فوق البحر … تحت النجوم
كانت سفينة العصابة تمضي بهدوء فوق بحر ساكن … مُضاءة الأنوار … وعلى ظهرها بدت الطائرة الهليوكبتر … فلم يَعُد هناك شك.
أخرج «أحمد» ورقة صغيرة من جيبه كتب عليها رقمًا وبضع كلمات … ثم سلَّمها للطيار قائلًا: سنهبط بعيدًا عنها حتى لا يرانا أحد!
الطيار: تهبط؟!
أحمد: نعم، لقد جئنا لهذا وليس لمجرَّد الفرجة أو الاستطلاع … أرجو فقط عندما تعود إلى الجزائر أن تتصل بهذا الرقم في بيروت وأن تقول لهم هذه التعليمات!
ثم التفت «أحمد» إلى «بو عمير» قائلًا: هل القارب المطاط جاهز؟
بو عمير: إنه يَنتفخ أتوماتيكيًّا بمجرَّد فتحه!
أحمد: عظيم!
ثم التفت إلى الطيار قائلًا: أنزل سُلم الحبال من فضلك، وحلِّق على ارتفاع عشرة أمتار.
وبدأت حركة النزول، وثبتت الطائرة في مكانها على ارتفاع عشرة أمتار كما طلب «أحمد» وأنزل السلم، وكان «بو عمير» أول من نزل ومعه القارب ففتَحَه، وسرعان ما امتلأ بالهواء وأخذ يتأرجح على ظهر المياه، ونزلت «إلهام» ومعها بعض الأسلحة وتبعها «فهد» ثم «أحمد» وكلٌّ منهما يحمل بعض الأسلحة.
بعد لحظات حلَّقت الطائرة عائدة، واستوى الأربعة في القارب، وقال «أحمد»: خطتنا مراقبة السفينة من بعيد حتى تصل إلى الجزيرة، ثم نُفكِّر مرةً أخرى بالخطوة التالية!
فهد: ولماذا لا نقتحم السفينة … إنها تسير ببطء ملحوظ، وفي الإمكان اللحاق بها؟!
بو عمير: إنني أحبِّذ هذه الخطة … فاقتحام سفينة، أو هذا القارب الكبير كما أرى أسهل من اقتحام جزيرة، لا بُدَّ أن عليها عددًا من النقط المحصَّنة بالأسلحة.
أحمد: ما رأيكِ يا «إلهام»؟!
إلهام: أتفق مع «بو عمير» و«فهد» … فهذه فرصتُنا للسيطرة على القارب الكبير … خاصةً و«بو عمير» متخصِّص بالإضافة إلى الخناجر في تسيير القوارب … ويُمكن إذا سيطرنا على القارب أن نتجه به إلى أقرب ميناء.
أحمد: إنكم متحمِّسُون جدًّا … فما هو تقديركم لعدد من عليه من الرجال؟
بو عمير: بالإضافة إلى رجال العصابة الأربعة و«مورج»، ربما كان هناك أربعة أو خمسة من البحارة.
أحمد: أي عشرة تقريبًا!
فهد: ونحن أربعة … ولكن عنصر المفاجأة مهم!
بو عمير: وبالمناسبة، أحضرت معي سُلمًا بخُطاف يُمكن قذفه إلى سور القارب والصعود عليه.
أحمد: إنك شخصٌ رائع يا «بو عمير» … فقد فكَّرت في كل شيء، هيَّا إذَن نقترب من القارب!
وبدأ الأربعة يُجدِّفون بقوَّة، وأخذت المسافة بينهم وبين القارب الكبير تضيق تدريجيًّا. وعندما اقتربوا أكثر استمعوا إلى موسيقى خفيفة تأتي من القارب.
فقال «فهد»: إنهم يَستمتعُون بوقتهم!
أحمد: أو قل إنهم لم يناموا بعدُ رغم أننا تجاوزنا منتصف الليل.
فهد: في مثل هذه الأحوال فإن العصابات اعتادت أن تحتفل بانتصارها، ولعلَّهم الآن قد شربوا كثيرًا!
أحمد: تقدير معقول يا «فهد». لقد ذاكرت دروسك جيدًا!
إلهام: أذكر درس عصابة «الخفافيش الصفراء»، لقد استسلمُوا للشرطة بعد سهرة صاخبة عقب سرقتهم لبنك الولاية في «ميسوري» … لم يَرفع واحد منهم يده لمقاومة الشرطة.
أحمد: أرجو أن تكون هذ العصابة من نفس النوع، فذلك سيُسهِّل مهمتنا كثيرًا.
وأخذ القارب المطاط الأسود الصغير يقترب من القارب الكبير، وقال «بو عمير»: لنقترب من الخلف … وفي نفس الوقت نكون بعيدين عن تيار الماكينات … عادةً لا يكون في الخلف بحَّارة.
وبدأ القارب المطاط يقترب تدريجيًّا حتى أصبح تحت جانب السفينة من الخلف. ووقف «بو عمير» وفي يده حبل يَنتهي بخطاف، ثم أدار الحبل في يده بضع مرات وقذفه إلى فوق. ونجح من أول محاولة، وثبَّت الخطاف في جانب السفينة، وقال «بو عمير»: سأتَسلق أولًا لأرى ما يحدث.
وكالقرد أخذ «بو عمير» يتسلق السُّلم، والأصدقاء يُحافظون على توازن القارب حتى وصل إلى حافة السطح … نظر «بو عمير» حوله، ولم يتمالك نفسه من الإعجاب بجمال القارب الكبير وفخامته … وكانت الطائرة الهليوكبتر خير ساتر له عن العيون فلم يتردَّد في القفز إلى سطح القارب، ثم تَقدم إلى الأمام … لم يكن هناك أحد على السطح في هذه الساعة المتأخرة، وكانت قمرة القيادة مضاءة … ومضى «بو عمير» في هدوء متخفيًا وراء ما يجده من ساريات ومداخن حتى وصل إلى حيث قمرة القيادة، لم يكن هناك إلا القبطان، ولكنه لاحظ وجود اثنين من البحارة يجلسان عند مقدمة القارب يتحدَّثان … قال «بو عمير» في نفسه: ثلاثة … لا بأس!
ثم أسرع عائدًا ونزل السلم سريعًا، وروى للشياطين الثلاثة ما شاهده على السطح. وسرعان ما كان الأربعة يتسلقون السلم إلى سطح القارب الضخم، بعد أن ربطوا قاربهم الصغير الأسود لعلهم يَحتاجُون إليه.
ربضوا جميعًا خلف الطائرة الهليوكبتر وقال «أحمد» هامسًا: كنا في حاجة إلى «عثمان» الآن … لقد كان باستطاعته بواسطة كرة المطاط الجهنمية أن يصطاد لنا أحد البحارَين دون لفت الأنظار.
قال «بو عمير» وهو يُبرز خنجرًا طويلًا: إنني أستطيع أن أؤدي المهمَّة.
أحمد: أريد إصابة فقط … وليس قتلًا … إننا لا نَقتُل إلا دفاعًا عن النفس!
فهد: ما رأيكم في لفت أنظار البحارَين إلى هنا … إن في استطاعتنا التغلُّب عليهما سريعًا دون أن يرانا القبطان!
إلهام: فكرة معقولة للغاية.
وتلفَّت «فهد» حوله حتى وجد قطعة من الخشب، وخبط بها جانب القارب دقة ثم دقة أخرى … وسرعان ما ظهر البحاران … كانا يَمشيان بهدوء ويتحدثان في الأغلب عن الصوت الذي سمعاه.
وربض الشياطين الأربعة هادئين … واقترب البحاران حتى أصبحا على مسافة قريبة من الشياطين الأربعة … وأشار «أحمد» إلى «فهد» و«بو عمير» وقفز الشيطانان كالصاعقة على الرجلين، كانا يعرفان التعليمات … لا صراع حتى لا يَلفِتا الأنظار إليهما … وطار «فهد» في الهواء، وأرسل قدمه في ضربة محكمة أصابت رأس أحد البحارَين … وقبل أن يسقط على الأرض كان «فهد» يتلقاه بين ذراعيه كطفل صغير … وكان هذا نفس ما فعله «بو عمير»، وقالت «إلهام» هامسة: إن من يَراهما يظنُّ أنهما يرقصان الباليه.
أسرع «أحمد» و«إلهام» … إلى الصديقَين، وبقطعة حبل من حبال السفينة تم بسرعةٍ شد وثاق البحارَين، وقال «أحمد»: ضعوهما في أحد قوارب النجاة وأنزلا القارب إلى المياه.
وتم التنفيذ بهدوء وبلا صوت، وقالت «إلهام»: بقي ثمانية، ما هي الخطوة القادمة؟!
أحمد: سنَترك القارب يسير في طريقه، ثم ننزل إلى حيث يوجد رجال العصابة إنهم نائمون في الغالب.
كان السُّلم المؤدي إلى الطابق السُّفلي من القارب على جانب قمرة القبطان، وتسلل الشياطين الأربعة بهدوء، ونزلوا السُّلم المُغطَّى بالسجاد الفاخر … كان هناك دهليز وعلى جانبه ثماني قمرات مغلقة … ومن قاعة الطعام التي كانت في نهاية الدهليز، كانت بعض الأصوات تَرتفِع مختلطة بالموسيقى … وتَقدم «أحمد» أولًا، وأشار إلى الشياطين الثلاثة أن يراقبوا القمرات.
تَقدم «أحمد» بهدوء متسللًا حتى وصل إلى باب القاعة، كان الباب من الخشب، وفي أعلى كل ضلفة منه فتحة مستديرة مُغطاة بالزجاج … ونظر «أحمد» خلال أحد الضلفتَين وشاهد ما توقعه … «بوزيل» يَجلس في صدر القاعة وحوله رجلان من الذين اختَطفوا الطائرة … كان «بوزيل» يجلس مُتراخيًا … والرجلان يتحدَّثان إليه باهتمام وهو يَستمِع مُبتسمًا.
تراجع «أحمد» إلى الخلف، ولحق به «بو عمير» و«فهد» و«إلهام»، فروى لهم بسرعةٍ الموقف، وقال: سأدخل أنا و«بو عمير» شاهرَين السلاح، وسنَطلب من «بوزيل» أن يأمر قبطان القارب بأن يعود أدراجه فورًا إلى الجزائر … وعلى «فهد» و«إلهام» أن يقفا في نهاية الدهليز، فإذا استيقظ أحدٌ من بقية العصابة، فعليهما أن يَتوليا أمره.
وتَقدم «أحمد» و«بو عمير» حتى وقفا ملاصقَين للباب، ثم دفع «أحمد» الباب ودخل خلفه «بو عمير» … وقال «أحمد» في صوت هادئ: مساء الخير أيها السادة … لقاء جديد!
كانت المفاجأة للرجال الثلاثة كاملة حتى إنَّهم فتحوا أفواههم على اتساعها، وقال «أحمد»: آسف لأنَّ الطائرة لم تَنفجِر!
قال «بوزيل» بصوت كفحيح الأفعى موجهًا حديثه للرجلين: لقد قلتُما إنكما شاهدتما الطائرة وهي تنفجر!
لم يردَّ الرجلان، فقال «بوزيل»: لو كانت انفجَرَت لسمعتُ صوتها أو حتى شاهدتها، ولكنكما أقسمتُما لي …
ولكن «أحمد» لم يتركه يكمل جملته وقال بصوت هادئ، ومُسدسه يلمع في يده: ليس هناك وقتٌ للعتاب يا «بوزيل»، أصدر أوامرك فورًا إلى القبطان أن يعود في اتجاه الجزائر؟!
بوزيل: أنت تَعرف اسمي أيضًا!
أحمد: اسمك وتاريخك أيضًا يا سيد «بوزيل كيرجولاي»، وبيننا حديث طويل!
بوزيل: أنتَ لك حديث معي … من أنت أيها الصغير؟
زوى «أحمد» حاجبيه وقال: ليس مهمًّا أن تعرف … المهمُّ الآن أن تُصدر أوامرك.
وتقدم «أحمد» خطوة إلى الأمام ملوِّحًا بمُسدسه، وخطا خلفَه «بو عمير» وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان … انفتح قاع القارب فجأة، وسقط «أحمد» و«بو عمير» في المياه ثم أغلقت الفتحة …
حدث ذلك في لمح البصر وابتسم «بوزيل» وهو يقف، ثم قال: بالطبع لهما بقية …
ثم وجَّه حديثه للرجلين بصرامةٍ قائلًا: كم كان عددهم؟
قال أحد الرجلين: أربعة أو خمسة يا سيدي!
بوزيل: هناك إذَن اثنان أو ثلاثة … ولعلَّهما أو لعلهم في الدهليز خارج القاعة.
ثم وجَّه حديثه إلى أحد الرجلين قائلًا: اصعد يا كليف إلى السطح من الباب الجانبي ثم هات القبطان معك وحاصِرهم من أول الدهليز.
ثم نظر في ساعته وقال: سنَفتح الباب بعد خمس دقائق، فنحصرهم بيننا وبينكم، هيَّا!
وأسرع كليف يفتح بابًا جانبيًّا يؤدِّي إلى السطح، ثم أخرج «بوزيل» من جيبه مُسدسًا ضخمًا يشبه البندقية، وأخرج رجل العصابة مُسدسًا آخر. وتَقدمَا ببطءٍ من الباب. وقال الرجل هامسًا: إذا لم يكونوا في الدهليز فماذا نفعل؟
بوزيل: سنضرب جرس الإنذار ليَستيقِظ بقية الرجال!
كان «فهد» و«إلهام» واقفَين في نهاية الدهليز في انتظار تطور الأحداث … وعندما مضى الوقت دون أن يَحدث شيء قالت «إلهام»: أعتقد أن الأمور لا تسير على ما يُرام، فقد مضى وقت أكثر مما قدرت لظهور «أحمد» أو «بو عمير»، يجب أن نتحرك فورًا!
وقبل أن يتحرَّكا سمعت «إلهام» و«فهد» أصوات أقدام خافتة تأتي من السطح قرب السُّلم الذي نزلا منه، ولم يتردَّدا. فتحا أول مقصورة وجداها ودخلا، ووجدا رجلًا نائمًا في فراشه … اقترب «فهد» منه ونظر، كان «مورج» … فوضَع مُسدسه بين ضلوع الرجل الذي استيقظ مذعورًا، فقال «فهد»: إن حياتك مُعلقة بخيط رفيع … فتصرف كما أقول لك.
في هذه اللحظة ازداد وقع الأقدام وضوحًا، ثم ارتفع جرس الإنذار في السفينة، وازدادت حركة الأقدام، وفُتحَت الأبواب … ومضَت لحظات … ثم فتح رجل باب المقصورة التي بها «إلهام» و«فهد» … و«مورج» … فأطلق «فهد» رصاصة على الباب وتراجَع الرجل الذي كان يفتح الباب صارخًا … وارتفع صوت يقول: إنهم هنا!