فؤاد زكريا يرد على نفسه
• عبد الناصر خرب نفس الإنسان المصري من الداخل. | • عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار. |
• الناصرية أساءت إلى الاشتراكية أكثر مما أفادتها. | • مجرد المناداة بالشعارات الاشتراكية في حد ذاته تقدم هائل. |
• نظام عبد الناصر أسكت الشعب وعطل ملكات التفكير فيه وجرده من مجرد الأمل في التفكير. | • إنجازات يوليو ديمقراطية أساسًا وبعضها كبير وجذري. |
في ثلاثة مقالات كتبها د. فؤاد زكريا عن «جمال عبد الناصر واليسار المصري» ركز الدكتور مدفعيته الثقيلة على التجربة الناصرية، وعلى اليسار المصري في آن واحد.
ولندع الآن هجومه على اليسار، ولنحاول أن نتعرَّف على تقييمه «للتجربة الناصرية» (لاحظ أنه يتفادى تعبير «ثورة يوليو») وخلاصة رأيه في التجربة هو:
أن أسلوبها في تطبيق الاشتراكية أساء إلى الاشتراكية أكثر مما أفادها.
وأن للتجربة بعضَ إنجازات في الداخل والخارج، ولكن التجربة — في النهاية — لا يمكن إدراجها تحت عنوان التجارب التقدمية؛ لأن للتحول الاشتراكي معاييرَ وبوادرَ معروفةً لم تتحقق.
إن أشد سلبيات التجربة بتخريب نفس الإنسان المصري من الداخل عن طريق القمع من ناحية، وعن طريق أجهزة الإعلام من ناحية أخرى، وأن كل هذا أسكت الشعب، وعطل ملكات التفكير فيه، وجرَّده حتى من مجرد الشعور بالأمل في تغيير الحال.
وإنه ترتيبًا على ما تقدم، إذا جاز أن نوازن بين ما حدث من عمليات قمع للشعب قبل ١٩٥٢م أو ما حدث له خلال التجربة الناصرية، لأمكن القول بأن ضرر العهد الناصري أفدحُ من ضرر العهد الملكي الإقطاعي الذي تمكن فيه الإنسان من أن يحتفظ — على الأقل — بشعور بالأمل وبأن مقاومة الظلم يمكن أن تأتي بنتيجة.
ولما كان الدكتور قد قدم لمقالاته بفصل في «مناقب الدكتور» أوضح فيه — وهو محرج بلا شك — أنه يساري وأنه لا يمكن اتهامه بالجبن أو الانتهازية فإننا سنطالبه باسم هذا كله أن ينقد نفسه نقدًا ذاتيًّا فيه من القسوة والأمانة وفيه من الصراحة والإدانة ما يزكي الصفات التي نسبها إلى نفسه.
ذلك أن د. فؤاد زكريا عام ١٩٧٥م نسي أن د. فؤاد زكريا لعام ١٩٧٠م كتب عن الناصرية عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الفكر المعاصر.
ففي العدد ٦٨ — أكتوبر ١٩٧٠م — من مجلة «الفكر المعاصر» نقرأ في صدر العدد كلمة غير موقعة ونفهم أنها كلمة المجلة التي يرأس تحريرها د. فؤاد زكريا، ونفهم من أسلوبها أيضًا أن كاتبها هو د. زكريا نفسه.
جاء في الكلمة رثاء لعبد الناصر نقرأ فيه:
«كان الكل في واحد، والواحد في الكل.»
«الدموع التي انهمرت قديمًا من عيني الأم الطيبة إلى بحر من الأيدي الملهوفة والنفوس المفجوعة والحناجر الصارخة.»
«النعش الذي سجن فيه الأخ والأب والراعي تحول إلى راية ترفرف على المركب وتدعوه لمواصلة الزحف على الطريق.»
«الأطفال والشباب والعجائز المتعبون والصابرون اندفعوا للتعبير عمَّا استقر في ضمائرهم: هذا رجل حمل همنا وعاش … لم يصل إلى أغلبنا شيء من خيرات الثورة التي فجرها … لكن وصل إلينا صوته فأحسسنا صدقه … لا زلنا نعاني الفقر والجهل والمرض والحرمان … لكن نعلم أنه لم ينسنا أبدًا.»
تعودنا من آلاف السنين على اللقمة المرة والعيشة المرة لكن ما أندر من أعطانا حبه واحترامه.
«وإذا كان الرائد قد ودع الركب، فلا بد أن يواصل الركب سيره ويتشبث بأعلامه، وإذا كان القائد قد تركنا ونحن لا نزال نعيش في كابوس الهزيمة، والعدو الشرس الغادر يدنس ترابنا، فقد ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار.»
إلى أن يقول:
«اذكروا أيها العاملون أنه عاش ليعمل، ويعمل.»
«واذكروا أيها الفلاحون أنه سلمكم الأرض أمانة … إلخ.»
- (١)
إن الأسلوب الفردي الذي ينقد من أجله التجربة الناصرية عام ١٩٧٥م، لم يكن من سلبيات التجربة عام ١٩٧٠م؛ لأن مجلة «الفكر المعاصر» كانت ترى أن عبد الناصر كان «الكل في واحد والواحد في الكل.»
- (٢)
إن الدموع التي انهمرت من أعين الشعب عام ١٩٧٠م كانت في نظر «الفكر المعاصر» دموع نفوس مفجوعة عارفة بالجميل لرجل أعطاها من حبه واحترامه، وترك لها إرادة الصمود والإصرار على الانتصار، لكن نفوس هذه الجموع لعام ١٩٧٥م، هي نفوس هذه الجموع لعام ١٩٧٥م، هي نفوس شعب دمرت معنوياته تدميرًا مروعًا.
- (٣)
إنه على الرغم من أن غالبية الشعب لم يصل إليها شيءٌ من خيرات الثورة التي فجرها عبد الناصر فإن مجلة «الفكر المعاصر» لعام ١٩٧٠م، قد دعت الجماهير إلى أن تواصل الركب، وتتشبث بأعلامه التي هي أعلام الثورة، ولكن في عام ١٩٧٥م أصدر د. زكريا حكمًا بالإدانة الكاملة على التجربة الناصرية (لاحظ أنه في عام ١٩٧٠م كان ما فعله عبد الناصر منذ ١٩٥٢م هو أنه فجر «ثورة») أما في عام ١٩٧٥م فقد انكمشت هذه الثورة إلى تجربة ناصرية بائسة وفاشلة.
- (٤)
إنه في عام ١٩٧٠م وكما تشير إلى ذلك «الفكر المعاصر» كنا نعيش مرارة الهزيمة، لكن عبد الناصر ترك للشعب إرادة الصمود مع الانتصار، ولكن في عام ١٩٧٥م اكتشف د. فؤاد زكريا أن التجربة الناصرية تركت الشعب مجردًا حتى من الشعور بالأمل في المقاومة، أي مقاومة، وفي أن تغييرًا يمكن أن يحدث.
وربما اعترض د. زكريا بقوله إن الكلام الذي استشهدنا به لم يكن يعبِّر عن رأيه الشخصي بقدر ما كان يعبِّر عن رأي «هيئة تحرير» المجلة التي كان يرأس تحريرها، فليكن! ولنأتِ إلى مقال آخر صريح بقلم د. فؤاد زكريا تحت عنوان كلمة عن المستقبل (الفكر المعاصر — العدد ٦٩ — نوفمبر ١٩٧٠م).
يبدأ مقال الدكتور بفضح دعايات الأعداء الذين زعموا أن مصر تعاني من الفراغ بعد رحيل القائد، ويرد الدكتور على مزاعم الأعداء بقوله: إن أي مقارنة بين الماضي والحاضر تبين أن ما يميز الحاضر (١٩٧٠م) هو الامتلاء لا الفراغ.
ودلَّل الدكتور على ما ذهب إليه بقوله:
إن هذا يتضح، إذا قارنا بين اتجاهات عقولنا قبل ١٩٥٢م، وبين اتجاهاتها الراهنة.
ثم قال الدكتور بالنص:
«فقبل عام ١٩٥٢م، كان التفكير في العدالة الاجتماعية يتخفى ويتسرب تحت الأرض، وكانت الاشتراكية معنى محرمًا، تعاقب عليه قوانين الدولة، وكانت الملكية الخاصة — سواء الزراعية منها أو الصناعية — حقًّا مقدسًا لا يمس، مهما بلغ مقدار استغلالها أو وقوفها في وجه النمو المنطلق للمجتمع، وكانت أبواب البلاد مفتوحةً على مصراعيها أمام الاستثمارات الأجنبية دون أن يتساءل أحد عن مدى التعارض بين هذه الاستثمارات وبين رغبتنا في تنمية اقتصادنا على نحو مستقل. أما اليوم، فإن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة، والاقتصاد الوطني يعرف كيف يميز بين المساعدة الآتية من الأصدقاء وبين الاستغلال الذي يعوق نموه … والملكية الخاصة قد تكشفت وظيفتها الاجتماعية، ولم تعد تحاط بهالة القداسة التي كانت تمنع المجتمع من تقليم أظافرها.»
وبعد أن يتحدث الدكتور — في مقاله — عن المعالم الإيجابية في سياسة مصر الخارجية، يخلص من ذلك كله إلى أن: «هذه الوقائع الموضوعية، بناء على هذه الوقائع، تغير تفكيرنا، وأصبحت له أسس ومحاور جديدة. ولما كانت هذه الأسس تستجيب لرغبات شعبية طاغية، فقد أصبح الجميع يتبنون شعاراتها، ويجهرون بالدفاع عنها، ويتقربون إلى الناس عن طريقها.»
هنا، لا نحتاج إلى تعليق مطول على كلام الدكتور زكريا عام ١٩٧٠م، لكننا نلفت النظر، بوجه خاص، إلى أن الدكتور في محاولته التعرف على الوقائع الموضوعية في المجتمع المصري توصل إلى أن تفكير المصريين قد تغير (طبعًا إلى الأفضل)، وأصبح لهذا التفكير أسس ومحاور وأن هذا التغيير تم استجابة لرغبات طاغية، بمعنى أن هذه الرغبات الشعبية استطاعَت أن تفرض نفسها على القيادة فتستجيب لها، وأن هذه الرغبات لم تكن (وفقًا لرؤية الدكتور في ١٩٧٥م) مكبوتة أو سلبية أو فاقدة الأمل في إحداث أي تغيير.
ثم نواصل قراءة المقال، والواقع أننا إذ نقرأ فإننا نميل إلى احترام د. فؤاد زكريا؛ لأنه حاول فيه أن يتعمَّق عددًا من الظواهر السلبية التي رآها — في عام ١٩٧٠م — تطفو على سطح المجتمع وأن يردها إلى أصولها، فلقد لاحظ الدكتور — مثلًا — أن هناك ما يهدد أسس الفكر الاشتراكي في مصر، وفسَّر ذلك بقوله:
«إن أفكار الناس لم يكن من الممكن أن تتغيَّر بنفس السرعة التي تغيرت بها الوقائع فقد ظلت كثير من العقول باطنها الجمود وظاهرها الثورية. ومن جهة أخرى فإن المعاني والقيم الجديدة فاجأت عقولًا أخرى لم تكن متأهبة لها، ولم تكن قد نضجت إلى الحد الذي يسمح لها باستيعاب الأفكار الجديدة، هذا فضلًا عن قلةٍ من الأذهان كانت تتعمَّد جذب الاشتراكية إلى الوراء، ووضعها قسرًا في إطار من الأفكار المختلفة.»
هنا، أيضًا لا نحتاج إلى تعليق مسهب على كلام الدكتور عام ١٩٧٠م ولكننا نقول إن هذا الكلام — في ذلك الوقت — جديرٌ بأستاذ فلسفة ينظر إلى الظاهرة فيحلِّل حركة تناقضاتها والصراعات في داخلها فينبه إلى ما يهدِّد الفكر الاشتراكي والتراث الذي خلفه عبد الناصر، وعلى العكس من ذلك يأتي د. فؤاد زكريا عام ١٩٧٥م، لينظر إلى التجربة الناصرية ككتلةٍ صماء لا تجري في زمان أو مكان، وليس لها علاقة تأثُّر أو تأثير بالقوى المؤيدة والمضادة، وكانت أخطر سلبياتها الخراب الذي لحق بنفس الإنسان.
لكن الدكتور عام ١٩٧٠م، يواصل الرد على الدكتور عام ١٩٧٥م، فيقول: إنه رغم كل محاولات تشويه الاشتراكية على المستوى الفكري، والانحراف بها، فإن الجميع قد أصبحوا ينادون — ولو بأطراف اللسان عند البعض — بالشعارات الاشتراكية.
ويعقِّب الدكتور على ذلك بقوله: وهذا يعدُّ في ذاته تقدمًا «هائلًا» ثم يشرح الدكتور لماذا هو تقدم هائل:
«لأن هذا الإجماع يعكس تعلقًا شديدًا أو شاملًا، من الشعب بالمعاني التي تعبر عنها هذه الشعارات، بحيث يكون التراجع عنها في المستقبل ضربًا من المستحيلات، وفي هذا التعلُّق الشعبي الكامل بمبدأ الاشتراكية واضطرار القلة التي لا تؤمن بها، أو لا تفهمها، إلى صياغة أفكارها في إطار ظاهري من هذا المبدأ ذاته — في هذا ما يؤكد أن الوصف الصحيح لموقفنا الفكري بعد غياب القائد هو «الامتلاء لا الفراغ».»
ونعلِّق على هذا النص فنقول: بينما كان د. زكريا يرى في عام ١٩٧٠م أن الشعب كان يُبدي تعلقًا كاملًا بمبدأ الاشتراكية، وأنه كان يتعلق بشعارات الاشتراكية تعلقًا شديدًا وشاملًا يستحيل معه التراجع عنها في المستقبل، إذا بالدكتور في عام ١٩٧٥م يكتشف «إن الإنسان العادي حين يجد التجربةَ قد أخفقت، لا يستطيع أن يميزَ بسهولةٍ بين المبدأ والتطبيق، وهكذا أصبحت طاقة السخط لديه منصبةً على مبدأ الاشتراكية ذاته.»
ولنلاحظ هنا أن د. زكريا الذي كان يقول هذا الكلام هو نفسه الذي قال عام ١٩٧٠م: إن الغالبية العظمى من الشعب لم يصل إليها شيءٌ من خيرات الثورة التي فجرها عبد الناصر، ومع ذلك فقد ظلت — كما قال — تبدي تعلقًا شديدًا أو شاملًا، بمبادئ الاشتراكية وشعاراتها.
ونواصل قراءة المقال، فنراه يشرح نظرية «الامتلاء» الذى خلفه «القائد» بعد رحيله، وما ينطوي عليه من خصوبة وثراء وتنوع فكري، هذا الذي يميز «العصر الذي نجد أنفسنا الآن على أبوابه» لكنه يحذِّر من أن يمتدَّ هذا التنوع والتعدُّد إلى الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي؛ لأن المجتمع الذي يخوض معركة البناء في الداخل، فضلًا عن معاركه المصيرية ضد قوى عالمية عاتية، لا يملك أن يستمتع بمثل هذا الترف.
هنا نرى إلى أي حد كان الدكتور في عام ١٩٧٠م يوغل في تشدُّده حتى ليرفض — مع تمسُّكه بحرية التفكير — أن تمتد هذه الحرية إلى مناقشة «الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي» وقد علل ذلك بقوله:
إن البلاد لا تخوض معارك التنمية فحسب بل معارك المصير الضاربة ضد أعدائها الخارجيين وهم — في المقال — الإمبريالية والصهيونية (ولربما وجدنا من يتحفظ هنا على تشدُّد الدكتور في وجوب رفض مناقشة «الأسس الأولى للطريق الاشتراكي» لكننا مع ذلك نحترم موقفه؛ لأنه يبدو أنه كان يتحرك في ذلك من منطلق الحفاظ على الوحدة الوطنية).
غير أننا نُفاجأ في عام ١٩٧٥م ومعركة المصير لم تزل قائمةً ضد الإمبريالية والصهيونية ومعركة التنمية لم تزل محتدمة، بل تزداد احتدامًا تحت وطأة اليمين — الذي قال الدكتور إنه يريد للبلد ردة كاملة — نقول إننا نفاجأ بالدكتور وهو يركز النيران على «التجربة» بأشد مما يركِّزها على اليمين، وكذلك يفعل باليسار المصري ولنا هنا أن نسألَه أليس هذا ترفًا لا تتحمَّله البلاد ولا تتحمَّله الوحدة الوطنية؟
ولكن سنمضي مع الدكتور في مقاله، وسوف نرى أنه عندما يصل إلى الكلام «عن الأسس الأولى للطريق الاشتراكي» يقدِّم نظرية أو رؤية تناقض رؤيته الحالية تمامًا.
ففي عام ١٩٧٠م، كان لا يزال يرى أن غالبية الشعب الساحقة لم تأخذ شيئًا من خيرات الثورة التي فجَّرها عبد الناصر، وفي ذلك الوقت حاول في مقاله أن يشرح ولا نقول يبرِّر كيف حدث هذا. قال الدكتور:
«… إن الفكر في عهد التغيير الاجتماعي السريع، ما بين ١٩٥٢م، حتى وقتنا الحاضر (١٩٧٠م) لم يكن هو الذي يصنع الحوادث، بل كانت الحوادث هي التي تصنعه.»
ثم فسر ذلك بقوله:
«إن أحدًا لن ينكر أن تلاحق الأحداث، في الفترة السابقة، لم يدع لمجتمعنا فرصة كبيرة لتطبيق المبادئ التي اهتدى إليها حديثًا، وكانت المؤامرات والمعارك الخارجية هي العامل الأول الذي أدَّى بنا إلى تكريس القدر الأكبر من جهدنا من أجل طرح المبادئ نفسها، ووضع أسس التغيير الذي تستلزمه، أما إخراج هذه المبادئ إلى حيز التنفيذ فلم يكن الوقت يتسع له، ولم تكن الظروف تسمح به.»
ثم يضيف أن: «التحدي الذي يفوق كل ما عداه في هذه المرحلة هو مواجهة مؤامرات دعاة الارتداد والتراجع أولًا، ثم الانتقال بالمبادئ الجديدة من مرحلة الدعوة النظرية إلى مرحلة التطبيق العملي.»
هنا تقول لنا رؤية الدكتور في عام ١٩٧٠م: لا تلوموا النظام إذا كان لم يشرع في تطبيق المبادئ الاشتراكية، واكتفى بإرساء أسسها، فلقد فعل هذا تحت ضغط ضرورات موضوعية: تلاحق الأحداث والمعارك التي فرضها الأعداء على البلاد، ولكن إذا جئنا إلى عام ١٩٧٥م، فسوف نرى أن الدكتور يحاسب نظام عبد الناصر — حساب الملكين — على التطبيق الاشتراكي الخاطئ والمشوه والمنحرف … إلخ. فأي الرؤيتين هي الصحيحة؟
عبد الناصر وضع الأسس ولم يطبق؟ أم أن عبد الناصر تورَّط وقطع شوطًا طويلًا في تطبيق سليم؟
وعندما يجيبنا الدكتور على هذا السؤال، فإننا نتوقَّع أن تكون الإجابة — من باب الأمانة على الأقل — نوعًا من النقد الذاتي وليس نوعًا من التبرير الذي طالما عوَّدنا عليه في بعض كتبه وكتاباته، على أننا نقول له إنه ليس على الإنسان من حرجٍ إذا اختلطت عليه الأمور، فرأى — مثلًا — في عام ١٩٧٠م أسسًا للاشتراكية توضع وتثبت، ورأى «امتلاء» و«خصبًا» و«ازدهارًا» في الفكر ينبغي ترشيدها حتى لا تنقلب فوضى فكرية تهدِّد الأسس الأولى للطريق الاشتراكي، ثم عاد — في ١٩٧٥م — ليرى أنَّه كان وهمًا ما حسبه حقيقة.
على أية حال، نعود إلى مقالِه لنرى إلى أي ختام ينتهي.
فبعد أن يحلِّل الدكتور اتجاهات وأهداف الأعداء الإمبرياليين والصهيونيين، وبعد أن يوضح أن أغراض العدو الرئيسية من عدوانه الأخير على بلادنا أن يعوقَ نمونا حضاريًّا وعلميًّا واقتصاديًّا، يحدِّد المهام الملقاة على عاتق جميع الوطنيين، فيدعوهم إلى حل هذه المعادلة الصعبة.
«ألا وهي حشد الجهود من أجل معركة المصير من جهة، وعدم إعطاء العدو فرصته الذهبية التي يحلم فيها بتوقُّف نمونا من جهة أخرى.»
- (١)
نضال على الجبهة الأيديولوجية (حماية الفكر الاشتراكي إلخ).
- (٢)
نضال على الجبهة الاقتصادية (مواصلة التنمية).
- (٣)
نضال على الجبهة السياسية (التعبئة لدحر العدوان).
ونحن إذ نهنئه بصدقٍ — على هذه الرؤية السليمة (في ذلك الوقت) نضيف أنه إنما توصل إليها — فقط — عندما طرح مشكلات «ما بعد عبد الناصر» في الإطار العام والأساسي، إطار التناقض الرئيسي بين الحركة الوطنية (من أجل التحرر والتنمية المستقلة) وبين الإمبريالية والصهيونية والرجعية أعداء التحرر والتنمية المستقلة.
نقول هذا، ولا نخفي أنا نختلف اختلافات كبيرة وصغيرة مع كثير من الحيثيات والقضايا التي أوردها د. زكريا في مقالة الذي عرضنا هنا أفكاره الرئيسية، من ذلك مثلًا خلافنا معه حول واقعة أنه عندما رحل عبد الناصر كانت الأسس الأولى للاشتراكية قد أرسيت. نعم لقد كان مكسبًا كبيرًا أن يعلن نظام وطني ثوري عن تبنيه لشعار إقامة مجتمع اشتراكي، لكننا لا نُوافق الدكتور على أن الأسس الأولى للاشتراكية كان قد تم إرساؤها غداةَ رحيل عبد الناصر عام ١٩٧٠م. فمن الناحية النظرية كان الميثاق خليطًا من اليوتوبيا والبرنامج الاستراتيجي، ومن الناحية العملية فإن ما أنجزته ثورة يوليو كان بالأساس إنجازاتٍ ديموقراطية (الإصلاح الزراعي مثلًا) وبعضها كبير وجذري (المثال هنا: القطاع العام) وفي نفس الوقت فإن هذه الإنجازات كان يمكن — في ظل توافر شروط معينة — أن تكون أدوات حقيقية للتحول نحو الاشتراكية (ولنلاحظ أن عبد الناصر أوضح أكثر من مرة أننا لا زلنا — في مصر — بعيدين عن المجتمع الاشتراكي).
على أية حال فإن اختلافَنا مع الدكتور لا يقلِّل من صحة النتائج التي انتهى إليها في تحديد مهام المرحلة بعد وفاة عبد الناصر، وهذا يدل على أن القوى الوطنية والتقدمية تستطيع أن تتفق على الأهداف والمهام إذا أخذت بعين الاعتبار حركة التناقض الرئيسي بين الطبقات الوطنية والشعبية، وبين الإمبريالية والرجعية. ولا يغير من صحة هذه الحقيقة أن هذه القوى الوطنية والتقدمية يمكن أن تتباين تحليلاتها، وتختلف حيثياتها وفقًا لتاريخها وانتمائها الاجتماعي والفكري … إلخ.
- (١)
إدانة التجربة الناصرية.
- (٢)
إدانة اليسار المصري بزعم أنه يدافع عن هذه التجربة «دفاعًا مطلقًا».
وسوف لا نحتاج إلى جهد إذا قلنا إن دعايات اليمين الرجعي تدور حول هاتين النقطتين، وهذا — في حد ذاته — لا يدعو إلى الدهشة.
غير أننا نذهل، عندما نجد الدكتور في هجومه على التجربة الناصرية وعلى اليسار المصري يستخدم نفس الحيثيات التي يستخدمها أقصى اليمين:
فقد انتهى من هجومه على التجربة الناصرية إلى أنها — بسلبياتها التي خربت نفس الإنسان — أفدح ضررًا من تجربة أخرى عرفتْها مصر هي تجربة الحكم الملكي الإقطاعي، ولما كانت الدعايات المكثفة لليمين لا تطرح بديلًا ثالثًا بين التجربة القديمة وبين التجربة الناصرية، فهنا يمكننا أن نتصور كيف يحمل الدكتور بنفسه الماء إلى طاحونة العدو.
وفيما يتعلق باليسار المصري فهو — بعد أن اتهمه بأنه خليطٌ بين الاشتراكية الصحيحة وبين «التطبيق الاشتراكي المزيف للتجربة الناصرية» هاجمه بكل أسلحة اليمين الرجعي، فراح يوحي — مستخدمًا عبارات مطاطة وزئبقية — بأن اليسار المصري أخذ رشوة في شكل المناصب الرفيعة التي تولَّاها عددٌ من أعضائه أو أقطابه، وأنه سيطر على أجهزة الإعلام في مقابل أن يتولى الدفاع عن التجربة دفاعًا مطلقًا.
وهي اتهامات لا تختلف كثيرًا عن ادعاءات اليمين الرجعي بأن مصر شهدت عشرين عامًا من الحكم الشيوعي يجب أن تتخلص منها، ولا تختلف عن الادعاءات التي نُشرت في بعض الصحف (وفندتها الطليعة بالوقائع) بأن الصحافةَ كانت تخضع إلى أربعة شهور مضت لسيطرة شيوعية كاملة.
أما هجوم اليمين على اليسار فهذا أمر مفهوم ورد فعل طبيعي، وهو لم يتوقَّف لحظةً واحدة منذ الأربعينيات عندما طرح اليسار شعارات الاشتراكية العلمية، والشعارات الخاصة بمرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية (ضرب الإقطاع وتصفية سيطرة رأس المال الاحتكاري الأجنبي)، ويعلم اليمين الرجعي من تجربته أن اليسار المصري لم يزل رأس الحربة في النضال ضد كل قوى التخلف في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأما هجوم الدكتور على اليسار المصري، فهو وإن قدم أجلَّ الخدمات النشاط اليمين الرجعي، إلا أنه يدخل بمقياس الحقيقة في باب الافتراء، بقواعد أدب الحديث في باب الأمور غير الصحيحة. وبأسلوب المجاملة في باب الوقائع التي دست على الدكتور فتقبلها بحسن نية.
- (١)
أنه عندما تحدَّثَ عن اليسار المصري لم يحدِّد أسماء ووقائع وتواريخ. وندعوه إلى أن يفعل.
- (٢)
أنه عندما اتهم اليسار بالسكوت على نهب المال العام ابتداءً مما كان في القصور الملكية إلى الحراسات إلى المجهود الحربي لم يعجز فقط عن أن يذكر اسمًا واحدًا أو واقعةً واحدةً، ولكنه ذهب في التجنِّي إلى محاسبة اليسار على فترةٍ يعلم الدكتور أن اليسار كان فيها مطاردًا فضلًا عن أنه لم يكن في الحياة العامة.
فمثل هذا الهجوم، وبهذا الأسلوب الهابط، يظل — على الأقل — من المواقف التي تُثير أكثر من علامة استفهام.
وإذا كان الدكتور قد نفى عن نفسه — في مقدمة مقالاته الثلاث — صفةَ الجبن (بدليل أنه — كما قال — لم يسكت، وإنما تكلَّم ونبَّه وحذَّر في مجلة الفكر المعاصر)، فإننا لن نجادله في هذا.
لكن يبقى مع ذلك أمور تحتاج إلى إيضاح؛ منها — مثلًا — أن الدكتور تحدث عن القمع الشديد في التجربة الناصرية (وهو القمع الذي أصاب المعارضين)، وإذا كان الدكتور قد أعلن أنه لم يسكت عن سلبيات التجربة، وأنه تصدى في «مجلته» — وبكل الشجاعة — لهذه السلبيات التي فصل الحديث عنها في روز اليوسف، ثم لم يمسه أي ضر أو أذى من أي نوع (بل على العكس من ذلك، فإذا هو يمضي في سلك الترقي في وظيفته الجامعية، ثم هو يتولَّى في أجهزة الإعلام (الناصري) رئاسة تحرير مجلة من المجلات الثقافية الهامة).
نقول أما والأمر كذلك، أو كان كذلك، فربما وافقْنا الدكتور على أن تجربتَه في مناطحة «التجربة الناصرية» في مجلاتها، وفي عقر دارها، وبكل الشجاعة، ثم النجاة من بطشها … هذه التجربة هي قصة مثيرة، بل هي تجربة رائدة لمواطن تصدى لقمع الحريات وللانحراف «بالتطبيق الاشتراكي» في مختلف المجالات.