الفصل العاشر
الأنبياء الفرنسيون المحدثون
«سارتر» – «فوكو» – «فانون»
«رجال اليوم يُولَدون مجرمين.»
«ج. ب. سارتر»
ساعد «ماركيوز» و«مدرسة فرانكفورت» برؤيتهم المعادية للعقل الغربي الكلي على تشكيل
جيل جديد من نقَّاد الثقافة، إلا أنَّ الوطن الحقيقي للتشاؤمية الثقافية الجديدة لم يكن
ألمانيا. وطنها كان فرنسا.
في عام ۱۹۰۰م، وصل إلى «الكولیج دو فرانس» في «باریس»، أستاذ جديد للفلسفة، كان
شابًّا في الأربعين واسمه «هنري برجسون» Henri
Bergson.
منذ بداية القرن التاسع عشر، كان المشهد الجامعي في «باریس» قد تمركز حول المعلِّم
ذي
الشخصية الكاريزمية أو البطل الثقافي، وكان «برجسون» ملائمًا لهذا الدور تمامًا. «جبهته
العريضة، عيناه اللامعتان مثل كشَّافَين تحت حاجبَيه … إشعاع عقله …» كانت أعماله
الفلسفية مكتوبةً بأسلوب مثير وجذَّاب لدرجةٍ تمكِّنه من الحصول على جائزة نوبل للآداب.
محاضراتُه التي كان يقدِّمها في «الكوليج دو فرانس» دون الاعتماد على أيِّ مذكرات، كانت
تجتذب الحشود، لا من الطلاب والزملاء فقط، بل من السيَّاح ورجال الدولة وسيدات المجتمع
كذلك. وكان الجميع يُدركون أنهم يشهدون تغيُّرًا هائلًا في وجهة الفلسفة والحياة الفكرية
الفرنسية.
١
كانت «باریس» المتمرِّدة والرومانسية، باریس «جوبينو» و«جوتييه»، قد أفسحت المجال
في
أواخر القرن التاسع عشر، لنفوذ مفكِّرين وكُتَّاب من أمثال «كونت»
Comte، و«دوركايم»
Durkheim، و«باستير»
Pasteur، و«هیبولیت تایني»
Hyppolite Taine، و«إميل زولا»
Emile Zola، هؤلاء الذين كانوا يقدِّرون الفلسفة
الوضعية والعلم، إلا أنَّ فرنسا الوضعية اليقينية كانت تنتابها أحيانًا أفكار الشبحَين
المتلازمَين:
التفسُّخ الذي كان يُزعج علماء
الاجتماع وأعضاء المهنة الطبية،
والانحطاط الذي
أغوى الورثةَ الأدبيِّين ﻟ «بودلير»، ومن بينهم الشعراء الرمزيون و«بول فاليري»
Paul Valéry. كان الفرنسيون قد سكُّوا مصطلح
Fin de Siecle أو «نهاية القرن» لوصفِ جوِّ
ثمانينيات القرن التاسع عشر: «اليأس العقيم لرجل مريض»، وسط الغِنى والوفرة. وكان
«برجسون» قد خاصم حالة نهاية القرن تلك، والأفكار السائدة في الفلسفة والعلم الفرنسيين،
وجعل من نفسه بطلًا «لأسلوب» أرقى في فهم «العالم المحيط بنا»، والذي يقوم على الحدس
والعقوبة والغرائز الحيوانية والذي كان يسميه ﺑ:
élan
vital، أو «الوثوب الحيوي». كان العقل التجريبي هو خادم الغريزة
وليس سيدَها كما يتصوَّر العالم. العالم الميكانيكي الراسخ والمجرَّد من الحياة، عالم
مجتمع القرن التاسع عشر الصناعي والعلمي كان يتطلَّب القوة الدافعة للوثوب الحيوي الخالد
للطبيعة. وأعلن «برجسون» أنَّ الوثوب الحيوي يتدفَّق بقوة متخلِّلًا الحياة مثل «موجة
عالية»، تُوقظها «إمكانية كثيرة كامنة، تنساب عبر الأجيال (و) توزِّع نفسها بين
الأفراد».
٢
حيوية «برجسون» تحتفي بتجربة الفرد التاريخية الذكية والنشطة، كتغيُّر أو «بقاء»
التقدم المستمر للماضي الذي يشقُّ طريقه في المستقبل … «إنه» يتبعنا كلَّ لحظة، كلما
شعرنا به، وفكَّرنا به، وأردناه … يضغط على أبواب الوعي. والتاريخ عند «برجسون» ليس له
معنًى موضوعيٌّ ينتظر أن نُدركَه من خلال الذكاء والتفكير. وبدل ذلك، فإن الماضي يكون
له
معنًى فقط عندما يصبح جزءًا من وعينا الفردي. هذه الرؤيا تلخِّصها رؤيا «جان بول سارتر»
المروعة، عندما وجد نفسه في فخِّ المعركة من أجل فرنسا في يوليو عام ١٩٤٠م: «التاريخ
هنا من حولي». وبالنسبة لأولئك الذين وقعوا تحت سطوة وتأثير «برجسون»، كان الماضي
والحاضر والمستقبل يعكسون هذه القوة الحيوية التي تُستثار من خلال التجربة — سواء
كانت سياسيةً أو دينية (كان الدين عند «برجسون» معادلًا لالتزام «نيتشة» بالقيم) أو جنسية
أو زوجية — والتي تقرِّب منَّا كلَّ ما في الإنسانية والطبيعة، وكان لا بد أن يكون شعار
حركة «برجسون» كلها: «أنا أُجرِّب، إذن أنا موجود.»
كل الأحياء يتماسكون … كلهم يستسلمون لنفس الدفعة القوية … الإنسانية
بكاملها، في المكان والزمان جيشٌ ضخم يعدو بجوار وأمام وخلف كلٍّ منَّا في هجوم
كاسح، يمكنه أن يتغلَّب على أيِّ مقاومة، وأن يُزيلَ أصعب العقبات … وربما الموت
ذاته.
٣
على مشارف الحرب العالمية الأولى، كان «برجسون» هو المعلِّم الأشهر لجيلٍ من الطلاب
الفرنسيِّين، سيجدون أنفسهم بعد وقت قصير في حالة صراع مع نظرائهم الألمان. كثيرون (مثل
«تشارل بیجوي»
Charles Péguy، و«جاك ماريتان»
Jacques Maritan، والروائي «آلان-فورنييه»
Alan-Fournier، والصحفي «هنري ماسيس»
Henri Massis، وغيرهم)، وجدوا في «حيوية» «برجسون»
وسيلةً لطرد التشاؤم بخصوص الانحلال والانهيار الثقافي، وليس الضجر البرجوازي فقط. هذا
الجيل، «جیل ۱۹۱۲م» كما كان «هنري ماسيس» يُطلِق عليه، كان يعاني من «اغتراب عدم الثقة
بالنفس». وعلى خلاف أبناء الجيل الأكبر منهم من «المتفسخين»، كانوا كاثوليك مخلصين
ووطنيِّين متشددين؛ لأنهم أدركوا أهمية الإيمان والانضباط والالتزام. أبناء جيل ١٩١٢م،
كانوا قبل كلِّ شيء رجالَ فعل. «كانت السمة المميزة لهذا الجيل، هي صنع النظام والانسجام
في كل شيء، كما صنع أبناء الجيل الأكبر منه الفوضى والخراب.» وكان بطلهم «برجسون»، يَصِف
ظهورهم — علنًا — بأنه معجزة تطوُّرية وتحوُّلًا غير مسبوق في الطبيعة الإنسانية. أما
هم، فكانوا مثل بطلهم ينفثون التفاؤل والعزم والأمل في كل ما يضعون أيديهم عليه. كل هذه
الآمال تحطَّمت بقسوة في خلال أشهر من نشوب الحرب العالمية الأولى. كثيرون من أبناء هذا
الجيل المتفائل، قُتِلوا في الشهرَين الأوَّلَين من الحرب مثل «تشارل بيجوي». الصورة
التي
رسمها «برجسون» لهجوم كاسح «يمكنه أن يتغلَّب على أيِّ مقاومة»، ضاعت في عمليات هجومية
فاشلة لجنود المشاة تحت نيران المدافع الآلية الألمانية، وصراعات «فردن»، وأخيرًا في
تمرُّد ۱۹۱۷م. عشرة في المائة من كل شباب فرنسا الذكور، ماتوا بين عامي ١٩١٤م
و۱۹۱۸م، أما الذين نجوا فقد عادوا إلى مناخ ثقافي يسمِّمه الفشل والإحباط، وإلى طبقة
مثقَّفة مكسورة ستهرب إلى «الدادائية»
Dadaism، و«السيريالية»
Surrealism (كان زعيمها «أندريه بريتون»
André Breton من المحاربين) وإلى انسحاب مرير، أحد
أولئك المثقَّفين الممرورين، كان «بيير درييه لاروشیل»
Pierre Drieu La
Rochelle، البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، والذي قال عند عودته
من الجبهة: «لم نَقُل كلمتَنا الأخيرة بعدُ، سوف يختفي أكثر من شعب قبل أن نختفيَ
نحن.»
٤ أفكار عاطفية مشابهة، فتحت الباب أمام شكل فرنسي من التشاؤمية الثقافية.
كانت الحياة الثقافية في «باریس» في العشرينيات والثلاثينيات تعبِّر عن نفس التحرُّر
من
أوهام القرن التاسع عشر، وأوهام التقدم التي كانت تتآكل في قلب بريطانيا «بلومزبري»
وألمانيا «فيمر». وكان الشاعر «لوي أراجون»
Louis
Aragon يُعلن بكل فخر في عام ١٩٢٥م: «نحن انهزاميو أوروبا»، «أيها
العالم الغربي … أنت محكوم عليك بالموت.» ورغم شحوب تأثير «برجسون» في تلك الفترة، إلا
أنه — وبمعنًى عميق — كان قد أعدَّ المسرح لما هو قادم. إعلاؤه من شأن الغريزة على
الذكاء (كلمات برجسون بالتحديد)، ومن شأن التجربة الحيوية على الامتثالية الاجتماعية،
أصبحَا أرضيةً عامة للمفكرين الفرنسيِّين سواء من اليمين أو اليسار. وفي النهاية، فإن
ما
كان يجمع بينهم جميعًا، من «سارتر» و«کامو»
Camus إلى
«ميشيل فوكو»
Michel Foucault
، و«فرانز فانون»
Frantz Fanon كان هو مطلب «برجسون» الحيوي.
لم تَعُد الخيارات السياسية القديمة قادرةً على تقديم أية حلول في نظر مثقفي
العشرينيات والثلاثينيات. كتب «جورج برنانوس»
Georges
Bernanos، وهو أحد الذين بقوا من جيل ١٩١٢م، يقول: «الليبرالية
ماتت من أوَّل طلقة في الحرب العظمی.»
٥ وفي اليمين الفرنسي كان المحافظون من أمثال «موريس بار»
Maurice Barres، و«تشارل مورا»
Charles Maurras ما زالوا يحاربون معركة قضية «درایفوس» التي كان قد مضى عليها ربع قرن تقريبًا، ويشجبون
الجمهورية الثالثة
«المتفسِّخة». المحافظون الأصغر سنًّا مثل «بيير درييه لاروشیل»، والشاعر «روبرت براز
يللاخ»
Robert Brasillach، تحوَّلوا من المبادئ
الملكية والدعوة إليها، إلى تبنِّي الفاشية. كانوا يعتقدون أنَّ الفاشية سوف تُطهِّر
فرنسا الحديثة من العفن. كان «لاروشيل» يقول في الثلاثينيات: «الوسيلة الوحيدة لحب
فرنسا في هذه الأيام، هو أن نكرهها في شكلها الحالي.» وفيما بعد سيكوِّن هو و«براز
يللاخ»، وآخرون الكادر الثقافي لنظام «فیشي».
٦
في الوقت نفسه، كان اليسار الفرنسي واقفًا في فخِّ الصراع المدمِّر بين الاشتراكية
والشيوعية. المثقفون الشيوعيون لم يكن لهم تأثير بالفعل في العقدين السابقين في الحرب
العالمية الثانية، بينما توجَّه خصومهم الاشتراكيون — بكل خنوع — نحو السلامية
pacifism وآمالها السرابية. كان التهديد المباشر
من الفاشية الألمانية، هو القادر فقط على تقريب المعسكرين في «الجبهة الشعبية» من
۱۹۳٥م إلى ١٩٣٦م، والتي امتلكَت زمام السلطة لوقت قصير، ثم انشقَّت وسط الاضطرابات
العمَّالية والحرب الأهلية الإسبانية، تاركةً كل معسكر أكثر مرارة عن ذي قبل. أما مَن
كان
ملتزمًا سياسيًّا، سواء من اليمين أو اليسار فقد كان يعبِّر عن «توق شديد» لنظام «إنساني
جدید»، كما كان يقول أحد المراقبين (آرثر كوستلر Arther
Koestler)، وكما كان الأمر في أوروبا ما قبل الليبرالية، كانت
الخطوط بين اليمين واليسار الفرنسيَّين قابلةً للنفاذ منها والقفز عليها، بواسطة أشخاص
ينتقلون من معسكر إلى الآخر بكل سهولة محيرة.
«جاك دوريو»
Jacques Doriot زعيم «الشباب الشيوعي» في العشرينيات، ترك فريقه في عام ١٩٣٤م ليؤسِّس الحزب الشعبي
الفرنسي، الذي أصبح الطليعة السياسية للحركة الفاشية في فرنسا. «مارسيل ديات»
Marcel Deat ترك الحزب الاشتراكي الفرنسي في ۱۹۳۳م ليؤسس حركته
الاشتراكية الوطنية الخاصة، والتي أصبحت هي أيضًا في النهاية عماد اليمين الراديكالي
في
«فیشي».
٧ وهناك حالة أخرى معروفة — أحدث من ذلك — وهي حالة الشاب «فرانسوا ميتران»
Francois Mitterrand الذي ارتبط بفصيل متطرِّف من
Action Francaise «جبهة العمل الفرنسية»، والفرنسيِّين المؤمنين بالملكية، والذي كان يخدم تحت حكم «فیشي»،
ظهر كعضوٍ في المقاومة عام ١٩٤٥م.
٨ كل تلك التحوُّلات في المواقف كانت ممكنة؛ لأن المثقَّفين الفرنسيِّين لم
يكونوا واضحين بشأن ما يقفون
معه إلا أنهم كانوا حازمين جدًّا بالنسبة لمن هم
ضدَّه. كان ذلك هو «تفسُّخ فرنسا»، وهو عنوان کراسة يسارية شديدة السخرية نُشرت عام ۱۹۳۱م.
وفي عام ١٩٤٣م كان «لاروشيل» يقول: «أنا فاشستي لأنني حسبت وعرفت مقدار التفسُّخ الذي
حدث في أوروبا.» وكان ذلك التفسُّخ يعني الرأسمالية البرجوازية والديمقراطية البرلمانية
ومجتمعًا تكنولوجيًّا على النمط الأمريكي، وكما اعترف «دينيس دو روجیمو»
Denis de Rougemont (الذي غيَّر هواه بعد ذلك
وانتقل من الاشتراكية إلى الوسط السياسي)، في يومياته في عام ١٩٣٦م، فإن العدو الحقيقي
ليس «الخطر السلطوي» ﻟ «هتلر» والبلشفية، وإنما «نوع الفكر الذي تنبع منه الفاشية
والستالينية بالضرورة، أي الفكر الليبرالي».
٩
في هذا الجو الكئيب المضطرب انفجرت الفلسفة الألمانية الجديدة مثل قذيفة الشظايا.
في
البداية جاءت الماركسية في صيغتها «الغربية» من «مارکس» — الشاب — و«جورج لوكاتش»
George Lukacs، ثم في بداية الثلاثينيات أجرى مهاجرٌ روسيٌّ يُدعَى «ألكساندر كوجييف»
Alexandre Kojéve ندوةً في «السوربون» قدَّم فيها «هيجل»
Hegel لجيل كامل
من المثقفين الفرنسيِّين من بينهم «ریمون آرون»
Raymond
Aron، و«موريس مير لو بونتي»
Maurice Merleau-Ponty، و«جورج باتاي»
Georges Bataille، و«جاك لاكان»
Jacques Lacan، و«أندريه بريتون»
André Breton.
١٠⋆ كشف
«كوجييف» عن نظرة حادَّة شديدة السخرية لفكرة «هيجل» عن التاريخ العام كتقدُّم، وكانت
نظرتُه تتناسب تمامًا مع التحرُّر من وَهْمِ ما بعد «فيردن» في فرنسا.
١١ كانت الحضارة الغربية والمؤسسات الديمقراطية قد انتصرت الآن على بدائلها
كما أعلن «کوجییف» بفرح حاقد، ولم يَعُد ممكنًا ولا مرغوبًا أن تقوم ثورة ماركسية لتحقيق
العدالة للمسحوقين (كما كانت الماركسية الألمانية تقول في عام ۱۹۱۹م). بدلًا من ذلك،
كان يجب على المجتمع الصناعي أن يجذب الناس نحو وفرة متزايدة، وحالة من الحرية
والمساواة، كأفراد كما كانوا يريدون. «كل واحد» سوف «يتبرجز» في النهاية كما أوضح
«كوجييف»: كل واحد سوف يتكيَّف بسعادة مع ثقافة تتجانس باضطراب في «نهاية التاريخ»،
ولكن المنتج الإنساني لهذه المرحلة النهائية من الحضارة سيكون شيئًا أقلَّ مما تخيَّله
«هيجل» أو أيٌّ من ورثته الليبراليِّين والتقدميِّين، وكان «کوجييف» يقول إنَّ الإنسان
الحديث قد أصبح بالفعل إنسان «نيتشة» الأخير، لقد أصبح كئيبًا وضعيفًا وبلا حياة، ولأنه
أيضًا ممتثل ولا أمل لديه، فقد أخضع شخصيته وحيويته لذاته الاجتماعية، متخلِّيًا عن
قدرته على الحب والكره والخلق والتدمير. وتنبَّأ «كوجييف» بأن العالم كله في نهاية
التاريخ، سيصبح أمريكا، وهو مصير كئيب بأيِّ مقياس فرنسي.
١٢
كان أستاذ «كوجييف» الثاني بعد «هيجل»، هو «فردريك نيتشة»، والذي كان له أيضًا أتباعه
الفرنسيون، مثل مفكِّرين ألمانيِّين لاحقين هما «إدموند هوسرل»
Edmund Husserl، و«مارتن هيدجر» Martin
Heidegger. في «باريس» العشرينيات والثلاثينيات، كان الفكر الحديث
والطليعي ألمانيًّا وليس فرنسيًّا.
بدايةً كان الشاب «جان بول سارتر» بعيدًا عن تلك الاهتمامات. وُلِد في «بواتيیه» عام
۱۹۰٥م، ونشأ في وسط مثقَّف مريح: أمٌّ شديدة الإعجاب به، وأسرة على علاقة قوية بالفن
والأدب والموسيقى. كان جدُّه خالَ «ألبرت شفتزر». أُرسِل إلى «باریس» ليتلقَّى تعليمًا
مخصَّصًا لأبناء النخبة البرجوازية العليا في تلك الحقبة؛ حيث درس في «ليسيه هنري
الرابع»، وبعد ذلك في «السوربون» — بالطبع. كانت رغبته الكبرى هي أن يصبح شاعرًا على
طراز الطليعة الفرنسية قبل الحرب، مثل «بودلير» والرمزيِّين و«بول فاليري». كان ﻟ «مارسيل
بروست» و«هنري برجسون» تأثيرٌ كبير على بداياته. كتب فيما بعد: «وجدت على الفور في
«برجسون» وصفًا لحياتي النفسية الخاصة.» ومثل «أرنولد توينبي» وجد «سارتر» في «برجسون»
تبريرًا للحياة الداخلية للفن والتنوير الروحاني المُصان من الاهتمامات المادية الشديدة
للعالم الخارجي.
كان شعار «سارتر» هو «الفن للفن»، نفس الشعار الذي ساد المشهد الأدبي في حقبة
«جوبينو». أما الذي جذبه خارج ذلك المستنبت الفني فهو زميله السابق في «الليسيه» «ریمون
آرون». كان «آرون» قد عاد إلى «باريس» في عام ۱۹۳۱م بعد أن درس في «برلین» مع «إدموند
هوسرل»، وكما شرح ﻟ «سارتر» المدهوش ذات يوم في أحد المقاهي: هذا الكوب، هذه الطاولة،
هي الآن موضوعات الفلسفة. كان «هوسرل» يطلب من تلاميذه أن ينسوا كلَّ شيء عن زخارف
النظرية الفلسفية العادية، وبدلًا من ذلك كله، «فإن معرفتنا الحقيقية تأتي من الحدس
المباشر بالأشياء كما هي بالفعل».
وكانت الحدود الخارجية لهذا الحدس تُوضَع موضع الاختبار بواسطة ما يسمِّيه «هوسرل»:
«الموقف الحدي»، تلك اللحظة النهائية والمفاجئة، عندما يهبط السائر على الرصيف فجأةً
أمام سيارة، أو عندما تتدحرج قنبلة في حفرة جندي. هذه اللحظات لحظات «الوجود الذي لم
يتمَّ التفكير فيه»، كما شرح «هوسرل»، تنزع العقلانية السطحية التي نتناول بها ظواهر
الحياة العادية، وتُجبرنا على الاختيار والفعل.
فلسفة الوجود البارزة هذه، كان من المقدَّر لها أن تروق لجيل لم يكن قد تعرَّض مباشرةً
لفظائع الحرب العالمية الأولى، ولكنه كان ما زال يشعر بالدفع الحداثي من أجل «تجربة
كاملة غير مقيدة»، واتصال بالواقع، وهو شيء، كانوا يعرفون أنَّ برجوازية مستعادة بعد
الحرب لن تكون قادرةً على تقديمه. كانت الحرب العالمية الأولى قد حطَّمت أعصاب المؤسسة
الثقافية القديمة.
على أية حال، قوَّت الحرب من إعجاب الطليعيِّين حَمَلةِ راية الحداثة، وافتتانهم
باللامنطقي والعنيف كنقيض للحياة المتحضِّرة، وأصبح المؤيد أو المعارض لأفكار «نيتشة»
—
على السواء — يحبِّذ ويمدح ميل الإنسان للقتل والتدمير کجانب مهم من التجربة: حيث
القسوة كما شرح «نيتشة» ذات مرة، «متغلغلة في تاريخ الثقافة الأعلى كله».
١٣
وفي بريطانيا، أصبح كُتَّاب مثل «د ﻫ لورانس» D. H.
Lawrence، و«ويندهام لويس» Wyndham Lewis مبهورين بالعنف العدواني، بينما كان مثقَّفون من اليسار
الألماني (مثل برتولد برخت)، ومن اليمين كذلك (أوزوالد شبنجلر) يستكشفون إمكانياته
الخلَّاقة، كان «ألكساندر كوجييف» يؤكِّد على ضرورة سفك الدماء والتمرُّد في العملية
الثورية، ليس كجزء من صراع «دارون» من أجل البقاء، وإنما كجزء من طبيعة الإنسان الحيوية
الأساسية. وكان «کوجييف» يقول (وهو هنا لا يختلف عن «برجسون»): إنَّ التاريخ ميدان للفعل
وليس للتأمل، وهذا سبب آخر يوضح لماذا يُعتبر ظهور برجوازية خاملة وقانعة علامة على
نهاية التاريخ. في الوقت نفسه، أكمل «نیتشويٌّ» مؤثِّرٌ آخر، وهو «مارتن هيدجر»، التوجُّهَ
نحو الفعل والتجربة. «هيدجر» من مواليد ۱۸۸۹م، بدأ تعليمه أساسًا في اللاهوت
والفلسفة، ولكنه تمرَّد على التوجُّهات السائدة في الفلسفة الألمانية. وبدلًا من ذلك
تأثَّر بعمق بكتاب «نيتشة»: «إرادة القوة» الذي قرأه عشيةَ الحرب العالمية الأولى. كان
إنجاز «هيدجر» الأعظم هو ترويض عدمية «نيتشة»، ورفض الحداثة للذوق البرجوازي (كان من
أشد المعجبين ﺑ «فان جوخ»)، والتوفيق بين ذلك والتوجُّه الرئيسي في التقليد الأكاديمي
الألماني، وكما عبَّر عن ذلك طالب سابق: «الهوَّة بين الأشكال الأكاديمية للفلسفة
والأشكال الوثيقة الصلة بحياة الناس في الفلسفة، بدَت تضيق» في «هيدجر».
أكثر كُتُبه تأثيرًا: «الوجود والزمن» صدر عام ۱۹۲۷م، وكان مثل محاضراته في جامعة
«فرايبورج» يبشِّر بمبدأ للهروب والالتزام معًا، خاصة الهروب من حداثة غربية غارقة بلا
أمل في مستنقع عقلانيتها العقيمة.
١٤ «هيدجر» يقول لقرَّائه إنَّ الغرب البرجوازي قد عزل نفسه عن «عالم الحياة»
الثري الذي فتحه بداية «الإغريق الديونيسيون»
١٥ كما كان «نيتشة» يقول،
١٦،١٧⋆ وكان
«هيدجر» يرفض أيَّ وسطية في الواقع أو «الوجود» عن طريق المؤسسات العادية والعقل
التحليلي. وبدل تحليل العام، كان على الإنسان أن يُلقيَ بنفسه فيه. أحد مصطلحات هيدجر
المفضَّلة هو:
Gewortenheit، أو حالة الإنسان عندما
«يغوص مقتحمًا» واقع زمانه ومكانه. في فلسفة «هيدجر»: «أن يُلقَى بك في مجرى الزمن،
فذلك شيء أساسي وملمح لا يتغيَّر في وضعنا الإنساني».
١٨ والتاريخ الإنساني لا معنًى له في حد ذاته، ولا هدف نستطيع أن نقدِّمه له،
ومثل التدفُّق الذي لا نهاية له عند «هيرقليطس» (وشبنجلر)، فالتاريخ الإنساني ليس سوى
بحر، إما أن نغرق أو نسبح فيه.
كان «هيدجر» يقول لطلابه إنَّ هدف الإنسان الأوَّل ليس أن يحاول فهم الأحداث والتحكُّم
فيها. بدلًا من ذلك، عليه أن يُعيد إلزام نفسه بالقيم التي تمكِّنه من الفعل من داخل
تلك
الأحداث. كما يقول لهم إنَّ الإنسان بهذا الفعل، يستطيع مرة أخرى أن يحقِّق «أصالته»،
أو
«حقيقته» التي يرى — مثل کوجييف — أنها قد اختفت من العالم الحديث. انتشرت كلمات
«هيدجر» في تربة فرنسية كانت قد تهيَّأت بالفعل بفضل إعلاء «برجسون» من شأن «الوثوب
الحيوي» elan vital مع فارق أساسي، فبدل أن تكون
خبرة العالم من حولنا هي تأكيد للذات كما كانت عند «برجسون»، تصبح عند «هيدجر» مصدرًا
للنفي والاغتراب بسبب طبيعة الغرب الحديث.
كان «هيدجر» قد قرأ كتاب «شبنجلر»: «أُفُول الغرب» باهتمام بالغ عند ظهوره، ورغم
أنه
كان ناقدًا لكثير من افتراضاته، إلا أنَّ الكتاب أثَّر عليه وأصبح — في الواقع — تاريخ
«هيدجر» عن الغرب أيضًا.
١٩ كوارث «تاريخ العالم في هذا القرن»، كما كان «هيدجر» يشرح لجمهوره، إنما
هي نتيجة «لإرادة الإرادة» لدى الغرب. هذه هي عملية «موضعة
٢٠⋆ كل
ما هو موجود دون شروط»، والتي يقوم بها الإنسان الحديث. ومثل معاصريه في «مدرسة
فرانكفورت» كان يرى «إرادة الإرادة» تلك متمثلة في العلم الحديث. النتائج مرعبة: «هروب
الآلهة، تدمير الأرض، معايرة الإنسان، بروز المتوسط … إظلام العالم». كما كان مضطرًّا
لأن يصل إلى استنتاج مفادُه أنَّ «التفسُّخ الروحي للكوكب قد وصل إلى مرحلة متقدمة،
لدرجة أنَّ الأمم أصبحت تُواجه خطرَ فقدان آخر جزء من الطاقة الروحية، ذلك الجزء الذي
يمكِّنها من إدراك هذا الاضمحلال وتقدير حجمه …»
٢١ وحسب «هيدجر» فإن الحيوان العقلاني الغربي، أصبح يدور في فلك الحيوان
الميكانيكي. التكنولوجيا تُجبر الإنسان والطبيعة أن يعملَا طبقًا للجدول الزمني نفسه،
والاحتياجات اللامعقولة نفسها التي يخلقها الإنسان الحديث. الأرض التي كانت ذات يوم هي
المصدر المقدَّس لإحساس الإنسان بالوجود، أصبحت تُعامَل كسلعة كمالية. أصبح الإنسان
يستخرج منها الحديد والفحم بالأطنان، وتحوَّلت غاباتُها إلى أخشاب ولب ورق من أجل
الجماهير الغبية. «الراين» نفسه، ذلك الرمز المقدَّس للأسطورة الجرمانية والفاجنرية تم
تحويلُ مجراه لإقامة محطة هيدروليكية لتزويد مصانع الرأسماليِّين بالطاقة. وكان «هيدجر»
يحذِّر وينبِّه إلى أنَّ الحضارة العقلانية قد حطَّمت مكان الإنسان في الطبيعة وإحساسه
بذاته، تاركةً إياه «لدوامة منتجاته ذات السرعة الجهنمية، لكي يمزِّقَ نفسه إربًا،
ويحوِّل نفسَه إلى عدم.»
٢٢ تصوُّر «هيدجر» الكاشف للحداثة «كإظلام للعالم»، وهجومه على العقل
الميتافيزيقي كعدو للوجود، هزَّا «سارتر» إلى النخاع. «الوثوب الحيوي»
elan vital ذو الطابع الروحاني عند «برجسون» لا بد
أن يبدوَ عاجزًا، مقارنة بذلك التواجد الصلب للإنسان والطبيعة — الوجود — وهي الفلسفة
التي سيُطلق عليها في النهاية اسم «الوجودية».
في عام ١٩٣٥م، بعد عودته إلى «باريس» من إقامته الخاصة المؤقتة في الفلسفة الألمانية
في جامعة «برلین»، أعلن «سارتر» بحماس شديد أنَّ «هوسرل» و«هيدجر» «قد ألقيا بالإنسان
مرة أخرى في خضمِّ العالم؛ إذ إنهما أعطيَا القياس الصحيح لآلام ومعاناة الإنسان وأيضًا
لعصيانه». كان أهم درس ﻟ «سارتر» هو أنَّ العالم هو المكان الذي تكشف فيه الحقيقة
الإنسانية لنفسها عن هويتها. ليس تأمُّلًا، وإنما حكمة وبطولة. «الفلسفة الوجودية
الجديدة» كما كان «سارتر» يعتقد، سوف تُنتج «أخلاقيات وسياسة إيجابية تمامًا»، في مقابل
العالم «السلبي» البرجوازي المتمثِّل في فرنسا المعاصرة.
٢٣
ولكن هذه السياسة الإيجابية الجديدة بالنسبة لتفكير «سارتر»، ليس لها علاقة بالسياسة
بمعناها المعروف. أثناء إقامته في «برلین» عام ۱۹۳۳م، كان قد ظلَّ غافلًا عن صعود
«هتلر» والنازيِّين السلطة. وبدلًا من ذلك، كانت «الوجودية» تأكيدًا للذات كما هي، أو
بعبارة «هيدجر»: «الوجود المجرَّد في ذاته». الإنسان موجود في
العالم، بالطبع، ومن العالم، ما دام لا يوجد إله ولا حقيقة متعالية، ولكن ليس من
أجل العالم بأيِّ معنًى اجتماعي أو حتى أخلاقي. ويصف «سارتر» الإنسان
ككائن متحضِّر بأنه وجود من أجل الآخرين، فهو
يترك أعباء المخالطية الاجتماعية sociability
والمؤسسات التقليدية لكي تعرفه، بدلًا من أن يسمح لنفسه بالسعي الكامل والحُر نحو قِيَمه
أو وجوده «في ذاته». وكما كتب «سارتر»: «الإنسان يجد عقبةً فقط في حدود مجال حريته.»
العقبات التي يواجهها هي تلك التي يسمح للآخرين بفرضها عليه، والتي بطبيعتها ذاتها تُنكر
عليه وجوده وذاته الحقيقية.
مفهوم «سارتر» للحرية أزال الآثار الأخيرة لإيمان التنوير بالإنسان ككائن اجتماعي
طبيعي، كما نفى بشدة العالم كما تقدِّمه الحداثة، والحياة في هذا العالم «عبث» (المصطلح
الذي سينشره «سارتر»)؛ لأن الإنسان الحديث قد جعلها كذلك؛ لأن عقله قد دمَّر «الإله»
وكل هدف جوهري آخر، كما كان يحذِّر بطل آخر من أبطال «سارتر» وهو «نيتشة». وعندما
يُواجه الإنسان بذلك «العبث» الأجوف، يُصاب بنوع من «الغثيان»، وهو عنوان رواية «سارتر»
(۱۹۳۸م) التي وصفت أُسُسَ هذا الضرب من التفكير. «غثيان» سارتر يذكِّرنا ﺑ «دوامة» «هيدجر»
ذات السرعة المذهلة، كما يذكِّرنا بالضرورة ﺑ «زرادشت» عند «نيتشة»: «هذا الغثيان
يخنقني … لقد حاولنا أن نخرج من الغوغاء … من نتانة صاحب الدكان … غثيان … غثيان …»
كما يحمل أيضًا صدى من «جوتييه» والرومانسيِّين الفرنسيِّين، وحذرهم من «الضجر»
ennui الذي صنعته الحياة الحديثة. إنَّ أكبر خطايا
الحياة الحديثة ليس حدوثَ أشياء أكثر من اللازم، كما كان يشكو النكدون من أصحاب
التشاؤمية التاريخية؛ مثل «جاکوب بورکهارت»، و«هنري آدمز»، و«تیودور أدورنو». خطايا
الحياة سببُها هو أنَّ ما يحدث أقل مما يجب. الشخصية الرئيسية في «الغثيان»: تعيش في
عالم
برجوازي ضيِّق الأفق، حيث الحياة تمضي في ضجر «مع شعور بالغثيان». هو عالم: «مواطنين
مستقرين أخلاقيًّا مع أفكارك، حساباتك في البنوك، والسلوك المهذَّب … مستشاري المدينة
والأطباء ورجال الاقتصاد»، إلا أنَّ «سارتر» يرى خلف هذه الواجهة الرقيقة الفارغة،
واقعًا أكثر رعبًا؛ فبالرغم من عادات ومظاهر الدين والسياسة والحياة المهنية
والعائلية، نحن وحيدون في هذا العالم … وإلى درجة مخيفة. ومثل أبطال روايات «سارتر»،
ليس لنا مصادر أخرى غير أنفسنا؛ فالإنسان كما يعبِّر عنه بعبارة شهيرة أخرى: «محكوم
عليه بالحرية»؛ لأنه محكوم عليه أيضًا بأن يكون وحيدًا. وهنا يقتبس «سارتر» اصطلاحًا
آخر من «هوسرل» Husserl، و«هيدجر»
Heidegger، وهو
angst «الرهبة»، أو الشعور المزعج بالقلق الذي تُحدثه عزلة الحرية المطلقة في الإنسان الحديث،
وتتركه وكأنه يحمل «عبء العالم كله على
كتفيه»، ولكي يهرب من آلام وکروب هذا القلق، يحاول أن يتظاهر بأنه حرٌّ، كما يفعل
الإنسان الجماهيري عند «إريك فروم». يشيِّد لنفسه مملكة «سوء النية»؛ حيث يتجه نفيُ
الآخر الذي هو أساس الحرية إلى الداخل ضد
الذات، بدلًا من أن يتجه خارجًا نحو الآخرين. سوء النية هو انقباض حيوية الإنسان، مثل
الكبت عند «فرويد»، وهو أيضًا أساس الحياة المتحضرة. ولكن بينما كان «فرويد» يرى ذلك
الانقباض لاحتواء طبيعة الإنسان الهمجية وتحقيره لذاته، فإن الكبت عند «سارتر» كله كذب
ونفاق، هو انتظار البرجوازي على الخلاق والحقيقي. «سوء النية» في فلسفة «سارتر»: «يبرز
جليًّا في اقترانه بالملكية البرجوازية … والانفصام الشديد بين المشاعر، أو الأفعال
العامة وتلك الخاصة».
وفي النهاية، فإن وجودية «سارتر» تستخدم «هيدجر» و«نيتشة» لتحوِّل احتقار
الرومانتيكية — في مرحلتها المتأخرة — للبرجوازية، إلى فلسفة
٢٤ حياة. فبالنسبة للفرد
الحُر، تصبح
الحياة في المجتمع الحديث صراعًا ضدَّ القيود البرجوازية، قيود الأخلاق والأدوار
الاجتماعية.
٢٥ «الكلمات»، وهي السيرة الذاتية ﻟ «سارتر» تروي عن معركته المستمرة ضدَّ
النفاق البرجوازي و«سوء النية» في عائلته.
مواطن الطبقة الوسطى النموذجي عند «سارتر»، عبارة عن فنان في التمثيل والخداع،
يدَّعي دائمًا ما ليس فيه. إنه كما يقول «سارتر»: الشخص الذي عليَّ أن أكونه «من أجل
الآخرين». فنحن نرى مأزقنا مثلًا في النادل المتجهِّم الذي يحلم بأن يكون ممثلًا ويعرف
أنه يضيع وقته، استياؤه هو استياؤنا لأن نكون مقيدين بزيٍّ معين في عالم مبني على
احتياجات الآخرين الزائفة. كان «النادل» مثالًا مفضَّلًا يستخدمه «سارتر» للتدليل على
ميكانيزمات سوء النية. المثال الثاني هو النساء اللائي يظهرن في مسرحياته الفلسفية ﻛ:
«خطافات»
٢٦⋆ أو «سیرانات» يغوين الرجال مسلوبي الإرادة، ويسحبنهم إلى حتفهم في علاقات
وزيجات عقيمة. والواقع أنَّ جميع قيم الحياة المتحضِّرة — المخالطية الاجتماعية، الأدوار
الاجتماعية المعقَّدة، الأدب، حتى الحب — هي عند «سارتر» فخاخ تُدمِّر حياة الإنسان (كان
عنوان واحد من أفلامه الأخيرة: المصيدة). وجودية «سارتر» تقول بجراءةٍ: إنَّ وجودك مع
الآخرين في المجتمع الحديث — والخضوع لمعاييرهم وأفكارهم — نوع من تدمير الذات، أو
تقديمها «قربانًا»
Immolation، وكما تُلمح إحدى شخصيات مسرحيته «لا مخرج»: «الجحيم هو الآخرون.»
أما الذي يجعل الآخرين غيرَ محتملين فهو بالتحديد فقدانهم للأصالة والحيوية، فهم
محبوسون في فخِّ «عالم سوء النية» – «زيف فوق زيف»، كما تقول شخصية أخرى. ولذا، فبدل
الصراع من أجل البقاء في العالم بشروطه الفاسدة، على الحرية أن تنفك منه لكي تجد نفسها.
«ألبير كامو» Albert Camus وجد رمزًا لعبثِ الروتين البرجوازي العادي في أسطورة «سيزيف» (عنوان مقال في عام ۱۹٥٥م)؛
حيث يصارع البطل لكي
يدفع صخرةً ضخمة إلى قمة التل، فقط لكي يجدَها تتدحرج نازلة لكي يدفعَها مرة أخرى … ثم
مرة
… ومرة …
كتب «ألبير كامو»: «استيقاظ، ترام، أربع ساعات عمل، وجبة طعام، نوم … والإثنين،
الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، الأحد، الإيقاع نفسه»، «لكن يومًا ما
ستنبثق اﻟ «لماذا؟» ويبدأ كلُّ شيء وسط هذا السأم المشبع بالذهول … يُوقظ الوعي، وتُثير
ما يتبع».
٢٧ وما يتبع هو فعلُ التمرُّد الوجودي الذي رسمه مانیفستو «کامو»: «الإنسان
الثائر» أو المتمرِّد، وعي الإنسان الذي استيقظ، يُواجه عبثَ الوجود الحديث ويقرِّر أنه
لن يكون له تعامل معه. وبرفضه لحالته فإنه يُعيد إشعال شعوره بذاته كوجود لذاته، وهذا
يفتح بدوره إمكانيةً لضخِّ معنًى وهدفٍ جديدَين في حياته. «الإنسان المتمرِّد»
L’homme Revolte يصبح
L’homme engage أو «الإنسان المتورِّط» مع الحياة مشغولًا بها بكل حيوية. على
أية حال، فإن إيجاد هذا المعنى يتطلَّب وقفةً راديكالية، ولا بد من أن يفصل ما بين
الحقيقي والزائف. «کامو» و«سارتر» يقولان ضمنًا، إنه لا أحد يغيِّر العالم ببقائه هكذا
في الترام، يذهب لأداء عمل من التاسعة إلى الخامسة.
ولكن إذا كنَّا قد رفضنا كلَّ تلك القيم التي تربطنا بالآخرين واعتبرناها زائفة، فمن
أين
ستجيء إذن كلُّ المعاني والغايات الجديدة؟ كانت تلك هي نقطة الضعف الرئيسية في المنهاج
الوجودي، وكان «هيدجر» نفسه قد كشف عن مخاطره.
الوجود الحقيقي بالنسبة ﻟ «هايدجر» يعبِّر عن نفسه على الساحة السياسية فقط، ﮐ «لحظة
كشف» نفَّاذة إلى ما وراء طبيعة الإنسان الحديث الساقطة المحدودة بذاتها. الشرعية،
الإجراءات المتعارف عليها، الأشكال الدستورية، وغير ذلك من القيود غير الحقيقية، كلها
تسقط عندما يقرِّر الإنسان أنَّ اللحظة قد حانت لاتخاذ قراره بصرف النظر عن
النتائج.
٢٨ كان «هيدجر» يرى أنَّ اللحظة هي «۱۹۳۲م»، وأنَّ ذلك الإنسان كان هو «أدولف هتلر». وكان
يعتقد أنَّ الاشتراكية القومية سوف تقلب تمامًا افتقارَ الحداثة للعمق
والقيم، وستُعيد الإمساك ﺑ «وجودنا التاريخي-الروحي، لكى تحوِّله إلى بداية جديدة».
ولم يكن «هيدجر» منزعجًا من خطر العنف النازي ولا وحشيته. «البداية لا بد أن تبدأ مرة
أخرى، وتكون أكثرَ راديكالية، مع كلِّ ما يصاحب البدايات الجديدة من غرابة وظلام وعدم
أمان»، حتى ولو كان ذلك يعني العودة إلى البربرية.
٢٩
وكرئيس لجامعة «فرايبورج»، ألقى «هيدجر» بنفسه في خضمِّ الثورة الاشتراكية القومية
بحماس شديد. كل ما قام به من نشاط نيابة عن النظام النازي حتی بعد عام ١٩٤٥م، والذي لم
يستطع أن يُنكره، موثَّق الآن.
٣٠ بعد الحرب ستكلِّفه الأعمال التي قام بها ثمنًا باهظًا، سيدفع منصبه كرئيس
للجامعة وبعض درجات الشرف الأكاديمية، إلى جانب صداقة واحترام عدد كبير من زملائه
وتلاميذه (بينهم «هيربرت ماركيوز»)، إلا أنَّ ذلك سيوضح لنا جانبًا من سذاجة «سارتر»
السياسية، «سارتر» الذي لم يعِ درس «هيدجر»، «سارتر» لم يقرأ «هيدجر» بالكامل حقيقة،
إلا عام ۱۹۳۹م عندما أصبح اسم الفيلسوف مرادفًا للنظام النازي، ولكن انغماسه في فكر
«هيدجر» كان — بعبارته — «منجزًا». «سارتر» اعترف في مذكراته: «أنَّ إيمان «هيدجر»
بالسياسة كالتزام شخصي قد ساعده على أن يتولَّى مصيره كفرنسي في فرنسا
الأربعينيات».
٣١
وجودية ما بعد الحرب: «سارتر»، و«ميرلوبونتي»، والشيوعية
كل ما هنا جديد … كل شيء لا بد أن يبدأ من جديد، وبالنسبة لي أيضًا تبدأ
حياة جديدة … حياة غريبة …
سارتر، «الكلمات»
سقوط فرنسا في اثنين وعشرين يومًا في مايو ويونيو (١٩٤٠م)، «هزيمتها الغريبة» على
حدِّ تعبير شاهد وهو المؤرِّخ «مارك بلوخ» Marc
Bloch، وما تلا ذلك من سنوات الاحتلال الألماني الكئيبة،
والمقاومة، ثم التحرُّر والانتصار … كل ذلك أعاد إلى الطبقة المثقفة في الدولة
بعض الطاقات التي كانت الحرب العالمية الأولى قد بدَّدتها، ولكنها كانت طاقة مريرة
ويائسة.
الثقافة الفكرية في فرنسا بعد عام ١٩٤٥م كانت ثقافةً واقعة تحت ضغط، فإذا كانت
«مدرسة فرانكفورت» تعتبر ألمانيا «فيمر» رمزًا لكل ما هو خطأ في الحضارة الغربية،
فإن «سارتر» وخلفاءَه جعلوا «فیشي» وسيلتهم لاختبار نقد الغرب الحديث. المجتمع
الحديث أخذ شكل شبكة غامضة من الخونة والمتآمرين، مع سوء النية الكامن في جميع
المواقف. كانت الحرب قد غيَّرت التوازن السياسي في الحياة الفكرية والثقافية بشكل
دائم، ومعه الأساس الأيديولوجي المضاد للحداثة. مثقفو اليمين في «فیشي» ساءت
سمعتُهم وفقدوا الثقة فيهم بسبب تعاونهم مع المحتلين الألمان. بعضهم فرَّ إلى الخارج
مثل «لوي فيرديناند سيلين»
L. F. Céline، وبعضهم
اتُّهم بالخيانة وحُوكم وأُدِين؛ مثل «تشارل مورا»
Charles
Murras، و«روبرت براز يللاخ»
Robert Brasillach … و«لاروشیل» انتحر.
٣٢ الكُتَّاب والنقَّاد الذين كانوا يريدون مواصلةَ هجومهم على الرأسمالية
والمجتمع الصناعي والديمقراطية انضمُّوا لليسار؛ حيث كانت الثورة الفرنسية في اليمين
قد فقدت كلَّ الاحترام.
الغزو الألماني والاحتلال فرضَا كذلك خيارات سياسية بين الكتَّاب والدارسين كان قد
سبق أن تجنَّبوها، وكان «سارتر» بين هؤلاء، وكما شرح بعد ذلك بوقت طويل: «لقد شطرت
الحرب حياتي جزأين بالفعل». خلال فترة خدمته القصيرة بالجيش واعتقاله في ألمانيا،
ثم عمله صحفيًّا في صفوف المقاومة اتصل «سارتر» بعالم العمل والهدف المباشر لأوَّل
مرة. إحساسه البارد بالعزلة زايله أخيرًا. «أدركت فجأة أنني كائن اجتماعي»، هكذا
كتب بعد سنوات. «أصبحت مدركًا لوزن العالم، وبروابطي بالآخرين وروابطهم
بي»،
٣٣ وبالرغم من أنَّ دور «سارتر» في النهضة الفرنسية لم يكن خطرًا ولا
مهمًّا كما حاول أن يدَّعيَ فيما بعد، إلا أنه فرض تغيُّرًا في رؤاه
الفلسفية.
٣٤ علَّمته التجربة كيف يمكن أن يعمل الناس العاديون معًا نحو هدف مشترك،
وبعد الحرب قرَّر أن يتمسَّك بهذا الاكتشاف. فجأةً، أدرك أنَّ الآخرين ليسوا هم
«الجحيم»، وإنما هم نوع من الإنقاذ أو الخلاص. حينذاك أعلن دورًا جديدًا للكاتب
والمثقَّف لفترة ما بعد الحرب. كان شعار «الفن للفن» ينطوي على تناقض: «حيث إنَّ
الكاتب لا يمكنه أن يهرب من زمنه، فنحن نريده أن يتقبَّله تمامًا … الكاتب موجود في
عصره.»
٣٥
بدأ «سارتر» يتلمَّس طريقه نحو تعريف للحرية الوجودية يمكِّنه من إعادة التكامل مع
حياة البشر الآخرين «لأنني عندما أختار نفسي فإنني أختار الإنسان». في أكتوبر
١٩٤٥م عاد «سارتر» إلى باريس الكئيبة الرمادية، سعيدًا بهزيمة الفاشية، وبعد رحلته
الأولى لأمريكا التي بهرته مؤقتًا بما فيها من حيوية ووفرة. كان عليه أن يُلقيَ محاضرة بعنوان «الوجودية فلسفة إنسانية».
عندما وصل إلى قاعة المحاضرات كان الزحام شديدًا ولا مكان فيه لقدم، واستطاع أن
يشقَّ طريقه إلى الداخل بصعوبة بالغة، وبدأت المحاضرة متأخرة ساعة عن موعدها. ظل
يتكلَّم لمدة ساعتين دون أوراق ودون توقُّف أمام ذلك الجمع الحاشد، مدافعًا عن
أعماله السابقة، معلنًا أنَّ الوجودية لم تكن عقيدةَ يأس، وإنما «عقيدة مبنية على
التفاؤل والفعل».
الإنسان يبدأ بكونه موجودًا، يجد نفسه، يظهر في العالم وبعد ذلك يُعرِّف
نفسه. وإذا كان الإنسان لا يمكن تعريفه كما يتصوَّر الوجودي، فذلك لأنه ليس
شيئًا بداية. سيوجد فقط فيما بعد، وسيكون كما جعل نفسه.
الإنسان لا يمكن أن يظلَّ قانعًا بالأفكار الزائفة عن إله وعن الطبيعة البشرية.
والوجودية كما قال «سارتر»، ستكون القصيدة الجديدة «لأوروبي ١٩٤٥م»، تعلمه ما كان
يعرفه بالفعل، وهو «أنه لا بد من أن يُلزم نفسه بحياته … التي لا شيء بعدها»، كانت
المحاضرة سببًا في ذيوع شهرته على الفور.
٣٦ وبين عشية وضحاها أصبحت عباراته مأثورات تتصدَّر الصفحات الأولى، مثل
«الإنسان محكوم عليه بالحرية»، و«نحن وحدنا بلا أعذار». وانتقل «سارتر» إلى ذروة
فكرية لم يَصِل إليها أحدٌ منذ «برجسون»، وأصبح زعيمًا ومرشدًا لجيل جديد ليس لديه
يقين، يشكُّ في توجُّه فرنسا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ويساوره القلق
بشأن مستقبل يسيطر عليه الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وبالنسبة للمعجبين
والمريدين الجدد، كانت أفكار «سارتر» لا تَعِدُ بأقل من فلسفة إنسانية ليبرالية
جديدة، نظيفة من نفاق ورياء القرن التاسع عشر. ومع «سيمون دي بوفوار»
Simone de Beauvoir، و«موريس ميرلوبونتي»
Maurice Merleau-Ponty أسَّس «سارتر» مجلة
سياسية أدبية جديدة بعنوان «الأزمنة الحديثة»
Les Temps
Modernes، كان شعارها «الإنسان وحدة كلية: ملتزم تمامًا، حرٌّ تمامًا»، وواجب الكاتب في العصر
الحديث، عصر ما بعد الصناعة، هو أن يدافع عن هذه
الحرية ضدَّ أعدائها من كل المذاهب السياسية.
٣٧ وفي افتتاحيته، كان «سارتر» يوضِّح أنَّ مشروعه الأوسع يظلُّ هو الإطاحة
بالبرجوازية، وشرح كيف أنَّ السمة الرئيسية للحضارة الحديثة هي إيمانها الزائف بقوة
العقل التحليلي. منذ عصر التنوير والقرن التاسع عشر، «يظلُّ التوجُّه التحليلي للعقل
هو المبدأ الرسمي للديمقراطية البرجوازية». ومثل «مدرسة فرانكفورت»، كان «سارتر»
يرى أنَّ تلك العقلانية أداةَ تدمير لا تُقاوم؛ إذ تحت هجوم العقل، «تختفي الكليات»
العضوية والاجتماعية، ويتقلَّص المجتمع ليصبح «مجموع الأفراد المكونين له»، يختفي
شعور الإنسان بالتضامن ويظلُّ فردًا وحيدًا «حبة بازلاء واحدة في قرن بازلاء!» مع
حزمة من الحقوق والمسئوليات المجرَّدة.
هذه الفردانية الزائفة، مثل فكرة المجتمع المدني كلها، مبنية على افتراض أنَّ
الطبيعة الإنسانية لها شخصيةٌ عامة ذات صفات عامة يمكن تحديدها (الرغبة في تحسين
النفس مثلًا، أو الميل الطبيعي للسلوك كحيوان متحضِّر، أن يحب المرء أسرته، وأن يُبغض
سفاح القربى والقتل). المفهوم الليبرالي البرجوازي للحرية «يُعلن هوية الطبيعة
الإنسانية من خلال كافة المواقف المتباينة»، التي تروق كلها «للعقل التحليلي الذي
يتصوَّر الأفراد خارج وجودهم أو ظروفهم الفعلية … ويخدع نفسه بخصوص تضامنهم».
المشكلة مع المجتمع الحديث كما حذَّر «سارتر»، هي أنه يريد أن يكون كل واحد مثل
الآخرين … أي أن يكون برجوازيًّا. يقول «سارتر»: «الواقع أنَّ المرء يصبح برجوازيًّا
باختياره، مرة وإلى الأبد، الرؤية التحليلية للعالم، والتي تحاول أن تفرض نفسها
على كل إنسان «سواء كان رأسماليًّا أو شيوعيًّا، شرقيًّا أو غربيًّا، أسود أو
أبيض».»
٣٨ وبدلًا من ذلك، فإن الإنسان في العصر ما بعد الحداثي يجب أن يتطلَّع
إلى فردانية حقيقية، أو نتاج ما يسمِّيه «سارتر» بموقفه الكلي. وكما أعلن في واحد
من بياناته الفاجعة أنَّ «الإنسان مجرَّد موقف»، الإنسان خلاصة تجاربه وميوله ورغباته
في لحظة ما. «نحن مقتنعون بأن التناول التحليلي قد مات» كما كتب، «وأنَّ دوره الوحيد
اليوم هو أن يربك الضمير الثوري، ويعزل البشر لصالح الطبقات المتميزة»، الإنسان
«لا بد من أن يحرِّر نفسه تمامًا، أي أن يصبح «آخر»؛ وذلك بالعمل طبقًا لقانونه
البيولوجي بالإضافة إلى ظروفه الاقتصادية، وحسب مركباته الجنسية وواقعه السياسي».
المثقفون لهم دور أساسي في إعادة إيقاظ اكتمال وجود الإنسان و«الغاية البعيدة التي
نحددها لأنفسنا»، والتي هي التحرُّر الكامل من الواقع البرجوازي. ومثل «مارکیوز»،
اقترح «سارتر» دورًا إيجابيًّا للناقد الحديث إلى جانب دور سلبي. و«بالانحياز» في
الصراعات السياسية الحالية، فإن الكُتَّاب والمثقَّفين يموضعون أنفسهم في «موقعهم»
الكلي والخاص. إنهم يحوِّلون التفكير والتأمُّل إلى عمل وقوة. وبجعل الناس «واعين
بالقيم الخالدة المتضمنة في هذه المناظرات السياسية والاجتماعية، فإنهم في النهاية
يحققون هدفهم في الحياة، إنهم يبلغون الخلود.» ولفترة قصيرة، كان «سارتر» يبدو على
وشك الهبوط إلى أرض مجهولة، نحو صيغة جديدة من الفلسفة الإنسانية، ولكن رغبته في
تفادي الوقوع في أحضان البرجوازية الزائفة في عام ١٩٥٠م، دفعَته بدل ذلك إلى أحضان
الحزب الشيوعي مباشرة. وبعد ذلك، كان يزعم هو وآخرون أنَّ صدق الماركسية نفسها هو
الذي حضَّ على هذا التغيُّر الكامل والمفاجئ. كان «سارتر» يهزُّ كتفيه ويقول: «ليس
ذنبي أن تكون الحقيقة ماركسية».
٣٩ إلا أنَّ «سارتر» نفسه لم يقرأ «مارکس» بدقة أبدًا. صورته عن الشيوعية
لا علاقة كبيرة لها بالتحرُّر عن طريق الصراع الطبقي كما هي بنموذج بطولي شخصي،
وبالرغم من أنَّ محاضرة «سارتر» الشهيرة قد أوحَت بردٍّ غاضب من معلِّمه السابق
«هيدجر» الذي اتَّهمه بأنه يخفِّف ويبسِّط فلسفة الوجود للجماهير، إلا أنَّ نفوذ
«سارتر» لم يُزايله. وبدلًا من ذلك فإن شريك «سارتر» الشاب «موريس ميرلو بونتي» أوضح
له كيف أنَّ الالتزام بالشيوعية يمكن أن يفيَ بالشروط التي كان «هيدجر» قد وضعها
للالتزام السياسي، كشكل من أشكال الحرية الروحية.
كان «ميرلوبونتي» قد تجوَّل في ساحة الفكر في الثلاثينيات من «هوسرل» و«نيتشة»
إلى «كوجييف» و«هيدجر» ولكن دون نتيجة تُذكَر، ثم التقى ﺑ «سارتر» أثناء الحرب.
«ميرلوبونتي» كريم المحتِد، انضمَّ إلى دائرة الضفَّة اليسرى البوهيمية، دائرة
«سارتر»، وأصبح ذراعه الفكرية اليمنى، وعمل محرِّرًا مشاركًا له في «الأزمنة
الحديثة». كتابه «الإنسانية والرعب» (١٩٤٨م) حدَّد الطريق نحو الدمج بعيد الاحتمال
بین الستالينية وإنسانية «سارتر» الوجودية. كانت النقطة الرئيسية في ذلك بسيطة على
نحو خادع: ليس من الممكن التنبُّوء بالمستقبل ولا حتى بمساعدة الماركسية، ما دام
المستقبل هو البناء اللحظي المكوَّن من قرارات وأفعال فردية، إلا أنه في أوقات معينة
عندما «يتفتَّت الأساس التقليدي لدولة أو مجتمع ما، إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلا
بد من أن يُعيد الإنسان بناء العلاقات الإنسانية بنفسه»، وسيكون مضطرًّا للاختبار بين
أمرين كلاهما متطرِّف. كان «میرلوبونتي» يرى أنَّ سياسة الحرب الباردة أصبحت موقفًا
نهائيًّا تقليديًّا يتطلَّب «قرارات أساسية من بشر يخاطرون مخاطرة كاملة». السياسة في
الحالتين نوع من المقامرة، عندما تفشل سياسة أو أيديولوجية ما، فإن أصحابها
يُحقَّرون وتسوء سمعتُهم، وإذا نجحت ينسى الناسُ كلَّ ما استخدم من عنف وقسوة
لتنفيذها، مثل احتفال فرنسا بيوم الباستيل واعتباره من الأعياد الوطنية. وحيث إنَّ
«العنف هو الأصل المشترك في جميع الأنظمة»، وإنَّ «الثورات الناجحة مجتمعة لم تسفك
دماء بقدر ما سفكت الإمبراطوريات … فلا بد من أن نفضِّل العنف الثوري لأن له
مستقبلًا إنسانيًّا». كان عنف وفظائع الستالينية في الحقيقة شكلًا من العنف والإرهاب
الأكثر شدة ووضوحًا و«أمانة» من العنف والإرهاب اللذَين قد تنطوي عليهما الرأسمالية
الليبرالية. «إنَّ نقاء المبادئ «الليبرالية» لا يسمح بالعنف فقط، وإنما قد
يتطلَّبه»، كما كان يقول «ميرلوبونتي». ومن هنا «فإن نظامًا يعترف بما ينطوي عليه من
عنف لا بد أن يكون بداخله إنسانية حقيقية أكثر» من تلك الموجودة في الغرب
البرجوازي، والذي يحاول أن يُخفيَ ذلك بدعاوی حكم القانون، وبمديحه لعنف الماركسية
«الإنساني»، كان «ميرلوبونتي» يقول شيئًا أبعد من «الغاية تبرِّر الوسيلة». فقد كان
يعدُّ المسرح للتطوُّر التالي في التشاؤمية الثقافية الفرنسية بما في ذلك تشاؤمية
«سارتر». الأفراد والمؤسسات والأنظمة السياسية التي تتجاهل أو تخرق المبادئ
الغربية المتحضرة، يمكنها بهذا الفعل تحديدًا أن تزعم تفوُّقَها على نظرائها
الغربيِّين.
المبدأ مستمدٌّ تمامًا من عدمية «نيتشة» الحيوية؛ حيث إنَّ غياب المعايير الأخلاقية
يعتبر علامةً على الصحة الروحية، وهو يعبِّر أيضًا عن إيمان «هيدجر» بأن دور الفرد
في اختيار القيم هو المهم بالفعل وليس القيم في حد ذاتها، ولا كيف ستكون نتائجها
على غيره من البشر.
خرج «سارتر» من الحرب رافضًا للشيوعية بشدة، بينما رفض الصحفيون الشيوعيون
الوجودية واعتبروها أيديولوجية برجوازية، كما خصَّصوا مساحات للهجوم العنيف على
مجموعة «الأزمنة الحديثة». في عام ١٩٤٨م، أسَّس «سارتر»: «التجمُّع الديمقراطي
الثوري»
RPR لتنطلق قافلة جديدة من التقدميِّين
والمفكِّرين الأوروبيِّين، بعيدًا عن صراعات الحرب الباردة، نحو «حرية جديدة، تدعمها
العدالة الاجتماعية»، لكن «سارتر» بدأ يتحرَّك نحو نقيض النقيض، موجِّهًا ضرباته
العنيفة إلى مؤسسات الرأسمالية الحديثة، متفاديًا أيَّ نقد للاتحاد السوفيتي. وفي
عام ١٩٤٩م كان يرفض الظهور في اجتماعات التجمُّع الديمقراطي الثوري
RPR والتي كان يحضرها معارضون بارزون
للشيوعية،
٤٠ واشتراكيون
٤١ متحرِّرون مثل «سيدني هوك»
Sidney
Hook، وكان الخطر الحقيقي على أوروبا، كما يقول، هو «الأمركة»
Americanization كمرحلة أخيرة للقيم
البرجوازية الغربية، وليس الهيمنة السوفيتية، ثم نشر مقالًا بعنوان «الشيوعية
والسلام» في عام ۱۹٥۲م کشف فيه عن قبوله لمبدأ «ميرلوبونتي»، بأن الصدق الأخلاقي
يتطلَّب «ضرورة أن ننفِّذ سياسة الحزب الشيوعي».
٤٢
ومع بداية عام ۱۹٥۲م أصبحت «الأزمنة الحديثة» بالفعل مطبوعة الحزب، وكان الذين
يردِّدون التقارير عن معسكرات الاعتقال والفظائع السوفيتية مثل «آرثر كوستلر»
يوسمون بالكذب، وعندما كان «سارتر» و«ميرلوبونتي» يواجَهان بالأدلة الدامغة على صدق
التقارير، كانا يدافعان عن الاتحاد السوفيتي بالقول إنَّ المحاولات السوفيتية
لإخفاء وجود ذلك، دليل على أنهم على الأقل خجلون من الاضطرار للجوء إلى الشرطة
السرية والسجون، بينما يعتبر ذلك جزءًا لا يتجزَّأ، ومفضوحًا من تكوين النظام في
الغرب.
على أنَّ تأييد «سارتر» للستالينية لم يكن نتيجة إعجاب بالاتحاد السوفيتي بقدر ما
كان كراهيةً لخصومه الغربيِّين وبخاصة الولايات المتحدة، وبالرغم من تقديمه دلائل
كثيرة على إعجابه بالنظام السوفيتي عندما أعلن مثلًا بعد رحلة إلى روسيا عام ١٩٥٤م
أنَّ «هناك حرية كاملة للنقد داخل الاتحاد السوفيتي». والآن، أصبحت أمريكا هدفًا
لكل النقد والشجب العنيف الذي يوجِّهه المثقفون للمجتمع الأوروبي البرجوازي. وكان
يلخِّص ما أطلق عليه واحد من دائرة «سارتر» وهو «هنري لوفيفر»
Henri Lefebvre: «المجتمع البيروقراطي ذو
الاستهلاك المحكوم»، كما لخَّص في مقال افتتاحي في جريدة «إسبري»
Esprit «الموالية للشيوعية»، موقف «سارتر»
وغيره من الشيوعيِّين: «ماذا يمكن أن نتوقَّع من حضارة تسخر من التقاليد الروحانية
الغربية وتهزأ بها، وتجرُّ البشرية نحو وجود أفقي مجزوز الاتساع والعمق؟»
٤٣ حتى عندما تخاصم «سارتر» مع «موسكو» علنًا بعد ذلك بأربع سنوات، كان
عند رأيه بأن الغرب الصناعي الحديث لم يكن لديه ما يقدِّمه كبديل. وعندما كان يراجع
أفكاره في عام ١٩٧٥م كان يقول: «أصبحت أعتقد أنَّ الشيوعيِّين كانوا على حقٍّ أثناء
سنوات الحرب الباردة. فالاتحاد السوفيتي — رغم الأخطاء التي نعرف أنه قد ارتكبها —
لم يكن في موقف يمكن أن يعتبر موقفه وحده ضدَّ أمريكا … لذا كان علينا أن نمضيَ مع ما
يقوله الشيوعيون؛ لأن اعتراضاتهم على أمريكا بشكل عام، كانت هي نفس
اعتراضاتنا.»
٤٤ ولأن «الأخطاء» السوفيتية (بما فيها قتل الملايين من المواطنين
السوفيت) قد دمَّرت فرصتَه أن يكون مأوًى للأفكار الوجودية، كان «سارتر» مضطرًّا
للاضطلاع بدور القوة الماحقة لأمريكا وحده. نبَّه إلى أنَّ الإمبراطورية الأمريكية
كانت تتجمَّع بفضل سيطرتها على الإعلام العالمي والشبكة الإلكترونية الكونية و«النظام
الاقتصادي العالمي». هذا «العالم الواحد» كما وصفه «سارتر» كان بالفعل هو
كابوس الهيمنة الثقافية والسياسية الأمريكية، الذي يمكِّن ستة في المائة من سكان
العالم من السيطرة على أربعة وتسعين في المائة.
٤٥ وبدأ البحث الجاد عن بدائل إنسانية، اتجه نحو الدول الماركسية الأخرى
ومنها يوغوسلافيا «تيتو»، وكوبا «کاسترو»، وفيتنام-الشمالية «هوشي منه» (معلنًا
في عام ١٩٦٧م أنَّ «الفتيناميِّين يقاتلون نيابةً عن كل البشر، وأن الأمريكيِّين يقاتلون
ضدَّ كلِّ البشر»).
وبعد ذلك صين «ماو».
٤٦ كما تبنَّى الحملات الأخرى المناوئة للغرب. قاد جماعة من المثقَّفين
اليساريِّين احتجاجًا على حرب فرنسا في الجزائر (١٩٥٤–١٩٥٦م)، وتبنَّى قضية الثوَّار
الماركسيِّين، والتي كان من نتائجها صداقته مع «فرانز فانون».
٤٧⋆
ثم بدأ طلاب الجامعات الفرنسية في «باریس» وغيرها إضراباتٍ واسعةً في مايو (١٩٦٨م)،
ونظَّموا سلسلةً من المظاهرات ضدَّ الحكومة. وعندما انضمَّ إليهم عمَّال صناعة
السيارات، بدَت إمكانية حقيقية لاجتياحِ الإضراب العام للمؤسسة البرجوازية، على
الأقل بالنسبة لمثقفي اليسار الفرنسي.
كان «سارتر» في حالة من البهجة، ذهب ليتحدَّث أمام الطلاب المضربين الذين كانوا
يقدِّرون ويوقِّرون مؤلِّف «لا مخرج»، و«الوجود والعدم»، و«نقد العقل الجدلي»،
والذي كان الآن في الستين من العمر. حتى شعاراتهم وملصقاتهم كانت تبدو صدًى لفلسفته
بما فيها ذلك الذي كان يقول: «لا نريد شيئًا له علاقة بعالم لا يقايض الموت جوعًا
فيه إلا بالضجر.» وعندما تحوَّلت المظاهرات إلى أعمال شغب، تحدَّث «سارتر» في
الإذاعة الوطنية دفاعًا عن الطلاب. «الطلاب يمثِّلون القوة الوحيدة النقيض للمؤسسة
في أقطارنا الغربية الرخوة … هؤلاء الشبَّان يرفضون أن يشاركونا جبننا وتعبنا
وبلادتنا وخنوعنا»، الطلاب «أدركوا أنَّ المجتمع البرجوازي القديم محكوم عليه
بالفناء، وأنه كان يحمي نفسه فقط بهراوات الشرطة»،
٤٨ كما كتب بعد ذلك. ولسوء الحظ … انقشعت الأزمة، وانتهت أعمال الشغب. ألغى عمال مصانع
«رينو» إضرابهم، وعاد الطلبة إلى مقاعد الدرس، والمجتمع «المحكوم
عليه بالفناء» أثبت قدرته المطاطية للعودة إلى ما كان عليه من قبل … لكي يستمر. هذه
القدرة المطاطية حيَّرت «سارتر». بعد ذلك كان يقول: «بقيتُ عامين بعد أحداث مايو
١٩٦٨م وأنا أحاول أن أفهم ما حدث.» وفي النهاية، قرَّر أنَّ الثورة لم تفشل في
الحقيقة. ما كان الطلاب الفرنسيون يريدونه، لم يكن السلطة بالمعنى الثوري
الكلاسيكي في ۱۷۸۹م، ولا في ۱۹۱۷م، وإنما كانوا يريدون القضاء على السلطة ذاتها،
وبالمصطلحات الحديثة كان ذلك يعني إنهاء جميع أشكال القيود والعلاقات الاجتماعية-الاقتصادية
البرجوازية. «بالنسبة لهم وبالنسبة لنا، البناء الاجتماعي نفسه هو الذي يجب أن يسقط؛
حيث إنه هو الذي يسمح بممارسة السلطة». وهكذا، كما روى «سارتر» — في
حوار مع نفسه — عام ١٩٧٥م، رفض أن يكون متشائمًا. كان متأكِّدًا من أنَّ ثورة أكبر
«تسقط فيها كل سلطة، لأن أيَّ فرد سيملك زمام نفسه بالكامل»، وأنَّ بداية جديدة —
أكثر عمقًا وأهمية مما كان هو نفسه أو «هيدجر» أو أي شخص آخر يتوقَّعه — آتيةٌ لا ريب
فيها.
٤٩
«ميشيل فوكو»: العقل والسلطة، ونهاية الإنسان
كان حرًّا بمعنى أنه لم يكن يبحث عن أيِّ مساعدة من داخل نفسه أو من خارجها
ضدَّ حريته الخاصة. لقد انحنى فوق حافة الهاوية فأصابه المنظر بدوار …
«ﺟ. ب. سارتر» – «بودلير»
كانت جماعة اليسار البروليتاري واحدةً من الجماعات الطلابية الراديكالية في
فرنسا، والتي جذبَت اهتمام «سارتر». كانت خلية ثورية «ماوية»، كما أعلنت عن نفسها،
وعندما حاولت الحكومة أن تعطِّل جريدتهم «قضية الشعب»، (وكانت تحمل صورةً كبيرة
لماوتسي تونج في أعلى الصفحة الأولى)، انحاز «سارتر» إلى قضيتهم بحماس. أصبح رئيس
التحرير الشرفي للجريدة، وبدأ بتوزيع نُسَخ منها على نواصي شوارع «باريس»، وهو محاط
بمراسلي ومصوِّري الصحافة والتليفزيون. كان معجبًا بشعارهم «العنف، العقوبة،
الأخلاق». كان الماويون الفرنسيون يقصدون «بالمجتمع الأخلاقي»: «المجتمع الذي سوف
يستطيع فيه الإنسان الذي لم يَعُد مغتربًا، أن يجد نفسه في علاقته الحقيقية
بالجماعة».
٥٠
جذب «الماويون» أيضًا اهتمامَ مفكِّرٍ ثوريٍّ أصغر سنًّا من «سارتر»، وهو «ميشيل
فوکو»
Michel Foucault برأسه الحليق، ونظارته الطبية
التي بلا إطار، والسترة الجلدية، والقمصان الجرسية البيضاء ذات القبَّة الضيقة. كان
يبدو شكل «فوكو» غريبًا إلى جوار «الماويين» ذوي الشعور الطويلة، أو «سارتر» القصير
البدين بثيابه الرثَّة. كانت أحداث ١٩٦٨م بالنسبة ﻟ «فوکو»، كما هي بالنسبة ﻟ
«سارتر»، «صحوة» سياسية، ولكن تصوُّره لبداية جديدة للإنسان الحديث، كان أكثر
راديكالية و«نيتشوية».
«فوکو» لم يقترح ما هو أقل من التغيير الكامل لمفاهيم العقل واللاعقل، الحقيقة
والزيف، حتى الكائن البشري ككائن روحاني وفكري، كان يعتقد أنَّ — حتى — صيغة «سارتر»
للإنسان كملتزم وحرٍّ تمامًا لا تختلف عن الصيغة البرجوازية للفرد «اختراع حديث
العهد»، وكلاهما وهم، وكما كتب قبل عامين من انفجار ١٩٦٨م، فإن الصورة الغربية
للإنسان بكاملها سوف تنمحي في النهاية «مثل وجه مرسوم بالرمال على شاطئ
البحر».
٥١ في عام ١٩٤٥م، وبينما كان «سارتر» يُلقي محاضرته «الوجودية فلسفة
إنسانية»، كان «ميشيل فوكوه — ۱۹ سنة — قد وصل إلى «ليسيه هنري الرابع» ذات السمعة
الممتازة، استعدادًا للالتحاق بالجامعة في «باریس».» دراسته في الليسية وفي الجامعة
تصادفت مع ذيوع شهرة «سارتر» وبلوغها ذروة عالية. كان معلِّمه «جان هيبوليت»
Jean Hyppolite من أشدِّ المتحمِّسين ﻟ «سارتر». وكان زميلاه في الصف «جیل دو لوز»
Gilles Deleuze، و«ميشيل تورنييه»
Michel Tournier قد اقتنعا بمحاضرة «سارتر» التي كانت بدايةَ عهد فكري جديد. ولكن «فوکو» نفسه كان هو
الرسالة الأكثر صرامة وقتامة، رسالة أسلاف «سارتر» الألمان.
في عام ١٩٤٧م كتب «مارتن هيدجر» (وكان العار والخزي قد لحقا به آنذاك)، هجومًا
شديد القسوة على إنسانية «سارتر» الوجودية، متَّهمًا إياها بأنها لا تكفي لمواجهة
أزمة الإنسان الحديث، الواقع في قبضة التكنولوجيا والثقافة الجماهيرية. وكان
«هيدجر» يُعلن أنَّ جميع أشكال النزعة الإنسانية تؤدِّي حتمًا إلى الميتافيزيقا؛ حيث
إنها تفترض وجود كائن بشري ذي طبيعة عقلانية محدَّدة. وبدلًا من تحرير الإنسان، فإن
النظرة المبنية على النزعة الإنسانية إنما تخفِّض إمكانيات الكائن اللامحدودة،
وتحوِّله إلى مخلوق العصر الحديث البليد المعوَّق. كان الوجه الحقيقي لهذا الإنسان
البليد المعوَّق، في نظر «فوكو»، قد ظهر في مسرحية «صمويل بيكيت» الشهيرة: «في
انتظار جودو»، التي قُدِّمت لأول مرة في «باريس» عام ١٩٥٣م، ووضعت بدايةً لمسرح
ما بعد الحرب. كانت شخصيات «بيكيت» نماذجَ لإنسان الحداثة الأخير، كما وصفه كلٌّ من
«نيتشة» و«هيدجر»، الإنسان الذي ينتظر ميتافيزقا الوجود: «جودو»، أو God الذي لن يأتيَ أبدًا. وفي الوقت نفسه يجدون
أنفسهم دون شيء يفعلونه أو يقولونه، ويُخفون قلقهم في تشوُّش ولغو لا معنًى له،
ويتمنَّون طوال الوقت أن ينكشف لهم لغزُ الحياة، ولكن دون طائل.
بعد ذلك سيعترف «فوكو» بأن المسرحية كانت كشفًا ملهمًا له، أدَّى به إلى قطيعة مع
مشهد ثقافي فرنسي كان يبدو في ذلك الوقت محدودًا «بأفق يتكوَّن من الماركسية
والوجودية والظاهراتية
٥٢⋆ الألمانية».
٥٣ وقد أوحى له ذلك بأن يتحرَّك في اتجاه فكري مختلف، رافضًا «سارتر»،
ليس لأنه كان مع الستالينية أو معارضًا للغرب، وإنما لأن فلسفته كانت ما تزال تحتوي
على ذلك الافتراض المفلس عن الإنسان كموضوع لاحترام الذات. وسوف يؤكِّد «فوکو» أنَّ
الصورة الغربية عن الإنسان «لیست افتراضًا يدافع عنه، وإنما هي نتاج عملیات
اجتماعية وتاريخية»، أو بمعنًى آخر نتاج الحضارة الرأسمالية.
کتاب «فوكو»: «نظام الأشياء» (١٩٦٦م) وضع صيغته للتشاؤمية في هيئة مقال تاريخي.
الإنسان الغربي، باحترامه لذاته ولطبيعته الأخلاقية الفطرية هو الإنتاج المتميز
لما يسمِّيه «فوکو» ﺑ «العصر الكلاسيكي»: القرن السابع عشر والتنوير، وكما كان
الأمر عند «مدرسة فرانكفورت» (التي سيُبادلها فوكو اهتمامًا وتقاربًا فيما بعد)،
يصبح العقل التنويري أداةً لا تعرف الرحمة لتشريح الحياة وتحليلها، وتدمير ما صنعته
في آخر الأمر، وهذا يتضمَّن تاريخه عن نفسه «كتاريخ للإنسان»، أو بمعنى آخر، تاريخ
المجتمع المدني.
اهتمام القرن التاسع عشر بالتاريخ وافتتانه البالغ به، كما يتمثَّل في شخصيات مثل
«هيجل»، و«رانکه» Ranke، و«بورکهارت»، كشف عن أنَّ كلَّ الأنشطة الإنسانية — العمل، الفن، السياسة، حتى التفكير
والكلام والسياسة — هي مجرَّد مراحل متوالية في عملية زمنية مستمرة لا سيطرة للأفراد
عليها. البحث الغربي التاريخي عن الأصول يبيِّن نسبيةَ مفاهيمِه وقِيَمِه: «لا شيء من
المضامين التي تمَّ
تحليلها (بواسطة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجیا) يمكن أن يظلَّ
مستقرًّا في ذاته أو أن يتفادى حركة التاريخ»، كما يقول «فوكو».
كما أعلن «فوكو» أنَّ «التاريخ يمثِّل إذن الحدود الكرونولوجية
٥٤⋆ والجغرافية» للأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وغيرهما من «علوم الإنسان»،
ولكن التاريخ أيضًا يُحيطها «بحدٍّ يحطِّم من البداية زعمها بسريان مفعولها في داخل
عنصر العمومية»، وبكلمات أخرى فإن التاريخَ كلَّه
تاريخ
نيتشوي، الاندفاع التاريخاني
historicist يدمِّر أيَّ مفهوم عن الوضع المتميِّز
للإنسان الغربي، بالكشف عن النقاط الزمنية التي بدأت عندها كلُّ افتراضاته ومعتقداته
وقيمه، وأين ستنتهي ضمنًا. وينتهي «فوكو» إلى أنَّ الكائن البشري لم يَعُد له أيُّ
تاريخ، أو بالأحرى فإنه يجد نفسه منذ أن يتكلَّم ويعمل ويعيش قد أصبح متداخلًا في
نسيج وجوده الخاص مع أكثر من تاريخ، لا هي تابعة له ولا متجانسة معه.
وعند «فوكو»، يجد الفرد نفسه معرَّضًا لشكل جديد من الاغتراب، أعمق مما كان
يتخيَّل «مارکس» أو «مدرسة فرانكفورت»، إنه مغترب من اللحظة الأولى التي يدخل فيها
أيَّ علاقة أو بنية مؤسَّسية يمكن تحليلها
بمعنی تاریخي، بما في ذلك معرفته بذاته. أن تكون جزءًا من التاريخ عند «فوکو»، يعني
أن تكون واقعًا في فخِّ «محدودية» مصطنعة (وهي نقطة كان قد أدركها كلٌّ من أفلاطون
والقديس أوغسطين)؛ حيث إنَّ «كلَّ معرفةٍ ذات جذور ممتدة في حياة ومجتمع ولغة، لها
تاريخ»، فإن كلَّ ما نعرفه أو نفعله جزءٌ من ذلك الفخِّ نفسه. وبدلًا من ذلك، يرى
«فوكو» أنَّ الإنسان عليه أن يبحث عن الحرية وراء صورته ككائن عقلاني، ما دام ذلك
من «صنع» نفس البِنَى الكلية التي من المفترض أن يهرب منها الشخص.
كتب: «غريب جدًّا ألَّا يكون الإنسان أكثر من صدع في نظام الأشياء …
٥٥ ومن المريح جدًّا والباعث على السلوى الاعتقاد بأن الإنسان اختراع جديد
فقط، شكل لم يكمل قرنَين من العمر … تغضُّن جديد … وأنه سوف يختفي مرة
أخرى.»
٥٦ هذا الاستنتاج أثار انفجاراتٍ غاضبةً من اليسار الوجودي، إلا أنَّ
«فوكو»، وبكل هدوء، كان يدفع الافتراضات الوجودية إلى نهايتها المنطقية: التحرُّر
من الغرب البرجوازي لا بد من أن يتطلَّب أيضًا تحرُّرًا من الناتج الذي يعبِّر عنه …
أيٌّ من الإنسان الغربي نفسه. ومثل «سارتر» والوجوديِّين، كان «فوكو» يعتقد أنَّ الفردَ
الحرَّ ما زال من الممكن أن يعاود الظهورَ بعد سقوط الحداثة الغربية، ولكنه هذه
المرة سيكون مجرَّدًا من إنسانيته الزائفة. وكبديل، اتجه «فوکو» نحو شخصَين من
سيريالية العشرينيات: «جورج باتاي»
George
Bataille، و«آنتونين آرتو»
Antonin Artaud کانا يجمعان بين عدمية «نيتشة» المعادية للأفكار
والمؤسسات التقليدية، وصور الموت والعنف المتضمنة في أشعار «شارل بودلير»
Charles Baudelaire وتلاميذه الرمزيِّين. كانوا ينادون برفض جميع أشكال العقل والأخلاق ويعتبرونها قيودًا
— لا تُحتَمل — على حرية
الفرد الخلَّاقة: السادية، العنف، الجنس … حتى الجنون، كلها لها قيمة مهمة وأساسية
في ذاتها كما يقول «باتاي» و«آرتو»، لأنها تعبيرات صرفة عن غرائز الإنسان الحيوية،
يحاول المجتمع أن يحتويَها ويكبحَها. إعادة تقييم «نيتشة» لكل القيم، كان بالنسبة
لهم، وأخيرًا بالنسبة ﻟ «فوكو»، منهاجًا «للانتهاك» لا نهاية له، وإعلان حرب على
المجتمع من خلال الاحتفاء بالقسوة والانحراف الجنسي. الإنسان النيتشوي الفرنسي
يحوِّل العالم إلى ما يُطلق عليه «آرتو»: «مسرح القسوة». في عام ١٩٧٤م، كتب «آرتو»:
«منذ وقت طويل، لم تَعُد لي سيطرة على عقلي، اللاوعي هو الذي يحكمني بخلجات تأتي من
توتُّرات أعصابي ومن فوران دمي.» العقل اللاواعي يحتفظ بطاقاتنا الحيوية الأكثر
عمقًا كما أدرك «فرويد»، إلا أنَّ تلك الغرائز بالنسبة ﻟ «آرتو» هي في الواقع ذات
الإنسان الحقيقية وليست البدائية أو غير الناضجة. المجرم بالولادة عند «لومبروزو»
هو فعلًا الكائن البشري في أكمل صوره وأكثرها حيوية، حيث تنطلق طاقاته مثل «طعنات
السكين، أو ومضات البرق في سماء مزدحمة». الأفعال التي تصفها الحضارة بالشرِّ
والرداءة هي في الواقع كما يصفها «آرتو» — بنفس الأسلوب النيتشوي — أعلى أشكال
الحياة: «لأن الحياة تتضمن الامتداد، والسُّمك والثقل، والمادة، فإنها كنتيجة مباشرة
لذلك، تتضمَّن أيضًا الشرَّ، وكل ماهو من صلبِ الشرِّ». بطل النيتشويِّين الفرنسيِّين
(أو
بالأحرى: البطل الضد) كان هو «الماركيز دوصاد». تاریخ «دوصاد» في الفظائع الجنسية
والجنون، كان محلَّ حفاوة كنموذج ملحمي لنضال الإنسان ضدَّ قوى الحضارة المعقلنة
والمحدودة.
٥٧ أصبح الافتراض الرئيسي في أشهر أعمال «فوکو» (١٩٦١م) وأكثرها قراءة:
«الجنون والحضارة» هو اعتبار الجنون نوعًا من الحرية. والتفرُّع هنا دالٌّ، ففي الغرب
ما قبل الرأسمالي في العصور الوسطى وعصر النهضة — كما يزعم «فوكو» — كانوا ينظرون
إلى الجنون على أنه جزء من الحالة الإنسانية، بل كان يعتبر تعليقًا ساخرًا على
مزاعم الإنسان وادِّعاءاته بامتلاكه لاستقلاليته وسلطته الذاتية. بعد ذلك، كان العصر
الكلاسيكي يعرف الجنون بأنه عدو العقل، ومن ثَم فهو عدو الإنسانية، مما يستلزم
العزل القاسي والوحشي للمجنون وغيره من المنحرفين في مصحات ومستشفيات. عمليات
«الاحتجاز» والتصنيف والعزل، والاستبعاد لكل ما يبدو غريبًا أو شاذًّا، وبالتالي
خطرًا على النفس العقلانية، كانت من خواص عقل التنوير وكل الحضارة الحديثة في نظر
«فوكو»، وهو يرى أنَّ المجتمع الحديث كله سجن، وأنَّ نزيلَه هو الإنسان الحديث.
البِنَى الهائلة في المجتمع البرجوازي وجميع قيمها: «علاقات الأسرة بالأطفال
المتمركزة حول فكرة السلطة الأبوية، علاقات الذنب-العقاب المتمركزة حول فكرة
العدالة المباشرة، علاقات الجنون-الفوضى المتمركزة حول فكرة النظام الاجتماعي
والأخلاقي» … كل ذلك من صنع القوة الجامحة لعقل المجتمع الغربي الذي يقوم بالتصنيف
والتمييز والعزل.
٥٨ «فوكو» وصل إلى النتيجة نفسها عن العقل التحليلي الغربي مثل أسلافه.
انتشار العقل هو عملية تجميع كل شيء في مكان واحد يحمل بصمته الواضحة. على أنَّ
الانتقادات الموجهة ﻟ «فوكو» لم تُقدَّم في هيئة أبحاث فلسفية مكثَّفة، وإنما جاءت
في هيئة تواريخ أو «جينيالوجيات» نیتشوية كشفت عن الأصول التاريخية ﻟ «قواعد الوجود
المنظَّمة»، واحدًا بعد الآخر. مشروع «فوکو» الفلسفي کان هو ما سبق أن أطلق عليه
«هيدجر» مصطلحَ
abbau التقويض أو الهدم (عملية تفكيك).
تفكيك «فوکو» لم يستثنِ أحدًا، حتى «ماركس» الذي يتضح أنه مجرد «سمكة أخرى في
بحر» الفكر البرجوازي للقرن التاسع عشر. التاريخ عند «فوكو» ينتج، على نحو انعکاسي،
أنماط العقل الغربي في السيطرة على وبشكل، مثل «القوانين الأساسية لثقافة … تحكم
لغته، مخططاته في الإدراك، تبادلاته، تقنياته، قِيَمه، وتراتبية ممارساته». هذه
القواعد الثقافية لا تسمح بأيِّ استثناءات، وتسحق كلَّ ما يعترض طريقها، بما في ذلك
الفرد نفسه، والذي يفترض أنه المستفيد منها. سلطة العقل المنظمة، تصل الآن في
المجتمع الغربي «إلى أصغر ذرة في كيان الفرد، تلمس جسده، تتدخَّل في إيماءاته
وتوجُّهاته وخطابه».
٥٩
والتاريخ على أعمق مستوى له بالنسبة ﻟ «فوكو»، هو تاريخ حيوي أيضًا بأسلوب
«نيتشة» و«جوبينو». القوة الدافعة وراء هذا العقل الغربي المجمَّع هي إرادة القوة.
انضباطها الاجتماعي مثل مفهومها للمعرفة ليس سوى تعبيرٍ عن إرادة القوة هذه.
علاقات القوَى التي تعمل في مجتمع مثل مجتمعنا تستند إلى علاقات بين قوًی محدَّدة،
تكوَّنت في لحظة تاريخية معينة «في حالة حرب وبواسطة الحرب». المجتمع البرجوازي مثل
الحضارة الآرية عند «جوبينو»، ينظِّمه الأقوياء من أجل الأقوياء، إلا أنَّ
«الأقوياء» عند «فوکو» ليسوا نخبةً عرقية ولا كائنات بشرية بالمرة، إنهم غرائز
النظام والانضباط نفسه الذي «تُعاد كتابته في المؤسسات الاجتماعية، في اللامساواة
الاجتماعية، في اللغة، في الأجساد ذاتها، جسدُ كلٍّ منَّا وأجسادنا جميعًا».
٦٠
«فوکو» هاجم الصورة الغربية التقليدية للإنسان، وبالتحديد لأنه كان يعتقد أنها
تُخضِع إرادة القوة فينا لإرادة القوة لدى الآخرين. «الإنسانية هي كل شيء في
الحضارة الغربية يقيِّد الرغبة في القوة»، أو بعبارة أخرى، إرادة القوة الخاصة بنا.
في كل كتب «فوکو» تسري حركةٌ مضاعفة متقافزة-العقل كإرادة قوة، الإثم كتحدٍّ حيوي
من الفرد لإرادة القوة تلك.
بعد كتابه: «نظام الأشياء»، «اتسع مجال مشروع «فوكو» التفكيكي ليُخلخل أُسُسَ الخطاب
العلمي-العقلاني في التحليل النفسي والتاريخ والعدل واللغة ذاتها. كل مرحلة في
بحث الإنسان الغربي الحديث عن المعرفة تصبح مجرد بنية من خطابات سلطة، أو
«ممارسات» انضباط وسيطرة على ضحايا غير مدركة.»
٦١
کُتُب «فوكو» أثَّرت واستحوذت على قُرَّائه بمظهرها الذي يوحي بالبحث والدرس الواعي
(بالرغم من أنَّ تلك الدراسة كانت خاطئةً وربما كاذبة في نقاط شديدة الأهمية)، صانعةً
مذهبًا جديدًا ومنعشًا لدعاة التشاؤمية الثقافية في كل مكان.
٦٢
بعد ذلك كان «فوكو» يقول إنَّ «على المرء أن يُجريَ تحليلًا صاعدًا للسلطة، بدءًا
من ميكانيزماتها متناهية الصغر» بما في ذلك الميكانيزمات التي تبدو غيرَ ضارة،
مثل الأسرة الغربية وأثاثها وعاداتها في الأكل … حتى مفاهيمها للصحة الشخصية؛ «حيث
إنَّ لكلٍّ منها تاريخه»، وكلها «مكسوَّة ومسكونة بواسطة ميكانيزمات أكثر عمومية،
وبأشكال مختلفة من السيطرة الكونية».
٦٣
حتى مفهوم الحقيقة نفسه كان حيلةً من حِيَل السلطة. «نحن خاضعون لإنتاج الحقيقة من
خلال السلطة، ولا نستطيع أن نمارس السلطة إلا عن طريق إنتاج الحقيقة». ويضيف
«فوكو»: «هذه هي الحال في كل مجتمع»، ولكنها في الغرب الحديث تأخذ أشكالًا منظَّمة
وشمولية. «السلطة لا تتوقَّف عن فضولها وبحثها … وفي التحليل الأخير لا بد أن تنتج
الحقيقة كما تنتج الثروة». على أية حال «السلطة موجودة في كل مكان؛ فهي تنتج من
لحظة لأخرى، وعند كل نقطة، أو بالأحرى في كل علاقة لنقطة بأخرى».
٦٤
وبالرغم من أنَّ «فوكو» كان يشارك «أدورنو» و«ماركيوز» في رؤيتهما للمجتمع الغربي
والعقلانية، واعتبارها سلطوية عنيفة، إلا أنه تجوَّل أبعد من ذلك في البرية
النيتشوية. وفي النهاية يقول: لا مفرَّ من ثقافة الحضارة، ثقافة المراقبة والحبس.
فنحن مثل الفئران في قفص المختبر، نجد أنفسنا قد أصبحنا موضوعات «لمراقبةِ كلِّ ذرَّة
في حياتنا وجسدنا … في الإطار المدرسي، في الثكنات، في المستشفى أو
المصنع».
٦٥ كان حلم «سارتر» بالحرية أو «الوجود في ذاته»، في نظر «فوكو»، نهاية
أخرى مسدودة، أبطاله المدركون لوضعهم الكلي ليسوا أكثر من تلك الفئران التي تدفعها
ضغوط الحبس والتحكُّم فيها إلى الاستياء والغضب غير المفكر، حتى في تمرُّدهم، ما يزالون
أسرى القفص مثل كلِّ الآخرين.
مشروع «فوكو» الأخير «تاريخ الجنسانية»،
٦٦⋆ الذي
بدأه في عام ١٩٧٦م يقول إنَّ: حتى رغباتنا الجنسية ليست سوى أعمق مستوى من الظلم
الذي تفرضه علينا السلطة كإرادة للقوة، من خلال تراتبيَّة صارمة للمُتَع الجسدية
المقبولة. «فوکو» يقول دون تردُّد: إنَّ الموقف البرجوازي القمعي تجاه الجنس لا يمكن
أن يتمَّ التخلُّص منه هكذا ببساطة بمجرَّد بادرة تحرُّر شخصية، كما كان «ماركيوز»
يتصوَّر بحماقة.
جميع صور الرغبة الجنسية «العادية»، من السعادة المشتركة إلى الجنسية المثلية
الموجبة، إلى العادة السرية، حتى «جنسية» فوكو المثلية السالبة، ليست سوى صِيَغ تواطؤ
في سجننا الخاص، ولأن الجنس يعبِّر عن إرادة القوة في أقصى وأعمق مدًى لها، مثل
أعمال الصرف الصحي الموجودة تحت الأرض في مدينة كبيرة فخمة، فإن «فوكو» يرى أنه
يقدِّم فرصة للهرب. يمكننا أن نرفع غطاء فتحة المجرور، وننزلق إلى واقع
جديد.
أثناء زياراته للولايات المتحدة في أواخر السبعينيات، كان «فوکو» مفتونًا بمشاهد
الشذوذ الجنسي في «سان فرانسيسكو»، في حمَّاماتها العمومية، في القضبان الجلدية،
والسلاسل والسياط، وجميع الممارسات السادو-ماسوشستية. الجنس السادو-ماسوشستي
بخاصة، كان يمثِّل ما يسمِّيه «فوکو»: «التجربة الحدية»، وهي موقف وجودي حدِّي
تستطيع فيه القوى الحيوية للنفس أن تتحرَّر من «زيف» اللذة عن طريق الجنس المتمركز
حول الأعضاء الجنسية. «فوكو» أصبح يصدِّق ما كان «آرتو» يقوله في الأربعينيات، وهو
أنَّ «الجسد الإنساني عبارة عن بطارية كهربائية، قُطِعت وضُرِبت صماماتُ تفريغ الشحن
فيها» بواسطة التابوهات (المحرمات) الحضارية. وهذا يتضمَّن الألم المتبادل كطقس
جنسي، والذي تتمُّ فيه — كما يقول أحد المتحمِّسين الآخرين للمشهد السادو-ماسوشستي —
«تجربة المعاناة القصوى التي تُرشدنا إلى حدود السلوك الإنساني».
٦٧
تحت السوط، أو الملزم الحديدي، يصبح الجسد ميدانَ لعب مشحون تمامًا من أجل «لعبة
الحقيقة» النيتشوية. عند «فوکو»، جميع العلاقات حتى بأجسادنا، هي جزء من نفس الصراع
من أجل السلطة أو القوة، لا توجد نقطة استشراف خارجها ولا قيود أخلاقية ثابتة على
الرغبة الجنسية عندما تسعى للسلطة أو القوة. وعندما عرف فوكو أنه قد أُصيب بالإيدز
نتيجة ممارساته الجنسية الشاذة، كانت تلك «تجربة حدية» أخرى بالنسبة له: الجنس كشكل
من أشكال الموت، وكذلك القدرة على «منح» الموت للآخرين عن طريق الجنس. لمدة عامين
على الأقل من إصابته بالإيدز، كان فوكو مواظبًا على زيارة أماكن تجمُّع الشواذ (من
۱۹۸۲م إلى ۱۹۸٤م)، وكان ينقل المرض إلى شركائه المجهولين، وكان يعرف ذلك. قال لأحد
محاوريه: «نحن نخترع مُتَعًا جديدة أبعد من الجنس.» وفي هذه الحالة تحديدًا، كانت
المتعة هي الجنس كعملية قتل.
٦٨
وإذا كانت قصة «فوكو» الشخصية تبدو رهيبة؛ فذلك لأنه واصل فلسفته إلى أقصى مداها
المنطقي، وكما يقول أحد كُتَّاب سيرته: «فوکو» عَمِل بنصيحة «نيتشة»، أن يصبح الإنسان
«ما هو عليه بكل جدية»، أو بمعنًى آخر «أن يُصبح كائنًا، جوهره هو إرادة القوة
لديه».
٦٩
في عدمية «فوكو»، لا بد من تدميرِ كلِّ ملمح أو أثر شكَّله الآخرون فينا: هويتنا
السياسية والثقافية والجنسية، مفهومنا للصواب والخطأ، الجنون والعقل، حتى ما هو
حقيقي وما هو زائف … كل ذلك لا بد أن يختفيَ. وفي النهاية، يختفي الفرد نفسه. لا
يتبقَّى منه سوى إرادة القوة القلقة وسريعة الاهتياج — مثل المحارب الآري عند
«جوبينو» أو الآثم «الشرير» عند «آرتو» — ومبررها الوحيد هو وجودها. كتب «آرتو»:
«أنا لست من عالمكم، عالمي هو الجانب الآخر من كل شيء، يعرف، وعلى وعي بنفسه،
ويرغب، ويصنع نفسه.»
أقنعة بيضاء، عنف أسود: «فرانز فانون»
أصبح الميل للعنف والعراك كفعل مضاد للقلق الثقافي، جزءًا لا يتجزَّأ من
التشاؤمية الثقافية الفرنسية. وقد شكَّل على نحوٍ حاسم، توجُّهها نحو السياسة التي
كانت تعني في مرحلة ما بعد الحرب: اليسار السياسي، كان «سارتر» قد انقلب على كلٍّ من
الاشتراكيِّين والحزب الشيوعي الفرنسي لأنهم — كما كان يقول — لم يعودوا مهتمِّين ﺑ
«المبدأ الصحيح»: أو الثورة العنيفة. وكان «سارتر» يشكو من أنَّ: «في الستينيات، لم
يَعُد أحدٌ يتكلَّم عن العنف»، بينما كان هو لا يتوقَّف عن الكلام عنه. كان يخطب في
تلاميذه، وللجمهور في الراديو والتليفزيون عن «العنف الضروري»، موضِّحًا وشارحًا أنَّ
الجرائم وأعمال القتل التي يقوم بها المضطهدون والأفراد ليست عنفًا بالمرة، وإنما
هي ردود أفعال مبرَّرة، على الوضع الكلي في المجتمع البرجوازي.
«فوكو» الذي كان يدين الغرب الحديث لأنه «حرب بوسائل أخرى»، انجذب نحو الماويين
في اليسار البروليتاري، وبالتحديد لأنهم كانوا يؤيدون الإرهاب ويعتبرونه «عدالة
الشعب». كان «فوكو» يحثُّهم على المشاركة في أعمال العنف العشوائي ضدَّ مضطهديهم
وظالميهم البراجوازيِّين سواء كانوا مذنبين أو أبرياء. وكان «فوکو» يفسِّر كيف أنَّ
مفهوم الذنب أو البراءة كله جزءٌ من مجتمع «الحصر»، أو السجن في الغرب البرجوازي.
وكان كثيرًا ما يُشير إلى مذبحة سبتمبر (۱۷۹۲م) المصاحبة للثورة الفرنسية و«العادة
الجيرمانية القديمة»، بوضع «رأس عدو على عمود أو رمح لكي يشاهده الجميع»، كمثال على
ذلك النوع من «عدالة الشعب».
٧٠
على أنَّ الشخص الأكثر ارتباطًا بالقوة التحرُّرية للعنف كان هو «فرانز فانون»
Franz Fanon. كان صديقًا ﻟ «جان بول سارتر» ومن
أشدِّ المعجبين به، وشارك بكل قوة في الهجوم الذي شنَّه الفرنسيون بعد الحرب على
العقلانية الأوروبية، وكان يربط بين عملية التجميع الغربية الفاسدة والاستعمار
والإمبريالية، فدعوتُه لشنِّ هجوم «العنف المقدس» على الاستعمار الأوروبي، بقيادة
البروليتاريا الفلاحية الرثَّة في العالم الثالث، أعطَت قوةً ثقافية كبيرة لتصوُّر
«ماركوس جارفي» عن الحرب العرقية القادمة. طقوس هذا العنف المقدَّس — الثورات،
الاغتيالات، خطف الطائرات، تفجير السيارات، إحراق الإطارات — كان ينظر إليها كلها
كحقيقة وجودية يمكن أن تمحوَ إمبراطورية «سوء النية» الغربية. «فرانز فانون» من
مواليد جزر المارتينيك الغربية (۱۹۲٥م)، وكان ينتمي إلى ما كان يُطلق عليه «دو بوا»
«العشر الموهوب» من الطبقة الوسطى السوداء الناطقة بالفرنسية في جزر الهند الغربية.
خدم ببسالة في القوات الفرنسية الحرة في الحرب العالمية الثانية، درس الفلسفة وعلم
النفس في السوربون في «باريس»، وأصبح في النهاية طبيبًا في أحد المستشفيات الكبرى
في الجزائر الفرنسية. ومثل حالة «دو بوا»، لم يكن جنسه مقبولًا بالكامل من
الأوروبيِّين الذين كان معجبًا بهم. «فانون» أصبح شديد المرارة لهذه الحقيقة، وتحوَّل
التعبيرُ عن رفضه إلى عاطفة مشبوبة استهلكته.
٧١ وأصبح العرق هو قضية حياته الأساسية، ولم يكن هو السبب في ذلك، ولكنها
طبيعة الثقافة الغربية.
كتابه الأوَّل «وجوه سوداء … أقنعة بيضاء» (١٩٥٤م) كان يؤكِّد على أنَّ الحضارة
الغربية لا تعبِّر عن عواطفها كما كان «فرويد» يقول، وإنما تعبِّر أيضًا عن عواطف
الشعوب التي تستعمرها. كان الأوروبيون البيض مدركين للحيوية الثقافية التي تتميز
بها الأجناس غير البيضاء، وبخاصة السود مثل «فانون» نفسه؛ ولذلك كانوا يضعونهم في
حالة تبعية. بعد ذلك قام البيض بتدريب المثقَّف غير الأبيض على أن يرى ثقافته أقل
شأنًا وفقيرة في القيم «الحضارية». وبقبوله تحقير ثقافته على هذا النحو، يكون
المثقَّف غير الأبيض قد أنكر إنسانيته بالفعل. ويصف «فانون» في تفصيل إكلينيكي كيف
أصبح شخصيةً عصابية، ومكَّن مخاوف الرجل الأبيض اللاشعورية من الحيوية، أن تُمليَ عليه
خياراته في الحياة.
كان مدرِّس «فانون» في المدرسة الثانوية، الشاعر «أیمي سيزار»
Aimé Césaire قد عرف تلك القضية بلغة
«سارتر» الوجودية. المثقَّف غير الأبيض يواجه المأزق نفسه مثل برجوازية «سارتر» التي
تنتحل شخصية أخرى، ولا بد من أن يتظاهر بأنه شخص آخر — ليس هو — لكي يتجنَّب «عبث» الهيمنة
الاستعمارية البيضاء. وبدلًا من ذلك، كان «سيزار» يقول إنه كان لا بد من أن
يتَّجه نحو هويته الأكثر أصالة وحقيقية، والتي كان يسمِّيها هو والشاعر: «لوي سنجور»
Louis Senghor ﺑ «الزنوجة»
Negritude. بدأت حركة «الزنوجة» بين مثقَّفي
غرب أفريقيا والكاريبي السود في «باریس» في العشرينيات، الذين كانوا يريدون کشف
الغطاء عن هوية ثقافية في سلسلة سلفهم الزنجي-الأفريقي المشترك.
حاولوا أن يُقيموا ثقافة حيوية سوداء مستعادة، تجمعهم ضدَّ ثقافة غربية استعمارية.
كان «سنجور» مثلًا يتكلَّم عن «القوى الحيوية» Forces
Vitales «تلك التي تهمهم في أرجلنا، صعود ذلك النسغ الذي
يغذِّي البراعم في مفاصل الشباب» الموجودة في أساس المجتمع الأفريقي كله قبل
الاستعمار. «سيزار» رفض الغرب واعتبره «متفسِّخًا وطاعنًا في السن» بسبب تقسيماته
الطبقية، وإمبراطورياته الاستعمارية المستغلة: «الحضارة التي من مبادئها الغش
والزيف، هي حضارة محتضرة».
بالنسبة ﻟ «سيزار» و«سنجور»، كانت «الزنوجة» بمثابة الشخصية العرقية الموحَّدة مثل
«الجيرمانية الآرية التيوتونية»، ومثل «الروح السوداء» عند «دو بوا»، لم يكن العرق
مسألة بيولوجية، وإنما قوة روحانية مقدَّسة لا بد من أن تقهر عدوَّها في النهاية،
وعدوُّها ليس سوى «الحضارة البيضاء».
٧٢
كتب «فانون» يَصِف اكتشافَه شعر «سيزار»: لقد وجدت نفسي، وليس مكاني فقط، «أشعر في
داخلي بروح لها حجم العالم، روح عميقة كأعمق الأنهار، صدري عامر بالخلود»، ويُضيف
بأسًى: «ثم … ثم ينصحونني — يقصد البيض طبعًا — بتواضع الإنسان المريض.»
٧٣
في الوقت نفسه، كانت عمليةُ انحسار الاستعمار مستمرة. في مايو ١٩٤٥م قُتِل ستة
آلاف مسلم في مجزرة «سطيف» في الجزائر الفرنسية. وفي عام ١٩٤٧م قُمِعت انتفاضة في
مدغشقر بوحشية بالغة، راح ضحيتها قرابة ثمانين ألفًا. وبعد عام بدأت الحرب ضدَّ
الحكم الفرنسي في الهند الصينية. بالنسبة ﻟ «سيزار» وغيره من فناني «الزنوجة» أصبح
المتمرِّد الوجودي عند «سارتر» هو الثائر المضاد للاستعمار. في عام ١٩٤٨م صدرت
أنطولوجيا من أشعار «سيزار» و«سنجود» وغيرهما من كتَّاب الزنوجة بعنوان «أورفيوس
الأسود». وهكذا خرجت الحركة المضادة للاستعمار إلى العلن إن لم يكن إلى ضوء الشهرة.
وقال
٧٤ «سارتر»: «إنَّ «الزنوجة» هي فكرة «الوجود في ذاته»، التي كان يقول بها
«هيدجر» ولكنها الآن مفعمة بالإبداع والأصالة.»
٧٥⋆،٧٦ ويمكن أن نتنبَّأ بأن الإنسان الأسود (أي غير الأبيض) يمتلك كلَّ المزايا
والفضائل التي فقدها الغرب الصناعي الضيِّق المحدود: التوحُّد مع الطبيعة، التعاطف
الحدسي مع الآخرين في مقابل الاهتمام العقلاني بالنفس. ولكن «سارتر» أيضًا وضع أمام
جمهور أوسع، ولأوَّل مرة، مفهومًا جديدًا سوف يتزايد تأثيرُه. كان ذلك هو أنَّ
الاستعمار ليس مجرَّدَ نظام اقتصادي وسیاسي، ولكنه سيطرة ثقافية كذلك على أشخاص
ملوَّنين. («سيمون دي بوفوار» ستقدِّم نفس الخدمة للنساء في كتابها «الجنس الآخر»
بعد ذلك بعام واحد) «الثقافة الأوروبية نصبت مجموعة من الفخاخ للبيض الغافلين — وهي
فخاخ مؤسسية وفكرية ولغوية — كانت كلها أدوات توصيل ﻟ «سوء النية
الأبيض».»
٧٧
أصبح «فانون» من المعجبين ﺑ «سارتر» بعد أن قرأ تقديمه ﻟ «أورفيوس الأسود»،
بالرغم من أنهما لم يلتقيا حتى عام ١٩٦١م، وكان «فانون» حينذاك قد أُصيب بالمرض
الذي سيقتله في النهاية. كان قد انتهى لتوِّه من كتابة وصيته السياسية الأخيرة: كتاب
«معذبو الأرض». اتصل بناشره: «اطلب من «سارتر» أن يكتب له مقدِّمة.» قل له «إنني
كلما جلست إلى مكتبي أفكِّر فيه (كشخص) يكتب أشياءَ بالغةَ الأهمية بالنسبة
لمستقبلنا، ولكنه لم يجد قرَّاء بعدُ.» أو بالأحرى قرَّاء جادِّين أو حقيقيِّين،
بالإضافة إلى «فانون» نفسه. في كتابه «معذبو الأرض»، حوَّل «فانون» فلسفةَ «سارتر»
عن «الوجود في ذاته» إلى «رؤيا» ثورية. تاريخ الغرب وصل إلى نقطة الانحلال أو
الذوبان الأخيرة، «تعالوا أيها الرفاق … لقد انتهت اللعبة الأوروبية، لا بد من أن
نجد شيئًا مختلفًا». رفض «فانون» تمامًا فكرةَ أن تتبنَّى الدول الجديدة في أفريقيا
وآسيا النموذج الغربي «للتحديث». «لقد خنقوا الإنسانيةَ كلَّها تقريبًا على مدى قرون
عدة باسم التجربة الروحانية المزعومة»، والآن … أوروبا «مندفعة إلى الهاوية
مباشرة، ويجب أن نتجنَّب نحن ذلك على وجه السرعة».
٧٨ كان انحسار الاستعمار هو الحقيقة النهائية للتاريخ بالنسبة ﻟ «فانون».
نهاية الإمبراطورية الأوروبية كانت هي «تلاقي قوَّتَين مضادَّتَين لبعضهما بطبيعتَيهما»،
ولكنهما «ستغيِّران نظام العالم». المحور الرئيسي لهذه الثورة هو العرق وليس الطبقة
كما كان «فانون» يؤكِّد. العالم الأبيض، سواء كان برجوازيًّا أو عاملًا، متَّحدٌ في
ظلمِه الاستغلالي لغير البيض. ومن ناحية أخرى، فإن العالم الأسود منقسم وليس
متَّحدًا. هناك برجوازية سوداء استعمارية، طبقة طفيلية من التابعين المتزلفين الذين
ربطوا أنفسهم بثقافة واقتصاد البيض: «الوجود من أجل الآخرين» … باختصار، هذه هي
دفوعات اللاعنف والتسويات السلمية، وبالتالي خيانة الحرية الحقيقية.
قوة الثورة المحرِّرة موجودة — بدل ذلك كله — بين المزارعين والمعدمين، بين معذبي
الأرض الحقيقيِّين الذين هم الشعب
folk الحقيقي عند
«فانون»، وهم مرتكز الثقافة والثورة أيضًا. الفلَّاحون المسلَّحون، وليس البروليتاريا
الصناعية، هم الذين سوف يشكِّلون الأساس لمجتمع مُسَيَّس بشكل دائم؛ وذلك لأنهم،
بالتحديد، أبعد ما يكونون عن المؤسسات والأفكار الغربية، ومحصَّنون ضدَّ آثارها
المفسدة. هذا هو الوجه الحيوي الحقيقي للعالم الثالث. وأعلن «فانون»: «التخلُّص من
الاستعمار هو الخلق الصحيح لبشر جدد … إحلال «نوع» جديد محلَّ آخر». أي أنَّ الإنسان
الذي صنعه المجتمع — سواء السيد المستعمر أو ابن الوطن — يحلُّ محلَّه ذلك الإنسان
الذي صنعه التحرُّر.
٧٩ التحرُّر السياسي، حتى التحرُّر الاقتصادي من الغرب لا يمكن أن يكون
كافيًا كما يؤكِّد «فانون». القضاء على الاستعمار لا بد من أن يكون تدميرًا تامًّا
للثقافة التي فرضها الحكَّام البيض السابقون، بما في ذلك الأهداف والمؤسسات:
القومية، الديمقراطية، سيادة القانون. والحقيقة أنَّ عملية القضاء على الاستعمار
تتطلَّب کسرَ نفوذ التجميع. الحرية «كفاح عسير وحاسم»، ورسالتنا التاريخية هي أن
«نقر كل تمرُّد، كل الأفعال اليائسة، كل تلك المحاولات المجهضة التي غرقت في بحار
الدم.» سفك الدماء ذلك هو مجرَّد تعويض عن عنف الاستعمار: «وردًّا على مقولة: «كل
أبناء البلد الأصليِّين سواء»، يقول المحتل «وكل المستوطنين سواء»، في النظام الغربي
الاستعماري المتآمر … الكل مذنب، ولا يجب الصفح عن أحد.»
«فانون» اتجه نحو «سيزار» من أجل نموذج لقوة العنف الثوري المطهرة:
«كنَّا نركض كالمجانين … والطلقات تدوِّي، الدم والعرق، هادئين منتعشين، بعد ذلك
كان الهجوم على منزل السيد … اقتحمنا الأبواب، كانت غرفة السيد ساطعة الإضاءة،
وكان هادئًا جدًّا. قال بهدوء: «هذا أنت إذن؟» كنت أنا … حتى أنا … قلت له ذلك … أنا
… العبد الطيب، المخلص، عبد العبيد، وفجأة أصبحت عيناه مثل صرصورَين خائفَين في موسم
المطر … ضربت … وانفجر الدم … كانت تلك هي المعمودية الوحيدة التي أتذكَّرها
اليوم».
٨٠ «سارتر» قدَّم إسهامه الخاص المباشر لهذا الوعد بالثأر، قائلًا إنَّ
الإرهابي السياسي في العالم الثالث ليس سوى «إنسان يُعيد خلق نفسه». سارتر يقول
لجمهوره: «سلاح الثائر دليل على إنسانيته. أن تقتل أوروبيًّا معناه أنك تقتل عصفورَين
بحجر واحد. أنت تدمِّر طاغية والإنسان الذي يضطهده في الوقت نفسه. كنَّا بشرًا على
حسابه، وهو يجعل من نفسه إنسانًا على حسابنا: إنسانًا مختلفًا … من نوعية
أرقی.»
٨١
كتاب «فانون»: «معذبو الأرض» قدَّم الغطاء الثقافي لجيل كان مشوقًا لاشتراكية
العالم الثالث، بمن فيهم «سارتر» نفسه. العنف الثوري في بلاد بعيدة سيكون مصدرًا
لكلٍّ من التحرُّر السياسي والتجدُّد الثقافي. كوبا، فيتنام، الصين (وخاصة أثناء ثورة
«ماو» الثقافية) والخمير الحمر في كمبوديا … كلهم وعدوا بتحويل السياسية إلى القوة
الموحَّدة المطهَّرة نفسها، التي كانت ثورة الاشتراكية القومية اليمينية قد وعدت بها:
حركة متدفقة، حيوية لا تُقهَر، نحو التحرُّر من غرب يحتضر.
وأمام مؤتمر «كل شعوب أفريقيا» في عام ١٩٥٨م، كان «فانون» يقول: «كل ما نحتاجه
هو التقدم … والهجوم …» لدرجة أنه اقترح تشكيل فيلق أفريقي، جيش مكوَّن من قوات
عاصفة تكنس النفوذ الأجنبي الأوروبي من أقصى القارة إلى أقصاها. «ليست مسألة
استراتيجية … فكل أفريقيا معنا، هذه قارة تتحرَّك، بينما أوروبا تغطُّ في سُبات
عميق».
٨٢
وبالطبع، لم يخرج مثل ذلك الفيلق أو الجيش إلى حيز الوجود، وسوف يستمر النضال
لطرد النفوذ الأوروبي عقدًا آخر من الزمن، بعد موت «فانون» في عام ١٩٦٤م.
الاستقلال نفسه سوف يُؤذن بعصر جديد، ليس عصرَ تحرُّر وانتصار، وإنما عصر حروب
أهلية دامية، وانقلابات عسكرية ودكتاتوريات جديرة بكل ازدراء. وبحلول عام ١٩٧٥م
كان أكثر من نصف دول أفريقيا السوداء يرزح تحت حكم العسكر. رسالة «فانون» على أية
حال، كانت ذات صلة ضئيلة بالواقع الأفريقي، عما هي بتشاؤمية «سارتر»
الثقافية.
الخضوع لأيِّ قيم غربية، هو شكلٌ من العبودية ومحوٌ للذات بالنسبة للبيض وغير البيض
على السواء، مهما كان حجم الحرية الزائفة التي يحصل عليها الفرد. كتب «سارتر»
بابتهاج في تقديمه ﻟ «معذبو الأرض»: «بفحص الأمور عن كثب، لن تجد شخصًا غير مخضب
بالدماء … البارثينون،
٨٣⋆ الدساتير، حقوق الإنسان، الصليب المعقوف … الآن نعرف كم تساوي تلك
الأشياء».
٨٤
وفي تعجُّلهم لتجنُّب الغرب، سرعان ما اكتشف «سارتر» وتلاميذه أنه لا يوجد مكان
آخر يمكنهم الذهاب إليه، وكما شرح المؤرِّخ «ﻫ. ستيوارت هيوز»
H.
Stuart Hughes: «إذا كان الفرنسيون من الجيل السابق ﻟ «سارتر»
قد عاشوا بضمير حسن لكي يسائلوا قيمهم، فإن العملية بالنسبة له كانت على العكس من
ذلك تمامًا؛ فقد أصبح مهووسًا بمفهوم «سوء النية»، وأسلم نفسه تمامًا لاقتناعٍ مفادُه
أنه مثلُ أيِّ مثقَّف برجوازي آخر كان مخطئًا من الأساس، لدرجة أنه لم يجد في النهاية
مبدأً يعيش به».
٨٥
لا شيء من ذلك كله، سوى حيوية عزلاء، تعبِّر عنها عدميةُ «فوكو» أو «إرهاب فانون
الثوري».