مقدمة الترجمة العربية
والكتاب يقدم معالجةً لموضوعَين متوازيَين: أولهما دراسة فكرة الاضمحلال، وثانيهما دراسة الوعي الذاتي بقضايا الإنسان في عصرنا الحالي؛ فهو لا يتتبَّع فكرةَ الاضمحلال فحسب، وإنما يتتبَّع أيضًا اضمحلال الصورة الإنسانية ذات الطابع الليبرالي، وبالتالي يرصد تحولات الفكر حتى المرحلة الحالية التي ظهرت فيها فلسفات جديدة، مثل: فلسفة البيئة، وفلسفات التعدد الثقافي، والاتجاهات الفكرية، مثل الاتجاه النسوي، وهو اتجاه فكري لا يقتصر على دراسة المرأة، وإنما يتجاوز هذا الأمر لدراسة الإنسان وقضاياه في المجتمع المعاصر.
وهذا الكتاب يعتبر رؤيةً شمولية لما آل إليه الغرب، وهو امتداد لكتب كثيرة ظهرت خلال العقد الأخير عن أزمة الغرب، وعمَّا ينتظر الغرب من مشكلات، فلم يَعُد هذا القرن هو «القرن الأمريكي» — على حد تعبير «هنري لوس» — وإنما هو قرنُ اضمحلال الغرب؛ لأنه يُكرِّس لثقافة واحدة هي «ثقافة النرجسية»، ولأن الغرب يركِّز على مصالحِه وإبراز ثقافته دون أن يجد صيغةً تسمح بحضور التعدد الثقافي العالمي، وهذه الثقافة تُنذر باضمحلاله، وقد عبَّر عن هذا «بول كيندي» في كتابه «قيام وسقوط القوى الكبرى» (١٩٨٧م)، الذي قدَّم فيه نظرةً ذات طابع تشاؤمي عن مصير الحضارة الأمريكية.
فالعالم اليوم تُحرِّكه ثلاثةُ عناصر رئيسة طبعت كل شيء بطابعها:
-
الثورة التكنولوجية، وما ترتَّب عليها من سيادة سلع استهلاكية.
-
السعي نحو سوق اقتصادية عالمية تفرض على الجميع الدوران في الفلك نفسه.
-
ثورة الاتصال التي جعلت التواصل عن بُعد هو الصيغة المتاحة الآن.١٢
والنوع الثاني من الدراسات يتطلَّع بلهفة إلى انهيار الغرب، وتولُّد حياة جديدة من رماد الحضارة، ويتساءل عن البديل الذي يحلُّ محلَّها، وهذا هو الجديد الذي يشير إليه الكتاب، فهذه الحضارة من وجهة نظر هذا النوع من الدراسات هي حضارة لا تستحق الإنقاذ؛ لأنها استهلكت نفسها، ووصلَت إلى طريق مسدود، وأصبحت حضارةً منغلقة على نفسها. وتعود أصول هذا الاتجاه الذي يُطلق عليه المؤلف: «التشاؤمية الثقافية» إلى «نيتشة»؛ لأنه أدان المجتمع الأوروبي ووصَفه بأنه مجتمع مريض ومتفسِّخ، وقال: «هناك عنصر تآكل في كل شيء يُميِّز الإنسان الحديث». وامتدَّت هذه الرؤية إلى «مارتن هيدجر»، و«هربرت ماركيوز»، و«تيودور أدورنو»، و«هوركهايمر»؛ ولذلك فهم نقدوا الحضارة الغربية المعاصرة دون أنْ يذكروا بأن هناك مستقبلًا لها؛ ولذلك فإن تعريف المؤلف للتشاؤمية الثقافية، أنها الاتجاه الذي يرى — بإصرار — أنَّ المسار الطبيعي للمجتمع المدني على النموذج الغربي، كمجتمع رأسمالي أو تجاري هو الفناء. وقد عبَّر عن هذا «شبنجلر» بقوله: «لقد استسلمنا وارتضينا حياةً ضائعة»؛ لأن الإنسان الحديث يعيش حياةً تنزلق عميقًا في مستنقع الكآبة. ويُبيِّن المؤلف أن هذا الفكر التشاؤمي هو الذي شكَّل نظرةَ الإنسان المعاصر إلى نفسه، وإلى مجتمعه، وهذا نجده واضحًا في الاتجاهات التي نُطلق عليها لفظ «الإرهاب» التي تعبِّر عن الرفض العاطفي للحياة الحديثة، وقد صدَّ المؤلف هذا حين تحدَّث عن «بيان مفجر القنبلة»؛ لأنه من البشر العاديِّين الذي حاصرهم سؤال المصير، وأقلقَتهم معاناة الإنسان في عالم تُسيطر عليه «السوق الاقتصادية» و«ترويج السلع» ولا يلتفت لما هو إنساني.
هذه هي الصورة التي يتخيَّلها المفكرون للمجتمع الجديد الذي يُولَد من رماد الحضارة الغربية، وهي تُعبِّر عن آمال وطموحات وأحلام تتمنَّى زوال العالم الغربي وما يرتبط به من مشكلات، وهي تبرز سمةً ثقافية ونفسية لدى البشر في الحياة اليومية، حيث يتقبَّلون اضمحلال الحياة اليومية حتى أصبح اليأس والشك من المواقف الثقافية العادية التي تسود في الحياة اليومية، حتى عندما يكون واقعًا متناقضًا بشكل لا يُحتمل، فيتمنَّى المرء زواله، وانبثاق صورة جديدة ليس لها علاقة بالواقع القديم …
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تناول المؤلف هذا الموضوع الصعب، والشائك، والذي تتفرَّع منه معظم قضايا الحضارة والفكر الغربي؟
لقد اختار المؤلف التناول التاريخي لدراسة الموضوع، وهذا ما يجعلنا نرى أن الكتاب ينتمي إلى علم تاريخ الأفكار؛ لأنه يتتبَّع أصولَ فكرة الاضمحلال حتى عصرنا الحالي، وقد اختار المؤلف طريقةً لعرض موضوعه تتَّسق مع رؤيته؛ ذلك لأن فكرة الاضمحلال لم تُطرَح بالمعنى المعاصر إلا في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنَّ البدايات الأولى تفهم الاضمحلال في إطار فهمها لدورة الزمان، وفهمها لمعنى التقدم؛ ولذلك فقد قسَّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أجزاء:
- الجزء الأول: عن لغات الاضمحلال؛ ذلك أن معنى الاضمحلال لم يكن واحدًا طوال التاريخ الحضاري، وإنما أخذ معانيَ متعددة، أبرزها في تحليله للصور المختلفة التي عبَّرت عنها كتابات المفكرين في الحضارة اليونانية عن الاضمحلال، فقدَّمت تصوُّرًا عن طبيعة الاضمحلال، وهل هو ميتافيزيقي أو طبيعي، أو نظرية تُفسر من خلالها ظهور الحضارات.
- الجزء الثاني: عن التنبُّؤ باضمحلال الغرب في تطوُّر الفكر الغربي في وعيه بذاته.
- الجزء الثالث: عن سيادة اتجاهات التشاؤمية الثقافية حتى إننا نُطالعها في كل الأعمال الفنية والأدبية التي تنتقد الحياة المعاصرة، ونظرة الإنسان لها، حتى صارت التشاؤمية مكوِّنًا من مكونات الحياة المعاصرة. وفي عرض المؤلف لمسيرة فكرة الاضمحلال لم يكن منحازًا لها، أو ناقدًا لها. وقد يرجع هذا إلى طبيعة التخصُّص الأكاديمي الذي ينتمي إليه؛ لأنه مؤرِّخ وليس فيلسوفًا ولا يطمح إلى تقديم نظرية خاصة به.١٥ وقد استطاع أن يسجِّل لنا ملامح الصورة التي يبدو عليها الفكر المعاصر؛ ولهذا فإنَّه يعرض لنا المواقف والرؤى فحسب. ولكن هذا لا يعني أنه محايد؛ لأن اختياره لهذا الموضوع ينفي حياده، ويؤكد خوفه على مصير الحضارة الغربية التي يسود نموذجها الإنساني في الحياة الدولية، وأصبحت الحضارة الغربية التي يسود نموذجها الإنساني في الحياة الدولية، وأصبحت الحضارة الغربية هي صيغة التفاهم، ونموذجًا لقياس مدى تقدُّم المجتمعات على المستوى الاقتصادي والسياسي والعلمي.
وقد قدَّم لنا المؤلف «آرثر هيرمان» هذه الأجزاء الثلاثة من خلال اثنَي عشر فصلًا، ومقدمة وخاتمة. وبيَّن في المقدمة أن فكرة الاضمحلال هي هاجس عام يسود الثقافة المعاصرة، حتى إن «آل جور» نائب الرئيس الأمريكي يقدِّم مشاركةً حول الموضوع.
ويتساءل المؤلف لماذا يشيع إذن هذا الشعور بالاضمحلال في جميع الثقافات؟ هل لأن هذا يعكس إحساس الإنسان بالزمان وبالتغير، لأنه في مراحل حياته الأولى — الطفولة — لم يتمايز وعيُه عن العالم الذي يعيش فيه؟ أو نتيجة للشعور بالتغيرات الجسدية من الطفولة إلى النضج، والانهيار الحتمي للقدرات الجسيمة والعقلية في مرحلة الشيخوخة؟ ولعل هذه النظرة التي تربط بين الزمان والبيولوجيا هي ما حدا ﺑ «شبنجلر» إلى تطبيق مسار حياة الخلية الحية على الحضارات، فتنبَّأ بأفول الغرب؛ لأن الحضارة تمرُّ بنفس المراحل التي تمرُّ بها الخلية الحية من ميلاد ونضج وشيخوخة، وقد حاول «شكسبير» التعبيرَ عن مراحل الإنسان التي تنتهي بالموت حين أطلق عليها «أعمار الإنسان السبعة».
ومع هذه النظرة الخطية الجديدة يصبح المستقبل والتفكير فيه أكثرَ أهمية من الماضي في تقرير علاقة الإنسان — ذات المعنى — بالآخرين؛ حيث تتقدَّم البشرية إلى الأمام، نحو القدوم الثاني للمسيح، وهو حدث مستقبلي في المسيحية والإسلام (رغم أن المؤلف لم يُشِر إلى الإسلام طوال الكتاب)، وهو هدف نهائي للعصر الألفي السعيد ليوجه التاريخ كله وأفعالنا فيه.
وهذا التصور المسيحي نجده لدى «القديس أوغسطين» الذي يرى أن سقوط روما قد فتح الطريق لبناء نظام مسيحي عالمي لكي يحلَّ محلَّ «بابل الأرضية» أي «مدينة الله» في مقابل «مدينة الشيطان»، وأطلق على مدينته المستقبلية اسمَ «أورشليم الجديدة».
وقد ظلَّت نظرية «فيكو» التاريخية التي تستند إلى القوانين الطبيعية سائدة؛ لأنها تقدِّم تحليلًا تاريخيًّا يميل إلى استخدام المقارنات الثقافية المتقاطعة لتركيب فكر تاريخي عالمي، وقدَّم «فيكو» إحدى الخصائص الرئيسة للتنوير، وهي أن المجتمع الإنساني جزء من نظام طبيعي أكبر، عقلاني، ومطبوع على حبِّ الخير.
ثم يتناول المؤلف ارتباط نشأة نظرية التقدم بنشأة مفهوم «الحضارة»؛ حيث كانت الكلمة مرادفةً لوجود حكومة منظمة للحياة الاجتماعية، ثم أصبحت تعني الانتقال من مرحلة البدائية إلى مرحلة الرقيِّ والتحضُّر. ويتبنَّى المؤلف المفهوم التاريخي للحضارة، بوصفها عمليةً تاريخية لها بداية ونهاية، نقلت المجتمع الإنساني نقلةً نوعية من البدائية أو الهمجية إلى شكل أفضل للحياة، ولم تتمَّ هذه النقلة دفعة واحدة، ولكن عبر مراحل أربع، (١) حالة التجوال البدائي، ثم (٢) الاستقرار النسبي في المجتمعات البدوية والرعوية (٣)، ثم مرحلة الزراعة حيث ظهرت الملكية للأرض، ثم (٤) المرحلة التجارية. وهذا التطوُّر جعل الإنسان يجد نفسه على اتصال مستمر بالبشر، وأصبح يستخدم وسائل أكثر تعقيدًا لتحقيق منافع متبادلة. عرف الإنسان الأسرة والأصدقاء، وأصبح مواطنًا في مؤسسة مشتركة يتعرَّف فيها على أفضل ما في الإنسان، ويشتدُّ فيها حضور الجانب العقلاني، وهذا يؤدي بدوره إلى تطوُّر الفنون والعلوم والآداب والشعر. ولذلك يقول «هيوم»: «كلما تقدَّمت هذه العلوم الراقية يصبح البشر أكثرَ اجتماعية.» وأدَّى هذا إلى ظهور المجتمع المدني الذي تميَّز عند مفكري التنوير في أربع سمات رئيسة:
-
السلوك الراقي بوصفه أهم من القوانين لتدعيم أساس المجتمع الإنساني، والأخلاق هنا مرتبطة بالعقلانية، ورقي السلوك يؤدي إلى التسامح بين البشر المختلفين في أفكارهم السياسية والدينية وتقبل القيم الجوهرية للكائنات الأخرى.
-
الأدب أو التهذيب وهو أكبر مما نطلق عليه «حسن السلوك»، فهو يكشف عن طبيعتنا العقلانية والاجتماعية.
-
تبادل المنافع: وهو يؤدي إلى التقدم الإنساني، ونمو التجارة وتبادل الخبرات.
-
الاستقلال الذاتي في السياسة والاقتصاد والثقافة.
كل هذا يُبيِّن أن نظرية المجتمع المدني ترى أن التاريخ يتكوَّن من حركة عامة تتجه نحو رخاء تجاري وحضاري؛ ولذلك فإنَّ فكرة التقدم لا يمكن فصلها عن فكرة الحضارة، وهي فكرة عكس الاضمحلال وتعتمد على أنه عندما تستنير العقول، فإنَّ السلوك الإنساني يصبح أكثر رقة، وتتقارب الأمم المتباعدة، وتزدهر التجارة بين أجزاء الكرة الأرضية، وأن العقل والصناعة سيتقدمان أكثر، وتختفي الشرور والأحقاد. ولكن هذه الصورة عن التقدم لم تكن بهذا القدر من التفاؤل؛ لأنه كان هناك الوعي بأن ذلك التحسن سيكون عمليةً تحوُّلية وتراكمية، بمعنى أن كل مرحلة من مراحل التطوُّر الحضاري في هذه العملية تتطلَّب تدمير ما كان قبلها، أو نفيها بلغة «هيجل» الفلسفية؛ ولذلك تنطوي عملية التقدم أيضًا على سلب أو نفي أو تجاوز المرحلة السابقة عليها؛ ولهذا فإنَّ نهوض أوروبا الحديثة كان يتطلَّب تدمير سلفها القديم الفاسد.
ونجد هذه الفكرة بشكل واضح عند «جيبون» عند تحليله لأسباب انهيار الإمبراطورية الرومانية؛ لأنه يرى أن الإمبراطورية الرومانية كان محكومًا عليها بالدمار؛ لأن جميع الإمبراطوريات والمجتمعات العظمى تَصِل إلى نقطة النهاية، وبعدها لا بد أن يحلَّ محلَّها شيء آخر؛ لأن ذلك يتم من خلال دورة نمو وتآكل ودمار. وهذه النظرة التي قدَّمها «جيبون» تتكرر في النظريات المعاصرة التي ترى احتمالَ زوال الحضارة الغربية في يوم ما، ورغم كل إمكانياتها المادية والسياسية، ولكن الزوال لا يحدث بالكامل؛ فقد تُترَك بعض الأطلال القديمة التي تدلُّ على أنه هنا كانت حضارة ما، وهذا ما نجده من آثار مصر القديمة التي تدلُّ على وجود الحضارة في التاريخ، وهذا يعني أنه في داخل نظرية التقدم بذور الاضمحلال كآلية للتقدم نفسه. ولعل هذا ما جعل فلسفةَ «روسو» تظهر بوصفها نقدًا للتقدم وما ترتَّب عليها من مظاهر في المجتمع المدني والحضارة؛ فقد بيَّن أن التقدم لم يؤدِّ إلى تحسين أخلاق البشر، بل جعلهم أسوأ مما كانوا عليه من همجية، فقد تزايد الترف والجشع وحب الذات والحرص على المصلحة الشخصية، وأصبح يرى أن الحضارة والمجتمع المدني تُكبِّل الإنسان بقيود جديدة غير مرئية، وارتضاها لنفسه، وأصبح البشر ضعفاء من الناحية الجسدية، وتعساء ومتوتري الأعصاب. ويبيِّن «روسو» أن تقدُّم المجتمع الإنساني لم يحقِّق الحرية السياسية، بل دمر الحرية الطبيعية؛ ولهذا يقول بسخرية: «يا الله: خلِّصنا من «التنوير» ورُدَّنا إلى الجهل والبراءة والفقر.» ويعتبر «روسو» بذلك أول منتقدي الرأسمالية والمجتمع المدني بشكل جذري؛ ولهذا فإنَّ الفكر الإنساني حول معالجة العيوب التي أشار إليها «روسو»، فظهرت الليبرالية الرومانسية والثورة الديمقراطية كوسائل لتحقيق ما يفتقده الإنسان في المجتمع المدني، ونجد هذا واضحًا لدى «بيرون»، و«شيللي»، و«ماتزيني».
والصياغة التي يقدِّمها «هيجل» ترى أن البشرية يمكنها عن طريق العقل أن تحقق خلاصها الخاص، وأن سعادة الإنسان ليست حلمًا بعيدَ المنال، ولكنها تحدث هنا والآن نابعة من السيل الجارف الذي تقوم به المؤسسات والطموحات الإنسانية.
وتعتبر فلسفة «ماركس» امتدادًا للبحث عن الإشكالية التي طرحها القرن التاسع عشر، حيث حدَّد الاقتصاد، وليس السياسة، بوصفه المفتاح لتقدُّم الإنسانية من خلال قانون الصراع الطبقي. وعلى عكس «هيجل» بيَّن أن هناك مرحلة أبعد من الرأسمالية وهي الاشتراكية؛ وبالتالي فإن سلطة الدولة تموت. ونلاحظ أن عند كلٍّ من «هيجل» و«ماركس» فإن التاريخ كعملية تقدُّم يصل إلى نقطة نهاية لا يستطيع أن يتخطاها، وهذا يعني أنهم يلتقون في النهاية مع القائلين بالاضمحلال؛ لأن التقدم لديهم ليس عمليةً لا نهائية.
ورغم محاولة «هربرت سبنسر» في تقديم نظرية للتقدم تستوعب العلوم كلها والربط بين التقدم المادي في العلم البشري والتقدم الاجتماعي، إلا أنها سلَّمت في النهاية بأن مصير المادة إلى الفناء؛ ذلك عندما علم أن القانون الثاني من علم الديناميكا الحرارية يدل على أن التقدم إلى ما لا نهاية أمر مستحيل؛ لأن كل طاقة لا بد أن تتبدَّد في النهاية، فأدرك أن توقعاته عن المستقبل التي تعتمد على التحقيق الدقيق لقدر تاريخي غير قابل للتغيير؛ وهذا جعل الدراسات التي تستلهم فلسفته تُضيف مرحلة نهائية نحو السقوط عندما تفقد القوى، التي تجذب المجتمع والإنسان إلى الأمام، قوتَها، وتبدأ انطلاقها في الاتجاه العكسي نحو الاضمحلال. وهذا أدَّى إلى تشاؤمية من نوع خاص وهي الرومانتيكية التي تُطالب بالعودة إلى الزمان الجميل، الماضي، نتيجة لفقدانها الثقة في المستقبل، ونجد هذا لدى «شليجل»، و«فرديدريك شيللر»، و«جوزيف دي مايستر»، و«نوفاليس» و«كوليريدج»؛ حيث بدأ يتولَّد شعور بالتعاسة في المدنية الغربية والتصنيع. والأعمال الأدبية في تلك الفترة تعبِّر عن هذا البؤس كما نجده في أعمال كلٍّ من: «والترسكوت»، و«ألكسندر دوماس»، و«فيكتور هوجو»، و«جول فيرن» و«وليم بليك»، و«توماس جراي»، و«روبرت سوذي»، و«ووردنورث». فالرومانتيكية رصدت «التدهور» في المجتمع الصناعي، ويقصدون بالتدهور ضياعَ معيار ثابت أو مستوى محدد من التميُّز الأدبي، وبيَّنوا في كتاباتهم أن كلمةَ «التدهور» تعني أيضًا أن الانهيار في المستويات الفكرية والروحية له علاقة مباشرة بالانهيار الاجتماعي والاقتصادي. وقد عبَّر عن هذا «كوندورسيه» في كتابه: «تأملات في عظمة وانحلال الرومان»؛ حيث بيَّن أن التدهور يبدأ من القمة، عندما تفقد النخبة السياسية والثقافية رغبتَها في الحفاظ على النظام القديم. وعبَّر «جوته» عن تلك المرحلة من الرومانتيكية التي منحت رخصةً لأسوأ الغرائز وأكثرها انحطاطًا مثل الإشباع الفوري للشهوات، والبحث عن المتعة والذاتية المتوحشة، وقال إنَّ «الكلاسيكية صحة والرومانتيكية مرض.» حيث ظهر فنان الانحطاط الذي يبحث عن الرضا الذاتي بأي وسيلة مثلما يسعى رجل الأعمال إلى المال من أي طريق. وعبَّر «نيتشة» عن ذلك بقوله: «المجتمع المنحط مثل الفن المنحط، مركَّب ومتعمد وزائف ومصطنع.» وعبر «شارل بودلير» عن ذلك: «لقد أدَّى التقدم إلى ضمورِ كلِّ ما هو روحاني فينا.»
بعد أن قدَّم المؤلف مفهوم الاضمحلال وارتباطه بمفهوم الزمن في الفلسفات المختلفة، وارتباطه أيضًا بما هو مضاد له وهو مفهوم «التقدم»؛ حيث بيَّن أن داخل التقدم بذرة الوعي بالاضمحلال؛ لأنه ليس هناك تقدُّم بلا نهاية؛ لذا فإنه يرصد نموذجًا من القائلين بالاضمحلال لأسباب عِرقية، وهو المفكر الفرنسي «آرثر دو جوبينو» الذي بيَّن أن الموت هو مصير المجتمع، واعتمد في استخلاص هذه النتيجة على التحيُّز العِرقي، وعبَّر عن ذلك في دراسته: «فصل المقال في لا تساوي الجنس البشري». وقد استعرض المؤلف حياته ليبيِّن أن أفكاره حول التشاؤم العِرقي ترجع لما مرَّ به في حياته من أحداث، ونتيجة لنسبه للأرستقراطية التي عانَت بعد الثورة الفرنسية؛ ولهذا كان مناهضًا للبورجوازية؛ لأنها وليدة مناخ يمقته «جوبينو».
وإذا كان الاغتراب الرومانسي أيقظ الافتتان بالعصور القديمة والحنين إليها، فإنَّ طريق الهروب الآخر من الحداثة الغربية كان الجغرافيا، أي الهروب إلى الثقافات غير الغربية مثل ثقافات الشرق الأوسط والهند وآسيا، وأصبحت باريس — بعد حملة نابليون على مصر (١٧٩٨م) — مركزًا للدراسات الشرقية، وتزايد الاستشراق والاهتمام بحضارات قديمة وبالدراسات اللغوية المقارنة، ويتضح هذا في تأثير الجماليات الشرقية على الجماليات الرومانسية، فقد تأثَّر «فريدريك شليجل» بالحضارة الهندية، وقال: «في الشرق فقط، يمكن أن نبحث عن أسمى درجات الرومانسية.» ولذلك فقد سافر «جوبينو» إلى إيران، وهذا تعبير عن مناخ ثقافي يشعر فيه الإنسان بالاغتراب الحاد نتيجة للانقسام بين الحديث والبدائي، وهي الإشكالية التي سبق أن أشار إليها «جان جاك روسو»، وأوضحها «بودلير» حين قال: «الشعوب البدوية، حتى المتوحشة آكلة لحوم البشر ربما كانوا أرقى من أجناسنا في الغرب، استنادًا لما لديهم من قوة ووقار شخصي.» وعبَّر «جوبنيو» عن هذا الاتجاه العاطفي بنظريته في التاريخ التي تعتمد على التفكير العرقي، وهي النظرية التي ترى لجنس ما أفضليةً على بقية أجناس البشرية، وتربط بين التطورات الثقافية في التاريخ وعرق معين؛ فانتشار أنواع جنسية معينة من الإنسان هو الذي أدَّى إلى انتشار الحضارة، وبيَّن أن أصل الحضارة هم الآريون وهم السلف الأرومي الأصلي للجنس الأوروبي الأبيض، وهذه الفكرة نجدها أيضًا عند «فريدريك شليجل» حين افترض أن اللغة السنسكريتية هي اللغة الأصلية المشتركة بين كل الحضارات شرقًا وغربًا، وأنها لغة الآريين الأصلية، وكانوا هم أسلاف الإغريق والرومان والمؤسسيين الآخرين للثقافة الغربية، وهي فكرة خيالية أن تكون جميع الحضارة في الأصل حضارة واحدة، وهذا معناه أن جميع الحضارات تبحث عن الجنس الأبيض ومستمدة منه، التي توزَّعت في الحضارات المختلفة، وأن البقايا العرقية هي أرستقراطية كل حضارة ابتداءً من البراهمة الهندية إلى النبلاء الزرادشتيِّين، وفي كل حضارة وعند «جوبينو» أن العرق وليس الاقتصاد هو الذي يخلق المجتمع والطبقة الحاكمة، والمجتمع يكون عظيمًا بقدر ما يحافظ على الدم النبيل للجماعة التي صنعته، وهذا يعني أن نهاية الأرستقراطية دليل على نهاية المجتمع الغربي واضمحلاله … وعملية التحضُّر هي عملية إفساد لدى «جوبينو»؛ لأنها تؤدي إلى اختلاط الأجناس، وضياع العرق الذي يقود البشرية، وهذا يؤدي إلى الموت الحتمي للحضارة الغربية؛ لأنها امتزجت بمن هم أدنى منها، ويلغي بذلك الحرية الإنسانية، وقدرة الإنسان على تشكيل مصيره. ولم يلقَ «جوبينو» ذيوعًا في فرنسا، ولقيَ شيوعًا في ألمانيا، ومهَّد للنازية. وقد عبَّر «هتلر» عن ذلك في كتابه «كفاحي»: «جميع ثقافات الماضي قد اختفت؛ لأن الجنس الخلَّاق الأصلي مات بسبب تلوث الدم.»
إن المتشائم الثقافي النيتشوي يرى أن الحاضر مجرد امتداد لقيم الماضي الفاسدة التي لا معنًى لها في ذاتها، وينبغي رفضُ الاثنين معًا، الماضي والحاضر، وترك العالم يتفسَّخ لكي يُفسحَ الطريقَ لشيء جديد تمامًا، ولنظام ثقافي جديد، وهذه الرؤية قد أثَّرت على نقاد الثقافة والفنانين، الذين وجدوا في أنفسهم قوةً مضادة للنظام الاجتماعي المتفسخ؛ ولهذا كان المفهوم النقدي هو المرحلة الأولى في إعادة تقييم كل القيم؛ ولذلك يتكرر ذكرُ «نيتشة» لدى معظم الفنانين المعاصرين الذين يسخرون من المجتمع الحالي، ولا يرَون في نهايته مأساةً بل ولادة لعالم جديد.
ثم يقوم المؤلف باستعراض نظرية الانحلال في النتاج الثقافي، وهذه النظرية أصبحت موضوعًا للنقاش لدى السياسيِّين في أواخر القرن التاسع عشر. واعترف الليبراليون أن التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية للحضارة الحديثة لم تَعُد تمثِّل تقدُّمًا بل العكس، ولا بد من التدخُّل من قِبَل العالم الحديث وسلطة الدولة للحد من التدهور، فبدأت تظهر النظريات التي تبحث عن الأسباب العلمية للظواهر السلبية مثل العنف والإجرام. فظهرت أبحاث «لومبروزو» عن العلاقة بين تكوُّن الدماغ والسلوك الإجرامي؛ وذلك حين لاحظ تشابهًا بين جزء من جمجمة مجرم شهير وبين الحيوانات الدنيا بما فيها القوارض، وقدَّم خصائصَ جسمانيةً وسلوكية للمجرم. وظهرت أيضًا أبحاثُ «دارون» ونظريته البيولوجية التي أكَّد فيها على أن جميع الأجناس بما فيها الإنسان تتطور من خلال الانتخاب الطبيعي؛ فالبقاء للأصلح طبقًا لقدرته على التكيُّف مع البيئة، وهذا التطور لم يَعُد ثابتًا أو غير قابل للتغيُّر، فإن نوعًا من الأنواع يجد نفسه عند نقطة معينة من تاريخه، يُخلي مكانه لنوع آخر أفضل منه تكيُّفًا مع البيئة الموجودة، أو أن الظروف الخارجية قد تتغيَّر فجأةً وبشدة لتجعل خواصَّ هذا النوع التكيُّفية غير صالحة للحياة، وهذا ما تؤكده الحفريات المكتشفة للديناصورات؛ فقد انقرض الديناصور رغم قوته الشديدة؛ لأن خواصَّه لم تَعُد صالحةً. وهذا المعنى ينطبق أيضًا على المجتمع الحديث؛ حيث سقطت الإمبراطورية الرومانية رغم العظمة المفرطة. فالتطوُّر يمكن أن يكون عودةً للأسلاف القدامى، ويمكن أن يكون تقدُّمًا للأمام. وقد حسب علماء الوراثة احتمالات ولادة نسل متوحش مثل «مورسيللي»، فبيَّن أنها لا تزيد عن حالة واحدة كل ثمانية ملايين حالة، ولكن ماذا لو أن ظروفًا محدَّدة أظهرت كل الصفات المفقودة فجأة، وفي النوع بكامله، والتي سوف ينقلها إلى ذريته؟ وهنا ستعمل عملية الوراثة فجأةً ودون تفسير ضد مصالح الأنواع، وتصبح عملية الانتخاب الطبيعي فخًّا وتُنتج أسوأ سلالة بشرية قريبة من حالة فوضى الشعوب.
وهذا يعني أن مصيرَ الإنسان يتحدَّد عن طريق عمليات بيولوجية خفيَّة، قوانين صامتة لا تكفُّ عن العمل، وهي تحكم المجتمع بسلطة أكبر من القوانين التي يسنُّها المجتمع، وأصبحت هناك صورة تُؤرِّق الخيال الليبرالي، ألا وهي أن بداخل كل إنسان وحشًا نائمًا، يمكن أن يقفز فجأةً من خلال التناسل وقوانين الوراثة.
في الجزء الثاني من الكتاب يقدِّم المؤلف معالجةً مختلفة عن الدراسات والنظريات التي تنبَّأَت باضمحلال الغرب، ابتداءً بنظرية المؤامرة، وانتهاءً بالدراسات التي قدَّمها فلاسفة التاريخ التي يفسِّرون من خلالها اضمحلالَ الغرب. وقد بدأت هذه الدراسات بمحاولات أولى تُقدِّم نقدًا للحضارة الغربية الحديثة نجدها في أعمال «هنري آدامز»، الذي انتقد كلَّ أشكال الفساد في الكونجرس والنظام السياسي والحياة الاقتصادية التي يرى أنها عبارة عن طبقتَين: طبقة تسرق، وطبقة مسروق منها. وقد أعلن خوفه وقلقه على المستقبل، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ويمكن تغيير هذا بإعدادِ جيلٍ جديد مزوَّدٍ بالعلم والقيَم الجديدة التي توجِّه المجتمع نحو المستقبل.
ويعود المؤلف إلى دوره كمؤرِّخ للحياة الأمريكية وتطوُّرها، حتى كانت أزمة ۱۸۹۳، وظهور الدراسات التي تدرُس عوامل الاضمحلال والانحلال في المجتمع الأمریکي.
وهي دراسات تعتمد على النظرة العِرقية؛ ولذلك يبدو الحل في إعادة الزنوج الأمريكيِّين إلى أفريقيا والمحافظة على النقاء العِرقي، وهذه النظرة العنصرية سادَت الدراسات الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يقلب هذه النظرية سوى «دو بوا» الذي بيَّن أن الملونين يتمتعون بقدرات عقلية إبداعية وأنها ليست وقفًا على البيض، واستفاد من الاستشراق في عرض نظريته.
ويقدِّم المؤلف تحليلًا لفلسفة «شبنجلر» عن «أُفُول الغرب»، ويستعرض المناخ الثقافي والعلمي الذي كان متاحًا في ذلك الوقت ليخلُصَ إلى أن كتاب «أُفُول الغرب» لم يكن عملًا أصيلًا، وإنما هو تلخيص للتشاؤمية التاريخية والسخط الثقافي الذي ظهر في أعمال «نيتشة». واعتمد «شبنجلر» بشكل أساسي على تراث النقد الثقافي للحضارة الغربية، كما اعتمد على نظرة القرن التاسع عشر العضوية والتي مزجَها بفلسفة «نيتشة»؛ فقد نظر للحضارة نظرةً بيولوجية، وبالتالي فقد جعل مصيرَ الحضارة هو نفس مصير الخلية الحية. وينتقل بعد ذلك إلى «توينبي»، وهو لم يكن فيلسوفًا ولكن مؤرخًا كتَب تاريخَ البشرية كلَّه من مصر القديمة حتى العصر الحالي، وحاول أن يعرف السبب الذي يؤدي إلى زوال الحضارات واندثارها، وكتب مشروعه متأثرًا بالمناخ الثقافي؛ حيث نشر «ماثيو أرنولد» کتابَ: «الثقافة والفوضى»، و«ت. س. إليوت» وقصائده التي تعبِّر عن أزمة الغرب الثقافية، ونبذ منظور المركزية الأوروبية الذي كان يضع الحضارة الأوروبية في مركز عملية التقدُّم الإنساني، وقدَّم نقدًا لمعظم النظريات السابقة التي تفسِّر التاريخ وعوامل التدهور في أي حضارة، وقدَّم نظريته: «التحدي والاستجابة»؛ حيث يرى أن جميع الحضارات الكبرى تحرَّكت بلا وعيٍ نحو هدف واحد هو «تقرير المصير»، وهو مفهوم ثقافي واجتماعي أكثر منه سياسي، ويعني أن حضارةً ما تُحقق هويةً فريدة واعية بذاتها، من خلال شعور أفراد هذه الحضارة بالهوية والهدف، واعين بالكيان الكلي، وتقرير المصير هو نتاج وثوب روحي يحرِّك كل حضارة من خلال التحديات التي تواجهها إلى استجابة وإلى تحدٍّ أبعد، هذا ما يشكِّل اتجاهَ الحضارة ككل. ويرى «توينبي» أننا نعيش في ظل علامات سقوط الحضارة، والسبب يرجع إلى أن الأفكار الأخلاقية التي كانت الحضارة تقوم عليها أصبحت هائمةً في العالم يضربها الفقر. وقد استمد «توينبي» نظريته من الفكر الصيني عن «الين»، و«اليانج»، وفسَّر بها نشأةَ الحياة وتطوُّرها، واعتمد على منظور أخلاقي مسيحي في رؤيته لمصير الحضارة الغربية. ويغلب على أعمال «توينبي» التحليل التاريخي للحضارة، لكننا لا نجد نظرية، وإنما نصائح أخلاقية، ولعلَّ هذا ما جعل الكثير من المفكرين العرب أن يتبنَّوا هذه النظرية، لا سيَّما بعد زيارة «توينبي» لمصر في السبعينيات، وقدَّم رسالةً للشباب بوصفهم قادةَ المستقبل، والمؤلف قد توقَّف عند أعماله؛ لأنها تماثل تجربته في الكتاب، فكلاهما مشغول بمستقبل الغرب …
وفي الجزء الثالث الذي يُطلِق عليه المؤلف: «انتصار التشاؤمية الثقافية»، يعرض الشخصية النقدية التي تتمثَّل في «مدرسة فرانكفورت»، التي قدَّمت نموذجًا جديدًا في النقد الثقافي، وكان سؤالها الرئيسي: لماذا ينتهي الغرب؟ واستعرض إجابات «تيودور أدورنو»، و«ماکس هورکهایمر»، و«فرانز نيومان»، و«إريك فروم»، و«هربرت مارکیوز». وهذه الإجابات لم تكن تقليدية؛ لأنها تغاضَت عن الماركسية القديمة في التقدُّم والعقلانية العلمية، ولأنهم اعتمدوا في تحليلاتهم على فكر «فروید»، و«نيتشة»، وكلاهما يُبرِز الآثار المشوَّهة التي تتكبَّدها الإنسانية في مقابل انتصاراتها التكنوقراطية.
وقد أسَّس نُقَّاد «مدرسة فرانكفورت» صورَ ولغةَ نظريةِ انحلال المجتمع الغربي، ودرسوا كلَّ مظاهرها في برنامجهم الفلسفي؛ فدرسوا التفسُّخ الاجتماعي، والجريمة والجنون والتسلطية، وانحطاط الفنون، وقدَّموا نقدًا للتنوير في صورته الأولى، وطالبوا بالتخلي عن نظرة للحياة تؤكد قدرةَ الإنسان على استخدام المنطق والعقل للوصول إلى كل الحقيقة، وخلقت «مدرسة فرانكفورت» نمط المثقَّف الناقد للهجوم على شرور الحضارة الغربية وكشفها، وقد تأثروا ﺑ «جورج لوكاتش» في دراسته عن التاريخ والوعي الطبقي التي بيَّن فيها أن انتصار الطبقة العاملة سوف يحلُّ تناقضات الحداثة، ولكن «هورکهایمر» جعل المثقَّف يحلُّ محلَّ العامل في فلسفة «لوكاتش»، وقد مدَّت «مدرسة فرانكفورت» مفهومَ النقد ليُعيدَ النظر في كل الأفكار في الحضارة الغربية بما فيها مصادرهم الثقافية، فأعادوا قراءة «ماركس» وأعادوا بناء عناصر فلسفته في فهم الرأسمالية المعاصرة من أجل دراسة ديناميكيات الانحلال والتفسُّخ في المجتمع المعاصر، وركَّزوا على المخطوطات الاقتصادية والفلسفية ﻟ «ماركس» التي تُشخِّص أعراضَ الاضمحلال الثقافي الحديث، وساهموا بذلك في ذيوع مفاهيم الاغتراب والثقافة الاستهلاكية والتسلُّطية وأشكالها وعلاقاتها المرتبطة بأدوات الاتصال الحديثة مثل أجهزة الإعلام كالتليفزيون ودوره في الهيمنة والسيطرة الثقافية، وتحدَّثوا عن التشيُّؤ، ونقدوا الأساس المنطقي والفلسفي للتكنولوجيا.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الفلسفة الفرنسية ليتحدَّث عن التشاؤمية الثقافية كما تمثَّلت في ثلاثة مفكرين، هم «سارتر»، و«ميشيل فوكو»، و«فرانز فانون»، فقدَّم الأصول الفكرية لفلسفتهم التي تتمثَّل في «هنري برجسون»، و«ألكسندر کوجیف»، و«مارتن هيدجر».
ويتوقف في نهاية الكتاب عند موجة التعددية الثقافية والتشاؤمية البيئية، والفلسفات الجديدة التي تؤكد اضمحلال الغرب، ويتبيَّن لنا خلال هذا العرض لتاريخ فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، أن المؤلف يؤرِّخ للأحداث الكبرى في الغرب وما صاحبَها من فلسفات مردِّدًا النقد الثقافي للحضارة الغربية، حتى تحوَّل الكتاب إلى موسوعة لهذا الفكر الغربي وتياراته البارزة في فلسفة التاريخ حول الاضمحلال والتقدم. وقد عرض لصيغتين من صيغ التشاؤم، وهما: التشاؤم التاريخي، والتشاؤم الثقافي. المتشائم التاريخي يرى مزايا الحضارة الغربية واقعةً تحت هجوم شرس ومدمر، ولا تستطيع التغلب عليها، بينما المتشائم الثقافي يزعم أن ما يتهدَّد الحضارة الغربية ينبع من داخلها ومن نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي، والمتشائم التاريخي يرى أن مجتمعه على وشك أن يدمِّر نفسه، بينما المتشائم الثقافي يرى أن الغرب يستحق التدمير لكي تولدَ حضارة جديدة من الرماد.
لقد استعرض المؤلف (كما يظهر من الببليوجرافيا) كلَّ الأسماء البارزة في تاريخ الفكر الغربي؛ لكي يوضح مسار الفكر الأوروبي في التعرُّف على أزمته الداخلية، لكنَّه لم يقدِّم رؤيةً جديدة خاصة به سوى هذه المعالجة التي تتضمن بُعدَين رئيسيَّين في آنٍ واحد: الأول رسم صورة لفكرة الاضمحلال في تاريخ الفكر الغربي، والثاني استعراضه للتاريخ الذاتي الثقافي للغرب في ترابطه العضوي، فهو كل تاريخي غیر منفصل الارتباط. ويعترف المؤلف صراحةً في خاتمة الكتاب بأن توقُّع مستقبل الغرب وأمريكا هي مشكلة لا حلَّ لها، ولا يمكن إصلاح المجتمع الغربي إلا بإصلاح جذري شامل للمجتمع والثقافة ككل. ورغم التشاؤمية الظاهرة في كثير من الاتجاهات إلا أنها صنعت أكثرَ من مجرد توازن مضاد للتفاؤل الساذج بشأن المستقبل، والتشاؤم والتفاؤل وجهان نقيضان للفكر الذي يهتم بمستقبل الغرب.
هذا الكتاب يجعل القارئ يتعرَّف عن قرب على الاتجاهات المعاصرة، مثل: الإيوجينيا (تحسين السلالات)، والعنصرية، والتشاؤمية العِرقية، والفاشية، والحداثة، والتعددية الثقافية، والنسوية، رغم أن المؤلف يرى أن كلَّ هذه الاتجاهات تنتمي للقرن الماضي ولا تنتمي لعالمنا الحاضر؛ لأن هؤلاء الذين تحدَّثوا باسم هذه الاتجاهات هم نتاج نظرة للمجتمع تشكَّلت ملامحها في القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن هناك اتجاهاتٍ كامنةً داخل المجتمع الغربي نبعت من خلال القرن العشرين، لكننا لا ندري عنها شيئًا؛ مثل بيان مفجِّر القنبلة الذي عثر عليه البوليس بعد موته، وهذا يعني كذلك أن الفكر الغربي المعاصر لا يزال أسيرَ رؤًى سابقة، وأن الإبداع الأدبي والفني يكشف عن الخطابات الفلسفية في الغرب الآن؛ ذلك لأن الإبداع يمكن أن يعبِّر عن المفاهيم والحالات التي لم تستقرَّ بعد، أو لم يتمَّ التعرُّف عليها.
يبقى أن أُشير إلى الترجمة التي قدَّمها الأستاذ طلعت الشايب، التي تمثِّل إبداعًا من نوع خاص؛ لأنه استطاع أن يجعل هذا العملَ العميق والصعب في آنٍ واحد، ينطق باللغة العربية ويكون مفهومًا بشكل يخلق قدرًا كبيرًا من التواصل مع أفكار الكتاب، واختياره لهذا النص المهم الذي يحتوي إشكاليات الفكر الإنساني بشكل عام والفكر الغربي بشكل خاص هو تأليف غير مباشر؛ لأنه جعل النص مفهومًا باللغة العربية، وكم من الكتب الفلسفية قد تُرجمت، وجعلَت الرجوع إلى النص الأصلي بلغته الأصلية أسهلَ وأدق من التعامل مع الترجمة، بينما في هذه الترجمة المشرقة جعلنا نتواصل مع أفكار الكتاب، وهذا يعني أن المترجم قد رجع إلى المصادر التي أشار إليها المؤلف «آرثر هيرمان»، وهذا واضح من الإشارات التوضيحية التي أشار إليها المترجم في ثنايا الكتاب، وتدلُّ على استيعابه للموضوع، وقدرته الإبداعية على صياغة قضاياه باللغة العربية … وهذا إنجاز ثقافي كبير؛ لأن الكتاب الذي يقدِّمه هنا مصدر من المصادر الرئيسية في تاريخ الأفكار، ويعتبر موسوعةً شاملة في الفكر الغربي، وهذا ليس غريبًا على الأستاذ طلعت الشايب الذي آلى على نفسه ترجمةَ المصادر الهامة للتعامل مع عصرنا وقضاياه؛ فقد ترجم من قبل: «صِدام الحضارات» ﻟ «صمويل هنتنجتون»، و«المثقفون» ﻟ «بول جونسون»، و«حدود حرية التعبير» لمارنيا ستاغ، ورواية «البطء» ﻟ «میلان کونديرا»، و«الملاك الصامت» ﻟ «هينرش بول»، وغيرها من أعمال.
جميع الآراء الواردة في هذا الكتاب تنتمي للفكر الغربي. (المترجم)
Adorno and Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, trans. J. Cumming, Herder and Herder, New York, 1944, p. 8.