الرجل ذو النصف وجه
لم يغرق الرجل، لقد مات بحقنة مسمومة أُعطيَت له وهو في الحمَّام، وقد عثر رجال الأمن على الحقنة في قاع الحمَّام بعد أن لفتت «إلهام» أنظارهم إليها … لم تُعرف شخصية الميت بعد.
اتضح أن «بوزيل» قد غادر بيروت في طائرته الخاصة عائدًا إلى سويسرا، ولا ندري كيف خرج من الفندق دون أن يراه الرجال الذين يُراقبونَه والذين ظلُّوا ينتظرون خروجه من غرفته حتى السادسة مساءً ثم فتحوا الباب فلم يجدوا أحدًا، ولا ندري متى غادر الفندق وربما غادره ليلًا.
قالت «عبلة»: السؤال الآن: هل «بوزيل» خلف هذه الجريمة؟!
عثمان: احتمال … ولكن هل يأتي «بوزيل» من أوروبا لقتل رجل في حمَّام علمًا بأنه لم يكن موجودًا ساعة الحادث؟
وساد الصمت وبدا «فهد» كأنه يعتصر ذاكرته … ثم قال فجأة: أرجو أن تعرض لنا «عبلة» الفيلم الخاص ﺑ «بوزيل» مرةً أخرى.
أحمد: هل هناك شيء يدور بخاطرك؟
فهد: لا أدري لماذا بدا لي أنني رأيت وجهًا أعرفه خارجًا من الحمَّام بعد ذهابنا بقليل … وجه رأيته من قبل … ولكن لا أدري أين … ربَّما … ربَّما يكون في هذا الفيلم.
عبلة: المسألة سهلة جدًّا.
ومرةً أخرى أطفأ «أحمد» أنوار الصالة … بدأ عرض الفيلم القصير … و«فهد» يُركز بصره ويطلب من «عبلة»، إيقاف الفيلم، وإعادة المنظر الأول، ثم الثاني … ثم فجأة صاح: أوقفي الفيلم هنا!
وأوقفت «عبلة» دوران الفيلم عند مشهد «بوزيل» وهو يرقص مع السيدة وحوله بضعة أشخاص. وقام «فهد» واقترب من الشاشة ثم ابتعد … ثم عاد يقترب من جديد، وقال وهو يضع إصبعه عند نقطة من الشاشة: هل ترون نصف الوجه هذا؟
وقال بعض الشياطين: نعم، ماذا فيه؟
فهد: إن صاحب هذا النصف وجه هو الذي خرج من الحمَّام بعد وصولنا بقليل …
قال «عثمان»: هل أنت متأكد؟
تردَّدَ «فهد» لحظات ثم قال: أعتقد هذا … إنك لن تجد أشخاصًا كثيرين في هذا العالم لهم مثل هذه الأذن المُتدلية التي تُشبه أذن الفيل.
ظلَّت الصالة مُظلمة والأصدقاء يجلسون صامتين وقد علقوا أبصارهم جميعًا، بالرجل ذي النصف وجه، وقال «أحمد»: إن هذا يؤكد أن «بوزيل» خلف جريمة رجل الحمَّام … يجب أن نُخطر «رقم صفر» فورًا.
وقام «أحمد» إلى جهاز اللاسلكي وبدأ يرسل: من «ش. س» إلى «رقم صفر»: هناك احتمال أن يكون «بوزيل» خلف جريمة قتيل الحمَّام. قال رقم «٨» إنه شاهَد رجلًا يخرج من الحمَّام بعد وصولنا بقليل، وأنه يشبه أحد الرجال الذين ظهروا مع «بوزيل» في الفيلم. إنه الرجل ذو النصف وجه الذي يقف خلف «بوزيل» … أثناء وجوده في الحفل الراقص … أقترح أن تراقبوا الخارجين من بيروت … أرسل من يأخذ الفيلم.
وترك «أحمد» جهاز اللاسلكي مفتوحًا وعاد إلى الأصدقاء.
وقالت «إلهام»: لقد جاء صاحب الاسم الكبير، «بوزيل» كيرجولاي، إلى بيروت، ووقع حادث راح ضحيته رجل مجهول حتى الآن … ثم اختفى دون أن يتمكَّن أحد من الوصول إليه أو التعرض له.
قال «خالد»: لا تنسَي أن هذا هو أسلوبه دائمًا … إنه يخطط للجرائم ولكن لا يشترك فيها … ولهذا يَصعُب القبض عليه.
وسمع الأصدقاء صوت جهاز اللاسلكي يرسل إشاراته، وأسرع «أحمد» إليه وتلقى تقريرًا سريعًا من «رقم صفر».
سيأتي إليكم رجلٌ بعد قليل … أرسلوا الفيلم وضعوا دائرة حول نصف الوجه الذي تحدَّثتُم عنه … ما زلنا نبحث شخصية الرجل القتيل … أعتقد أن هناك معلومات على جانب كبير من الخطورة ستظهر … عثرنا في جيبٍ سِريٍّ بالمايوه على ورقة صغيرة مُغلَّفة بالبلاستيك بها مجموعة من الخطوط والنقط والأرقام على أحد وجهَيها، وعلى الوجه الآخر مجموعة من الأرقام والحروف … لم نتمكن حتى الآن من حل الرموز … سأرسل لكم صورة من هذه الورقة …
بعد ربع ساعة كانت «إلهام» تنزل إلى الشارع حيث دخلت مطعمًا صغيرًا وهي تحمل حقيبة صغيرة … وظهر شخص يلبس قميصًا أسود، ويضع في صدره وردةً حمراء ويَحمل حقيبة من نفس النوع واللون والحجم الذي تحمله «إلهام»، وببساطةٍ تمَّ تبادُل الحقيبتين.
عادت «إلهام» سريعًا إلى الأصدقاء، فتحت الحقيبة وأخرجت مظروفًا مغلقًا فتحته وأخرجت قطعة صغيرة من الورق المقوَّى ومدت بها يدها إلى «أحمد» … ثم أخرجت ورقة أخرى مكتوبة.
قرأت «إلهام» الورقة المكتوبة:
رسالة من «رقم صفر»: الورقة المقوَّاة هي نموذج دقيق للورقة التي وُجدَت في جيبٍ سِريٍّ في مايوه الرجل الغريق، المساحة ١٠ سنتيمتر × ٥ سنتيمتر. حاوِلُوا فكَّ الرموز التي عليها.
وضع «أحمد» الورقة المقوَّاة على المكتب وأحاط الشياطين الستَّة بها … كانت مقسَّمة إلى سنتيمترات ثم إلى مليمترات … وفي أحد جانبَيها دائرة حمراء في وسطها خط أحمر.
أحمد: واضح أنه رسمٌ هندسي لمكان!
عثمان: المهم أين هو المكان؟!
أحمد: فعلًا … المهم أين هو؟
وأدار «أحمد» الورقة. كان على ظهرها مجموعة ضخمة من الأرقام الكبيرة، تتخللها أحرف متعددة مكتوبة بالفرنسية … وأخذ «أحمد» يترجمها إلى العربية: «٧٧٧ و١١س و٥٣ك».
ثم انتقل إلى رقم آخر: «٩٨٧ش/١٢٣ص/٩أ».
ثم مضى «أحمد» يقرأ بقية الأرقام حتى انتهى من قراءة الورقة، وكل رقم في كل مرة يتكون من مجموعة من الأرقام والأحرف …
لم تكن في نظرهم تعني شيئًا على الإطلاق.
سألت «عبلة»: هل هناك علاقة بين الرسم الهندسي وهذه الأرقام أو الأحرف؟
خالد: ربما … إننا نحتاج إلى «ريما» مرةً أخرى!
فهد: إن هذا الرسم يُذكِّرني بلوحة الأهداف التي كنَّا نتمرَّن عليها في إطلاق الرصاص …
أحمد: فعلًا ذكَّرتني بنفس الشيء … ولكن ماذا يعني هذا؟ هل كان الغريق يتمرَّن على إطلاق النار. وهل تستحق لوحة الإطلاق أن توضع في جيبٍ سِريٍّ في مايوه؟
إلهام: بالتأكيد لا … إن اللوحة ترمز إلى شيء آخر.
تنهَّد «عثمان» وهو يقذف بكرته المطاطة إلى فوق ثم يتلقَّفها ببراعةٍ وقال: هذا نوع من المهمَّات لا أحبه … رجل غريق … نصف وجه لرجل … ورقة في جيبٍ سِريٍّ بمايوه … أيها الشياطين نحن بحاجة إلى تحريك عضلاتنا … أما هذه المسائل فتحتاج إلى أشخاص غيرنا.
الرجل ذو النصف وجه رجل هامٌّ اسمه «مورج». إنه مدير أحد البنوك السويسرية الكبرى. وجوده مع «بوزيل» في مكانٍ واحد لا يَعني شيئًا، فقد كانت حفلة راقصة. ومع ذلك فقد تحرَّينا خطواته منذ جاء إلى بيروت وعرَفنا أنه حضر لعقد مجموعة من الصفقات التجارية، ولكنَّه لم يتَّفق على شيء بعدُ وسيعود إلى زيورخ في الثامنة من صباح غد. على سبيل الاحتياط يُسافر ثلاثة منكم على نفس الطائرة للمراقبة تمَّ حجز تذاكر باسم رقم «١» ورقم «٣» ورقم «٨». ما زالت شخصية غريق الحمَّام مجهولة.
أسرع «أحمد» بالتقرير إلى الشياطين الخمسة … واستمعوا إليه، وقال «أحمد»: سأسافر أنا و«إلهام» و«فهد» على الطائرة في الصباح، سيَبقى «عثمان» و«خالد» و«عبلة»، وعليكم استدعاء «ريما» من الأردن لفحص الورقة وما عليها … وعندما نعود من زيورخ نرجو أن نجدكم قد حللتم الرموز.
ونام الأصدقاء مُبكرين، وفي الصباح كان «أحمد» و«إلهام» و«فهد» في طريقهم إلى مطار بيروت الدولي، وصعد الثلاثة وأخذوا أماكنهم في المقاعد الأخيرة من الطائرة … فقد كانت أفضل مكان للمُراقبة.
أخذ «فهد» يُراقب الداخلين إلى الطائرة، وسرعان ما غمز «أحمد» في ذراعه يلفت نظره إلى شخص كان يدخل الطائرة … إنه الرجل ذو النصف وجه. لقد أصبح وجهه كاملًا الآن ويَحمل اسمًا … إنه «مورج»، وقال «أحمد»: معك حق … إنه نصف الوجه الذي شاهدناه على الشاشة … هو نصف وجه هذا الرجل، ولكن رغم هذا لا أعتقد أن له أيَّ علاقة ﺑ «بوزيل».
فهد: ووجوده في الحمَّام الذي قُتل به الرجل؟
أحمد: ربما مجرد صدفة؟!
إلهام: لا أعتقد أنها صدفة … إن ارتباط وجود «مورج» مع «بوزيل» في حفلة … ثم وجوده هو و«بوزيل» في بيروت … ثم وجوده في الحمَّام الذي قُتل به الرجل المجهول … كل هذا ليس صدقة يا «أحمد»!
أخلد «أحمد» إلى الصمت وهو يراقب «مورج» … يأخذ مكانه في أول الطائرة بالدرجة الأولى …
أغلقت الطائرة البوينج أبوابها، ثم دارت المحرِّكات الجبارة وأخذ جسد الطائرة يهتز وهي تمشي على مدرج المطار ببطءٍ ثم وقفت ووجهت وجهَها للمَسار وأخذت سرعة المحرِّكات تتزايَد تدريجيًّا حتى وصلت إلى قِمتها … واستجمعت الطائرة نفسها ثم قفزت إلى الجو، ودارت حول المطار وهي ترتفع تدريجيًّا إلى فوق.
كانت مقاعد الطائرة كلها مشغولة تقريبًا … خليط من مُختلِف الجنسيات. والهدف زيورخ … وأخذت أضواء التحذير الحمراء تَلمع … اربطُوا الأحزمة … ممنوع التدخين … ومرت المضيفات على الركاب بقطع الحلوى الصغيرة، ومضَت الطائرة ترتفع وترتفع حتى استوت على الارتفاع المعتاد لها … ثم مضت تشقُّ طريقها، وارتفع صوت المضيفة … تُرحب بالركاب وتُقدم لهم التحيات باسم كابتن الطائرة وطاقم القيادة، ومضى كل شيء في هدوء …
مضت ساعة والطائرة ماضية في طريقها … ومال «فهد» على «أحمد» قائلًا: هل ستعود في نفس اليوم إلى بيروت؟
رد «أحمد»: لا … سنَنتهِز الفرصة ونقضي الليلة في زيورخ إنها مدينة لم نزُرها من قبل، ومن الأفضل في عملنا أن نعرف عددًا أكثر من البلاد.
وكان «أحمد» يفكر في «إلهام»، كانت تجلس بجوار النافذة، تتأمَّل قمم السحاب الذي يَطيرُون فوقه … وقد استسلمت لأحلامٍ هادئة؛ فقد كان «أحمد» يجلس بجوارها وكتفه يُلامس كتفَها … وتمنَّت لو كانا ذاهبَين وحدهما دون مغامرة أو رقابة إلى عالم بعيد … ولكن «بوزيل» وغريق الحمَّام المجهول … والرجل ذو النصف وجه … وحياتهم الخَطِرة التي يعيشونها … كل ذلك كان يَشدها من أحلامها إلى الواقع.
ومضت ساعة أخرى … وبدأت الطائرة تُغادر البحر وتُحلِّق فوق إيطاليا.
كانت قد بقيَت ساعة أخرى تقريبًا وتصل الطائرة إلى زيورخ، وقالت «إلهام»: رحلة مُمِلَّة … حتى الرجل الذي نُراقبه يجلس في الدرجة الأولى ولا نستطيع أن نراه …
وفي تلك اللحظة ظهر أحد المضيفين الجويين قادمًا من كابينة القيادة … كان وجهه ينزف دمًا … وأحسَّ الركاب بالطائرة تهتزُّ … وتحيد عن طريقها ثم تعود لتعتدل … ووقف «أحمد» بسرعة واتجه نحو مقدمة الطائرة، فقد شعر على الفور أن ثمَّة شيئًا غير عادي يحدث … ولكن صوت الميكريفون أوقفه في مكانه. كان ثمَّة رجل يقول بصوت متوتِّر: أيها السيدات والسادة … هذه الطائرة تُعتبَر تحت سيطرتنا … ولا تسألوا من نحن … ولن يُصاب أيُّ شخص منكم بأذًى إذا لم يتعرَّض لنا … ونحن نعدُكم بأن تصلوا جميعًا إلى زيورخ سالِمين … إننا نُريد من بينكم رجلًا واحدًا لا غير.