الفصل الأول
التقدُّم والاضمحلال والتفسُّخ
«كل شيء يتغيَّر في أيدي البشر.»
جان جاك روسو
إنَّ فكرة الاضمحلال هي في واقع الأمر نظرية عن طبيعة ومعنى الزمن، وكذلك أيضًا فكرة
التقدم، كما أنَّ مفهوم التاريخ كتقدُّم أصبح اليوم في موضع الشك، بالنسبة للمثقَّفين،
وللمؤرِّخين بخاصة، فقد أصبحوا يناقشون أصولَ وتاريخ «فكرة التقدم» وكيف كانت بمثابة
«أسطورة» ثقافية قوية في الفكر الغربي.
١ إلا أنَّ أصل ومغزى أسطورة الاضمحلال لم يحظَ إلا بالقليل من الاهتمام،
ولكنَّ الفكرتَين وجهان لعملة واحدة. فكل نظرية عن التقدم تنطوي أيضًا على نظرية
للاضمحلال، حيث إنَّ قوانين التاريخ «الحتمية» يمكن أن ترتدَّ إلى العكس كما تتحرك إلى
الأمام، كذلك عندما نقابل نظريةً عن اضمحلال الحضارة الغربية، فإننا يمكن أن نجد نظريةً
عن التقدُّم متوارية تحتها.
ومن الناحية العملية، فإنَّ أيَّ ثقافة سواء في الماضي أو الحاضر تعتقد أن البشر،
رجالًا
ونساء، ليسوا على المستوى الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم. ففي إلياذة «هوميروس» في
الأدب اليوناني القديم مثلًا نجد وصفًا ﻟ «أجاكس» وهو يرفع كتلةً ضخمة من الصخر بيدٍ
واحدة، «لا يستطيع شابٌّ قويٌّ من جيلنا أن يرفعها بكلتا يدَيه».
٢ بعد ذلك بمائتَي عام، في القرن السابع ق.م. كان الشاعر «هیزيود»
Hesiod يرى أنَّ الكونَ كلَّه تحكمه عمليةُ اضمحلال
متوالية بدءًا من عصر ذهبي كانت الآلهة هي التي تحكم فيه والناس يعيشون في سلام ووئام،
يتبعه عصرٌ فضيٌّ، ثم عصر برونزي، وأخيرًا عصر حديدي يضطر فيه الناس للعيش على عرق جبينهم،
ويعانون من مصيرهم «على أيدي ملاك الأراضي، والملوك، والزوجات».
والتشابه بين العصر الحديدي عند «هيزيود»، والطرد من «جنة عدن» مثيرٌ، ولكن «العصر
الحديدي» أيضًا هو ترجمة ﻟ
Kali Yuga في الديانة
الهندوسية و«الفيدية»
Vedic، آخر وأسوأ العهود
الإنسانية حيث يحكم العالم «الأقوياء والماكرون والجسورون والطائشون». كذلك تظهر أساطير
مشابهة في الصين الكونفوشية وبين الأزتيك
Aztecs،
و«الزرادشت»
Zoroastrians، «واللابلاندر»
Laplanders وقبائل أمريكية محلية عديدة، وكذلك في
قصص البطولة الأيسلندية والأيرلندية، ناهيك عن «سِفر التكوين».
٣
لمن أستطيع أن أتكلَّم اليوم؟
الظلم الذي يضرب الأرض،
ليس له نهاية.
لمن أستطيع أن أتكلَّم اليوم؟
ليس هناك بشرٌ صالحون،
والأرض استولى عليها المجرمون.
٤
وقد تبدو هذه المشاعر الجيَّاشة حديثةً ومعروفة رغم أنَّ المؤلف كان يعيش
بالفعل في المملكة المصرية الوسطى عام ۲۰۰۰ قبل الميلاد تقريبًا. لماذا يشيع إذن هذا
الشعور بالاضمحلال في جميع الثقافات؟ ربما يعكس التجربة الإنسانية في التغيرات الجسدية
… من الطفولة إلى النضج والانهيار الحتمي للقدرات الجسمية والعقلية في الهِرَم، والذاكرة
الجمعية عن الماضي تميل إلى عالم كان يمتلك قوًى تبدو غيرَ موجودة الآن. ويبدو أن تلك
الهبات والخسائر هي التي تكوِّن المراحل الأساسية في الوجود الإنساني ذاته، والتي سوف
يلخِّصها «شيكسبیر» ﺑ «أعمار الإنسان السبعة».
وقد كانت عبقرية الإغريق في توسيعهم ذلك الوعي الجسداني بالذات إلى فلسفة عن طبيعة
الزمن والتغيُّر؛ فالزمن عندهم هو التغيُّر: ما كنَّا عليه وما نحن عليه الآن سوف ينتهي،
سواء كان جيدًا أو سيِّئًا أو وسطًا بينهما، وكان الفيلسوف «هيراقليطس» يرى أنَّ الكون
كله
يحكمه قانون واحد للتغيُّر: «كل شيء في تغيُّر مستمر. لا استقرار لشيء»، و«أوديب» عند
«سوفوكليس»، كان يفهم ذلك … يفهمه جيدًا:
الزمن يدمر كلَّ شيء،
لا أحدَ بمأمن من الموت سوى الآلهة،
الأرض تفنَى … كلُّ شيء إلى زوال.
حتى الثقة بين الناس تذوي، ويحل محلَّها عدم الثقة،
الأصدقاء ينقلبون على الأصدقاء،
والمدن على المدن.
مع الزمن … كل شيء يتغيَّر: البهجة إلى مرارة،
حتى البغضاء تتحوَّل إلى حب.
٥
كما أنَّ كلمة «الزمن» باليونانية، وهي
Chronos هي اسم الإله الذي التهمَ أطفاله. وقد
تخلَّل الوعيُ بالطبيعة الانتقالية أو العابرة للوجود الإنساني كلًّا من الثقافتَين الإغريقية
والرومانية.
٦⋆
وهو الذي يُشكِّل أساس أسطورة «أركاديا»، الجنة الرعوية الخيالية، التي يستمتع فيها
الرعاة — ذكورًا وإناثًا — بالحياة بلا أحزان أو هموم، بالإضافة إلى شعار
Carpe diem،
٧⋆ فقد كانت الحياة قصيرة، والسعادة سريعة الزوال ولا محل لتأجيل
المسرة!
أيها الغد، مهما كنت سيئًا، يكفيني أنني قد عشت اليوم،
كن عادلًا أو شريرًا، ممطرًا أو مشرقًا،
فالمباهج التي عشتها رغم أنف القدر … ملك لي …
٨
ولكنَّ النظرة الإغريقية الرومانية للزمن كانت تنطوي أيضًا على اقتناع
راسخ بأنَّ الأحداث لا تقع اعتباطًا، وإنما طبقًا لدورة متكررة من الميلاد والحياة
والاضمحلال والموت ثم الميلاد مرة أخرى. وكان المصطلح الإغريقي لذلك هو «الثورة»
Anakuklosis، وكان «أفلاطون» يرى أنَّ الدولة — المدينة الإغريقية — تتحرك حسب دورة متواترة، وكان
المؤرِّخ الإغريقي «بوليبيوس»
Polybius يقول إنَّ النظم السياسية تتبع سلسلةً من
الثورات، مثل الملكية التي تتحلَّل إلى استبدادية، تؤدِّي إلى أرستقراطية، تتحلَّل إلى
أوليجاركية (حكم قلة) والتي تؤدِّي بالتالي إلى ديمقراطية يتبعها فوضوية تتطلَّب العودة
إلى حكم الفرد أو الملكية.
٩
وقد أخذت هذه الدورة في العصور الوسطى شكلَ «عجلة الحظ»؛ فالإنسان ممسوك في يد القدر
مثل الخيط في عجلة الغزل، وبإدارة العجلة، يرفع الحظ بعض البشر إلى أعلى، مثل الملوك
والأبطال والباباوات، ثم بدورة ثانية من الذراع يدفعهم إلى أسفل مرة أخرى. الشهرة
والعظمة تصادفية ولا نظام ولا منطق لها.
١٠ أما ملاذ الإنسان الوحيد في وجه الحظ والظروف العمياء فهو «فضيلته»، وكلمة
«فضيلة»
virtus في الأصل تعني الشجاعةَ في القتال،
ولكنها أصبحت تتضمن أيضًا نزاهة الإنسان في شتى مجالات الحياة. كانت «الفضيلة» هي القوة
الداخلية اللازمة للتغلُّب على «تروس وأسنان عجلة الحظ»، كما قال «شیکسبیر»، ومن أجل
تشكيل مصير الإنسان، وكان «هرقل»
Hercules هو رمز
الفضيلة، هو البطل قاهر الوحوش الذي مكَّنَته قوته الجسمية من تحدِّي الخوارق المستحيلة،
وكان «هرقل» إلى حدٍّ كبير، هو الإله الأكثر شهرة في العالم القديم وفي عصر النهضة،
والرمز المأمول لقدرة الفرد على تحديد وجهة حياته ضد رغبة القدر الأعمى.
١١
وفي العصور الوسطى أخذت الفضيلة بُعدًا إضافيًّا وهو الصبغة المسيحية، وأصبح «الحظ»
يُعرَف أو يتحدَّد بالخطيئة ومملكة البشر الفاسدة والشيطان. وفي عصر النهضة أحيَا
«ميكيافيللي» Machiavelli التناقض بين الفضيلة والحظ
ليظهرَ في زيٍّ وثنيٍّ، وكما شرح مؤلف «الأمير»، فإن «الحظ امرأة» تطلب رجلًا قويًّا
لكي
يستأنسها ويحكمها، ولهذا السبب «فهي تميل دائمًا إلى الرجال الأصغر سنًّا والأكثر
شبابًا؛ لأنهم أقلُّ حذرًا وأكثر جسارة».
الفضيلة نقيض الحظ، الفضيلة نقيض الفساد، وفيما بعد سيكون الصدام بين «الثقافة»
Kultur و«الحضارة»
Zivilisation، وفي كل حالة، التاريخ يحدِّده صراعٌ
حتميٌّ بين الشخصية الإنسانية والقدر المجهول، وقد أمن الإغريق القدامى بأن ذلك الصراع
جعل تطوُّر العلوم والفنون ممكنًا؛ حيث يصارع الإنسان الطبيعة البدائية والظلام المحيط
به كما في أسطورة «بروميثيوس». وعلى نفس المنوال، يصارع فیلسوف «أفلاطون» قوى الجهل
والاعتقاد وهو يرتقي من «کهف الأوهام الضبابية» إلى «مملكة الأفكار الصافية»، كما كان
المؤرِّخ «ثاكيديدس»
Thucydides يری الصراع نفسه
يُحوِّل اليونان من البربرية الفظَّة إلى الدولة المدنية أو
Polis.
١٢ وفي النهاية، لم يكن هناك مهربٌ من القدر على أية حال. حتى الآلهة كانوا
يحكمون بمقتضاه، كلهم لا بد أن يعود في النهاية إلى الظلام البدائي (الهيولى)، (ومعناه
باليونانية
Chaos) لكي يبدأ من جديد، هكذا إلى أن يجيءَ — ذات يوم — شخص يتمتع بما يكفي من الفضيلة (بالإضافة
إلى الدعم الجماعي من الآلهة)
فيتمكَّن من إيقاف دورة القدر الحمقاء ويعكس اتجاهها ويستعيد العصر الذهبي المفقود. في
العالم الكلاسيكي سيكون «أوغسطس قيصر»
Augustus Caesar هو ذلك الرجل، والعصر الذهبي المستعاد هو «روما» الإمبراطورية.
عصرنا هو عصر التتويج الذي جاء في النبوءة.
من الزمن … تُولد وتبدأ دورة جديدة وعظيمة تمتد قرونًا.
العدل يعود للأرض، العصر الذهبي يعود،
ومن السماء يهبط معه أول مواليده.
ستتوقف القلوب الحديد،
والأرض ترثها القلوب الذهب.
هكذا تكلَّمت الأقدار،
في توافق نغمي مع المصير الذي لا يهتز …
أما نشيد الرعاة Fourth Eclouge ﻟ
«فيرجل» Virgil فقد كُتب في عام ٤٠ق.م. للاحتفال
بانتصار «أوغسطس» في «أكتيوم» على «مارك أنطونيو» وكليوباترة:
أعلن «فيرجل» أنَّ القدر يقف الآن إلى جانب الإنسانية بدلًا من الانقلاب عليها، ولأنَّ
الخطر قد تمَّ تدميره وإيقافه في مداره، أصبحت إمكانيات الإمبراطورية في الزمان والمكان
بلا حدود …
القيصر أو أغسطس … ابن الإله،
مقدَّر له أن يحكم.
ولسوف تتسع إمبراطوريته،
متجاوزةً «الجارامانت»،
١٣⋆ والهنود
إلى أرض وراء وراء البروج،
ومدار الشمس السنوي.
والآن تصبح الحركة الدائرية للحظ والتاريخ هي «نقل الإمبراطورية» من
الشرق إلى الغرب، متَّبعة مدار الشمس، من إمبراطوريات الشرق ومصر والشرق الأوسط (التي
يضم حطامُها أيضًا نظامًا سماويًّا أرضيًّا) إلى الإغريق ثم إلى «أوغسطس» وخلفائه. وقد
ظلت
أسطورة الإمبراطورية الكونية تغذِّي الدعاية الرومانية الإمبراطورية إلى عهد «جستنیان»
Justinian، واقترحت دورًا جديدًا للحكام من البشر:
إنشاء دولة لا تقوم على الغزو ولا حتى على الفضيلة البطولية، وإنما على التوافق الكوني
— «تعوَّد الناس على فنِّ السلام بتذويب الفوارق العارضة في كل واحد خالد. العلوم
والفنون ستزدهر، وسوف تختفي كلُّ بوادر الصراع» — أو الاضمحلال.
كان للإمبراطورية والاستعمار — إذن — دلالات إيجابية وليست سلبية بالنسبة للأوروبيِّين
قبل الحداثة. فقد تعهَّد ورثة روما الإمبراطورية الكثر ومقلدوهم، بمهمة إقامة
إمبراطورية، تكون كونية ومتجانسة ودائمة. وقد أثَّر ذلك على تلك الصورة المسيحية
المركزية للمسيح يوم القيامة «ملك الملوك»، الذي سوف تذوب في إمبراطوريته الكونية كلُّ
الإمبراطوريات السابقة والموجودة. وبالنسبة للمتأخرين من المسيحيِّين القدامى، تبدو
إمبراطورية روما مبشرًا بالكنيسة المسيحية الكاثوليكية (في اليونانية
Katholikos تعني الكونية):
«ما سرُّ القدر التاريخي لروما؟ الرب يريد وحدة
البشرية … وإلى يومنا هذا، الأرض كلها من الشرق إلى
الغرب ممزقة إربًا بسبب الصراع المستمر. ولوضع نهاية
لهذا الجنون، فقد علَّم الرب الأمم أن تكون مطيعةً لنفس
القوانين، وأن يكون الكل «رومان». والآن نری
البشرية كلها تعيش في مدينة واحدة … إنَّ ذلك هو
معنى کل انتصارات الإمبراطورية الرومانية: إنَّ السلام
الروماني قد مهَّد الطريق لقدوم المسيح.»
١٤
وقد حاول «شارلمان» وكل الأباطرة الرومان (المقدسين) بناء تلك
«الإمبراطورية المسيحية» الواحدة في العصور الوسطى، بينما نجد سلسلةً كاملة من الحكام
العلمانيِّين في عصر الاستبداد (من «إليزابيث الأولى» في إنجلترا إلى «لويس الرابع عشر»،
ملك الشمس، في فرنسا) يميلون إلى نفس التصوُّر الذهني المثالي الرحب.
١٥
بالنسبة للعالم الوثني فإنَّ أفضل ما يمكن الطموح إليه في عالم يحكمه القدر، هو الوصول
إلى ثبات معين في الزمن. كانت الإمبراطورية الكونية نوعًا من الورطة مع التاريخ: فهي
تَعِد بأنَّ المستقبل لن يأتيَ بشيء سيِّئ، ولكنه كذلك لن يأتيَ بجديد. أما المسيحية
فقد
قدَّمت منظورًا جديدًا من خلال أسلافها العبرانيِّين. فالزمن ليس محكومًا بالقدر، وإنما
بإرادة «يهوه» (رب العبرانيِّين)، ولم تَعُد حركةُ التاريخ دائرية وإنما خطيَّة، تمضي
من
النشوء إلى يوم القيامة طبقًا لمشيئة الرب، فهو يقول لجماعة المؤمنين «أنا البداية
والنهاية، أنا الأول والآخر.»
ومع النظرة الخطيَّة الجديدة، يصبح المستقبل أكثرَ أهمية من الماضي في تقرير علاقات
الإنسان — ذات المعنى — بالآخرين، حيث تتقدَّم البشرية إلى الأمام … نحو القدوم الثاني
للمسيح. حدثٌ مستقبليٌّ وهدفٌ نهائي — العصر الألفي السعيد أو عودة المسيح ليحكم
إمبراطوريته الكونية — يوجه التاريخ كله وأفعالنا فيه.
١٦
أما النص المركزي بالنسبة للمنظور الألفي للتاريخ فكان «سفر الرؤيا» عند «يوحنا» في
«العهد الجديد» أو «كتاب الرؤيا» (في شكله الإغريقي)، ومن منظور سفر الرؤيا فإنَّ
الأشياء في العالم ليست أبدًا كما تبدو لنا، الوحش ذو الرءوس السبعة والقرون العشرة،
والذي يرمز للإمبراطورية الرومانية تحت حكم «نیرون» يبدو قويًّا وخالدًا؛ فالعالم كله:
«… وسجدوا للوحش قائلين: مَن هو مثل الوحش؟ مَن يستطيع أن يحاربه؟» (۱۳: ٤).
ولكن الوحش في الحقيقة ضعيف ولا أهمية له؛ إذ ليس له مكان في مشيئة الرب النهائية.
وكما يشرح الملاك: «الوحش الذي رأيت، كان وليس الآن وهو عتيد أن يصعد من الهاوية ويمضي
إلى الهلاك، ولسوف يتعجَّب الساكنون على الأرض …» (١٧: ١٨).
الخروف وتابعوه سوف يدمرون إمبراطوريةَ الوحش والمرأة «الزانية». الخروف وتابعوه
هم
تلك الطائفة المسيحية التي مسح الرب على رءوسهم بالزيت. وفي التاريخ فإنَّ التمرُّد وليس
الحاكم، هو الذي سيخرج منتصرًا في النهاية. «هؤلاء سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم
لأنَّ ربَّ الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون» (۱۷: ١٤). نبي
الرؤية هو الذي سيجلب الطمأنينة للمظلومين والمبتلين، بإعلان حكم الله على الواقع
بالهلاك، وإعلان ما سيحل محلَّه. وقد وجدت هذه الفكرة الرؤيوية أول تطبيق عملي لها عام
٤١٠ق.م. عندما علم «القديس أوغسطين»
Saint Augstine
أسقف «الهيبو» في شمال أفريقيا أنَّ «روما» قد سقطت في أيدي «القوطيين» الغربيِّين؛ إذ
قال
«أوغسطين» لأبناء الأبرشية المستائين: إنَّ ذلك لم يكن نهايةَ العالم، بل بداية جديدة
ومجيدة. وأعلن أن سقوط «روما» قد فتح الطريق لبناء نظام مسيحي عالمي لكي يحلَّ محلَّ
«بابل» الأرضية الوثنية الفاسدة، وأطلق على مدينته المستقبلية الخالدة «أورشليم
الجديدة» التي سوف يتَّحد فيها كلُّ المؤمنين بالرب أخيرًا وإلى الأبد. وقد أصبحت «مدينة
الرب» عند «أوغسطين» أساس اللاهوت المسيحي في الغرب في العصور الوسطى. وسرعان ما وجدت
الكنيسة الكاثوليكية التي كانت قد أرسَت قواعدها في روما نفسَها مع هذه اﻟ «أورشليم
الجديدة»، وأصبحت فكرة أنَّ روما البابوية هي المدينة الخالدة، جزءًا لا يتجزأ من صورة
الكنيسة عن نفسها. ولكن ظلَّ هناك توتُّر على مدى العصور الوسطى كلها بين مؤسسة كنسية
تُعرِّف نفسها بأنها الإمبراطورية العالمية الجديدة، وبين توحُّد رؤيوي للإمبراطورية
الأرضية مع المسيح الدجال سلسلة متعاقبة من الأنبياء والمتمردين، مثل «جواشيم فيوري»
Joachim of Fiore، و«جون ويكلف»
John Wycliffe، و«جان هاس»
Jan
Hus، و«سافونارولا»
Savonarola، کانوا كلهم مصرِّين على أنَّ الكنيسة الرسولية الرومانية تحمل علامةَ الوحش. وفي كثير
من
الأحيان، كان الأمر ينتهي بأولئك المتمردين بالإعدام حرقًا أو بالشدِّ على الخازوق، كما
بقيَ حقُّ الكنيسة في السلطة ثابتًا لا يُنازَع، ولكن واحدًا ما استطاع أن يزوغ من مضطهديه
ويؤسِّس «كنيسته الإصلاحية الحقيقية». لم تكن الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة ﻟ «مارتن
لوثر» شيئًا أكثر أو أقل من «بابل»، كتب في سنة ۱٥۲۰: «ليس مستغربًا أن يجعل الله
السماءَ تُمطر نارًا وكبريتًا، وأن يُغرِق روما في الهاوية كما فعل بسدوم وعمورة في الزمن
القديم، والبابا هو المسيح الدجال.» ويضيف لوثر متسائلًا: «وإذا لم يكن المسيح الدجال،
فليقُل لي أحد مَن هو إذن؟»
١٧
وقد فسَّر كلٌّ من البروتستانت والكاثوليك، على السواء، الحروب الدينية في أوروبا
في
القرن السادس عشر على ضوء «سفر الرؤيا»، والصراع ضد «مسيح دجال» يتوعدهم، وكان الخلاص
يتطلَّب — كما يبدو — التدمير العنيف والنهائي لكل ما كان قبل ذلك؛ حيث كانت قد وقعت
مجازر وأعمال فظيعة في الجانبَين. وبفضل انحسار العواطف الطائفية في القرن السابع عشر،
ظهرت رؤية للتاريخ أقل كارثية، ظهرت فكرة التقدُّم.
التقدم والحضارة
على مشارف الحِقبة الحديثة إذن، كانت هناك أساليبُ عدَّة يتحدَّث بها الأوروبيون
عن التغيُّر والزمن والتاريخ، وكانت هناك أسطورة العصر الذهبي التي تميل إلى ما كان
يدعوه «بترارك» Petrarch:
Dolce tempo della prima etade (الزمن الحلو
للمرحلة الأولى للإنسان) ووعيها باضمحلال الزمن الذي يليها.
كانت هناك فكرة الثورة الدورية Cyclical
anakuklosis عند الإغريق، والتي تمَّ تجديدها لتصبح الحظ في
مواجهة الفضيلة، ثم الفضيلة في مواجهة الفساد. وكانت هناك إرهاصات بإمبراطورية
كونية، وخاصة بين حكام أوروبا المستبدين، وبألفية سعيدة ورؤيا نبوئية بين خصومهم،
إلا أنه رغم الفروق الكبيرة بينها، ظلَّت نظريات الزمن تلك شديدةَ التشاؤم فيما
يتعلَّق بعالم البشر، وكانوا يعتقدون أنَّ الأمل الحقيقي للإنسان إنما يوجد في عالم
الروح، مع الرب وقانونه السرمدي.
ولكن مع عصر النهضة، أصبح المفكرون يُدركون أنَّ عالم المادة كان عرضةً لقوانينه
الطبيعية الخاصة التي منحها الله له، وأن فكرة القانون الطبيعي كانت تعني أنَّ الله
يحكم أمورنا اليومية عن طريق العناية الإلهية المقدَّسة، ذلك السهر المخلص والرعاية
اليقظة دائمًا، التي يسبغها الله على مخلوقاته. وكان كبار فلاسفة القانون الطبيعي —
مثل «هوجو جروتيوس»
Hugo Grotius، و«جون لوك»
John Locke، و«صمويل بفندورف»
Samuel Pufendorf، و«جيامباتيستا فیکو»
Giambattista Vico، كانوا كلهم يعملون على
تنويعات مختلفة لهذه الرؤية البصيرة البسيطة، وهي أنَّ القوانين الطبيعية التي تحكم
السلوك الإنساني هي أيضًا قوانين الرب.
١٨
وحيث إنَّ إرادة الرب تعمل عادةً من أجل أهدافٍ خيِّرة، فإنَّ الشيءَ نفسَه يصدق
على
القوانين التي تحكم حياتنا الفردية وحتى تاريخنا الجمعي كله أيضًا. كان الكاهن
النيوبوليتاني «جيامباتيستا فيكو» يرى التاريخَ الإنسانيَّ کلَّه يتحرَّك في ثلاث دورات
Corsi متتابعة تحت رعاية العناية
الإلهية.
١٩ كان «فيكو» أيضًا قد بدأ عادةً تقسيمَ التاريخ إلى حضارات مائزة، يصوِّر
كلٌّ منها ثوراته ذات الصبغة المسيحية. فهو يزعم أنَّ كل شعب تاريخي بدأ بعصر ملوك
وقساوسة وأساطير قديمة أو مهجورة، ثم تَبِعه عصرُ أبطال وصراعات ملحمية يؤدِّي إلى عصر
إمبراطورية وسيطرة كونية … يتشقَّق وينهار ويصبح أكثرَ بربرية، لكي تبدأ الدورة من
جديد. وقد ظلت نظرةُ «فيكو» التاريخية الإمبيريقية نظرةً غير عادية، ولكنَّ هذا الميل
لاستخدام المقارنات الثقافية المتقاطعة لتركيب «تاریخ عالمي واحد» ظلَّ إحدى الخصائص
الرئيسية للتنوير. كما تبنَّى فكر التنوير كذلك الافتراض الآخر ﻟ «فيكو» وهو أنَّ
المجتمع الإنساني كان جزءًا من نظام طبيعي عقلاني أكبر، مطبوع على حب الخير.
ولأنَّ «توماس هوبز» Thomas Hobbes كان يعيش
في ظلال الحروب الدينية فقد توصَّل إلى أنَّ غرائز البشر الطبيعية تؤدي إلى «حرب
الكل ضد الكل»، وبعد نصف القرن، كان «فرانسيس هتشسن» Francis
Hutcheson يقول إنَّ المجتمع الحديث قد نشأ نتيجة حب الإنسان
الفطري للاختلاط، أو رغبته في أن يكون مع الآخرين «روابط الخير والإنسانية
الطبيعية الموجودة في الجميع». وقد كان «هتشسن» بمثابة معلِّم لجيل من مفكري
التنوير بمن فيهم «ديفيد هيوم» David Hume، و«آدم سميث» Adam Smith. ورغم أنَّ هؤلاء الرجال
سيكونون أكثرَ شكًّا من معلِّمهم العظيم بخصوص مستقبل وأفق الإنسانية، إلا أنَّ ما
يُسمَّى بالمدرسة الاسكتلندية قد ظلَّت وفيَّةً لأفكار «هتشسن» الأساسية. هناك
مجموعة عامة واحدة من الروابط الاجتماعية تشكِّل جزءًا من أساس جميع المجتمعات
الإنسانية عبر التاريخ، وهي تتطوَّر بشكل متزايد — من الأسرة إلى القبيلة، إلى
العشيرة، إلى المجتمع والإمبراطورية — طبقًا لنفس الأسلوب المنتظم، وقد كانت تلك
أول نظرية علمانية للتقدُّم أو «الحضارة» في أوروبا.
أن تكون متحضرًا، كان في الأصل يعني أنك تعيش في ظل القانون الروماني أو المدني
civil، ولكن على مشارف فجر النهضة أصبح
المصطلح يدلُّ على أسلوب في الحياة والقانون، مائز ومختلف عن أسلوب البربرية. كان
ينطوي على تحريم للقتل ولسفاح القربى وأكل لحم البشر، وعلى الاعتقاد في لاهوت
خلَّاق واحترام للملكية والتعاقدات القانونية والمؤسسات الاجتماعية الضرورية مثل
الزواج والصداقة والأسرة. ولكن كيف تعلَّم الناس هذه القواعد؟ تعلَّموها من خلال
التفكير أو العقل الجمعي؛ حيث لم تكن تلك القوانين مكتوبةً أو مُملاة، وإنما تم
اكتشافها مباشرةً في تعاملات الناس اليومية مع بعضهم. كان يُشار إلى تلك القوانين
«بالطبيعية»، بما يوحي أنك لكي تكونَ متحضرًا، لا بد قبل كل شيء أن تتعلَّم كيف تعيش
وفق القانون الطبيعي وليس بالغريزة أو بحكم الاعتياد.
أما مصطلح «الحضارة»
civilisation فقد ظهر
أصلًا في فرنسا. كانت كلمة
Civilisé في البداية مرادفةً لوجود حكومة جيدة، أو أن تكون «منظمة» جيدة
Policé من الناحية الاجتماعية، إلا أنه سرعان
ما أصبحت كلمة
civilisation تعني ما هو أكثر من
مجرد شكل محدد للحكومة، بل أصبحت تُشير إلى عملية نقلت الناس من العادات
moeurs، والمؤسسات والوجود المادي الذي كان
يوصف بالبدائية إلى شكل آخر أكثر رقيًّا أو «تحضُّرًا». كانت الحضارة عملية تاريخية،
لها بداية ونهاية، صحيح أنها جعلت الناس مختلفين، ولكنها جعلتهم أيضًا أفضل مما
كانوا في مرحلتهم البدائية أو الهمجية.
٢٠⋆
وقد شقَّت «الحضارة» طريقَها من العزلة والبدائية البربرية إلى المجتمع الحديث أو
«المتحضِّر» على أربع مراحل: في عزلته ما قبل الاجتماعية (حالة الطبيعة) كان
الإنسان يجول وحيدًا لا حول ولا قوة، بعد ذلك سيكوِّن مجتمعات بدائية «رعوية
وبدوية» مثل حطابي وقناصي «الهوتنتوت»
Hottentot٢١⋆ وهنود السهول في أمريكا، والمرحلة الثالثة هي المرحلة الحقلية
(الزراعية) حيث يعيش الناس على حيازة محدودة من الأراضي الزراعية، وتؤدِّي هذه
المرحلة في النهاية إلى المرحلة الحضرية
civil، أو التجارية، وفيها يُحوِّل الناس حياتهم الاقتصادية والاجتماعية من المزرعة والقرية
إلى المدينة ولواحقها الحضرية. وهذا تطوُّر اقتصادي في الأساس؛ حيث يبدأ الرجال
والنساء في اكتساب معيشتهم بوسائل إنتاجية يتسع مداها من الاحتطاب إلى الرعي إلى
الزراعة إلى التجارة إلى الصناعة، إلا أنه ينطوي على تقدُّم ثقافي مُطَّرد.
فالإنسان يجد نفسه على اتصال بالمزيد والمزيد من الناس، ويستخدم وسائل أكثر
تعقيدًا لتحقيق منافع متبادلة. والبشر الآخرون لم يعودوا مجرَّدَ منافسين له على
قطعة عظم يقرضونها، أو على عائد هزيل من صيد يوم، أصبحوا أسرة، أصدقاء، عملاء،
زملاء، مواطنين في مؤسسة مشتركة نتعرَّف فيها على أفضل ما فينا. الجانب العقلاني من
شخصية الإنسان يكتشف — بشكل متزايد — منافذَ ومتنفساتٍ جديدةً ومثيرة،
٢٢ وهذا بدوره يؤدي إلى تطوُّر الفنون والعلوم والآداب والشعر، وقد كتب
«ديفيد هيوم»:
«كلما تطوَّرت هذه العلوم الراقية، يصبح البشرُ أكثرَ اجتماعية.» وينطوي المجتمع
المدني، أو المجتمع الحديث على تحوُّل إنساني، لخَّصه مفكرو التنوير في الشعارات
الأربعة الرئيسية اللافتة في نظرية المجتمع المدني.
فالأول هو حسنُ السلوك ورقيُّ التصرف وذلك هو الذي يشكِّل الطبيعةَ الجمعية أو «فضيلة»
المجتمع، والسلوك الراقي كما يقول «إدموند بيرك»
Edmund
Burke «أهم من القوانين» لتدعيم أساس المجتمع الإنساني، فهو قد
«يدعم الأخلاق وقد يدمرها تمامًا»، و«فولتير» يجعلها الموضوع الرئيسي للتاريخ نفسه،
فكلما أصبح الناس أكثر عقلانية وكلما أصبحت آفاق مجتمعهم أقل ضيقًا، تخلَّصت
أخلاقهم من ضيق أفقها السابق، وأصبحت أذواق المجتمع في الآداب والفنون — بكلمة
واحدة — «متحضرة». (والحقيقة أن الفرنسيِّين ترجموا كلمة
refinement الإنجليزية إلى
civilisation).
إن رقيَّ السلوك يؤدي إلى التسامح بين البشر المختلفين في أفكارهم السياسية والدينية،
ولا يبقى هناك مكانٌ لمحاكم التفتيش أو الحروب الدينية، ويبحث الناسُ عن فهمٍ عقلاني،
أكثر منه خرافيًّا لأفعال الطبيعة وهو ما نسمِّيه ﺑ «العلم».
٢٣
هذا الرقيُّ يشجِّع أيضًا على تقبُّل القيم الجوهرية للكائنات الأخرى على نحوٍ أكثرَ
تعاطفًا، وبخاصة «النساء»، وقد كان — كما يقول التنوير — لهنَّ أكبر الأثر في رفع
مستوى السلوك والأخلاق.
٢٤
والسلوك الراقي ذو صلة وثيقة بالميزة أو «الفضيلة» الثانية المهمة في الحضارة، وهي
ظهور الكياسة أو الأدب
politeness، وهي كلمة لها
نفس جذر كلمة
polished، التي تعني «مصقول – محسن – ملمع»، وكان «إیرل شافتسبري الثالث»، وهو فيلسوف ومفكِّر
أخلاقي إنجليزي، يستخدم هذا المصطلح لوصف للبشر والأشياء، وكان يعتبره نتيجةً طيبة من
نتائج الحياة المدنية
الحديثة، «نحن نُصقل بعضنا الآخر، ونتيجة للاحتكاك الدائم بيننا والذي يتمُّ في حبٍّ
وسلام، نتخلَّص من الزوائد والجوانب الخشنة.» وهذه الاحتكاكات والصِّلات المتعددة
تعلِّمنا أن نُعامل الآخرين باحترامٍ أو «بتحضُّر»، وتُشعرنا بأننا مهتمون بمصالح
الآخرين كما نحن مهتمون بمصالحنا.
٢٥ والكياسة، أو الأدب أو التهذيب
politeness كان شيئًا أكبرَ وأشمل مما نُطلق
عليه اليوم «حسن السير والسلوك»، إنه يكشف عن طبيعتنا الحقيقية ككائنات عقلانية
واجتماعية.
إلا أن التحولات الثقافية والاجتماعية بالنسبة للرقيِّ والتهذيب لم تكن سوى أعراض
لظاهرة ثالثة تعتبر الآلية المركزية للتطور الإنساني، وهي: نمو التجارة. فالمجتمع
المدني الحديث كان قبل أيِّ شيء مجتمعًا تجاريًّا: التبادل المنظم للسلع والخدمات مع
الآخرين، فتح أُفُقًا جديدة للتفكير العقلاني كان قد بقيَ مغلقًا مع الظروف الاقتصادية
البدائية. في سنة ۱۷٦۹ كتب المؤرِّخ «روبرتسون»
Robertson «التجارة تميل إلى إذابة تلك
التحيُّزات التي تغذِّي التمييز والعداوات بين الأمم، وهي تهذِّب وتُصقل طباع البشر،
وتوحِّد بينهم بواسطة أقوى رباط وهو الرغبة في إشباع احتياجاتهم
المتبادلة.»
٢٦ وأصبح من المسلَّم به القول إنَّ اقتصاد السوق يعتمد على أناس يسعَون
لتحقيق مصالحهم الشخصية كما نفعل اليوم. ولكن المصلحة الشخصية لا تعني الجشع أو
الطمع عند تلميذ من تلاميذ المجتمع المدني مثل «آدم سميث»
Adam
Smith. فتلك كانت توجُّهات اجتماعية لأوضاع اقتصادية واجتماعية
بدائية تتسم بالخوف الحقيقي من الندرة المادية. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الحرص على
المصلحة الخاصة في مجتمع «متحضِّر» أو «مهذَّب» يتضمَّن الرغبةَ العقلانية في تقديم
السلع والخدمات بربح إلى عميل لديه الدرجة نفسها من المصلحة الخاصة. وبالنسبة للقرن
الثامن عشر، نجد أن التجارةَ لم تُنتج «ثروة الأمم» فقط، ولكنها كانت إلى جانب ذلك،
الآليةَ الرئيسية لتحقيق التقدم الإنساني، وتحويل البشر من وحوش وهمج إلى كائنات
متحضرة.
في سنة ۱۸۰۳، «كان «فرانسيس جیفري»
Francis
Jeffrey عالم الاقتصاد السياسي الليبرالي يُعرِّف الطبقة
الوسطى، أو «الصفوف المتوسطة» بالشارع الاجتماعي الذي حدث فيه ذلك التقدم. كما
يقول إنَّ السلوك المعقول … المهذَّب … المعتدل … الكادح … للطبقات المتوسطة
(وبالفرنسية: البرجوازية:
La Bourgeoisie) هو الذي
يشكِّل المحرِّك الأساسي للتقدُّم الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي للحضارة، والذي
يسري إلى بقية صفوف المجتمع.»
٢٧
المجتمع التجاري المتحضِّر يؤدِّي إلى تقدُّم حاسم ونهائي واحد، هو القدرة على
الحكم الذاتي والحرِّية، وقد خلقت كل مرحلة من مراحل عملية التحضُّر السابقة صيغتها
الملائمة للحكم؛ فمن اللاحكم بالمرة في حالة الطبيعة، إلى رئيس القبيلة، إلى
الإقطاعي والملك في أوروبا العصور الوسطى.
وحيث إنَّ المجتمع التجاري يشجِّع الناس على الاستقلال الذاتي وعلى تحمُّل
المسئولية الشخصية في المجال الاقتصادي والثقافي، فإنه يشجِّع القدرة نفسها في
المجال السياسي؛ حيث يتعلَّم الناس أن يتخلَّوا عن «الاعتماد الخنوع على مَن هم أقوى
منهم».
٢٨ فالاعتماد على السلطة السياسية والدينية بخاصة، من العلامات المميزة
للمجتمع البربري والبدائي، بينما الاستقلال الذاتي — الحرية — من علامات المجتمع
الحديث المتحضِّر.
وكان «آدم سميث» ومعاصروه يرَون أنَّ الدستور الإنجليزي، ونبته الأمريكي، من ثمار
«الحرية الحديثة»، والتقدم السياسي المتواصل للمجتمع المدني، كما يرى المؤرِّخ
الفرنسي الليبرالي «فرانسوا جويزوت» Francois
Guizot أن التقدم نفسه قد وصل إلى القارة الأوروبية عبر
الثورة الفرنسية عندما أصبحت البرجوازية قادرةً في النهاية على القيام بدور سياسي
يعادل أهميتها في التقدم الاقتصادي الأوروبي. وكان «کارل مارکس»
Karl Marx، بين أولئك الذين وافقوا على هذا
الرأي رغم قلة عددهم.
نظرية المجتمع المدني ترى إذن أنَّ التاريخ يتكوَّن من حركة عامة نحو «رخاء»
تجاري حديث كما كان يُطلق عليه «آدم سميث»، مرتبط على نحوٍ مشترك بصعود البشرية من
مرحلة الإنسان البدائي الجاهل إلى المواطن المتحضِّر ساکن «لندن» و«باریس». وكما
عبَّر عن ذلك «جویزوت» فإنَّ فكرة التقدم كان لا يمكن فصلها عن فكرة الحضارة. لقد
أعطى التقدم ساكن المدينة الحديث في أوروبا ذوقَه للفنون الجميلة والموسيقى، وفهمه
العقلاني والعلمي للعالم، ورفضه الغريزي للعنف والقسوة والخرافة والاستبداد
السياسي. وبعد أكثر من قرن سيقول
٢٩ «آرثر بلفور»
Arthur Balfour — وهو
فيلسوف بريطاني آخر — إنَّ تلك «المسيرة إلى الأمام»، ظلَّت إحدى سمات الحضارة
الغربية «على مدى أكثر من ألف سنة»،
٣٠ أما أوَّل مفكِّر يقول بأنَّ عملية التحضُّر هذه قد وصلت إلى أوجِها في
أوروبا الحديثة فهو الفيلسوف الفرنسي «إيه آر جي تيرجوت»
A. R.
J. Turgot. ففي رأيه أنَّ أوروبا قد استطاعت أكثر من أي مجتمع
أو حضارة في التاريخ أن تتغلَّب على الجانب البربري والبدائي في شخصيتها الجمعية،
وأنَّ طبيعتها العقلانية والعلمية الصاعدة كانت رمز ذلك النجاح. وفي الوقت نفسه لم
يكن ذلك بأي حال دليلًا على أنَّ التقدم كانت ملكيته مقصورة على أوروبا وحدها.
«تيرجوت» وتلميذه «كوندورسيه»
Condorcet كانا يتطلَّعان إلى يوم تُشرق فيه الشمس «على أرض ليس عليها سوى بشر أحرار، لا سيد فيها
سوى العقل؛ حيث سيكون الطغاة والعبيد والكهنة وأعوانهم من الحمقى والمتعصبين قد اختفَوا»،
وذلك بفضل «التغيُّرات المتوالية في المجتمع الإنساني». بعد ذلك كان
البارون «دهولباخ»
d’Holbach يقول: «الإنسان البدائي، الأبيض، الأحمر، الأسود، الهندي، الأوروبي، الصيني، الفرنسي،
الزنجي،
اللابلاندر … لهم كلهم نفس الطبيعة، والفروق بينهم ليست سوى تعديلات طفيفة في تلك
الطبيعة الواحدة المشتركة بسبب المناخ ونوع الحكم والتربية والمعتقد إلى غير ذلك من
الأشياء التي تؤثر عليهم.»
٣١ كما أشار الفيلسوف الألماني «جوهان جوتليب فيخته»
Gohann Gottlieb Fichte إلى أنَّ «أكثر الأمم تحضُّرًا في عصرنا الحديث هم نسل الهمج البدائيِّين»، وهكذا فإنَّ
شعوب الحاضر الهمجية
وغير المتحضِّرة، سوف تُصبح متحضِّرةً بدورها.
كتب في سنة ۱۸۰۰ يقول: «إنَّ المهمة التي يجب على جنسنا البشري أن يقوم بها هي
أن يتجمَّع في كيان واحد ذي ثقافة متشابهة، ستكون هي الأرقى والأكثر كمالًا في
التاريخ.»
٣٢
أما الحضارة الأوروبية فهي ذات طبيعة مزدوجة ومتناقضة بالنسبة للتنوير، فهي من ناحية
قد
نتجت عن عمليات تاريخية معينة تنطوي على فروق في «المناخ ونظام الحكم والتربية والمعتقد،
وكافة الأسباب الأخرى التي تؤثر عليها، ومن ناحية أخرى فإنها قدَّمت مستوًی عامًّا لصالح
الإنسانية في كل مكان، فكانت النتيجة نوعًا من التقارب الطبيعي في التقدم الإنساني وفي
دور
أوروبا المهيمن في العالم.» ويفسِّر «تيرجوت» ذلك بقوله: «عندما يستنير العقل الإنساني،
يصبح السلوك أكثرَ رقة وتتقارب الأمم المتباعدة من بعضها. وأخيرًا فإنَّ الروابط التجارية
والسياسية تُقرِّب بين كل أجزاء الكرة الأرضية ويتقدَّم الجنس البشري — وإن رويدًا —
نحو
الكمال التام … وفي النهاية تتبدَّد الظلال، ويا لَه من نور ذلك الذي يبزغ من كل الأرجاء!
ويا لَه من لقاء بین بشر عظماء في كل مجال! ويا لَه من كمالٍ للعقل الإنساني!»
٣٣،٣٤⋆ تقدُّم
المدنية، خلق قوتَه الدافعة الخاصة، وقد تمَّ ذلك بمعزل عن الرغبات الإنسانية، مثل «المدينة
المقدسة» عند «أوغسطين»،
٣٥ وكما تقول العبارة المعروفة «لا أحد يستطيع أن يُوقف التقدم». في سنة ۱۷۹۸ أعلن
الكاتب الإنجليزي «وليم جودوین»
Wiliam Godwin «… وبما أن
التحسُّن قد تواصل لفترة طويلة، فلا بد أنه سوف يستمر هكذا.» إلا أنه كان هناك أيضًا
الوعي
بأنَّ ذلك التحسُّن سيكون عمليةً تحوُّلية إلى جانب كونها تراكمية، كل مرحلة من مراحل
التطوُّر الحضاري في هذه العملية تتطلَّب تدميرَ ما كان قبلها، وقد جعل «إدوارد جيبون»
Edward Gibbon من ذلك فكرةً رئيسية لأشهر عمل عن تاريخ
التنوير وهو كتابه: «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» ۱۷۷٦، اختار «جيبون» الحدثَ
المركزي في النظرة الرؤيوية ونظرة «أوغسطين» للتاريخ: وهو سقوط الإمبراطورية الرومانية
وقلبها بطنًا لظهر، وأثبت أن «أوغسطين» كان محقًّا بمعنى ما: إنَّ نهوض أوروبا الحديثة
كان
يتطلَّب تدميرَ سلفها القديم الفاسد، ولكن نظرة «جيبون» التاريخية حققت انتصارًا علمانیًّا،
تفسُّخ «روما» كان أزمةً اقتصادية وسياسية أكثر منها أخلاقية، سيادة «روما» الكونية خلقَت
طبقةً حاكمة مفلسة، فلاحين فقراء، جيشًا متغطرسًا مسرفًا في الثقة، روحًا إمبراطورية
أصبحَت
لعبةً في أيدي المغامرين والفاسدين، وكان «جيبون» يقول: «بدلًا من التساؤل عن سبب دمار
الإمبراطورية الرومانية لا بد أن نكون مدهوشين؛ لأنها بقيَت كل تلك الفترة.» ولأنها كانت
ضخمةً ومتثاقلة ومريضة التصوُّر، فإنَّ الإمبراطورية الرومانية كان لديها مشكلات كثيرة
عصيَّة على الحل جعلَتها مكشوفةً لأعدائها … لا للقوطيِّين
٣٦⋆ Goths و«الواندال»
٣٧⋆ Vandals و«الهون»
٣٨⋆ Huns البرابرة فقط، وإنما للمسيحية كذلك، وكما يقول
«جيبون» فإنَّ سقوط «روما» كان نتيجةً طبيعية وحتمية لعظمة مفرطة.
فكرة «جيبون» أنَّ الإمبراطورية الرومانية كان محكومًا عليها بالدمار بسبب نجاحها،
أثَّرت على الخيال التاريخي الحديث، جميع الإمبراطوريات والمجتمعات العظمى تَصِل إلى
نقطة نهاية، نقطة اللاعودة، وبعدها لا بد أن يحلَّ محلَّها شيءٌ آخر، و«مسيرة
الإمبراطورية» تنطوي بالضرورة على دورة نمو وتآكل ودمار، وقد فسَّر ذلك المؤرِّخ
«جون أنتوني فرود»
John Anthony Froude بقوله:
«الفضيلة والحق أفرزَا القوة، والقوة … السيادة، والسيادة … الثروات، والثروات …
الترف، والترف … الضعف والانهيار، وهذا تتابع حتمي يتكرر دائمًا.» واحتمال زوال
الحضارة الحديثة ذات يوم، رغم كل إمكانياتها المادية والسياسية سوف يؤرِّق القرن
الثامن عشر فيما بعد، ويسجل انعطافًا حادًّا عن النظرة الأولى الأكثر تفاؤلًا
بالنسبة للمستقبل الأوروبي، وبالطبع فإنَّ أيَّ حضارة لا تزول أو تختفي بالكامل، حتى
أكثر الحضارات ضآلةً وقِدَمًا لا بد أن تُخلف وراءها دليلًا ماديًّا على هيئة أطلال،
وقد
فتنت الأطلال القديمة حركة التنوير المتأخرة،
٣٩ والمكتشفات الأركيولوجية الحديثة في «أثينا» و«بومبي» و«مصر» غذَّت
التفكير بشأن مصير الإمبراطوريات والحضارات. «جيبون»
٤٠ نفسه كان يجلس وسط أطلال «الساحة العامة» الرومانية عندما جاءَته فكرةُ
كتابه «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، تلك الآثار القديمة وقفت كتحذيرات
صامتة لخيال القرن الثامن عشر، فهي رموز لعوالم قديمة قد لا تختلف كثيرًا عن
عالمنا، وكانت مثله أيضًا تتجه نحو حتفها.
٤١
كتاب الكونت «كونستانتين دو فولني» Constantine de
Volney، والذي يحمل عنوان: Le
Ruines «الأطلال»، والصادر عام ۱۷۸۷ كان ذا شهرة وتأثير
كبيرَين، وهو الذي ألهم «نابليون» أن يصطحب «فولني» معه في حملته على مصر عام
۱۷۹۸، وبعنوانه الفرعي: «تأملات في دورة الإمبراطوريات» فإنَّ ذلك الكتاب كان
تفكيرًا خياليًّا، أو حلمَ يقظة عن الطبيعة الهشَّة للحضارة ذاتها، ووثيقة مهمة عن
الرومانتيكية الباكرة، وأمام كومة من بقايا أعمدة رخامية على حافة صحراء كبيرة، وقف
«فولني» متأملًا ليقول:
«ذات يوم، كانت هنا مدينة عامرة مزدهرة، وهنا …
كان مقر إمبراطورية عظيمة. نعم! هذه الأماكن التي
أصبحت اليوم صحراء جرداء، كانت تعجُّ بالحياة والبشر،
كانت حشود الناس تسعى في هذه الشوارع المهجورة …
وبين هذه الجدران … حيث يخيِّم اليوم صمتُ القبور،
كانت أصوات الفنون وصيحات الفرح والغبطة لا تتوقف،
أكوام الرخام هذه، كانت قصورًا منيفة … وهذه الأعمدة
المنهارة كانت تزيِّن جلال المعابد … هنا جمعت الصناعة
ثروات الأمم كلها … والآن … انظر ماذا بقيَ من هذه
المدينة العظيمة؟! … لا شيء سوى هيكل عظمي بائس … ثروة
مدينة تجارية تتحوَّل إلى فقر مدقع، قصور الملوك تُصبح
عرين الوحوش الكاسرة … آه! كيف أفلَ نجمُ كلِّ ذلك
المجد العظيم!
کیف بادَت كلُّ تلك الجهود! هكذا ينتهي سعيُ البشر!
هكذا تزول الإمبراطوريات والأمم!»
٤٢
«فولني» قلبَ الشعارَ القديم عن تدمير الزمن ضد المجتمع المدني نفسه،
وعندما وصف المؤرِّخ السويدي «کارل فولجراف» فيما بعد، التاريخَ الإنسانيَّ كلَّه بأنه
«كمية هائلة من الأحجار»،
٤٣ فإنه كان يعبِّر عن معنى هذا المصير الفاجع نفسه، والذي كان «فولني»
أول مَن حقنه في الخيال الرومانسي.
كان هناك إذن ثمنٌ حتميٌّ لا بد من دفعه من أجل التقدُّم، في سنة ١٧٩٤م کان الكاهن
«روبرت مالتوس» Robert Malthus في غاية القلق؛ لأن الإنتاج الوفير في المجتمع التجاري وما ينتج عن ذلك من زيادة سكانية،
سيكون
أكبرَ من قدرته على توفير الغذاء لنفسه، والنتيجة … لا بد أن تكون ندرة الطعام
والفاقة والدمار.
«والسؤال الكبير المطروح والذي يحتاج إلى حسم الآن هو ما إذا كان الإنسان سوف
يواصل، وبسرعة متزايدة، طريقَه نحو تحسينات غير محدودة، أو يكون محكومًا عليه بالتذبذب
المستمر بين السعادة والشقاء.»
٤٤
كذلك قدَّم «مالتوس» الصورةَ المؤرِّقة عن سرعة المجتمع الحديث المطَّردة نحو
المزيد والمزيد من التقدم بلا تعقُّل، وبشكل مربك ومبهج في نفس الوقت، بالنسبة
لأولئك المحبوسين فيه كان التقدم الخطي للمجتمع التجاري قد بدأ يُشبه الدورات
السريعة لعجلة الحظ، وبعد مائة عام كان منظر مولد كهرباء ضخم «يدور في مساحة طول
ذراع بسرعة مدوخة» رمزًا للتقدُّم ذاته في نظر «هنري آدمز»
Henry
Adams٤٥⋆ لقد
كان «جان جاك روسو»
Jean-Jacques Rousseau هو الذي
صاغ كشف الحساب النهائي للحضارة والبربرية في أواخر عصر التنوير. «روسو» الذي كان
في الأصل من مواطني جنيف الجمهورية، ومنتحلًا للقب محبِّ الحرية السياسية (نشر «العقد
الاجتماعي» في سنة ۱۷٦۲)، هاجم بالفعل جميع الجوانب «التقدمية» للقرن الذي كان
يعيش فيه، وأخضع كلَّ شيء امتدحه أسلافه في عملية التحضُّر، لتحليل نقدي صارم، وكما
قال فإنَّ ترقية الآداب والعلوم، والتهذيب الشديد في العلاقات الاجتماعية، والتجارة
ونُظُم الحكم الحديثة … كل ذلك لم يكن ليُحسِّن أخلاق البشر، بل جعلهم أسوأ مما كانوا
عليه، وأن الترف والجشع والغرور وحب الذات والحرص على المصلحة الشخصية … كلها
إفرازات رديئة للحضارة، أول جملة من «العقد الاجتماعي»، تقول: «يُولد الإنسان
حرًّا»، ولكنه «مكبَّل بالقيود في كل مكان»، القيود التي فرضها المجتمع المدني
طبعًا.
عكس «روسو» اتجاهَ أعمدة الحضارة والبربرية، أناشيد المديح التي كالها للإنسان
البدائي «الوحش النبيل» — وهذا المصطلح ليس من صنعه — الذي يعيش في وفاق عفوي مع
الطبيعة ورفاقه من الكائنات الحيَّة الأخرى، كان المقصود بها تقريعَ معاصريه
الباريسيِّين المرفَّهين، ولكنها في الوقت نفسه كانت تأنيبًا موجَّهًا ضد فكرة التاريخ
كتقدُّم. كتب «كل التقدُّم اللاحق كان خطواتٍ كثيرةً في مظهرها نحو تحسُّن الفرد،
ولكنه عدة خطوات في الحقيقة نحو ضعف الجنس البشري.» تملُّك الأشياء ولَّد المنافسة
والاستغلال، والتفاعل الاجتماعي المعقَّد ولَّد الزهو والحسد، الفنون جعلت الناس
واهنين متخنثين، البشر أصبحوا ضعفاء من الناحية الجسدية وتعساء ومتوتري الأعصاب،
والأسوأ من ذلك كلِّه أنَّ تقدُّم المجتمع الإنساني، لم يحقِّق الحرية السياسية، بل
جاء بنقيضها. «لقد دمر الحرية الطبيعية — بغير رجعة — وأرسی قانون الملكية
واللامساواة على طول الزمان … لقلة من ذوي الطموح، وبالتالي فإنه يكون قد أخضع
الجنس البشري للعمل والعبودية والتعاسة.» ويُنهي «روسو» إحدى مقالاته بهذا التضرُّع
الساخر: «يا الله! خلِّصنا من «التنوير»، ورُدَّنا إلى الجهل والبراءة
والفقر.»
٤٦
كان «روسو» أوَّل منتقدي الرأسمالية الكبار، والمتنبِّئ الأول بفشل المجتمع
المدني،
٤٧⋆ وكان
نموذجه لا يُقاوَم؛ فعلى مشارف الثورة الفرنسية، أعلن تلاميذه أنَّ السعادة الحقيقية
ليست في التكامل مع مجتمع عادي، وإنما هي في التخلُّص منه. وعندما اجتمعَت قوةُ عبارة
«روسو»: «يُولَد الإنسان حرًّا … ولكنه مكبَّل بالقيود في كل مكان.» مع مفهوم
«الأمة»
Volkstum كمجتمع متجذِّر تاريخيًّا، وأقدم وأقوى من المجتمع التجاري، كانت النتيجة هي الليبرالية
الرومانسية، وكعقيدة
سياسية، كانت مصدرَ إلهام لأشخاص مثل «روبسبيير»
Robespierrer و«نابلیون»
Napoleon، ثم اكتسحت بعد ذلك أشخاصًا مثل
«بيرون»
Byron و«شیللي»
Shelley و«جوسيب ماتزیني»
Giuseppe Mazzini. الحرية الشخصية كانت هدفًا
من أهداف التقدم الإنساني، الليبرالية الرومانسية أكَّدت ذلك، والثورة
الديمقراطية كانت هي الوسيلة للوصول إلى ذلك.
التقدم منتصرًا … …
«العصر الذهبي ليس خلفنا … بل أمامنا»
هنري دي سان سيمون
واجه القرن التاسع عشر تراثًا غامضًا؛ فمن ناحية، كانت هناك نظرية المجتمع المدني
التي تقول إنَّ المجتمع الإنساني يجعل البشر أفضل مما كانوا، ومن ناحية أخرى، كان
هناك «روسو» الذي يزعم أنه يجعلهم أسوأ.
وبالرغم من أنَّ أنبياء التقدم العظام في القرن التاسع عشر، مثل «هيجل»
Hegel و«أوجست كونت»
Auguste Comte، و«هربرت سبنسر»
Herbert Spencer يبدون معتدِّين واثقين من أنفسهم أمام مَن يحاولون الحطَّ من شأنهم، إلا أنهم كانوا
يحاولون بشدة أن يوازنوا بين جانبَي التراث التنويري، كان هدفهم الأكبر هو نفي أي تناقض
بين مؤسسات التقدم الإنساني كما عرفتها نظريةُ المجتمع المدني، وطموحات الإنسان البشرية
الطبيعية كما عرفها «روسو». أنبياء التقدم العظام في القرن التاسع عشر أعلنوا أنَّ ما
ينبغي وما نريد أن نكون عليه
سيُصبحان شيئًا واحدًا ذات يوم، أما ما ينبغي أن نكون عليه، فهو أن نكون كائنات
اجتماعية مقيدة بالزمن، وما نريد أن نكون عليه، هو أن نكون أحرارًا وسعداء؛ ولذلك
رفضوا كلًّا من الفوضى السياسية للثورة الرومانتيكية، و«الفوضى الروحية» لمجتمع
السوق الذي لا يعرف سوى المصلحة الشخصية، ونادوا بمستقبل مختلف كان هو الآخر مقررًا
سلفًا من الناحية التاريخية، كان ذلك هو «التقدم»
Progress٤٨⋆ وفي الوقت نفسه، أوضحت صورة القرن التاسع عشر عن التقدم، قضية كانت
كامنةً في «التنوير»، وهي أنَّ الفرد المنعزل لم يكن لديه خيارٌ واسع في تلك الأمور
كلها؛ فالعمليات الاجتماعية التي تصنع المجتمع المدني واسعةً ومعقدة وليست سهلة،
وهذه العمليات نفسها محكومة بقوانين حتمية بما فيها قانون التقدم ذاته؛ فالفرد
المتحضِّر نتاجٌ لها وليس العكس، وليس بمقدور أحد أن يختار أن يكون خارج قبضة تلك
العمليات بأن يقرر تحويل نفسه إلى «وحش نبيل»، أو إلى «بیریکلیس»
Pericles،
٤٩⋆ أو بمحاولة استعادة الفضائل المفقودة للمرحلة الإنسانية السابقة. البشر
أصبحوا تروسًا في عجلات التاريخ، بينما هي مستمرة في طحنها؛ لذلك كانت وصية أنبياء
التقدم في القرن التاسع عشر هي أن يستمتع الناس بركوب تلك العجلات! بيد أنه كان
هناك احتمالٌ آخر أكثر رعبًا، لو استمرت العجلات في الطحن أبعد من نقطة قصوى محددة،
وبدأ التاريخ في التحرُّك إلى أسفل (إلى الخلف) وليس إلى الأمام كما حدث في
الحضارات الأخرى، يُصبح الكائن البشري لا حول له ولا قوة أمام هذا الاضمحلال كما كان
بالضبط أمام التقدم، سيُصبح مأسورًا في فخٍّ مثل إنسان العصور الوسطى الذي كان يمتطي
عجلةَ الحظ بلا مستقبل أو مهرب، وبالطبع لم يكن لدى المؤسسين العظام لنظريات القرن
التاسع عشر مثل تلك الهموم. «جورج فردريك هيجل»
George Friedrich Hegel، أستاذ الفلسفة البارز في جامعة برلين، استخدم — حتى وفاته في عام ۱۸۳۱ — نظريته الشهيرة
في الديالكتيك، للاحتفاظ بكلا الجانبَين في
نظرية التنوير فيما يختص بقدر الإنسان في المجتمع. ففي المنظور الديالكتيكي،
الأشياء التي تبدو متناقضةً ما هي إلا مراحل أولية نحو تسوية أو جميعة
٥٠⋆ نهائية.
فالتاريخ هو قصةُ تقدُّم المجتمع الإنساني وقصة الحرية الإنسانية كما يؤكد «هيجل»،
والإنسانية تتقدَّم باستمرار نحو فكرتها الخاصة عن الحرية، والتي هي عبارة عن
«الوجود التام في ذاته» لكل فرد.
٥١⋆،٥٢
تطوُّر المجتمع الإنساني لا يفرض قيودًا على الفرد كما كان «روسو» يزعم، ولكنه
ينزعها عنه خطوة خطوة، ودرجة درجة، بأن يجعلَه يفهم ويَعِي قُوَاه الخلَّاقة
المستقلة.
الفن والأدب والدين والعلم والفلسفة … كلُّها تتحول عن طريق العملية التاريخية
نفسها … التي تعني التقدم. والتقدم كما كان «هيجل» يقول: «هو النبض غير المحدود
لروح العلم، وهدف اندفاعتها التي لا تُقاوَم.» وفهم كيفية وصول روح التقدم إلى كل
مجتمع وقارة على الكرة الأرضية، كان يتطلَّب النظرَ إلى تاريخ العالم بصفته «مؤسَّسًا
على هدف ضروري وفعلي وهو خطة العناية الإلهية — التي سوف تتحقق فيه.»
«الشرق» هو «المرحلة الأولى» في تاريخ الحضارة العام عند «هيجل»، حضارة الصين
والهند والشرق الأوسط — الشرق
The Orient — هي التي
تشكِّل «طفولة التاريخ»، فهم الذين كشفوا عن سرِّ الطبيعة العقلانية للكون،
و«اخترعوا» الأديان الأولى المحكمة، واخترعوا فكرةَ الدولة. الإغريق الذين قد
نعتبرهم مرحلةَ «المراهقة» اخترعوا مفهومَ الفرد الحر، وكما شرح «هيجل»: «بزغ الوعيُ
بالحرية أولًا بين الإغريق، وهكذا كانوا أحرارًا، ولكنهم، والرومان كذلك، كانوا
يعرفون أن البعض فقط هم الأحرار، وليس الإنسان بشكل عام.» ويُضيف «هيجل»: «ولذلك كان
يوجد عبيد عند الإغريق.»
٥٣ أما الرومان فهم الذين فتحوا الباب لنضج الجنس البشري عندما شيَّد
أولئك الأفراد الأحرار (وعبيدهم) إمبراطوريةً مادية وسياسية عظيمة. بعد ذلك جاء
«الجرمان» أو العالم الأوروبي، ويقول «هيجل»: «وهم يُشبهون مرحلة الشيخوخة في حياة
الإنسان، إلا أن شيخوخة الطبيعة ضعف، أما بالنسبة للروح فهي قمة النضج والقوة،
الحضارة الحديثة تمثِّل ذروةَ التقدم؛ لأنها أوضحت أنَّ البشر كلهم أحرار
بطبيعتهم.»
لقد أعلن «هيجل» أنَّ «أوروبا — وبكل تأكيد — هي نهاية التاريخ»، ما دام «تاريخ
العالم ليس سوى هذا النوع من التطوُّر لفكرة الحرية.»
٥٤
وفي رأْي «هيجل»: تقدُّم أوروبا الحديثة المشهد الذي يوضح تقدُّم الإنسان «كموضوع»
—
ككائن عقلاني وأخلاقي مستقل — وأيضًا في إطار علاقاته «الموضوعية» مع الآخرين في
المجتمع المدني. هاتان الشعبتان في التقدم تلتقيان تقريبًا في الدولة-الأمة التي ستنشأ
بعد ذلك، وكما قال أحدُ النقَّاد البارزين، فإنَّ «هيجل» هو أب النظرية التاريخية للدولة،
وكذلك بالنسبة للتقدُّم التاريخي.
٥٥ لقد كان «هيجل» يعتقد أن أيَّ تناقضات باقية في المجتمع التجاري —
كافة القضايا التي أقلقت «روسو»، و«مالتوس» وغيرهما والخاصة بعدم عدالة توزيع
الثروة، وجموح المصالح الذاتية، وافتقاد الهدف الإنساني — سوف يتم حلُّها في النهاية
وبشكل حاسم بواسطة تلك الدولة-الأمة. و«سلطة الدولة» كما يقول «هي إنجاز
الجميع.»
٥٦ سوف يختفي الجشع والفقر، وسوف يُصبح الناس شركاء في «عالم اجتماعي
أخلاقي»
Sittlichkeit ثابت ومستقر يصنعه اتساعُ
سلطة الدولة وموظفوها المدنيون المحترفون والمستنيرون، إنهم يعرفون أنَّ الحرية
والعقل ليسا في خصام كما كان يحذر «روسو»، وإنما هما الشيء نفسه: «في العالم
الاجتماعي الأخلاقي، للفرد حقوقٌ بقدر ما عليه من واجبات، وواجبات بقدر ما له من
حقوق.» ويرى «هيجل» أنَّ ذلك ما يعلمنا إيَّاه ويزكِّيه العقل وتجعله الدولة
ممكنًا.
٥٧
صيغة «هيجل» للتقدُّم لم تركِّز فقط على الخيال السياسي للقرن التاسع عشر بالنسبة
لدور الدولة، والذي كان يسميه «مسيرة الله على الأرض»، فهي قد أعطت دفعةً قوية جديدة
لفكرة أنَّ البشرية يمكنها، عن طريق العقل، أن تحقق خلاصها الخاص.
«سعادة الإنسان النهائية ليست حلمًا بعيدَ المنال.» كما يقول، ولكنها تحدث هنا
والآن نابعة من السيل الجارف الذي لا يمكن إيقافه، وهو تقدُّم المؤسسات والطموحات
الإنسانية، وفي هذا المجال، كان «کارل مارکس» أحد الذين استلهموا أفكار «هيجل».
و«مارکس» يعتبر — بالتأكيد — واحدًا من أنبياء التقدم الأكثر تأثيرًا في القرن
التاسع عشر. نظريته في التاريخ تأسَّست على مبادئ نظرية «هيجل» نفسها: مسيرة
الإنسان التي لا تقاوم نحو الحرية، ولكن «مارکس» حدَّد الاقتصاد وليس السياسية
مفتاحًا لباب تقدُّم الإنسان من خلال قانون الصراع الطبقي، وعلى عكس «هيجل»، أنكر
أن يكون المجتمع التجاري هو المرحلة النهائية لعلاقات الإنسان الاقتصادية. هناك
مرحلة أبعد من الرأسمالية … وهي الاشتراكية، «سلطة الدولة السياسية تموت» عند
«مارکس» وشريكه «إنجلز»
Engles؛ لأن أحدًا لن يحتاج في مجتمع لا طبقي إلى إجبار أو قسر لكي يحصل على ما يريد. كتب «إنجلز»:
«الإنسان سوف يصبح — في النهاية — سیِّدَ صيغته للتطوُّر الاجتماعي. «إنه» يصبح في
الوقت نفسه سيِّدًا على الطبيعة، وسيِّد نفسه يصبح حرًّا.»
٥٨
وكما هو الأمر بالنسبة للدولة-الأمَّة عند «هيجل»، فإنَّ الشيوعيةَ عند «مارکس» هي
التوفيق النهائي بين احتياجات الفرد وعلاقاته في المجتمع، وإن كان التحوُّل هنا
أكثرَ غموضًا، الرأسمالية واجهَت — كما حذَّر «مارکس» — «يوم حساب» سوف يزيد البؤس
والاستغلال يصبح من المتعذر معه منع انفجار الثورة. و«مارکس» يرى أن المجتمع
البرجوازي محكومٌ عليه بالدمار بسبب تناميه المفرط (بتعبير جيبون)، ولكن جنة
افتدائية سوف تحلُّ محلَّه وهي «دكتاتورية البروليتاريا»، كما نجد في العبارات
الختامية من «البيان الشيوعي» ١٨٤٨: «ليس لدى العمال ما يخسرونه سوى أغلالهم.» «يا
عمال العالم اتحدوا.» أصداء من «روسو» ومن الليبرالية الرومانسية، وعند كلٍّ من
«هيجل» و«مارکس» فإن التاريخ كعملية تقدُّم، يَصِل إلى نقطة نهاية لا يستطيع أن
يتخطاها إلى أبعد منها. أما بالنسبة للمفكِّر «هنري دي سان سيمون»
Henri de Saint-Simon
— معاصر «هيجل» — فلم يكن التاريخ، وإنما التكنولوجيا والعلم هما اللذان يقدِّمان
مفتاح الوجود والسعادة الإنسانية. «سان سيمون» وهو في الأساس مؤيِّد للثورة الفرنسية،
تحرر من الوهم، بسبب تجاوزاتها السياسية المفرطة وانصرف عن السياسة، وبدلًا من ذلك أصبح
مقتنعًا بأنَّ
العقل العلمي الحديث سوف يتمكن من صنع مجتمع روحاني حديث تختفي منه كافة التعاسات
والصراعات.
وكما هو الأمر عند «هيجل» فإنَّ نخبةً بيروقراطية مستنيرة هي المنوطة بتنظيم مثل
هذا المجتمع المثالي. ولكن بينما بيروقراط «هيجل» بشر، لديهم الفهم العميق لمؤسسات
مجتمعهم وتقاليده، فإنَّ نخبة «سان سيمون» تعيش في عالم العقل المجرد والعلم المادي
تمامًا، دليلها هو «قانون التقدُّم»، الحتمي والمؤكد النجاح والذي يقرر الشئون
الإنسانية كما يقرر قانون الجاذبية الطبيعية.
يقول «سان سيمون»: «إنَّ كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نُطيع هذا القانون بإدراك،
واضعين في اعتبارنا المسارَ الذي يحدِّده لنا، بدلًا من أن نكون مدفوعين به دون
بصيرة.» وكان يُطلق على ذلك «تدبرنا الصحيح.»
٥٩ «البيروقراطية» و«التكنولوجيا» سيصبحان فيما بعد مصطلحَين يدعوان
للاستخفاف، ولكنهما بالنسبة ﻟ «سان سيمون» وخليفته الثقافي «أوجست كونت»
August Comte كانا يَعِدان بعصر جديد، عصر تقدُّم إنساني وفهم عقلاني للعالم وكأنهما دين جديد.
فلسفة «كونت» «الوضعية»، قامت بتوصيل رسالة افتدائية مُخلِّصة شبيهة برسالة
«هيجل»، طبيعتنا الأخلاقية وتقدُّمنا الاجتماعي ليسا في حالة تناقض، هما الشيء نفسه
كما يقول «كونت».
كتب: «تقدُّمنا الإنساني السياسي أو الأخلاقي أو الفكري لا ينفصل عن تقدُّمنا
المادي.» وكان يعني بذلك تقدُّمَ الصناعة والعلم. وكان يسمِّي قوانين التطوُّر
الاجتماعي «الفيزياء الاجتماعية». كان يراها كلًّا واحدًا (لا يتجزأ) من النموِّ
المتصاعد للنظام العقلاني في الكون والذي سوف يضمن في النهاية توافقًا تامًّا في
الطبيعة والمجتمع، «أفكار النظام والتقدم في الفيزياء الاجتماعية، مثل أفكار
النظام والحياة في علم الأحياء (البيولوجيا)، من المستحيل الفصل بينها.»
٦٠ وكان «أوجست كونت» يعتبر كمال الإنسان من خلال المجتمع الحديث أكثر
من مجرد غاية خيالية أو وهمية، ولأنَّ لكل وجود قوة دافعة للأمام، لا تهدأ، فإنَّ
الكمال حتميٌّ إن لم يكن وشيكًا، ويتفق معه في ذلك نظيره الإنجليزي «هربرت سبنسر»
Herbert Spencer عندما يقول: «التطوُّر النهائي للإنسان المثالي أمرٌ مؤكد من الناحية المنطقية.» وبالنسبة
للمفكرين
الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر مثل «سبنسر»، لم يَعُد التقدم قضيةً خلافية، بل
أصبح افتراضًا تجريديًّا لا خلاف عليه. المؤرخان «توماس ماکولاي»
Thomas B. Macaulay، و«دبليو – إتش – لیکي»
W. H. Lecky، والفيلسوفان «جیرمي بنتام»
Jermy Bentham، و«جون ستيورات مل»
John Stuart Mill، وعالمَا الاقتصاد السياسي
«ديفيد ريكاردو»
David Recardo، و«ناسوسينيور»
Nassau Senior
— الآباء المؤسِّسون لليبرالية القرن التاسع عشر الكلاسيكية — استلهموا كلهم ذلك
الافتراض وكان سندًا لأفكارهم. أما «هربرت سبنسر» فهو الذي جسَّد ذلك الإيمان بالتقدم
والنظرة المتفائلة
المرتبطة به؛ ولأنه كان مهندسًا بحكم دراسته، لم يجد صعوبةً في أن يرى أن أوروبا
الصناعية الحديثة كانت على بداية التقدم. كانت رؤية «سبنسر» للتقدُّم الحضاري
ممزوجةً بالحرية الفردية والتضامن الاجتماعي، ينصهران معًا في مجتمع ليبرالي تمامًا،
كتب: «الإنسان لديه الحرية ليفعل ما يشاء، ما دام لا يعتدي على الحرية المماثلة لأي
إنسان آخر.»
الهدف النهائي لفكرة «سبنسر» عن التقدم هو التطوُّر العضوي للمادة من «التجانس»
إلى «التمايز»، وهو تطوُّر يضم بداخله — كما يعتقد: البيولوجيا، وعلم النفس،
والكيمياء، والجيولوجيا، بالإضافة إلى الميدانَين اللذَين كانَا قد بدآ يسيطران على
اهتماماتِ كلِّ مَن يدرس «التقدم»، وهما الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع، ومثل «كونت»
كان «سبنسر» يرى أن التقدم يحكم كلَّ ما في الكون، وليس التاريخ الإنساني
فقط.
عندما ظهرت نظرية «تشارلز دارون» Charles
Darwin عن التطوُّر الاجتماعي والمسمَّاة ﺑ «أصل الأنواع» لأول
مرة في سنة ۱۸٥۷، سرعان ما تعلَّق بها «سبنسر» كبرهانٍ على صدق نظريته، ولكن
الواقع أن أفكار «سبنسر» عن التطوُّر العضوي للمجتمع كانت سابقةً على «دارون»، فقد
كان «سبنسر» وليس «دارون» هو الذي سكَّ مصطلح «البقاء للأصلح»، وكان «سبنسر» هو
الذي توصَّل إلى أنَّ التطوُّر يعني أنَّ الاكتمال التدريجي للإنسان مثل كل الكائنات
الأخرى أمر ممكن.
وكما هو الحال عند «دارون» فإنَّ الإنسان جزءٌ من الطبيعة وليس فوقها أو أسمى منها،
ولكن الطبيعة عند «سبنسر» لم تكن تلك «حمراء السن والمخلب» (كما ستكون بعد ذلك عند
الدارونيِّين الأكثر تشاؤمًا)، بدلًا من ذلك، هي عالم طاقات وإمكانيات لا نهائية،
يكتشف الفرد أنَّ قواه تنمو فيه … «في تعامله مع كل ما يدخل نطاق التجربة إلى أن
يُصبح في النهاية حرًّا وسعيدًا.»
الهيجليون والماركسيون احتقروا «سبنسر» بسبب نظرته التي تنتمي إلى سياسة «دعه
يعمل» — في القرن التاسع عشر — وتوسيعها المرعب لثروة الإنسان المادية وحريته
البرجوازية. أما الذي يستوقفنا عندما نتأمل ذلك، فهو ذلك التشابه بين «سبنسر»
و«مارکس» في توقعهما لحتمية تقدُّم الإنسان، وإصرارهما المتشدد عليه، وفي نهاية
الأمر، كان «سبنسر» يعتقد أن جميع أوجه القصور المتبقية في المجتمع لا بد أن تختفيَ؛
ففي رأيه كما في رأْي «مارکس» أنَّ الشر وقسوة الإنسان ووحشيته ما هي إلا مخلَّفات
العيوب الاجتماعية السابقة؛ فالإنسانية مثل قميص من القماش المتغضن الذي تختفي
عيوبُه إلى الأبد بتمرير مكواة الحضارة الحديثة عليه. وتحت تأثير «سبنسر» و«كونت»،
كانت مجموعةٌ من المؤرخين العلميِّين تتقدَّم لتبيِّن كيف أنَّ قوانين التقدم تلك
قد قامت بدورٍ مهمٍّ في تاريخ الحضارة نفسها. كان «هنري توماس باكل» Henry Thomas Buckle تلميذًا ﻟ «كونت»، وكان
يرجع مسار التاريخ الأوروبي والبريطاني بكامله إلى انتشار التقدم طبقًا لقوانين
منتظمة وثابتة لا يرقى إليها الشكُّ، وفي العام نفسه الذي أعلن فيه «سبنسر»: «تطوُّر
البسيط إلى معقد»، كقانون عام «للمجتمع، والحكم، والصناعة، والتجارة، واللغة،
والأدب، والعلم، والفن.» نشر «باكل» كتابه: «تاريخ الحضارة في إنجلترا» ۱۸٥۷م، كما
كان «باكل» يقول: «إنَّ التقدم الذي أنجزَته أوروبا من البربرية إلى الحضارة يرجع
بكامله إلى تنامي معرفة الإنسان وسيادته على العالم من حوله …» وكان بذلك يعني
العلم والتكنولوجيا. أما مؤشرات التقدم الأخرى؛ مثل ترقية الأخلاق وزيادة التهذيب،
فكانت متروكةً على جنب أو في طيِّ النسيان، «التقدم» عند «باكل» هو — أولًا وأخيرًا
— فرض سيطرة الإنسان العقلانية على بيئته المادية.
في المراحل البدائية الباكرة لتطوُّر الإنسان، وفي المجتمعات الرعوية أو الزراعية
الأولية، كان الكائن البشري — كما يقول «باكل» — سرعان ما يكتشف أنَّ المناخ
والجغرافيا والمحيطات الخارجية الأخرى هي صاحبة اليد العليا، وأنَّ عليه أن يتأقلم
طبقًا لها، ولكنه عندما تتسع معارفه ومداركه العقلية في المراحل اللاحقة، يحتل مقعد
القيادة. إنَّ ظهور ملكاته وقدراته من خلال العلم والتكنولوجيا، يأخذ أسبقيةً
بالتدريج على كل صور النشاط الذهني الأخرى، وفي النهاية، تُشكل الحضارة في صيغتها
الأوروبية.
٦١ كان «باكل» ومعاصروه يرحبون بأيِّ منظور مقارن لمعرفة مكامن القوى
والضعف في الحضارة الأوروبية، واستطاعوا أن يعتمدوا على مصادر جديدة للمقارنة، بما
في ذلك المكتشفات الأركيولوجية الجديدة؛ مثل اكتشاف «هينرش شليمان»
Heinrich Schliemann ﻟ: طروادة القديمة، والسير «أوستن هنري لیارد»
Austen Henry Layard ﻟ: «نينوى»،
٦٢⋆ والسير «آرثر إيفانز»
Arthur Evans ﻟ:
«كريت مینوي» … ثم بعد ذلك بفترة طويلة اكتشافات «لورد کارنافون» في مصر. النمو
الحثيث للدراسات «الشرقية» قدَّم معلوماتٍ جديدةً قيِّمة عن حضارات الشرق الأوسط والشرق
الأقصى في الماضي والحاضر، بينما ساعدت الدراسات الرائدة عن الشعوب والمؤسسات
البدائية، مثل كتب «الثقافة البدائية» ۱۸۷۱م ﻟ «إي بي تیلور»
E.
B. Tylor، و«الغصن الذهبي» ﻟ «جیمس – ج. فريزر»
James G. Frazier ۱۸۹۰م على توضيح الفروق بين المجتمعات «المتحضرة» و«البدائية»، إلا أنَّ تلك المادة
الغزيرة كلها، وبصرف النظر عن كونها مروعة أو مثيرة، لم يبدُ أنها كانت تتناقض مع الصورة
الأساسية نفسها، وهي:
التفوُّق الحقيقي للحضارة الأوروبية على كل الحضارات السابقة والمعاصرة لها، ومن
ينظر إلى إنجازات أوروبا العلمية، وإنتاجيتها الاقتصادية والصناعية الهائلة، ونُظُم
الحكم فيها، أو حتى إلى مجرد تطوُّرها التاريخي المائز من الماضي البدائي، يجد أنها
قد حققت تفوقًا لا مثيل له بالنسبة للآخرين على الكرة الأرضية. لقد أصبح من المعتاد
النظر إلى مصطلحَي «الحضارة» و«أوروبا الحديثة» كمرادفَين، وكما لو كان الآخرون كلهم
ليسوا سوی أسلاف من الدرجة الثانية أو تقليد زائف للأصل. في سنة ۱۸٥٤، كان «جون
هنري نيومان»
John Henry Newman مضطرًّا للإقرار بأنَّ الحضارة الأوروبية «متميزة ومضيئة في طبيعتها، عظيمة في اتساعها،
جليلة في
دوامها، وليس لها منافس على وجه الأرض بالمرة»؛ ولذلك فإنَّ لديها ما يبرِّر أن تتخذ
لنفسها لقبَ «المجتمع الإنساني» ولحضارتها، ذلك المصطلح النظري «الحضارة».
٦٣
ولم تكن المشكلة الحقيقية أمام المؤرخين هي تفسير أسباب وصول أوروبا إلى الصدارة،
كانت المشكلة هي معرفة أسباب فشل الآخرين، أو لماذا ظلُّوا يتخبطون في التداعي
والتفسُّخ. لقد قدَّم العلماء والباحثون الأمريكيون والأوروبيون عددًا ضخمًا من
التفسيرات والشروح لذلك الفشل الكبير، فشل بقية العالم أن يكونوا مثلهم. وكان البعض
يعزو ذلك لاختلافات المناخ والجغرافيا، وآخرون كانوا يرجعونه — وعلى نحو أكثر
تشهيرًا — إلى الدونية العِرقية والتدهور الفسيولوجي، بينما هناك مَن يشير إلى الفروق
في السيكولوجيا العامة ولدور المعتقدات الدينية والثقافية.
٦٤ ويبدو أن الأوروبيِّين الغربيِّين فقط هم الذين قد حققوا مستوًى من
التقدم المادي والروحي، يمثِّل حضارةً حقيقية، عندما نُقارنهم بالصين وفارس وتركيا
العثمانية، ومراكز الحضارة الأوروبية التي ازدهرت في مرحلة ما ثم تفسَّخت مثل
اليونان وإيطاليا، أو بالقبائل البدائية وسكان الغابات التي ما تزال مبعثرةً في
أجزاء من العالم؛ فمَن ذا الذي كان يمكن أن يتنبَّأ بأنَّ العلماء سيطبِّقون على
أوروبا في نهاية القرن هذه المصطلحات نفسها: التفسُّخ، الهرم، الانحلال …؟ ولكن
ذلك لم يكن أمرًا مفاجئًا كما قد يبدو. فإذا كانت جميع الحضارات تقوم وتسقط طبقًا
لقوانين علمية محددة، فإنه يصبح من المنطقي والحتمي أن تنطبق تلك القوانين نفسها
على الصيغة الأوروبية.
ومن اليسير أن نتصوَّر مدى أسف «هربرت سبنسر» في سنة ۱۸٥۸ عندما علم أنَّ القانون
الثاني في الديناميكا الحرارية،
٦٥⋆ والذي يُعرف بقانون «الإنتروبيا»
٦٦⋆ كان يدل على أنَّ التقدم إلى ما لا نهاية أمر مستحيل، ما دامت كلُّ
الطاقة الموجودة في الكون لا بد أن تتبدَّد في النهاية، وأنَّ الحياة نفسها سوف تتوقف،
وقد كتب إلى مَن أخبره بذلك يقول: «أذكر أنني قد أصبحت متوعكَ الصحة بعد ذلك … ولعدة
أيام …» «تأكيدك لي أنَّ الحياة سوف تتوقف عند تحقق التوازن النهائي، أصابني
بالدوار وما زلت أشعر بالاضطراب.»
٦٧ فإذا كانت توقعاتنا عن المستقبل تعتمد على التحقق الدقيق لقدر تاريخي
مقرر غير قابل للتغيير، كان لا بد لنا أن «نُصاب بالدوار» أيضًا، عندما يتأكد لنا أنَّ
القدَر يعمل ضد سعادتنا وليس من أجل تحقيقها. الثقة في قانون التقدم، فتحَت الآن
إمكانيةَ حدوث العكس. المفكر «جون – دبلیو – درابر»
John W.
Draper وهو النظير الأمريكي ﻟ «توماس باكل» — ومن أتباع كونت — أضاف إلى تاريخ التقدم المرحلة
النهائية نحو السقوط، عندما تفقد القوى التي
تجذب المجتمع والإنسان إلى الأمام طاقتها فجأة وتبدأ انطلاقها في الاتجاه العكسي
…
في كتابه «التطوُّر الفكري لأوروبا» ۱۸٦٤ حذَّر «درابر» القُرَّاء منبِّهًا إلى
أنَّ المقارنة بالمجتمعات غير الغربية قد لا تنطوي على تفحُّص دقيق، ويقول: «أوروبا
تُسرع لكي تُصبح مثلما عليه الصين، ونحن نرى فيها ما سوف نُصبح عليه عندما
نشيخ.»
٦٨ تحذير «درابر»، وخوف «سبنسر» من «الإنتروبيا» مهَّدَا الطريق نحو حتمية
«هنري» و«بروکس آدمز»
Henry and Brooks Adams
التشاؤمية. إلا أن ثقلًا موازنًا يؤمن بالتقدم، قد ظهر بالفعل في الحركة الفنية
الأدبية المعروفة ﺑ: «الرومانتيكية»
Romanticism.
الانطلاقة الرومانتيكية …
أيها الأمل …! الأمل! أيها الأمل المراوغ … من أين تشتري الآن؟!
جي. إم. دبلیو، تيرنر
J. M. W.
Turner
تشاؤمية الحركة الرومانسية كانت، إلى حدٍّ كبير، من نتائج الثورة الفرنسية، عندما
قامت الثورة في عام ۱۷۸۹م، كان الشاعر «وليم ووردزوورث» William Wordsworth في غاية البهجة.
«كانت نعمةً كبرى أن تكون على قيد الحياة في ذلك الفجر، أما أن تكون شابًّا، فإن
تلك هي السعادة القصوى بعينها.» … ولكن بعد ذلك … «يا لَخيبة الآمال الضائعة!»
الأمل في العودة إلى عالم البراءة والحرية عند «روسو» قد تبدَّد في عهد
الإرهاب
٦٩⋆ ودكتاتورية «نابليون» العسكرية، ونوع جديد من الاستبداد غیر معقول،
يتنكَّر في ثياب إمبراطورية كونية.
كان «ووردزوورث» و«ولیم بليك»
William Blake
والمصور «جی. إم. دبلیو. تيرنر»
J. M. W.
Turner،
٧٠ و«جيمس ماكنتوش»
James Mackintosh تلميذ «آدم سميث»
Adam Smith، كانوا متحمسين في
البداية، ولكنهم سرعان ما أدركوا خطأهم. «إدموند بيرك»
Edmund
Burke — وهو وريثُ آخر لنظرية المجتمع المدني — كتب «تأملات في
الثورة الفرنسية»، والذي أصبح إنجيل الليبراليِّين، وكذلك الرومانسيِّين المحافظين،
الإنجليز في القرن التاسع عشر.
كانت صدمة الرومانسيِّين الألمان شديدة. «فردريك شيللر»
Friedrich
Schiller بعد قصيدته الطويلة الصريحة «أنشودة للفرح» ۱۷۸٥م، كتب في سنة ۱۷۹۹م «هذا القرن ينتهي
بالعواصف، ويبدأ الآن القرن الجديد بصرخة
القتل.» «فردريك فون شلیجل»
Friedrich von
Schlegel كان يخشى أن تكون الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب قد
فتحَا الباب أمام مرحلة جديدة مرعبة من «الجرائم الإيثارية»، عندما يرتكب البشر
فظائع مرعبة، ليس بدافع من حب الشر، وإنما بدافع من حب الفضيلة! وأصبحت الثورة
الفرنسية بالنسبة لخيال القرن التاسع عشر، مثلما كان «الهولوكوست» بالنسبة لخيال
القرن العشرين: صورة صريحة لخيانة الإنسان لطبيعتِه ومُثُلِه العليا، ومثلما كان الناقد
«تيودور أدورنو»
Theodor Adorno يزعم أنه لن يكون هناك فنٌّ بعد «أوشفتز»
٧١⋆Ausuchwitz ،
كان «شليجل» قبل قرن ونصف القرن يتساءل ما إذا كانت فظائع عهد الإرهاب تعني اقتراب
«دراما التاريخ الإنساني» من نهايتها … ولدرجة أن يقترح عالم سويسري — جادًّا — في
عام ۱۸۱۸م جعل أيسلندا متحفًا للمنتجات الثقافية الأوروبية قبل أن تزول الحضارة
تمامًا.
٧٢ ومثل المثقفين الراديكاليِّين الذين كانت الشيوعية قد ضلَّلَتهم في
الثلاثينيات والأربعينيات في عهد «ستالين»، كان الرومانسيون الجدد يقدِّرون ويقبلون
مزايا وفضائل مجتمعاتهم، وهي المزايا والفضائل ذاتها التي كانت معتقداتهم السياسية
السابقة تعلمهم إدانتها.
وكانت النتيجة … ظهورَ جيل جديد من الرومانسيِّين المحافظين، من بينهم «شلیجل»
Schlegel، و«جوزيف دي مايستر»
Joseph de Maistre، والشعراء «شاتوبریان» Chateaubriand، و«نوفاليس» Novalis، و«صمويل تیلور کولیردج» Samuel Taylor Coleridge. وكانوا ينظرون إلى المؤسسات التي كانت الثورة الفرنسية وأسلافها التنويريون يهاجمونها
— الكنيسة الكاثوليكية، الملكية، الأرستقراطية التقليدية — باحترام شديد.
والآن، كان أولئك يبدون رموزًا دالةً على موروث ثقافي أكثر قدمًا ونبالة، عرَّضَته
الثورة الفرنسية والثورة الصناعية للخطر، ويمكن للمرء أن يُطلق على أولئك لقب
«الرومانسيِّين المحافظين»، ولكننا سنكون أكثرَ دقة إذا قلنا «الرجعيِّين»؛ حيث كان ذلك
ردَّ فعل ضد كل مفهوم للتقدُّم.
في الوقت نفسه، كان فقدان الرومانتيكية للثقة في المستقبل، يواكبه حنينٌ متزايد
للماضي ما قبل الحديث، كان لدى المصورين والشعراء الرومانسيِّين إحساسٌ جمالي قوي
بالتاريخ، ولكن التاريخ بالنسبة لهم لم يكن هو قصة التقدُّم، وإنما هو حكاية الماضي
وأمجاده الغاربة. وليست مصادفةً أن يكون أشهر روائي في النصف الأول من القرن هو
السير «والترسكوت»
Walter Scott. كان قد نشأ على تراث الرومانسيِّين الألمان، وكانت أول رواية له تنطلق شهرتها بسرعة
الصاروخ هي
روايته التاريخية
Waverley
۱۸۱٤م، وكانت فكرة أن تتناول رواية ما العصور الوسطى أو النجاد والهضاب الاسكتلندية وإسكانها
بشخصيات همجية مثل الفرسان الصليبيِّين والرهبان والعذارى الأنجلو ساكسون ورؤساء القبائل
…
كان يمكن أن تبدوَ فكرةً سخيفة ومضحكة بالنسبة لأسلاف «سكوت» من التنويريِّين، ولكن
الذي حدث هو أن «سكوت» حوَّل جنس الرواية التاريخية إلى «تجارة جملة»! فقد ظهرت
سلسلة من المقلدين لها، منهم «ألكساندر دوماس»
Alexandre
Dumas، و«فيكتور هوجو»
Victor
Hugo، و«جوولز فیرن»
Jules
Verne. أما «سكوت» فحوَّل منزله إلى متحف حقيقي للتاريخ
الاسكتلندي والإنجليزي، ملأه بمجموعة من الدروع والأعلام والتذكارات الدينية التي
كانت تبدو تعبيرًا بصريًّا عن الاحترام والتبجيل لقِيَم البطولة والفضيلة … تلك القيم
التي كان يبدو أنَّ عمره الصناعي قد فقدها، كما أن طراز العمارة القوطية الجديد الذي
اكتسح إنجلترا في الوقت نفسه، كان يحاول أن يُعيد «بصريًّا أيضًا» خلق روح الإحساس
بالمجتمع وطهارة العصور الوسطى، تلك الروح التي دمرتها العصور التجارية التي جاءت
بعدها،
٧٣ كما صدم الرومانسيون أيضًا بالتصنيع، آخر تباديل المجتمع التجاري.
أصبحت المصانع والمحرِّكات البخارية والمداخن صورًا حقيقية من الجحيم. كتب الشاعر
«وليم بليك» عن «الطواحين الشيطانية السوداء»، وكتب «توماس جراي»
Thomas, Gray عن الشياطين وهي «تعمل» في مسابك
الحديد، وكتب «روبرت سوذي»
Robert Southey عن «الضجيج الجهنمي والمهن الجهنمية»،
٧٤ وَصْف «بليك» للندن الصناعية الباكرة يتعارض تمامًا مع الصورة التي
رسمها التنوير للمدينة كقمة «للرقي» المدني وللحضارة:
أجول في كل شارع … مخطط
بالقرب من المكان الذي ينساب فيه نهر «التيمز» … المخطط،
فأرى على كلِّ وجه أقابله
آثار الضجر والكرب …
في صرخة كل إنسان،
في صرخة رعب يُطلقها كلُّ طفل،
في كل صوت … في كل لعنة …
أسمع صليل الأصفاد التي صنعها العقل …
أما «ووردزوورث» فيُلقي هذه النظرة المظلمة الكئيبة على إنجلترا في
سنة ۱۸۰٦:
العالم أقوى منَّا،
عاجلًا وآجلًا … نكسب ونخسر،
نبدِّد طاقاتنا،
ليس لنا في الطبيعة سوى القليل.
لقد تنازلنا عن قلوبنا، ويا لَها من هبة شحيحة!
وكان «روبرت سوذي» يقارن بين حِقبة المادية والجشع الجديدة،
وإنجلترا في مرحلة باكرة عندما كان «مالك الأرض الخيِّر يجلس مع مستأجري أرضه حول
النار وهي تُطقطق.» عندما كان الكل يتشاركون النفع، طبقًا للمكانة الاجتماعية. كان
عالمًا تجمع فيه روابط التقاليد والدين وروح الجماعة بين الجميع، ثم «بالتدريج حلَّت
روحٌ تجارية محلَّ المبدأ البسيط للنظام الاقتصادي، الذي كان طبيعيًّا وتلقائيًّا رغم
بساطته، الربح والخسارة أصبح قانون السلوك، دخل الحساب في كل شيء واختفت
المشاعر.»
٧٥
وسيكون ذلك هو تراث الرومانتيكية الأكثر بقاءً: «انسلاخها عن زمانها وعصرها» «لا
شعر يمكن أن يزهر في التربة الجديدة، الدراما ماتت … الحلم الصوفي الذي حفره راهب
القرن الثاني عشر على صخور حرمه المقدَّس يستعاد لتزيين مخزن تجاري بطريقة فجَّة،
تصميم الدير يُعدَّل لبناء محطة سكة حديد»، لم تكن تلك عبارات «ووردزوورث» أو
«سوذي»، وإنما هي كلمات المحامي الأمريكي «بروکس آدمز» Brooks
Adams في سنة ۱۸۹۳، الرومانتيكية علَّمت الجميع أن صُنَّاع
الحضارة الحديثة من أبناء الطبقة الوسطى (والتي تضم بالطبع محترفين من أمثال «بروکس
آدمز» نفسه) لا بد أن يكونوا مهذبين، مجتهدين، محترمين … ولكنهم في الوقت نفسه
أصبحوا ماديِّين محافظين على القديم.
وكان هناك آخرون ممن يرَون أن أكبر منجزات الحضارة — وهو «الرقي» و«تهذيب وتحسين
أخلاق الناس» — شيء فاسد بالدرجة نفسها، وهو انبعاث لعملية التدهور. ومن دواعي
السخرية، أن يكون الهدف من كل هذه المخاوف هو الرومانتيكية نفسها.
التدهور یعني — حرفيًّا — «السقوط»، الذي كان الرومان يصفون به ضياع معيار ثابت أو
مستوًى محدد من التميُّز الأدبي، ومثل كلمة «سقوط» أصبحت الكلمة لصيقةً بصورة انهيار
الإمبراطورية الرومانية، وبالفعل كانت مصطلحًا للسباب وليس للتحليل.
٧٦ ولكن كلمة «التدهور» تعني أيضًا أن الانهيار في المستويات الفكرية
والمعنوية ذو علاقة بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية الأكبر.
٧٧⋆
التدهور يبدأ عند القمة، عندما تفقد النخبة رغبتها في الحفاظ على النظام
القديم، وبدلًا من مقاومة الانهيار المحدِق، فإنَّ السياسيِّين والفنانين
والأرستقراطيِّين المتدهورين يعتنقون التدهور ويقبلون به. وقد وضع «آرثر بلفور» Arthur Balfour هذه الفكرةَ على النحو التالي في سنة ۱۹۰۳م:
«عندما تسود حالة من وهن العزيمة العميق في دولة عريقة ما تزال قوية، عندما يصبح
ردُّ الفعل إزاء العلل والأسقام المتكررة أكثر ضعفًا، تتراخى المؤسسات وتضعف، وينحسر
الحماس ويكون هناك — كما أعتقد — عملية تفسُّخ أو انحلال اجتماعي يمكن أن نسميَها ﺑ
التدهور.»
٧٨
وفي القرن التاسع عشر، أصبحت كلمة «التدهور» هي كلمة السر لردِّ الفعل المحافظ ضد
تجاوزات الرومانتيكية؛ فالرومانتيكية تلجأ إلى العواطف القوية وغير المألوفة،
وللبشر المصدومين الذين اعتادوا معاييرَ أكثرَ رزانة ورصانة. وفي أواخر حياته، كان
«جوته» Goethe يُعلن أنَّ «الكلاسيكية» صحة، و«الرومانتيكية» مرض. ثم نشر «ديزيريه نيسارد» Desiré
Nisard في سنة ۱۸۳٤ كتابَه: «دراسات في أساليب ونقد الشعراء
الرومان في عصر الانحطاط» الذي يخلص إلى أنَّ ذلك التدهور أو الانحطاط الغريب الذي
حدث للأدب الرومانسي الحديث لم يكن سوى انعكاس لتدهور أكبر في القيم الأخلاقية
والاجتماعية في المجتمع الحديث، وسرعان ما أصبح الجميع يستخدمون المصطلح.
في سنة ۱۸٥٤ كتب قاضٍ باريسيٌّ في تقرير لرؤسائه:
«أعتقد أنَّ مجتمعنا يُعاني من علَّة عميقة.» ويُنهي كتابه بأنَّ «الأدب الرومانسي
قد
منح رخصةً لأسوأ الغرائز وأكثرها انحطاطًا.» وكان يرى الشيء نفسه في كل مکان
«الإشباع الفوري للشهوات، البحث عن المتعة، الذاتية المتوحشة … وإذا استمر حالنا
على هذا المنوال، فسوف تعود أيام التفسُّخ الروماني.»
٧٩
بعد عامين، كشف «توماس كوتير» Thomas Couture
عن لوحته «رومان الانحطاط»، التي أثارَت عاصفةً من التعليقات والجدل في «باريس»،
والتي يظهر فيها طقس روماني عربيدي في أحد القصور الفخمة الزاخرة بكل مظاهر الترف،
بينما يبدو الملل والسأم على وجوه المشاركين فيه وهم سادرون في عالم المباهج الحسية
… وذلك لأن الأرواح ميتة. لقد استنفدت الدعة المادية والثراء الفاحش كل الإبداع …
كل الحياة، كما أرفق «كوتير» بلوحته هذه، العنوان الفرعي للهجائية «السادسة» ﻟ
«جوفينال» Juvenal:
الترف أكثر شرًّا من كل عدو غريب،
يضع يده الثقيلة علينا،
ويثأر منَّا، للعالم الذي أخضعناه بالفتوحات …
٨٠
نجاح المجتمع المتحضِّر، يحقِّق وفرةً في الكماليات ووسائل الراحة،
لبشر لم يَعُد مطلوبًا منهم أن يُكافحوا أو يُجهدوا أنفسهم لكي يعيشوا، بشرٌ أصبحوا
ناعمين و«متخنثين»، وكما كان «روسو» يوجِّه اتِّهامَه قبل قرن من الزمان «… لقد وهنت
الشجاعة الحقيقية، (و) انحلال الأخلاق بالتالي يؤدِّي إلى فساد الذوق …»
٨١
خلف هذا النقد الأخلاقي، يكمن نقدٌ للمبادئ والأسس التقليدية للاقتصاد السياسي،
وحيث إنَّ قوى تقسيم العمل العنيدة تجعل التخصُّص يَصِل إلى النقطة الأكثر حرجًا، فإنَّ
الحضارة تَصِل إلى أكثر مراحل تطورها … مرحلتها المتأخرة … أو «الحديثة».
إنَّ فنان الانحطاط ورجل الأعمال المادي المحافظَين على القديم، كلاهما يعبِّر عن
شخصية إنسانية انكمشت إلى أضيق وأحطِّ مستوًى، كلاهما يسعى ويلهث خلف أشياء غريبة
تاركًا كلَّ شيء آخر: المال في حالة الثاني (رجل الأعمال)، والرضا الذاتي في حالة
الأول (فنان الانحطاط). وفي كلتا الحالتَين، تتوارَى قوى الخلق والإبداع، وينتصر
المادي على الروحاني. «نيتشة» يشخِّص الانحطاط والتفسُّخ بقوله «لم تَعُد هناك حياة
للكل، الشلل والتحدر، أو العداوة والفوضى.» ويختتمه بقوله: «المجتمع المنحط مثل
الفن المنحط، مرکب، ومتعمد، وزائف ومصطنع.»
٨٢ وما كان مفترضًا أن يكون تطورات إيجابية (مثل نمو الثروة الصناعية،
والحكم الذاتي، ونهوض التكنولوجيا، وانحسار الدين) أصبح
٨٣ الآن نذيرًا «بالساعات الأخيرة من عمر الحضارة.»
هنا، دخلت أوروبا مرحلةَ «أرذل العمر»، بتعبير «فيكتور هوجو» في سنة ۱۸۲۷، وكان
أيامها في الخامسة والعشرين من العمر، وحضارتها الآن «قديمة» … «مرهقة» … «هرِمة» … «منهارة»
… و«محتضَرة»، كما كان يقول كتَّاب رومانسيون آخرون. أخذ التقدم معنًى
يدعو للسخرية المُرة، كما جاء في مناقشة «تيوفيل جوتييه»
Théophile Gautier لتقدم الفنون في مقدمته
ﻟ «مدموازيل دوموبان».
٨٤⋆ كتب بقسوة مرة:
«منذ قرون كان عندنا «رافائيل»، و«مايكل أنجلو» … والآن لدينا «م. بول دي لاروش»
… وذلك كله لأننا نتقدَّم.»
إلا أن «هوجو» و«جوتييه» بسخريتهما من فكرة التقدُّم، قد كشفَا عن الافتراض
الأساسي نفسه كما فعل «كونت» و«سبنسر»، وهو أنَّ المجتمعات والحضارات لها فترة عمرية
ووظيفة محددة مثل الجهاز البيولوجي ووظائف أعضائه.
«الجنس البشري، بشكل عام، قد نما وتطوَّر ونضج … كما يحدث لأي شخص ما»، كما يقول
«هوجو» و«كان طفلًا ذات يوم، ثم رجلًا، والآن نحن ننظر إليه فنراه في أرذل العمر.»
کان «هوجو» رجع صدًى لفكرة «عضوانية»
٨٥⋆ قديمة، تعني أنَّ العمليات الحيوية تنشأ نتيجة نشاط أعضاء الكائن كلها بوصفها نظامًا
متكاملًا، والفكرة من أيام «جيامباتيستا فيكو»
Giambattista Vico (التي كانت كتاباته تلقَى ترحيبًا جديدًا في الدوائر الأدبية الباريسية) وهي في الأصل
تعود إلى أفلاطون
والإغريق، وكما يُدركنا كلَّنا الهرمُ في النهاية، فإن تلك الرؤية «العضوانية» لا بد
أن تُدرك الحضارة الأوروبية.
كان «جون درابر» John Draper قبل عقدَين قد نبَّه إلى أننا «نرى في الحضارة الصينية ما سنكون عليه في الهرم»، وكذلك
فإنَّ كلًّا
من الرومانسيِّين وخصومهم كانوا يقولون إنَّ الحضارة الغربية كانت قائمةً بالفعل، وكان
أمرًا مسلَّمًا به على جانبَي الأطلنطي أنَّ أوروبا هي العالم القديم، في مقابل العالم
الجديد … أو أمريكا، حتى قوة أوروبا ونفوذها الذي لا يُنازَع في الكرة الأرضية أصبحَا
محلَّ شك، فكلُّها لا تؤكد سوى أن حِقبة النمو الديناميكي قد ولَّت، وأنَّ المستقبل
المتبقي هو النضج … الذي ينزلق نحو نضج أكثر مما ينبغي … حتى يَصِل إلى الانحلال أو
التفسُّخ، وبمعنًى آخر، فإنَّ خوف القرن التاسع عشر من التفسُّخ والتدهور يعبِّر عن
خوفه من نجاحه، قوة الحضارة الأوروبية التي تسبِّب الفزع كانت تأخذ شكلَ «الإفراط»،
تخمة من الثروة السهلة والحراك الاجتماعي والرفاهية المادية والرضا الذاتي، إلى
جانبِ زخمٍ من تغييرِ وتدمير كلِّ ما كان قائمًا قبل ذلك.
کتب «شارل بودلير»
Charles Baudelaire: «لقد
أدَّى التقدُّم إلى ضمورِ كلِّ ما هو روحاني فينا.»
٨٦ «التجاوزات» نفسها والتي خيَّبت ظنَّ الرومانسيِّين الراديكاليِّين — مثل
«جوتييه» — وصدمَتهم، أغاظَت كذلك خصومَهم المحافظين وأحنقَتهم. بعد مرور ست سنوات على
كشف النقاب عن لوحة «كوتير»
Couture أحدث هجوم أحد
أولئك المحافظين، وهو «الكونت آرثر دو جوبينو»
Arthur de
Gobineau على التقدم انعطافة جديدة … ومروِّعة.