الوطنية جوهر الناصرية ولهذا وقف معها اليسار
الخطأ الذي وقع فيه د. فؤاد زكريا حين فتح للمناقشة قضية موقف اليسار من عبد الناصر … خطأ منهجي في الأساس … ذلك في تقديري مصدر الخلاف الكبير بينه وبين اليسار في تقييم حكم عبد الناصر … فليسمح لنا أستاذ الفلسفة الذي نعتزُّ به، أن نرسيَ أولًا قواعد المنهج والمبادئ ذلك أدعى للاتفاق أو الاختلاف «على نور» … فقليل من الفلسفة قد يصلح المعدة، والرأس أيضًا ويحمينا على الأقل من التخبط في متاهات السياسة.
ولنتفق قبل كل شيء على القضية: هل هي محاكمة عبد الناصر كفردٍ وزعيمٍ بكل أمجاده أو أخطائه، وتقييم تجربة الحكم الناصري، ما لها وما عليها، في الإطار المحدود الذي وقعت فيه — إطار الزمان والمكان؟ أم هي قضية الناصرية كظاهرة تاريخية وتيار وفلسفة؟
فظاهرة الناصرية يعرفها وطننا العربي في العديد من زعاماته وأحزابه ونظمه الوطنية والتقدمية … وقد يكون نظام عبد الناصر أسبقها وشخصيته أبعدها أثرًا ودلالة … ولكنه لا ينفرد وحده بصفاته وسمات نظامه الأساسية، وكذلك العديد من بلدان العالم الثالث، كما تمثَّلت في نظم سوكارنو ونكروما وسيهانوك قبل انقلاب لول نول وغيرهم وغيرهم، مع اختلاف في الشخصيات والظروف وموازين القوى الداخلية في بلدانهم.
فهي إذن ظاهرة تتكرَّر في زماننا وتتعدَّد بأشكال وصور مختلفة. وهي تخصُّ بلدان العالم الثالث برغم ما بينها من اختلافات … وعندما تتكرَّر الظاهرة فلا بد أن يكون لها قانونها — كما لا يخفى على أستاذ الفلسفة — ولها تفسيرُها الموضوعي الذي لا يستمد في الأساس من شخصية الزعيم الفرد أو أخلاقياته أو نواياه — وهذا لا يعني في شيءٍ إسقاط شخصية الزعيم أو أساليبه وتصرفاته — بل وضعها في إطارها الصحيح، وفي سياقها التاريخي.
نحن بإزاء ظاهرة تاريخية لا زالت أبعادها وآثارها تنكشف منذ الخمسينيات، ويتطلَّب تقييمها مناهج التحليل التاريخي والاجتماعي ومعايير الموضوعية التي تتخطَّى أساليب التحليل النفسي وأخطاء الأفراد والأحكام الأخلاقية على الزعامات ونظم الحكم. والخطأ الذي يقع فيه د. فؤاد زكريا منهجي في المحل الأول حينما يبني تقييمَه للنظام الناصري انطلاقًا من شخصية الزعيم ونواياه وأساليبه وأخلاقياته وحدها … كما يبني حكمَه على التجربة في إطار زماني ومكاني ضيق ومحدود، ولا تتسع رؤيته لتشمل الزعيم ونظامه في إطار الحركة العالمية المعاصرة؛ حركة الثورة والثورة المضادة في زماننا.
النظم الوطنية في الميزان
جوهر الخطأ الناصري في رأي د. فؤاد زكريا يتركَّز في أسلوب تطبيق الاشتراكية، فقد أقام عبد الناصر اشتراكيةً سمحت لغير العمال والفلاحين بامتصاص معظم ثمارها، وتركت مال الشعب تنهبه الطفيلية والتسيُّب … وكان نجاح السياسة الخارجية على حساب الأوضاع الداخلية للشعب، وكان القمع سمة بارزة للحكم.
أما النظم التقدمية فلها في تقديره مؤشرات معروفة تدل عليها: القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة إلخ؛ لذلك كان من الصعب أن ندرج التجربة الناصرية ضمن النظم التقدمية فسلبيات النظام لا تخطئها عين.
هذا مجمل تقييم الدكتور للنظام الناصري: سلبياته غلبت إيجابياته وتطبيقاته الاشتراكية خذلت مبادئه:
وهنا لنا أن نتساءل: من أين إذن جاء عداء الاستعمار الشديد لمثل هذا النظام؟ وإذا كان الزيف طابعَه فلماذا يأتي العدوان تلو العدوان لإزاحته؟ وكيف نفسر سلسلة المؤامرات التي لم تكف للإطاحة به؟ ولماذا تتصاعد هجمات اليمين المسعورة اليوم لتصفيته من الداخل … وتصفية آثاره.
شيء من هذا لا نعثر له على جواب، وإنما تقدم السلبيات كالألغاز بلا تفسير، إلا إذا فهمت انطلاقًا من شخصية الزعيم وفساد نظامه، كما لا نجد من يرشدنا في بحر النظم الوطنية التقدمية التي يموج بها عالمنا الثالث، لنحكم لها أو عليها إلا إذا أخذنا بحساب المكاسب والخسائر وقوائم الإيجابيات والسلبيات.
أما الجواب فيكمن في الحقيقة لا في شخصية الزعامات في الحل الأول … دونما تقليل لدور الشخصيات والزعامات التاريخية ولا في هذه القوائم والحسابات، بل في طبيعة هذه النظم من حيث تركيبها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ووضعها ودورها في حركة الثورة الوطنية والعالمية في مرحلتها الراهنة.
هذه النظم جميعًا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لا تُقاس بمعايير الاشتراكية مهما رفعت من شعاراتها، أو تطلعت إلى آفاتها. بل هي تنتمي بالفعل وبلسان زعمائها أنفسهم، ومنهم عبد الناصر إلى حركة التحرير الوطني، والتي تلتحم بالثورة الاشتراكية العالمية، وتشكِّل جزءًا من قواها.
وبطبيعة هذه النظم الوطنية والمعادية للإمبريالية والطبقات الإقطاعية والرأسمالية العميلة الضالعة معها، فهي تعبِّر عن مصالح الطبقات والفئات الوطنية وهذا ما يشكِّل جوهرَ تقدميتِها ويساريتِها رغم كل شيء.
ولأن هذه النظم في بلدان مختلفة بدرجات متفاوتة؛ فالقيادة فيها عادةً للبورجوازية الوطنية بأقسامها وأجنحتها المختلفة تبعًا لنموِّها وتطوُّرِها، والأيديولوجية الغالبة والفكر الرائج للبورجوازية الصغيرة بجاذبيته الشديدة، وفيه تختلط شعارات الوطنية والتقدمية والعصرية، بضيق الأفق وقصر النظر، كما تختلط الاشتراكية بالمحافظة بل وبالسلفية أحيانًا، وتتوه الحقائق في ضبابٍ كثيف من الخيالات والشعارات.
هذه النظم بتركيبها هذا تحدت الإمبريالية وخاضت ضدها أعظم معاركها … ومنها تستمد أمجادها ورصيدها أو إيجابياتها … كما دعمت استقلالها بإجراءات إصلاحية راديكالية متقدمة: إصلاح زراعي، وتأميمات واسعة واستعادة للثروة القومية وبرامج للتنمية والتصنيع.
هذه الثروة المنتزعة من الاستعمار ومن الطبقات الرجعية القديمة، كان من المفروض، في ظل أوضاع ديموقراطية وتحالف وطني حقيقي، أن تعود ثمارها للشعب العامل في المحل الأول … ولكنها عادة تنتزع لتتكدس في يد طبقات وفئات وشرائح اجتماعية جديدة … تدعم مصالحها ومراكزها المستحدثة بالانفراد والتسلُّط وعزل الشعب العامل وحرمانه من جني الثمرات؛ وهي لذلك تهدر شروط الوحدة الضرورية بين القوى الوطنية والتقدمية لتستبدلها باليفط وشعارات التحالف. وبأجهزة القهر والقمع في نفس الوقت، وتظهر بؤر الفساد مثل البثور على الوجه وتنبت السلبيات في سرعة العشب الشيطاني … ويشتد الصراع والقلق … وتحت البرك الآسنة تعاود الروح الطبقات القديمة الرجعية والعميلة وتشتد عزيمتها على النشاط والحركة.
هذه الحقائق الدامغة والتي تدين اليمين، أو أصحاب المصالح الضيقة القديمة والجديدة تغلب، ويشتد نقيق الضفادع، وترتفع أعلام الحرية المزيفة؛ لتخفي مواقع الفساد الحقيقية ومنبع كل السلبيات.
محكمة الآلهة
ولأن النظم بطبيعة تركيبها وتعدُّد الطبقات المشاركة فيها حمالةُ أوجه، تختلط فيها الأمجاد بالدنايا، الفضيلة بالرذيلة، والخير بالشر؛ فإن المرء عندما يتصدى لتقييمها وتحديد موقف منها، بحاجة إلى أن يتسلح بمزيد من الموضوعية والبعد عن المعايير الذاتية.
والذاتية في المنطق والفلسفة، وفي معايير الحكم والتقييم — كما يعرف جيدًا أستاذ الفلسفة — لا تعني أبدًا مجرد الأغراض الذاتية — وهو بالفعل بريءٌ منها، فلا هو بالإقطاعي ولا أضير من الحكم الناصري حتى يحمل عليه لهدف ذاتي.
ولكن الغضب وهو انفعال مشروع ضد المثالب والعيوب، إذا أخفي عنا العلل والأسباب الموضوعية والقوى الاجتماعية الكامنة وراء هذه المثالب والعيوب، تحول إلى موقف ذاتي … وقد يقودنا إلى عكس ما نريد تمامًا.
وقد يستهوينا أيضًا هذا الميزان الخادع في الحكم على النظم والسياسات، ميزان الحسنات والسيئات، الإيجابيات والسلبيات. وقد يبدو ميزان عدلٍ وإنصاف، بينما هو في حقيقته معيار أخلاقي فردي وذاتي، قد يصلح للحكم على تصرفات الأفراد، ولكنه لا يجوز على النظم السياسية والاجتماعية، والتي تحكمها قوانين غير قوانين الأفراد. فقد تسقط نظم تحت وطأة أخطائها وسيئاتها كما سقطت نظم نكروما وسوكارنو وسيهانوك وغيرهم، ومع ذلك تظل هذه النظم تحتفظ بوجهها الوطني والتقدمي الأساسي برغم الأخطاء والسلبيات، ويمثِّل الانقضاض عليها وتقويضها نكسة وردة إلى الوراء.
وما بالنا نتخيَّل النظم كما لو عبرت بروحها إلى ما وراء الأفق، في الفلك المقدس لتمثل أمام محكمة الآلهة — تضع حسناتها في كفة وسيئاتها في الأخرى لتقرِّر مصيرها في الأبدية!
هذا الميزان لا يقوم بديلًا عن قوانين الاجتماع والعمران وقد بدأنا نضع أيدينا عليها منذ ابن خلدون.
ولا تؤخذ النظم أيضًا بمجرد النتائج العملية، ولا تقاس بما حققت أو عجزت عن تحقيقه وهو المعيار البراجماتي العملي الذي يستخدمه د. فؤاد زكريا في إدانته للحكم الناصري. صحيح أن النظام الناصري لم ينجح في محو الأمية أو إزالة الفقر إلى هذه القائمة من أنواع الفشل … بل إن هزيمة ٦٧ كانت هي بذاتها تجسيدًا لكل الفشل والخيبة والثمرة الطبيعية لسلسلة من الحماقات والأخطاء. ومع ذلك فإن الوجه الأساسي للنظام وطبيعته لا تتحدَّد بمجرد مصادر النجاح أو الفشل ودرس التاريخ أيضًا يعلمنا أن هذا المعيار خاطئ، ودون أن ننخرط في مقارنات بين عبد الناصر ونابليون ومحمد علي، فالظروف تختلف تمامًا. والشخصيات تختلف ومع ذلك فنهاية نابليون في سانت هيلانه لا تمحو البصمات التي تركها على التاريخ الأوربي الحديث وزلزاله الذي أطاح بالنظم الإقطاعية الأوربية. ونهاية محمد علي وسيئاته لا تلغي أنه منشئ مصر الحديثة.
هذه الأساليب في تقييم نظم الحكم والسياسات تفتقد الموضوعية وتسقط في الذاتية؛ لأنها تقف عند حدود المظاهر والأعراض، أو ما نسمِّيه بالسلبيات ولا تتعمق الجذور الاجتماعية والعلل. ولا تغوص إلى المنابع ومصادر الداء. واليمين الرجعي يحرص كل الحرص على أن يقف بنا عند السطح، وأخوف ما يخافه أن ينكشف الغطاء عن الأسباب الاجتماعية العميقة للسلبيات والأخطاء؛ لأنها تدينه وتفضح دوره في الفساد والإفساد، كما تقطع عليه الطريق وعلى أهدافه المشبوهة.
أما المعيار الموضوعي الصحيح في الحكم على النظم والسياسات، فهو يستمد في عصرنا من واقع حركة الثورة، ومن قوانين هذه الحركة، وهي حركة موجهة في الأساس إلى تصفية الإمبريالية ونظامها الرأسمالي العالمي، وفتح الطريق إلى الاشتراكية، ومن ثم يتحدد الوجه الأساسي لأي نظام أو سياسة في الحكم من موقفه من الإمبريالية وتتحدَّد سمته الأساسية الوطنية والتقدمية بمعايير الوطنية في عصرنا بوجهيها الخارجي والداخلي. فهي ليست بالوطنية الساذجة أو التحلي بالمشاعر الوطنية الساذجة أو التحلي بالمشاعر الوطنية الرومانتيكية، بل انتهاج سياسة نشطة في مواجهة الإمبريالية، قوامها التلاحم الضروري مع قوى الثورة الوطنية وقوى الثورة الاشتراكية العالية، وفي الداخل دعم الاستقلال السياسي والاقتصادي وتحقق التقدُّم الاجتماعي.
فإذا تحدد المعيار، تحدد الوجه السياسي للنظام، وتحدد الموقف منه، أما معالجة قضايا التاريخ والاجتماع بمنطق الأخلاق وقواعد السلوك الفردي وحساب الآخرة! فلا يخدم سوى فرسان اليمين الرجعي من أدعياء الطهارة ومنتجي الخطب المنبرية والمواعظ والشعارات الزائفة بديلًا عن موقف الوطنية الحقيقية.
ولا يعني هذا التغاضي عن السلبيات أو السكوت عليها، بل تحديد موقف أساسي سليم، والانطلاق منه لمجابهة كافة تحديات الداخل والخارج.
ولأن هذه النظم الوطنية التقدمية تعادي الإمبريالية فهي تستحق المساندة والتأييد، ولكن دون أدنى شبهة من ذيلية أو تبعية.
لأن المواجهة الفعالة للقوى الإمبريالية في الخارج وحلفائها من اليمين الرجعي والعميل في الداخل يتطلب جبهةً وتحالفًا واسعًا أساسُه الحرية والاختيار، وجوهره الديمقراطية فلا بد من الوقوف بحزم ضد كل أشكال التسلط والقمع والاستغلال، وتتحقق الوحدة الوطنية من خلال الجدل الحر والصراع غير العدائي ولا بديل.
مخالب القطط
ولا شك أن حملة اليمين المسعورة ضد عبد الناصر والناصرية تحاول أن تقفز على ظهر الجواد الرابح. وهي تنطلق من مقدمات كثير منها حق، ولكنه الحق الذي يراد به باطل. أما التصدي لهذه الحملة ودحرها فلا يأتي بالتقاء بها عند منتصف الطريق، أو الخضوع لابتزازها وإرهابها، بل بفضح أساليبها، وتعميق الوعي بالحركة الاجتماعية في الماضي والحاضر والمستقبل وضبط الشراع في بحار النظم والتيارات والفلسفات في عالم اليوم، هذا إذا أردنا ألَّا نتحوَّل إلى مخالب فقط.
لنأخذ الحكمة من شعوبنا.
أما شعوبنا فقد أثبتت أنها تملك من الحكمة أضعاف ما يمتلك الفلاسفة والحكماء، ذلك هو الدرس العظيم لهبة ٩ و١٠ يونيو سنة ١٩٦٧م. لقد استطاع شعبنا في لحظة عبقرية وحاسمة أن يستخرج المدلول الحقيقي للنظام من بين حطامه في المعركة. احتفظ برأسه عالية وتوازنه برغم الضربة الصاعقة، واندفع لتثبيت إنجازات الماضي، وتحرك لا عن غفلة أو جهل، بل بوعي عميق؛ ليفوت على الإمبريالية والصهيونية أهدافها، ويحبط كل مخططاتها، ثم مضى في طريقه بصبر وأناة يعالج السلبيات ويتصدى للأخطاء متطلعًا إلى التحرر والتقدم والديمقراطية.