الدائرة الحمراء!
دخل «أحمد» المقصورة، وكان رجل العصابة يجلس وظهرُه إلى باب كابينة القيادة، بينما كان «مورج» يجلس في مواجهته وفي يد رجل العصابة كان المُسدس وفوَّهته متَّجهة إلى أسفل، لقد كان الرجل مطمئنًّا وهذا ما كان يُريده «أحمد» تمامًا … فتَقدم بهدوءٍ وانحنى أمامه بصينية القهوة وهو يقول: مَزيدًا من القهوة يا سيدي!
ومال «أحمد» بالصينية … ودون أن يَنتظر ردًّا من الرجل تظاهر بأن توازُنَه قد اختل، وأسقط صينية القهوة بما فيها على الرجل الذي هبَّ صارخًا، فقد لسعتْه القهوة، وكان ذلك ما توقعه «أحمد» بالضبط، وبسرعةٍ انطلقت يد «أحمد» في لكمة كالقُنبلة سقطت على وجه الرجل فانهار وسقط … وأسرع «أحمد» ينحني على أرض المقصورة وأخذ مُسدس الرجل ثم قال: لا تخشَ شيئًا يا مستر «مورج» … سنعود إلى زيورخ فورًا!
وفتَح «أحمد» باب مقصورة القيادة بيدَيه اليُسرى ومدَّ يده اليُمنى بالمُسدس وصاح: ارفعا أيديَكما … إننا نُسيطِر على الطائرة!
بدا الذعر على وجهَي رجلَي العصابة، بينما التفت الكابتن ينظر ما يحدث وقد عَلَتْ وجهَه علاماتُ الدهشة، ولكن في تلك اللحظة هوى مُسدس ثقيل على رأس «أحمد» من الخلف ودارت الدنيا وهو يتصوَّر مُختلِف الاحتمالات … ودار على عقبَيه وهو يسقط … ولدهشته الشديدة رأى وعيناه تنغلقان أن الذي ضرَبَه كان «مورج» …
عندما استيقظ «أحمد» بعد فترة من إغمائه، وجد نفسه ممدَّدًا على أرض الطائرة ورأسه يدقُّ بشدة، ورفع عينيه وشاهد «إلهام» و«فهد» والمضيف والمضيفة جميعًا يجلسون حوله، بينما كان حامل المدفع الرشاش ينظر إليهم وقد وضع يده على الزناد.
وكان «مورج» يجلس أمامهم وهو يُدخِّن وقد بدت عليه علامات التفكير العميق، ولم يكد «أحمد» يفتح عينيه حتى قال «مورج»: إن أصدقاءك لا يُريدون أن يتكلَّموا، ومن الأفضل أن تقولوا لنا من أنتم؟!
لم يردَّ «أحمد». كان رأسه يُؤلمه … وفي نفس الوقت كان يفكر فيما ينبغي عمله. وعاد «مورج» يقول: مِن الواضح أنك قائد هذه المجموعة من الأولاد، وللمحافظة على حياتكم أرجو أن تقول لي حالًا من أنتم، وماذا تعرفون عنَّا؟ ومن أرسلكم؟!
نظر «أحمد» إلى «فهد» وفي عينَيه نظرة تساؤل عمَّا حدث، فقال «فهد»: لقد خدعني «مورج»، جاءني في مؤخرة الطائرة وقال لي إنك تُريدني، فأسرعت إليك وكان هو خلفي … وفجأة ضربني على رأسي!
ابتسم «أحمد» رغم الآلام التي يحسُّ بها وقال: أنت أيضًا … يبدو أن المستر «مورج» متخصِّص في الضرب من الخلف!
بدت في عينَي «مورج» نظرةٌ قاسية وهو يقول: هل تصوَّرتم لحظةً أننا نترك أطفالًا مثلكم يُفسدُون خططنا؟
قال «أحمد»: لقد تصوَّرْنا يا «مورج» أنك مخطوف وحاولنا مساعدتك!
كشَّر «مورج» عن أسنانه قائلًا: لقد كنتُ مخطوفًا فعلًا.
أحمد: مخطوف بإرادتك … إن خطفَكَ كان تمثيلية لإيهام العالم أنك ضحية، والحقيقة غير ذلك.
لوَّح «مورج» بمُسدسه في وجه «أحمد» قائلًا: اصمُتْ وإلا!
كان «أحمد» يريد أن يستفزه ليعرف الحقيقة ويبني عليها خطوته القادمة … فرفع جسده في صعوبة وجلس على الكرسي بينما حاملُ المدفع الرشاش يُراقبه في حذر، ووجد «أحمد» نفسه بجوار النافذة فنظر إلى الخارج … كان الظلام كثيفًا فما زالوا يَطيرون ليلًا.
وفي تلك اللحظة فُتحت مقصورة القيادة، وظهر أحد الرجلَين اللذين يُسيطران عليها، وقال مستر «مورج»: إننا نقترب من الهدف … سنصل في خلال عشر دقائق على الأكثر.
فكَّر «أحمد»: هدف … أي هدف؟
ونظر إلى «إلهام» ووجدَها تنظر إليه … ورغم كل شيء ابتسم لها … وابتسمت … كانت لحظات الخطر تجمع بينهما أكثر من أيِّ شيء آخر … وقال «مورج»: افتحُوا الحقائب وأَعدُّوا المظلات.
اختفى وجه الرجل في المقصورة، وقال الآخر مُشيرًا إلى الأصدقاء: وهؤلاء؟!
كان «مورج» مُستغرقًا في تفكير عميق، فلم يسمع ما قاله الرجل، فعاد الآخر يردد في صوت مرتفع: وهؤلاء … هل أُطلق عليهم الرصاص؟!
انتبه «مورج» قائلًا: لا … ستَمضي الخطة كما كانت.
وظهر رجل المقصورة مرةً أخرى وألقى إلى «مورج» وإلى الرجل الآخر بكيس لكلٍّ منهما. وبينما انشغل «مورج» في فتح الكيس كان الرجل يُراقب الأصدقاء بعينَي صقر.
فتح «مورج» الكيس وأخرج مظلَّةً للهبوط ارتداها سريعًا، ثم رفع مُسدسه في وجه الأصدقاء، بينما انهمك الآخر في ارتداء مظلته.
ظهر رجل المقصورة مرةً أخرى وقال: لقد اقتربنا تمامًا من الهدف.
مورج: اطلب من الطيار أن يَهبط إلى ارتفاع ستة آلاف قدم … ودعْهُ يدور في دائرة واسعة.
أسرع الرجل لتنفيذ ما قاله «مورج»، وبدأ الجميع يحسُّون بالطائرة وهي تهبط من ارتفاعها الشاهق تدريجيًّا … وتدور … ونظر «أحمد» من النافذة. وبرَزَت أمامه مفاجأة جديدة في سلسلة مفاجآت هذه المغامرة … شاهد دائرة من الأضواء تلمع فوق البحر. وتذكَّر على الفور الرسم الهندسي الذي كان في جيب المايوه السري للقتيل المجهول في حمام السباحة … هذه هي إذَن الدائرة الحمراء … وفي جانب من الدائرة كانت تقف سفينة مُضاءة الأنوار عليها طائرة «هليوكبتر» صغيرة، وهذا هو الخط الأحمر في جانب الدائرة … إذَن فالقتيل المجهول كان يعرف الخطة … ولهذا قُتِل … ولكن ما هو معنى الأرقام والحروف التي كانت على الجانب الآخر من الورقة؟!
وفي تلك اللحظة ظهر أحد الرجلَين اللذين يُسيطران على مقصورة القيادة … وكان يرتدي هو الآخر مظلة القفز … وقال موجِّهًا حديثه إلى «مورج»: هل نقفز الآن؟
كان وجه «مورج» ساكنًا، وكان من الواضح أنه يفكر بعمق، ثم قال: ربع ساعة من الآن …
وتوجه الرجل إلى نهاية الطائرة، ثم ظهر قائد الطائرة ومساعدُه وخلفهما الرجل الباقي من العصابة وقال موجهًا حديثه إلى «مورج»: الطائرة الآن تطير بأجهزة التحكم الأوتوماتيكي.
مورج: افتح باب الطوارئ … واقفزوا واحدًا بعد الآخر … وسأكون آخر من يقفز.
واتَّجه الرجل إلى أحد أبواب الطوارئ وقال «مورج» موجِّهًا حديثه إلى الطيارَين والأصدقاء: كان من المفروض ألا يعلم أحد أنني مُشترك في هذه الحكاية كلها … لقد كان يجب أن أبدو أمام العالم رجلًا مخطوفًا، ولكنَّكم عرفتم الحقيقة … لهذا يجب أن تموتوا جميعًا …
خيَّم الصمت على الجميع، ومضى «مورج» يقول: ولا أستطيع أن أقتلكم فقد يحدث لأي سبب أن يعثروا على جثثكم وقد يَستنتجُوا الحقيقة … ستموتون بالطريقة التي اخترتُها لكم.
فتح الرجل باب الطوارئ … ودخل تيار قوي من الهواء إلى الطائرة فبدأت تترنَّح وبدأ الرجال يُلقون بأنفسهم واحدًا وراء الآخر، واتجه «مورج» إلى الباب فتقهقر بظهره ووجهه إلى الأصدقاء ثم ابتسم قائلًا: أشكركم على محاولة إنقاذي، ولكن ألم يكن من الواجب أن تسألوني رأيي؟
وقفز «مورج» …
أسرع مساعد الطيار يُعاونه المضيفان الجويَّان إلى إغلاق باب الطوارئ، وأسرع الطيار إلى غرفة القيادة، وبدأت الطائرة تَستعيد توازنها … أما «أحمد» فكان ينظر إلى الدائرة الحمراء تحته … وتمنَّى لو استطاع هو أيضًا أن يقفز … ولكنه تنبَّه سريعًا إلى حديث «مورج»: ستموتون بالطريقة التي اخترتُها لكم.
وقف «أحمد» و«فهد» و«إلهام» وأسرعوا إلى كابينة القيادة. كان واضحًا أنهم يُريدون التحدث إلى قائد الطائرة … وقال «أحمد» موجِّهًا حديثه إلى القائد: هل تستطيع الاتصال بأي مطار قريب؟
الطيار: للأسف … نحن نسير خارج جميع الخطوط التجارية المعتادة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لقد حطَّموا جهاز اللاسلكي في الطائرة.
أحمد: وأين نحن الآن؟
الطيار: في نقطة غربي البحر المتوسط بين جنوب إسبانيا وشمال الجزائر.
أحمد: هل عندك وقود يكفي للوصول إلى أحد المكانَين … إسبانيا أو الجزائر؟
الطيار: نعم … بعد نصف ساعة يُمكن أن نصل إلى الجزائر.
أحمد: هل تعمل أجهزة الطائرة بصورة طبيعية؟
الطيار: نعم!
تلفَّت «أحمد» حوله ثم قال: إذَن كيف سنموت؟
ردت «إلهام» بسرعة: قنبلة زمنية!
التفت إليها «أحمد» قائلًا: تمامًا … وبعد عشر دقائق؟
فهد: كيف عرفتَ التوقيت؟
أحمد: ألم تسمع «مورج» يقول للرجل: «بعد ربع ساعة من الآن» …؟ لقد مضت خمس دقائق تقريبًا وبقيت عشر دقائق … ابحثوا سريعًا وأرجو الاتجاه بالطائرة إلى الجزائر.
بدأ الجميع تفتيش الطائرة، وكان كلٌّ منهم ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى … ومضت الدقائق سريعًا … وهم يُقلِّبون كل شيء في الطائرة … في غرفة القيادة … تحت المقاعد … فوق الرفوف … ونظر «فهد» إلى ساعته وهو يُفتش … بقيت سبع دقائق … ونظرت «إلهام» إلى ساعتها بعد ذلك … بقيت ست دقائق … كانوا يَجرُون في كلِّ مكانٍ بشكلٍ محموم … وكان «أحمد» وهو يبحث يتذكَّر ما قاله «مورج» للرجال طول الوقت، تذكر قوله: «سنُنفذ الخطة كما هي …» إذَن فنسفُ الطائرة كان مقررًا من قبل، ومعنى ذلك أن القُنبلة كانت جاهزة … وكل المطلوب هو ضبطها … فأين وُضعَت؟
وأخذ مرةً أخرى يتذكَّر، عندما قال «مورج» للرجل: «بعد ربع ساعة من الآن …» اتجه الرجل إلى نهاية الطائرة … إذَن فالقنبلة هناك … وصاح «أحمد»: اتجهوا جميعًا إلى آخر الطائرة … فالقُنبلة هناك …
وأسرعوا جميعًا … كانت الدقائق تمرُّ بسرعة البرق … وفتح «أحمد» باب دورة المياه، شمل المكان بنظرة سريعة … وخلف مقعد دورة المياه مدَّ يده … وسرعان ما لمَسَ جسمًا صُلبًا … أخرجه، ونظر إليه، لم يكن هناك شكٌّ أنه القنبلة.
أسرع «أحمد» يجري إلى أقرب باب للطوارئ وصاح ﺑ «فهد»: اطلب من الطيار أن يعاود الهبوط لمعادلة الضغط!
وأسرع «فهد» لتنفيذ المطلوب، وفي نفس الوقت كانت «إلهام» تضع يدها على الباب، وتنظر إلى ساعتها … كان قد بقي دقيقتان فقط … وأخذت الطائرة تَهوي هابطة إلى تحت … وسواءٌ أكانت وصلت إلى ارتفاع معقول أم لا … فإن الثواني الباقية لم تكن تسمح بالانتظار فقال «أحمد» ﻟ «إلهام»: افتحي الباب واستلقي على الأرض حتى لا يشفطكِ الضغط إلى الخارج.
وفتحت «إلهام» الباب، ووقف «أحمد» جانبًا وقد أمسك «أحمد» الكراسي بيده، وباليد الأخرى قذف القنبلة إلى الخارج … ولم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى انفجَرَت القُنبلة واهتزت الطائرة اهتزازًا عنيفًا، ولكن الطيار استطاع أن يسيطر عليها وتعود إلى سيرها الطبيعي.
أسرع «أحمد» يُغلق باب الطوارئ … واستدار يضع ظهره عليه … ووقفت «إلهام» ولم تتمالك نفسها فاحتضنتْه، ودفنَت رأسها في صدره، وسمعت قلبَه يدقُّ سريعًا …
وبعد لحظات اجتمع «أحمد» و«فهد» و«إلهام» والمضيف والمضيفة الباقيان في كابينة قائد الطائرة … كانوا جميعًا سُعَداء رغم كل ما حدث، وقال قائد الطائرة: لقد قُمتم بعمل عظيم … ولا أدري كيف جئتُم ولا مَن أنتم.
وروى له «أحمد» باختصار ما حدث منذ كانوا في بيروت، وسأله الطيار: ولكن من أنتم، وأيَّ جهة تتبعون؟!
ابتسم «أحمد» قائلًا: هذا هو السؤال الذي لا نَملك حق الإجابة عليه … المهم الآن أن نصل إلى الجزائر.
قال قائد الطائرة: سنصل … ولكن هناك مشكلة.