذكاء والوعي هو الذي يميز اليسار طوال الفترات السابقة على التجربة الناصرية، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة لهذه الفترة أفقد اليسار وضوح الرؤية، وسلبه قدرته السابقة على النظرة الشاملة إلى الأمور والتحليل المتعمق لها.
ذلك لأن التجربة كانت تتبع أسلوبًا جديدًا كل الجدة في مواجهة اليسار عن طريق الاحتواء، وفي إفراغِه من مضمونه الحقيقي وإحلال مضمون فيه قدر كبير من الزيف محله، مع الاحتفاظ بالعدد الأكبر من شعارات اليسار ومن أقطاب اليسار، بعد نقلِهم المفاجئ — على طريقة حمام «الساونا» — من حمام البخار الملتهب إلى حوض الماء المثلج.
ومنذ ذلك الحين لم يعرف اليسار إلا الدوار واختلال التوازن، وكان من الطبيعي أن تشوه صورته أمام الجماهير التي كانت تتعلق به في أوقات ثباته وصلابته.
أما الموقف الراهن لليسار، فليس إلا النتيجة الطبيعية للأخطاء السابقة، وكل ما يبدو على السطح من تحوُّلٍ إنَّما هو في واقع الأمر تطورٌ منطقي لم يكن هناك مفرٌّ من حدوثه، ويصل هذا التطور إلى نقطة مؤسفةٍ حين يترك اليسار لليمين شرف المناداة بالحرية وسيادة القانون ومحاسبة المختلسين والقتلة والسفاحين — وقد عرفت مصر منهم الكثيرين بالفعل خلال السنوات الماضية — على حين أنه يقف مستنكرًا لأية دعوةٍ إلى محاكمة أخطاء الماضي، وكأنها ردة وجريمة لا تغتفر.
وبذلك يترك الميدان خاليًا لليمين لكي يصول ويجول، ويرفع أسهمَه من خلال مناداتِه بشعاراتٍ أصبحت تمثِّل بالنسبة إلى شعبنا أهدافًا لا بدَّ من السعي إلى تحقيقها، مع أن اليمين هو أول من كان يدوس هذه الشعارات بقدميه حين كانت مقاليد الأمور في يديه، وهو أول من سينتهكها لو آلت إليه هذه المقاليد مرة أخرى.
ثم تصل المهزلة إلى قمتها حتى يصبح اليمين هو الذي ينادي بالرفض والتغيير والتجديد، ويقف اليسار مطالبًا ﺑ «الستر» وبقاء الأمور على ما هي عليه. وبذلك يتبادل الأدوار مع اليمين تبادلًا كاملًا: فيصبح اليسار — الداعية التقليدية للتغير والتجديد — هو المحافظ والمتمسك بالوضع الراهن، على حين أن اليمين المحافظَ بطبيعته تتاح له الفرصة كاملةً؛ لكي يتقمصَ رداء الدعوة إلى التجديد والتغيير الثوري.
وبذلك تُسرق من اليسار كل الشعارات التي قضى تاريخه الطويل كله داعيًا إليها، وتصبح هذه الشعارات أداةً لتجميل الوجه القبيح لليمين وتشويه صورة اليسار. كل ذلك لأنه يصر على إنكار الواقع الموضوعي الذي أحسَّت به الجماهير في حياتها اليومية، ولم تكن محتاجةً من أجل هذا الإحساس إلى نظريات أو تحليلات معقدة. وأعني بهذا الواقع أن التجربةَ السابقةَ لم تعطِ الإنسان المصري البسيط ما تعطيه التجربة الاشتراكية الناجحة للشعب الذي يمارسها، وأنها قد ارتكبت أخطاءً موجهةً ضد إنسانية هذا الإنسان، تتجاوز بكثير نطاق الخطأ غير المقصود الذي يقع فيه نظام الحكم الثوري في سعيه إلى تغيير الأوضاع بصورةٍ مفاجئة.
وبعد، فإن هذه لا تعدو أن تكون محاولة لتحليل الموقف الراهن لليسار إزاء التجربة الناصرية، وردها إلى جذورها العميقة ولتخطي التفسير الساذج لنكسة اليسار من خلال أوضاع اللحظة الحالية وحدها.
وهذه المحاولة تشير، في رأيي، إلى طريق الخلاص الحقيقي لليسار، في نفس الوقت الذي تكشف فيه عن أخطائه الماضية والحاضرة.
وكل ما آملُه هو أن ينظر إليها اليسار بهذا المعنى، حتى لو اختلف ما صاحبَها في الرأي حول طبيعة التحليل الذي يقدِّمه.
وإذا كنَّا قد ألفنا تشويهَ الفكر وإقحام عوامل غير موضوعية في كل رأي يخالف ما نعتنقه، فإني أرجو ألَّا تطبق تلك اللعبة على هذه المحاولة، حتى لا نعود مرة أخرى إلى المهاترة، بينما تظل القضية الرئيسية سائرةً في طريق التضليل والتخبط.
إن هذا، على أية حال، تحذير مخلص، وأرجو ألَّا يكون قد أتى بعد فوات الأوان!