الفصل الحادي عشر
موجة التعدُّدية الثقافية
هاي … هاي … هو … هو … الثقافة الغربية ولَّى زمانها …!
جیسي جاکسون – ۱۹۸۷م
ربما كان «أرنولد توينبي» Arnold Toynbee هو آخر
المؤرِّخين من أصحاب الحجج التاريخية الذين تناولوا موضوع «اضمحلال الغرب». وبحلول عام
۱۹۷۰م، لم تَعُد القضية تشغل بالَ أحد من المثقفين، ولكن في الوقت نفسه، نجد دعاة
التشاؤمية الثقافية الفرنسيِّين يكشفون كيف أنَّ عملية الاضمحلال التدريجي، قد انتقلت
من
الوضوح كما كانت بالنسبة ﻟ «توينبي»، لتصبح قضية ضمنية بالنسبة للفكر النقدي
الحديث.
«سارتر»، و«فوكو»، و«فانون» وذريتهم الأيديولوجية كانوا يقولون إنَّ المؤسسات الغربية
والعقلانية الغربية واللغة و«الخطاب» … حتى صورة الإنسان الغربي عن نفسه، كانت كلها
نهايات ثقافية مسدودة، وإنَّ الحرية الحقيقية كلها، كانت تجيء من نكران أو تجاوز تلك
الحدود الغربية كما يزعمون. وكان على الإنسانية أن تتطلَّع إلى ما هو أبعد من الحدود
التي
وضعتها الحضارة الأوروبية الحديثة على الذات الحقيقية الأصلية.
هذه الانتقادات، إلى جانب انتقادات «مارکیوز»، و«مدرسة فرانكفورت»، كانت بمثابة نقطة
الانطلاق لموجة جديدة من الأيديولوجيات المعادية للغرب ولأوروبا. إحدى هذه
الأيديولوجيات أصبحت التعدُّدية الثقافية.
وقد لجأت التعدُّدية الثقافية إلى رواق واسع يضمُّ عددًا كبيرًا من دعاة التشاؤمية
الثقافية، تستلهم منهم أفكارها: «دبليو إي بي دو بوا»، و«مارکوس جارفي»، و«أدورنو»، «مارکیوز»،
ومدرسة فرانكفورت، بالإضافة إلى «سارتر»، و«فوكو»، و«فرانز
فانون». في التعدُّدية الثقافية تتجمَّع كلُّ أعراض الاضمحلال الغربي الكلاسيكية؛ لكي
تلخِّص صورته كقوة خبيثة مهلكة في التاريخ. هذه الأعراض الكلاسيكية هي: عقلانيتُه
المدمِّرة للحيوية، مؤسساته السياسية الشمولية، الاقتصاد الرأسمالي، التمييز العرقي،
الاستعمار، الدارونية، القومية. وبالنسبة لمن يؤمن بالتعدُّدية الثقافية فإن الحضارة
الغربية عبارة عن حضارة Zivilisation لا تحتوي على
أيِّ ثقافة Kultur.
أما أصول مصطلحات ذلك الجدل وحدودها فقد نُسِيت تمامًا. بيد أنَّ الأمل الدائم في
التقدم يظلُّ مرشدًا للناقد المؤمن بالتعدُّدية الثقافية عندما ينظر إلى المستقبل، فهو
وغيره من دعاة التشاؤمية الثقافية ما زالوا يميلون إلى تأييد فكرة الحرية السياسية
كمعيار للتحرُّر الشخصي، وعادة في شكل الحاجة لمؤسسات ديمقراطية «حقيقية». فكرة «هيجل»
عن الحرية على أنها الفرد المستقل الكامل بذاته تمامًا مع «وعي بوجوده الخاص»، تواصل
توجيه الجهود لوضع نهاية للاغتراب الحديث والوصول إلى «التحقُّق الذاتي» بالنسبة للرجال
والنساء والسود والشواذ جنسيًّا … وغير ذلك من الجماعات.
تأكيد «التنوير» على «التهذيب» يتبنَّى كذلك علاقة صلة جديدة، بمعنى الأمل في قبول
«الاختلاف»، والأمل في «أخوة» جديدة بين البشر. رؤية «كوندورسيه»
Condorcet، و«هيردر»
Herder لحضارة
كونية، تظل حيَّةً في فكرة «عالم واحد» — بالرغم من أنه مجرَّد من رموزه الغربية الأساسية
بالطبع — ونهاية القوميات المفرِّقة المسبِّبة للشقاق.
١
وبالمثل، فإن آمال الانتقادات الباكرة في التقدم، تظلُّ أيضًا حيَّة في صيغ
التعدُّدية الثقافية. رؤية «روسو» للفضيلة الجماعية البدائية تتحوَّل إلى رؤية مجتمع
اشتراکي مع ضمان المساواة بين كل أعضائه بصرف النظر عن العرق والنوع واللون. الحيوية
الرومانتيكية وإنسان «نيتشة» الأعلى، يبرزان من جديد في هيئة الطاقة والحيوية اللتين
تزوِّد بهما العرقية السليمة والصحية الفرد. والحقيقة أنَّ قضية الهوية، وهي إحدى
القضايا الرئيسية في نقد التعدُّدية الثقافية للمجتمع الحديث، جزء من التراث الحيوي
الرومانتيكي. وعلى أية حال، فإن جميع هذه الأهداف «التقدمية» كانت الآن تتطلَّب فكَّ
خيوط الهيمنة الغربية.
الحضارة الغربية التي كانت هي القوة الدافعة ذات يوم للتقدُّم الإنساني، يتمُّ تناولها
الآن باعتبارها العقبة الأعظم في طريقه. وفي ظلِّ هذه الظروف، قد لا يكون تطرُّفًا أن
نؤكد، كما فعلت «سوزان سونتاج» Susan Sontag في عام
١٩٦٧م: «الحقيقة أنَّ «موتسارت» Mozart، و«باسکال» Pascal، و«شكسبير» Shakespeare، والحكومة البرلمانية، وتحرير المرأة … كل ذلك لا يشفع للحضارة الغربية، ولا يعوِّضنا
عمَّا حدث … الجنس الأبيض هو سرطان
التاريخ الإنساني».
وفي السبعينيات، كانت التشاؤمية الثقافية قد وصلت إلى مرحلة تخمُّر مهمة. وبالرغم
من
وفاة رموزها القياديِّين — ﮐ «وجييف» في ١٩٦٨م، و«أدورنو» في عام ١٩٦٩م، و«هورکهایمر»
في
۱۹۷۳م، و«مارکیوز» في ١٩٧٥م، و«هيدجر» في ١٩٧٦م، و«سارتر» في ۱۹۸۰م — («سي. رايت
ميلز»، و«فانون» ماتَا قبل ذلك بعقد من الزمان) إلا أنَّ أفكارهم تمأسسَت في الجامعات
الأمريكية والأوروبية.
المؤرِّخ «جون باتريك ديجنز»
John Patrick Diggins اقترح فصل اليسار الجديد، يسار الستينيات، عن بروز ما يدعوه باليسار الأكاديمي الذي
صاغ راديكاليته في قاعات الدرس أكثر منها في الشارع السياسي.
٢ ومع ذلك فإن الفصل أو التمييز بينهما عملية مضلِّلة. كلاهما كان يصبُّ في
قناة الآخر باستمرار، وبخاصة زاوية هجومهما على المؤسسات الليبرالية الرئيسية.
النظرية النقدية ﻟ «مدرسة فرانكفورت»، شكَّلت جلَّ وجهة نظر اليسار الجديد، بينما
أضاف
أبطال آخرون مثل «سي. رایت میلز»
C. Wright Mills
و«نعوم تشومسكي»
Noam Chomsky وقودًا جديدًا لإدانة الغرب كنظام كلیاني وشمولي
٣⋆
ونتيجة لذلك، وجد الراديكاليون الأمريكيون أنفسهم ينظرون إلى مجتمع الوفرة من حولهم
بقدرٍ من الشكِّ والخوف، ينتابهم القلقُ بسبب النزعة الاستهلاكية الغبية، والثقافة
الجماهيرية، وتدمير الرأسمالية للتراث والقيم، ونظام الحكم الذي يمتهن البشر،
والتكنولوجيا، وشبح دولة التكنوقراط البوليسية الذي يتزايد حجمه، وأصبح ذلك كله الآن
هو
الواجب الأيديولوجي لليسار وليس اليمين.
٤
راديكالية «نعوم تشومسكي» تنبع أساسًا من «سي. رايت میلز»، مع مِزاج منشط من
مفكِّرين آخرين. وكما يرى «تشومسکي»، فإن أمريكا تُديرها القُوَی التآمرية الخبيثة
للرأسمالية الكبيرة، والحكومة، و«نخبة القوة» في «البنتاجون». ولكي تحافظ على وضعها فإن
«نخبة القوة» تجرِّد البِنَى السياسية الديمقراطية من «مضمونها الحقيقي»؛ لكي «تهرب من
أيِّ تحدٍّ سياسي للمزايا وللسلطة المتحققة». الجمهور العام لا بد من إعادته إلى
«الطاعة» و«اللامبالاة» المعروفة عن «طريق ثقافة جماهيرية منحطَّة، وانتخابات سياسية
مزورة»، (أو موافقة مفبركة) ونظام إعلامي مغيِّب للعقول مسيطر عليها.
٥ وفي الخارج، فإن أمريكا القرن العشرين (ومثل الإمبراطورية البريطانية عند
«شبنجلر») قد أقامت إمبراطورية شاسعة، بالتحالف مع المصالح الرأسمالية العالمية من خلال
«دول إرهابية» في أمريكا اللاتينية، وأعمال عنف (تؤدِّي إلى إبادة جماعية) في آسيا
والشرق الأوسط وإسرائيل.
٦ ومثل «ماركيوز»، كان «میلز» يقارن الولايات المتحدة بالاتحاد السوفيتي،
مدَّعيًا أنه لا فرق بينهما كمجتمعَين صناعيَّين متقدِّمَين. أما بالنسبة ﻟ «تشومسکي»
فإن
أقرب نظير تاریخي لأمريكا هو ألمانيا النازية. رأسمالية الدولة ذات القاعدة العسكرية،
كلها إصرار على «ردع الديمقراطية» في الداخل وفي الخارج، والاحتفاظ بشبكة عالمية من
القوة والإرهاب الوحشي، حتى النظام التعليمي … يتمُّ استخدامه كميدان تدريب «للقوات
التي ستفرض الشروط النهائية للوضع القائم في السنوات القادمة لقرن أمریكي
متصور».
٧
إلا أنَّ هذه الإمبراطورية الأمريكية في الواقع، مؤسسة محكوم عليها بالفناء كما
يحذِّر «تشومسکي»، وكما قال في مقابلة معه في عام ۱۹۸۷م: «بعض المجتمعات منظَّم بحيث
يقود نفسه إلى دمار منتظر … والولايات المتحدة مثال على الانتحار «الكوني
الحتمي».»
٨ ناقد رادیکالي آخر وهو «جوناثان كوزول»
Jonathan Kozol يرسم صورةً كئيبة لأمريكا الحديثة مكوَّنة من العناصر نفسها. في عام ١٩٧٥م، توصَّل إلى
أنَّ أمريكا «نظام اجتماعي رائع، غني، خيِّر، معقَّد، مدمر». منذ الطفولة، يتم تدريب
الأمريكيِّين ليكونوا «عاجزين أخلاقيًّا»، ويفسِّر «کوزول» ذلك
بقوله: «العزل التكنولوجي الطويل قد خدَّر قدرتنا على الفهم الجيد والإحساس». وباختصار،
فإن الحياة الأمريكية قد تكون ما يصفه «نيتشة» ﺑ «الانحلال»، أو لعلها حياة «لم تَعُد
فيها حياة». إيمان أمريكا الطويل بالتقدم، يصبح نفوذًا قاتلًا كما يقول «کوزول». إنه
يُخفي عجزَ الفرد والظلم الاجتماعي والاقتصادي الشديدَين في الحياة الأمريكية. وباقتباس
عبارة «ألبير كامو»
Albert Camus: «التقدم، على العكس، يمكن أن يُستَغلَّ لتبرير النزعة المحافظة»، فإن «كوزول» مصمِّم
على أنَّ التاريخ
الأمريكي يقدِّم نظرةً انتهازية أكثر منها واقعية للمجتمع الصناعي: «أوشفتز، سيلما، ماي
لاي، ولاية «كنت»، كلها يتمُّ تجاهلها، أو تناولها كمجرَّد انحرافات تاريخية»، أكثر مما
هي أحداث عادية وحتمية في الحياة الحديثة. «الفظائع والأعمال الوحشية الحقيقية
والمتكررة، تتكاثر في هذا النظام الاجتماعي».
٩ ومثل «تشومسكي»، و«ميلز»، و«ماركيوز»، لاحظ «کوزول» وجودَ «نخبة قوة» تقوم
ببناء نظام شمولي دون الحاجة إلى القسر أو القمع المباشر. يقول: «التهديد الفيزيقي
والوجود المكثَّف للشرطة يُستخدمان هنا فقط كإجراء أخير» … إلا إذا كان ذلك في المدينة
الداخلية وضدَّ السود. وأوضح دليل على فساد أمريكا الأخلاقي في رأي «کوزول» هو معاملتها
للزنوج الأمريكيين. العبودية، الوحشية، العرقية، التمييز، الاستغلال … كلُّ ذلك يتبدَّی
کوجهٍ حقيقيٍّ للمجتمع الأمريكي، أو كما قال «دو بوا» ذات مرة بوضوح: إنَّ الحرب العالمية
الأولى كانت هي الوجه الحقيقي للغرب. «أرى أنَّ البيض جمیعًا متورِّطون في هذه الأمور،
ما دمنا نشارك في الحياة الأمريكية بشكل طبيعي، ونحاول أن نواصل حياتنا
العادية.»
١٠ ناقد رادیکالي آخر وهو «کریستوفر لاش»
Christopher Lasch أعاد تأطير الأفكار الثقافية النقدية
Kulturkritic القديمة في لغة «مدرسة فرانكفورت»
التي تعتمد على التحليل النفسي. بدأ كتابه «ثقافة النرجسية» (۱۹۷۹م) بوصفٍ باتَ مألوفًا،
يوضِّح كيف تملَّكت أمريكا وغيرها من المراكز الرأسمالية «أزمة ثقة» مسبِّبة «حالة من
التشاؤم»، بينما «تعكس الأزمة السياسية للرأسمالية أزمةً عامة في الثقافة
الغربية».
١١⋆ وأعلن «لاش» أنَّ الليبرالية «قد أفلست سياسيًّا وفكريًّا»، وبدلًا منها،
خلقت أمريكا ما بعد الصناعية ثقافة ما بعد حداثية، هي «ثقافة النرجسية … التي حملت
بتفسُّخها منطق الفردانية إلى أقصى مدًى له». ومثل الشخصية النرجسية العصابية عند
«فرويد» يعيش الأمريكي الحديث في عالم مغلق على نفسه … يفتقر إلى العمق الثقافي. ولخَّص
«لاش» هذا النموذج المتفسِّخ في عبارات تُذكِّرنا بهجوم «فيرنر سومبارت»
Werner Sombart على الليبرالية الألمانية أو
تسفيه «شبنجلر» للحضارة.
«القلق هو هاجس النرجسي الحديث، وليس الذنب. بعد تحرُّره من خرافات الماضي،
أصبح يشكُّ في حقيقة وجوده. هو في ظاهره مسترخٍ ومتسامح، ولكنه تنافسي في سعيه
للحصول على الأشياء والتصفيق له … إنه يسعى دائمًا إلى الإشباع الفوري، ويعيش
دائمًا حالة رغبة قلقة غير متحققة».
مقتبسًا عبارات من «أدورنو» و«إريك فروم»، هاجم «لاش» بعنف شديد، الثقافة الجماهيرية
الأمريكية ووسائل الإعلام الجماهيري، التي أسهمت في دفع ثقافة الخواء والرغبات غير
المتحققة تلك، وكما يقول «إريك فروم»، فإن الأمريكيِّين فقدوا القدرة على الشعور
الطبيعي، «حتى الشعور بالغضب».
١٢ ولم يكن الحلُّ عند «لاش» هو الاشتراكية، وإنما العودة إلى الغريزة بالمفهوم
النيتشوي. المجتمعات المحلية والضواحي ستصبح جماعة اجتماعية
Gemeinschaft مقاومة للعلم والتكنولوجيا و«الدولة
المتحدة». هذا التجدُّد الثقافي يمكن أن يتشظَّى إلى مجتمعات عرقية منفصلة كما يقول
«لاش»، بالرغم من أنَّ «مزايا تماسك المجتمع» تفوق أخطار الانفصالية العرقية.
١٣
وفي الوقت نفسه كان «لاش» يشكُّ في إمكانية إنقاذ هذه «الحضارة المحتضرة». يقول:
«الرأسمالية الحديثة لا ترفع النرجسيِّين إلى الشهرة والبروز فقط» في السياسة والحياة
الثقافية، وإنما «تُثير وتقوِّي الصفات النرجسية في كل واحد» أيضًا. وبعبارة أخرى: هي
تكون «كليانية» — بمفهوم «مدرسة فرانكفورت» — «لا مفرَّ منها» بينما كلُّ ما يأمل فيه
القيِّمون على الثقافة في القاع، هو «النجاة من آثار سقوطها».
١٤
حتى عندما كان الراديكاليون مشغولين بإدانة أمريكا والغرب بعبارات التشاؤمية
الثقافية، تحرَّك الليبراليون أنفسهم نحو تشاؤمية مروضة؛ فما سُمِّي ﺑ «حوار الشمال
والجنوب» في السبعينيات، كان يحمل الكثير من قلق «أرنولد توينبي» بشأن مستقبل عالم
يُهيمن عليه الغرب، بالإضافة إلى تابعه: ما بعد الليبرالية.
الاقتصاديون الأمريكيون والأوروبيون مثل «رينيه دومون» Rene
Dumont، و«باربرا وورد» Barbara
Ward، و«روبرت هيلبرونر» Robert
Heilbroner، و«ليستر ثرو» Lester
Thurow، كانوا يحثُّون بلادهم على أن تخضع لعملية إعادة هيكلة
المصادر الاقتصادية لهذا الكوكب. الشمال (الذي يعني أمريكا وأوروبا الغربية واليابان)
كان يستهلك مصادرَ كثيرةً أكثر من اللازم كما يحذِّرون، بينما لا يترك للعالم الثالث
سوى
القليل، بل الأقل من الضروري. كل نقطة بترول وكل رغيف خبز يستهلكها غربي، تمثِّل غذاء
يُؤخَذ من أفواه الأفارقة والآسيويِّين الذين يتضوَّرون جوعًا، كما جاء في رؤية «رينيه
دومون» و«برنارد روزييه» Bernard Rozier في کتابهما
«المستقبل الجائع»: (١٩٦٩م) «الأطفال في الدول المتخلِّفة، لا يبلغون أبدًا وعدهم
الكامل، وربما ماتوا بسبب توقُّف نموهم، لأن وجبة السمك التي كان يمكن أن تُنقذهم قد
ذهبت طعامًا للدجاج الذي التهمه الأغنياء».
کتاب «روبرت هیلبروتر»: «بحث في المستقبل الإنساني» (١٩١٤م) أوضح كيف أنَّ دور
«الإنتلجنتسيا الليبرالية» في العالم الحديث كان هو «إعداد الغرب» لإعادة تعريف مستقبلي
«للحدود الشرعية للقوة، وقيود الحرية المسموح بها، في عالم تنضب موارده وتقلُّ».
١٥ الاعتقاد بأن مستقبل الكرة الأرضية يتطلَّب دورًا غربيًّا أقل، ما يزال
بندًا مهمًّا بين الليبراليِّين المستنيرين. وبعد عشرين عامًا، كان «بول كينيدي»
Paul Kennedy يقتبس عبارات دبلوماسي من سنغافورة
عن «علم حساب الحماقة الغربية»:
«الغرب ۸۰۰ مليون نسمة، وفي بقية العالم يوجد ٤,٧ بليون نسمة … لا يوجد مجتمع
غربي واحد يقبل وضعًا يقوم فيه ١٥٪ من السكان بالتشريع ﻟﻟ ٨٥٪ الباقية».
وراح «بول کینیدي» يحثُّ الدول الغربية لعقد اتفاق أو صفقة جديدة بين الشمال والجنوب،
قبل أن يجتاحَهم في النهاية «معذبو الأرض» بتعبير «فانون».
١٦ نُقَّاد آخرون مثل «جان بول سارتر»، تبنَّوا معذبي الأرض أولئك دون تردُّد،
واعتبروهم إنسانية المستقبل الجديدة. وظهر «الوحش النبيل» — في رأي الاستشراق — في هيئة
مزارع العالم الثالث أو ساكن «الجيتو»:
متعاطف مندفع، قويُّ الجسم والعقل والروح، أكثر طاقةً وتكاملًا من نُظَرائه الغربيِّين
المتفسِّخين. وشهدت السبعينيات مولد «طائر رادیکالي صغیر»؛ حيث كان «الحجيج السياسي»
يسافر من أوروبا وأمريكا إلى كوبا ونيكاراجوا والصين وأنجولا؛ لاكتشاف الفضائل
المتجددة ذاتها، التي كان «دو بوا» قد قال إنه يراها في غانا نكروما. ووجد «سارتر» في
«فیدل کاسترو»، و«تشي جيفارا» تحقُّقًا للإنسان الحقيقي الذي كان يتكلَّم عنه، الإنسان
الذي يجمع بين الفكر والعمل، الفن والسياسة. وأعلن «سارتر» أنَّ ثورة «كاسترو» «قد
طوَّرت حدود الممكن»، أو كما قال زائر آخر: «تخرج وقد عاد إليك إيمانك بالجنس
البشري.»
١٧
«شخصية» العالم الثالث، الإنسان «الملوَّن»، ظهر ممتلكًا للحيوية الضرورية لتحقيق
التجدُّد، ليس لثقافة ما بعد الاستعمار فقط، وإنما لثقافة البيض المستهلكين أيضًا. بعد
زيارة لكوبا في عام ١٩٦٣م، قال «نورمان مایلر»
Norman
Mailer: «كنَّا عصبة من رجال مهزومين صامتين، أنت (موجِّهًا كلامه
ﻟ: «كاسترو») ساعدتنا، أعطيتنا ذخيرة روحية … في ذلك الصراع اليائس الصامت … ضدَّ سرطان
القوة الخبيث البارد الذي يحكمنا.»
١٨ وبعد ذلك أيضًا، كانت أفلام هوليود، مثل «الرقص مع الذئاب»، و«الجرينجو
العجوز» تزوِّد هذه الفكرة التكفيرية بالبيض الذين يغمرون أنفسهم في الفضائل البدائية
لأمريكا أصلية، أو أمريكا اللاتينية، حيث الاستنارة الروحية والخلاص، ومثل «الشرق
الغريب» في بدايات القرن التاسع عشر، كان العالم الثالث، وبخاصة في صيغة «الاشتراكية»
المنظمة، يمثِّل تناقضًا حادًّا مع عالم الغرب. في رحلة إلى «هانوي» عام ۱۹۷۰م،
امتدحت «سوزان سونتاج» مضيفيها الفيتناميِّين «الرائعين المبجَّلين»، الذين تتناقض
«هويَّاتهم اللطيفة والمتنوعة والراسخة» مع هويات أولئك «المجرَّدين من صفاتهم
الإنسانية»، و«الأموات الأحياء» الذين تُنتجهم الثقافة الأمريكية غير العضوية، الميتة،
المبنية على الشمولية والقسر: «دولة صغيرة وشعب لطيف … يُذبَحان بكل وحشية بيدِ أغنى
دولة في العالم وأقواها تسلیحًا». وكانت «سونتاج» مضطرةً لأن تستنتج في النهاية أنَّ
«أمريكا قد أصبحت دولةً مجرمة وشريرة.»
١٩ غرابة العالم الثالث هذه، أخذَت أيضًا أشكالًا اضمحلالية على نحو واضح،
واستطاع كتاب مثل «وعد عصر الظلام القادم» للمؤرِّخ «ل. س. ستافريانوس»
L. S. Stavrianos في عام ١٩٧٦م، أن يُجسِّر الهوة
بين ميل الغرائبيِّين نحو التجدُّد الثقافي، والانهزامية الليبرالية عند «توينبي». ومثل
عصور الظلام المسيحية التي تلَت سقوط «روما»، كان «ستافريانوس» يقول إنَّ السقوط القادم
للهيمنة الغربية سوف يخلِّص الشعوب غير البيضاء من العبودية الثقافية والاقتصادية،
ويبدأ مرحلة جديدة من السلام والرخاء. هذا الرخاء اللاغربي لن يتحقَّق عن طريق
الرأسمالية، وإنما عن طريق مجتمعات «جماعية» على النموذج «الجنوبي» نموذج العالم
الثالث (لا يوجد أيُّ ذكر لليابان في كتاب «ستافريانوس»).
كما أشاد «ستافریانوس» بمناقب «تنزانيا» تحت حكم «جوليوس نيريري» (عندما كان الناتج
الزراعي في تنزانيا يقلُّ بمقدار الثلث)، والصين الشيوعية أثناء الثورة الثقافية وتحت
«عصابة الأربعة»، وکمبوديا تحت حكم «بول بوت». هذه المجتمعات «الديمقراطية» الجديدة،
ولَّدَت كما يقول «ستافريانوس»: «تحرُّرًا حقيقيًّا للروح والطاقة»، سوف يلمس شعوب العالم
الأخرى.
٢٠
الكشف عن «ساحات الإعدام» في كمبوديا، وعدد الوفيات في أحداث الثورة الثقافية، خفَّض
من الحماس المتأجِّج لشيوعية العالم الثالث، ولكن التشاؤمية الثقافية المضادة للغرب
وأدواتها الهجومية ظلَّت حادَّةً كما هي. وهذه سوف يتمُّ إنجازها في الإطار الأمريكي
… إطار
«تشجيع التنوُّع».
التعدُّدية الثقافية في أمريكا: الهوية والحضارة
القوة، دون قدر من شعور المرء بنفسه، هي عندي شكلٌ آخر من أشكال عدم
الاستقرار، والسود سوف يصبحون إذن كما أصبح البيض تمامًا …
نیکي جیوفاني (۱۹۷۳)
يُندِّد دعاةُ التعدُّدية الثقافية دائمًا بصورة أمريكا التقليدية كبوتقة للانصهار،
ويقترحون بدلًا من ذلك مجازَ «اللحاف المرقَّع»؛
٢١⋆ حيث تتمازج العناصر العرقية المفردة مع احتفاظِ كلٍّ منها بطبيعته
المميَّزة.
٢٢ على أنَّ صورة بوتقة الانصهار الغامضة (والمربكة) تلك، قد ظهرَت كردِّ
فعلٍ ضدَّ نزعة التفسُّخ الباكرة، وهي خوف السكَّان الأصليِّين من «الانتحار العرقي»
الذي تُثيره موجات الهجرة. صورة بوتقة الانصهار تُوحي بأن أولئك المهاجرين من جنوب
وشرق أوروبا بما فيهم اليهود، يمكن أن يُصبحوا أمريكيِّين أصحَّاء عاديِّين، مثل أيِّ
نوع
من الأنماط الفيزيقية الأنجلو ساكسونية أو النوردية. أن يكون المرءُ أمريكيًّا، فتلك
عملية اندماج عنصري اجتماعي وثقافي، وليس مسألةَ نقاء عرقي.
٢٣
فكرة بوتقة الانصهار مدينة بنجاحها لضعف فكرة الأنجلو ساكسونية. في عام ۱۹۳۰م،
كانت نظريات العرق قد أصبحت محلَّ شكٍّ، وعدم ثقة في البداية بين المثقَّفين، ثم بين
النخب السياسية فيما بعد. خارج الجنوب كانت «الكوكلوکس کلان» تفقد التأييد والأعضاء
بشكل مضطرد، حتى في الجنوب، بدأت مقاومة الاندماج تلجأ أيضًا «للتقاليد المحلية»
وحقوق الولايات وليس لأسباب عرقية فقط، كما تراجعت المخاوف من اختلاط العرق
باعتباره يهدِّد الديمقراطية «الأنجلو ساكسونية»
٢٤ ولكن، في الوقت الذي فقدَت فيه النظريات العرقية قدرتها على تفسير
«الشخصية الأمريكية»، ظهرت نظرية اجتماعية نفسية جديدة سوف تكون مهمَّةً بالنسبة
للتعدُّدية الثقافية، وهي: نظرية الهويَّة.
المفهوم الحديث للهوية يستمدُّ قوته من نفس الرفض الرومانسي للتقدُّم المادي الذي
وضع بذرةَ الاعتقاد بالقوة الحيوية للثقافة. فكرة أنَّ جذور الهوية الفردية موجودة
في ذات شخصية فريدة، لم يكن لها مكانٌ في بداية التنوير. فالشخصية عند «فولتير»، و
«ديفيد هيوم»، و«آدم سميث» تتطوَّر نتيجةَ التفاعلات التي تحدث بين الحياة
الاجتماعية وقدراتنا العقلية الفطرية وعواطفنا الأخلاقية.
نظرية المجتمع المدني ترى أنَّ الكائن البشري هو ما هو؛ لأنه حيوان عقلاني
واجتماعي في ذات الوقت. وكان «هيوم» يشبِّه العقل بالمسرح الذي تتحرَّك عليه شخصيات
متعدِّدة جيئةً وذهابًا؛ فالتنوُّع شيءٌ يُمارَس في الداخل أكثر مما هو في الخارج، و«الهوية»،
باختصار تُشير إلى تحقُّق الفرد، وإلى أنه نفس الشخص بصرف النظر عن هذه
التغيُّرات الداخلية.
٢٥ وعند الرومانسيِّين الإنجليز والألمان تُضحِّي هذه الصورة المحدَّدة
الجاهزة، بصلات الإنسان العضوية والحيوية بالطبيعة ووجوده الفيزيقي. ونتيجة لذلك،
كان الشاعر «ووردزوورث»
Wordsworth وغيره يحذِّرون من أن يصبح الكائن البشري آلةً بلا عواطف ولا مشاعر (ليست مختلفة عن
العامل
المغترب عند ماركس)، تقرِّر الظروف المحيطة به حياته تمامًا، فهو يصبح سطحيًّا،
فارغًا، ضعيفًا، وسهلَ الانقياد لرغبات ومطالب الآخرين، التي يسمِّيها التنوير ﺑ
«قواعد السلوك». بعض النقَّاد الألمان مثل «بول دو لاجارد»
Paul de
Lagarde كانوا يقولون إنَّ الفرد الذي تُنتجه قواعد السلوك في
المجتمع، يعوزه العمق بشكل أساسي، كما كان «نيتشة» يعتبره مُقعدًا من الناحية
العاطفية. وسوف يصفه علماء الاجتماع، مثل «ديفيد ريزمان»
David Riesman فيما بعد، بأنه «الشخصية التي يوجِّهها الآخر». بدل
ذلك كله، لا بد من أن يُعادَ توحُّد الإنسان بهويته الحقيقية، بالنفس أو الذات
الداخلية، التي تقاوم فيها الينابيع الحيوية للإيروس كلَّ التكوين الاجتماعي، كما كان
«فرويد» يقول.
في الأربعينيات، أشاع «إريك إريكسون»
Erik
Erikson تلميذ «فرويد» مصطلحَ «تكوُّن الشخصية»، لوصف التفاعل
الداخلي بين تلك الذات التي تُوجه وتختار والتي لا يمكن اختزالها، وبين المتطلبات
المفروضة على الشخص من
٢٦ المجتمع والآخرين.
الشخصية السليمة أو الهوية المشكلة جيدًا مبنية على توازن بين الاثنين.
«الهوية مسئولة عن محافظة الفرد على تضامن داخلي مع مُثُل وتطلُّعات الجماعات
الاجتماعية»، بينما تحافظ على شعوره بالفرادة في ذات الوقت، كما يقول
«إريكسون».
٢٧
ولكن في المراحل التاريخية الحاسمة — كما حذَّر — فإن احتياجات الذات واحتياجات
المجتمع تصبح متعارضة. والنتيجة هي «أزمة الهويَّة». وتوقَّع «إريكسون» أنَّ أزمات
الهوية هذه ستكون حادَّةً في المجتمع الحديث؛ لأن التغيُّرات الاقتصادية والاجتماعية
التي توسِّع مجال الفرص الجديدة أمام الأفراد، تتطلَّب أيضًا «هويَّات ذاتية الصنع،
جاهزة للإمساك بعدة خيارات»، أو أدوار اجتماعية.
وقد تناولت مجموعة من علماء الاجتماع الأمريكيِّين موضوع الهويَّة وصورة الذات في
كتاباتهم في الخمسينيات،
٢٨⋆ بينما
كان آخرون يبحثون عن نماذج أخرى لتفسير كيفية تأثير المجتمع الحديث على شعور الفرد
بالهوية. وبالطبع، كان لا بد أن يجبر النقاش الدارسين على نظرة جديدة إلى التحدِّي
الذي واجهَته الجماعات القديمة والجديدة المهاجرة في التكيُّف والتأقلم مع بيئة
أمريكية غريبة، ووقائع اجتماعية واقتصادية جديدة.
کتاب «ويل هيربرج» Will Herberg، وعنوانه
«اليهودي الكاثوليكي البروتستانتي»، نقل قضيةَ الهويَّة و«العرقية»، كما كانت تُسمَّى
قبل عملية «الأمركة»، إلى الصدارة والمركز. كان «هيربرج» يقول، مهما كانت قوة دفع
المهاجر في دوامة المجتمع الأمريكي الحديث، إلا أنه في الواقع لا بد من أن يحتفظ
بشكلٍ ما من «التوحُّد الاجتماعي» بجماعته العرقية الأصلية، كنوع من حفظ
الذات.
بوتقة الانصهار أصبحت «بوتقة انصهار ثلاثية». يقول «هيربرج»: «أن تكون
برتستانتيًّا أو كاثوليكيًّا أو يهوديًّا، فتلك هي البدائل اليوم لأن تكون
أمريكيًّا.»
٢٩
«إريك إريكسون» نفسه (وكان لاجئًا من ألمانيا النازية) يؤكِّد أنَّ المجتمع
الأمريكي يمكن أن يحرِّر الغريب عن الجماعة من معیِّنات هويته السابقة «القبلية»
والقومية. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يدفع جماعات معينة أبعد من قدرتها على التكيُّف
والتواؤم، أما الأمثلة التي لجأ إليها فهم: «هنود السيوكس» Sioux
Indians، والسُّود الأمريكيون. والواقع أنَّ المسافة من «إريك
إريكسون» وأزمة هويَّة الإنسان الحديث، إلى «إريك فروم» وإنتاج الرأسمالية المنظم
لذوات أو «هويات» مختلَّة وظيفيًّا، ليست قصيرة.
وبحلول الستينيات، كانت بوتقة الانصهار الأمريكية تبدو عدوًّا للهويَّة أكثر
فأكثر: المواصفات البارزة للمجتمع الأمريكي الحديث — وعدُه بالنجاح المادي الشخصي،
حَرَاكُه، فُرَصُه التي لا مثيل لها من أجل الحرية الفردية — كانت تُقلل من أهمية استقرار
الذات. كانت «الهويَّة» كما فسَّرها أحد كتب الاجتماع في ذلك الوقت: «كل الأشياء التي
يمكن أن يقولها الشخص عن نفسه بشكل صحيح وموثوق؛ حالته الاجتماعية، اسمه، شخصيته،
حياته السابقة». ولكن هذه الهويَّة لا يمكن أن تظلَّ كما هي أمام الإطار الاجتماعي
سريع التغيُّر. دوامة الاغتراب التي تسبِّبها الحداثة، الإحباط وطمس الشخصية.
«عندما يكون الإطار الاجتماعي غيرَ جدير بالثقة، فنتيجة ذلك أن يصبح الشخص غير قادر
على أن يقول عن نفسه شيئًا صحيحًا أو موثوقًا»، ويصبح مضطرًّا للاعتماد على تقييم
الآخرين، والذي هو أيضًا غير جدير بالثقة، والأهم من ذلك كله أنه يعكس حاجات
الآخرين، أكثر مما يعكس حاجات الشخص نفسه،
٣٠ وخاصة إذا كان أسود.
ويُجمِع علماء الاجتماع الليبراليون بدءًا من «إريكسون» نفسه على أنَّ المشكلة
الرئيسية للزنوج الأمريكيِّين، كانت أنَّ لديهم «احترامًا للذات» في مجتمع يعاملهم كبشر
أدنى؛ وبذلك يوجِّه ضربة قاضية لتكوين هويته في أحسن الأحوال. كتاب «توماس بتي
جرو» Thomas Pettigrew الصادر في عام ١٩٦٤م
بعنوان: «صورة الزنجي الأمريكي»، يركِّز بشكلٍ تامٍّ تقريبًا على قضية علم النفس
الاجتماعي. الحياة في أمريكا بالنسبة للزنجي «ضربة عنيفة»، وسلسلة من «صدمات
للهوية»، يشعر معها بأنه أمريکيٌّ تمامًا في الفكر والسلوك، ولكنه محقَّر وقليل
القيمة في نظر الآخرين، ورغم أنه يؤمن بتكافؤ الفرص وبالحلم الأمريكي مثل أيِّ شخص
آخر، إلا أنه كما يشير «بتي جرو» لا يرى في وسائل الإعلام والحياة اليومية سوى
البِيض، الذين يحقِّقون النجاح والمكانة الاجتماعية، بينما رفاقه السُّود مقهورون
مُجبَرون على تلميع الأحذية، وتقديم المناشف في دورات المياه. وفي ظلِّ هذه التناقضات
الواضحة في حياته الشخصية، وغيبة نماذج الدور الإيجابي (كما سيطلق عليها فيما بعد)
فإنه يضطرُّ لتصديق أنه أقلُّ شأنًا وقيمة بالرغم من نجاح عملية الدمج.
ويرى «جوناثان كوزول» أنَّ الاتجاه السائد في التعليم في أمريكا يمثِّل «حكمًا
بالإعدام» على الزنوج؛ بسبب انحيازه العرقي الضمني، وتجاهله لإحساسهم بالهويَّة
والوعي الجمعي.
٣١
وانضمَّ إلى الجوقة جميعُ الكتَّاب السُّود: «رالف إليسون»
Ralph Ellison، و«ريتشارد رایت»
Richard Wright، و«جیمس بولدوين»
James Baldwin، الذين كانوا يفسِّرون مفاهیم «فرانز فانون» و«سارتر» عن «الأصالة» و«الوجود لذاته»
في مواجهة «الوجود من أجل الآخرين». كانوا مصمِّمين على أنَّ المواطن الأسود في أمريكا،
مثل المواطن الأسود في المستعمرات الفرنسية في
أفريقيا عند «فرانز فانون»، مضطر للبس قناع، هويَّة ليست له، ولكنها هويَّة عيَّنها
له البِيض.
٣٢⋆
إحساس الزنجي الحقيقي بذاته قد انتُزِع منه — كما يقول «رايت» وآخرون — بواسطة
حاجة العنصرية البيضاء للإبقاء عليه في وضع التبعية. كان «جیمس بولدوين» يقول إنَّ
البِيض لن يتمكَّنوا أبدًا من الاعتراف بمساواة السُّود لهم؛ لأن ذلك سوف يدمِّر
«هويَّتهم» التي بنَوها على أسطورة التفوُّق العرقي.
٣٣
وبالرغم من أنَّ «بتي جرو» و«بولدوين» وغيرهما كانوا يؤكِّدون على فرادة تجربة
الزنوج الأمريكيِّين، إلا أنَّ مزاعمهم عن فقدان الهويَّة كانت هي الفرضية الرئيسية لكل
المناقشات التي ستحدث حول الهويَّة والتعدُّدية الثقافية.
وبطبيعتها فإن القُوَى الاجتماعية التي تُشوِّه صورةَ الزنوج، لم تكن مقصورةً على
السُّود، أكثر مما كانت نظرية «مارکس» عن الاغتراب مقصورةً على العمَّال. وكما يقول
«بولدوين» فإن السُّود يدركون تمامًا ما لا يُدركه جيدًا الأمريكيون البِيض، وهو أنَّ
الحلم الأمريكي هو في حقيقته كابوس اغتراب وعنف، وصراع من أجل السيادة، و«من
المستحيل أن تتحقَّق فيه الهويَّة، ويحاول فيه الناس بشكل دائم أن يجدوا أقدامهم على
رمال الوضعية المتحرِّكة».
«بولدوين» يقول: إنَّ الزنجي الأمريكي بتمرُّده على اللامعنى عن طريق المخدرات
والجريمة وأعمال الشغب (١٩٦٥م)، فإن ذلك يجعل منه «الشخصية الرئيسة في وطنه»؛ لأنه
يكشف عن حقيقة إنسانية أساسية: «هذا الاغتراب السحيق عن النفس وعن الأهل هو في جزء
منه: التجربة الأمريكية».
٣٤
المربِّي والمنظِّر الراديكالي «إدجار. ز. فرايدنبيرج»
Edgar Z.
Friedenberg حوَّل هذا الخوف من الاغتراب إلى محاجة من أجل عملية الدمج، فيقول: «إنَّ المجتمع الأمريكي
باستيعابه السُّود الموجودين فيه، يكون قد
هيَّأ لنفسه الفرصةَ الأخيرة؛ «لكي يضخَّ في كيانه تيارًا من البشر تمَّ احتجاز رؤاهم
الأخلاقية، فازدادت حدَّة بسبب إبعادهم عن فرص خيانة الذات وتعزيز الذات»، التي
فرضَتها الرأسمالية على كلِّ مَن سواهم.»
٣٥ بالنسبة لدعاة التشاؤمية العرقية عند نهاية القرن، فإن وجود «الزنجي»
كان يهدِّد بالتفسُّخ القومي عن طريق الانتحار العرقي، أما بالنسبة لدعاة
التشاؤمية الثقافية في الستينيات والسبعينيات، فإن وجوده كان يبدو الأمل الأخير
لمنع التفسُّخ القومي عن طريق الحضارة الرأسمالية.
في عام ١٩٥٩م كتب «نورمان مايلر» Norman
Mailer مقالًا نبوئيًّا بعنوان: «الزنجي الأبيض» لمجلة
«إسكواير» Esquire، كان أنشودة مديح ﻟ «جیل» اﻟ «بيت»، و«الهيبيز» Beat Generation
وGreenwich Village hipsters، بشائر ما سوف
يُطلق عليه بعد ذلك «الثقافة المضادة». كان «مایلر» يعتبرهم ثوَّارًا ضدَّ «الاندفاعة
الفاوستية» للحضارة «من أجل السيادة على الطبيعة». ويقول إنهم ثاروا من خلال
الإطلاق العربيدي لطبيعتهم الحيوية بواسطة موسيقى الجاز والجنس والمخدرات والجريمة.
نموذجهم هو الزنجي الذي بقي حيًّا في المجتمع الأبيض الظالم عن طريق «اتباع حاجات
جسده»، والحياة من أجل «ركلات وهزات الموسيقى الصاخبة الليلية أيام السبت». الزنجي
الأمريكي احتفظ بفن الإنسان البدائي من أجل الاحتفاظ بحياته، الأمر الذي يمكن أن
يكون نموذجًا يُحتذَى لبقاء البِيض أيضًا.
ويقول «مایلر»: «في هذا الزواج بين الأبيض والأسود، الزنجي هو الذي يدفع «المهر»
الثقافي. وبعيشه اللحظة التي هو فيها، عن طريق «الوعي المشتعل بالحاضر» في مواجهة
ماضٍ مكبَّل بالتقاليد، أو مستقبل يحكمه التقدم، فإن الزنجي و«الهيبي»
hipster يتشاركان في إرادة القوَّة نفسها مثل:
«الوجودي، والمضطرب العقل، والقدِّيس، ومصارع الثيران، والعاشق».»
٣٦
زنجي «مایلر» يعيش في عالم العدمية النيتشوية، عالم «الوجود لذاته». في الوقت
نفسه، كان هناك مَن ينظر إلى مستقبل الزنجي على نحوٍ أكثر شعبية. الهروب من التيار
الرئيسي الفاسد للثقافة الأمريكية، يعني عمل ما كان «هيربرج» وغيره يقولون إنَّ
الجماعات العرقية مثل الهنود والإيطاليِّين يفعلونه أو: «التحوُّل إلى هويَّة سابقة
للبحث عن جذورهم». كُتَّاب مثل «رالف إليسون»، وعلماء اجتماع مثل «جویس لاندر»
Joyce Lander قد مجَّدوا هويَّة ثقافية سوداء،
ثرية، نابضة بالحياة، في نفس الوقت الذي يطالبون فيه بالدمج والاستيعاب مع
الأمريكيِّين البِيض. على أنَّ أهم عنصر مكون في هذه الهويَّة السوداء كان سلبيًّا في
الأساس: تاريخ طويل بائس من العبودية كالأثاث المنقول، عنف عرقي، والبحث عن مجتمع
مفقود في أفريقيا كما عند «دبليو إي بي دو بوا». الهويَّة الأمريكية السوداء هي
هويَّة تمَّ تشكيلها في الدم والنار، ولا تختلف عن القومية الألمانية الرومانتيكية
التي واجهها «دو بوا» في تسعينيات القرن التاسع عشر. «دو بوا» نفسه، أصبح شخصًا
متطابقًا مع الأفكار الجديدة بين المثقَّفين السُّود الشبَّان.
مقتل «مارتن لوثر كنج» الأصغر في عام ١٩٦٨م، والإحباط الناتج عن عدم إحراز
تقدُّم في عملية الدمج، أدَّى بجيل جديد من القيادات السوداء للبحث عن بدائل.
الراديكاليون السُّود اتجهوا نحو كلٍّ من «دو بوا» و«مارکوس جارفي»، اللذَين كانا
يقولان إنَّ الأمريكيِّين السُّود لن يكونوا متساوين تمامًا مع الأمريكيِّين البِيض،
إلا
إذا بنَوا مجتمعهم الأسود المستقل. «مالكولم إكس» حدَّد الطريق نحو إعادة عملية
التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي، ومصرعه في عام ١٩٦٧م، جعل منه شهیدًا
للراديكاليين الانفصاليِّين السُّود.
«روي إينيس»
Roy Innis وهو مثل «جارفي»، أسود
من جزر الهند الغربية، دفع لجنة المساواة الأمريكية
Committee on
Racial Equality-CORE، نحو برنامج عمل من أجل انفصالية سوداء،
رغم اعتراض رئيسها الأصلي «جيمس فارمر»
James
Farmer. أسود آخر من جزر الهند الغربية وهو «ستوكلي کارمايكل»
Stokely Carmichael، فعل الشيء نفسه مع لجنة
تنسيق حركة الطلاب المعارضة للعنف
Student Nonviolent
Coordinating Committee-SNCC كان
«کارمايكل» يحاكي المسلمين
السُّود (الذين كانوا شديدي التأثُّر بأفكار «جارفي»)، واستعار شعارهم: «أسود يعني:
جمیل»، وعبارتهم «شقيق الروح»، كجزء من أجندة سياسية جديدة هي: «القوة السوداء»
Black Power. ونتيجة لذلك، أخذت قضية «الهوية
السوداء» وجهةَ أخرى لم يكن يتوقعها «إريكسون» أو «هيربرج»، ولا كان من الممكن أن
يوافقا عليها. بالرغم من تجربة «إريكسون» الشخصية في ألمانيا الفاشية. «ستوكلي
كارمايكل» كان يُعرِّف القوة السوداء بأنها: «نداء للسُّود في هذا البلد أن يتَّحدوا،
أن يتعرَّفوا على موروثهم، وأن يبنوا معًا شعورًا مجتمعيًّا». ولكي يصبحوا قوةً
سياسية فاعلة في الولايات المتحدة، فلا بد لهم من أن يحقِّقوا «الهويَّة الذاتية»،
و«تقرير المصير» كمجموعة وليس كأفراد. وستكون النتيجة — كما يؤكِّد — هي بروز وعي
أسود «توجُّه أخوي مجتمعي بين السُّود … من كل منهم نحو الجميع».
٣٧
ولكن «القوة السوداء»، كانت تعني أيضًا «أنَّ السود يرون أنفسهم جزءًا من قوة
جديدة تُسمَّى أحيانًا «العالم الثالث»؛ لأننا نرى أنَّ نضالنا وثيقُ الصلة بنضال
التحرُّر في كل أنحاء العالم». «کارمايكل» اقتبس عبارة «فرانز فانون»: أنَّ
«الولايات المتحدة أصبحت وحشًا شديد البشاعة والتشوُّه، نمَت فيه كلُّ مفاسد وأمراض
ولا إنسانية أوروبا إلى أبعاد مخيفة».
٣٨
كتب «کارمايكل»: «لا بد أن تُدرك أمريكا السوداء أنها في واقع الأمر مستعمرة من
قِبل الأمريكيِّين البِيض. الجيتو المديني موجود لأنه يقدِّم «فرصًا للربح» لرجال
الأعمال البِيض الطفيليِّين، كما كان عالم الاجتماع «كينيث. ب. كلارك» يقول «في
الجيتو الأسود» دعمًا للنموذج الاستعماري الذي قال به «کارمايكل».» في وجه المقاومة
السوداء «يميل البيض لرؤية مصالحهم بطريقة موحَّدة ومتماسكة» مكوِّنين ما يسمِّيه
«کارمايكل» — وهو يُردِّد هنا أقوال «سي. رایت میلز» — «بنية القوة البيضاء». ويقول
بإصرار إنَّ على السُّود الآن أن يكوِّنوا حركتهم السياسية الموحَّدة، وسوف تكون شخصية
هذه الحركة مألوفةً لأيِّ قارئ ﻟ «فيرنر سومبارت» أو «آرثر مويلر فان ديك بروك».
الثقافة السوداء الحقيقية ترفض جميع المعايير البرجوازية البيضاء؛ حيث إنَّ «قيم تلك
الطبقة هي في ذاتها مضادة للإنسانية» وعنصرية. والواقع أنَّ أيَّ شخص أسود يتبنَّى
معايير وقيم الطبقة المتوسطة الأمريكية يتوقَّف عن أن يكون أسود.
٣٩ وهي ترفض الليبرالية بإيمانها — معسول اللسان — بالتوفيق والوحدة بين
الأجناس، وترفض الرأسمالية متطلِّعةً بدل ذلك إلى بناء مجتمع قائم على «أناس أحرار
وليس مشروعات تجارية حرَّة». القوة السوداء، تعبِّر أيضًا عن منظور «جارفي» بأن
اللون الأسود يمكن أن يكون وسيلة للتعبئة الجماهيرية، وتدمير الحضارة البيضاء
المتفسِّخة. كان «کارمايكل» يحثُّ السود، على «خلق قيم جديدة»، بالمعنى الموجود عند
«هيدجر». ومثل نظرائه في الثورة الألمانية في صفوف اليمين، كان «کارمايكل» ينظر إلى
حقبته على أنها «زمن دینامي»، يجب أن تحلَّ فيه أشكال جديدة من السلطة والقوة محلَّ
الأشكال القديمة. صعود حركة القوة السوداء سوف يكنس من طريقه «البِنَی والمؤسسات
العتيقة» التي تنتمي للماضي كما كان يتنبَّأ «کارمايكل»، بما في ذلك التفرقة
العنصرية، وسوف يكون شعارها «التحديث وليس الاعتدال».
٤٠
القومية السوداء الشعبية، وخلْق قيم جديدة عند «کارمايكل» يتطلَّبان، كما كان
المسلمون السُّود يُصرِّون، إزالة هويَّة استعبادية زائفة من أجل هويَّة حقيقية (أي
أصيلة)، جذورها هناك في أفريقيا السوداء؛ وذلك يتضمَّن إزالة/محو تلك العلامة
الواضحة للهويَّة وهو اسم الشخص. وهكذا، بمجرد أن طرح «مالكولم ليتل»
Malcolm Little اسمه العبودي، وسمَّى نفسه ﺑ
(×) ليدلِّل على غياب هويَّته في مجتمع أبيض متعصِّب، ظهر الملاكم «كاسيوس كلاي»
Cassius Clay باسم «محمد علي»، ونجم كرة
السلة «ليو ألسندور»
Lew Alcindor باسم «كريم
عبد الجبار»، وشاعر اﻟ «بيت»
Beat: «لو رواجونز»
Le Rois Jones باسم «إمامو أميري برکة» (متجاهلين للحظة أنَّ الأسماء الإسلامية تعبِّر عن هويَّة فرضَتها
نخبة استعبادية
سابقة وهم العرب). «كارمايكل» نفسه أصبح «كوامي توري»
Kwame Touré على اسم طاغيتَين أفريقيَّين في الستينيات: «سيكو توري» في
غينيا، و«كوامي نکروما» في غانا، المخلِّص «الفاشل» لكل أفريقيا كما كان «دو بوا»
يتمنَّى. ورغم الآمال في حركة جماهيرية ثورية، ظلَّت القوة السوداء مسألةَ هويَّة
ثقافية شخصية بقدر ما هي قوة سياسية؛ فقد زوَّدت الفرد بنفس الرسالة مثل قرينتها
الشعبية الألمانية أو الزنوجة الفرنسية: أي استيعاب في داخل الحضارة الرئيسية،
يهدِّد هويَّة الفرد الحيوية وهويَّته العضوية الجماعية. وكان «أليوني دیوب»
Alioune Diop مؤلِّف الزنوجة، يُذكِّر
القُرَّاء بأن هدف المجتمع الأبيض هو «أن يجعل الفرد مقتلعًا من أرضه الطبيعية التي
كوَّنت شخصيته، ويوافق على تغيير أساليب تفكيره ومشاعره، ويتصرَّف كما يريد الآخرون»،
بالقيم الزائفة لمجتمع أبيض مغاير.
٤١ وفي مقابل هذا الاغتصاب الثقافي، تبنَّت القُوَى السوداء مصطلح
«دو بوا»: «الروح»، شعارًا لها، دون التفكير طويلًا في علاقته بالأيديولوجيات
الألمانية العرقية والثقافية النازية. وبدلًا من ذلك قُدِّمت الهويَّة السوداء
الجديدة في الشكل المألوف للمسيحية الإيفانجيليكية الأمريكية. في عام ۱۹۷۰م، وصف
عالم النفس الأسود «وليم كروس»
William Cross في
ورقة يُشار إليها ويُقتَبس منها كثيرًا، تحول الفرد من الهويَّة الزنجية إلى
الهويَّة السوداء بلغةٍ شبهِ دينية على أنه «اهتداء»، على أنَّ العناصر المحدَّدة لها
كانت كلها مأخوذةً مباشرة من التراث الألماني للتشاؤمية الثقافية، وقال «کروس»: إنَّ
الزنجي الذي يتوحَّد بالقيم الأمريكية السائدة ساذجٌ سياسيًّا، مؤمن بأخلاقيات العمل
البروتستانتية، معتمد على رموز السلطة البيضاء أو نماذج الأدوار، وممتثل في عاداته
الاجتماعية والدينية. وباختصار، هو الشخصية السلطوية عند «أدورنو» ولكن ببشرة
سوداء. نسخة مكررة من شخصية «العم توم»، التي تنطبق على «مارتن لوثر كنج-الأصغر»
(التي كان الراديكاليون السُّود يحتقرونها بشدة)، كما هي أيضًا عند «كلارنس توماس»
Clarence Thomas، هذا الزنجي المستأصل من
جذوره، يفضِّل أن يُطلَق عليه «مواطن أمريكي»، أو كائن بشري «متحضِّر»، بدلًا مما
هو شخص أسود.
وبالرغم من أنَّ حقيقة موقفه قد تمَّ شرحها له من قِبل أنداده السُّود، إلا أنه يمرُّ
بالتغيُّر الحاسم. «قلبه يدقُّ بعنف، يداه تعرقان، عيناه تمتلآن بالدموع، ينطق الشخص
لأوَّل مرَّة بالكلمات السحرية: «أسود يعني: جمیل»، يُدرك أنَّ عملية غسيل مخٍّ قد تمَّت
له بواسطة عدوِّه الحقيقي، الرجل الأبيض. والنتيجة هي «الغضب الأسود» الذي يُوحي له
بالبحث المحموم عن هويَّته الحقيقية والأصيلة التي دفنها أعداؤه البِيض. «کروس»
يتعجَّب: «زنجي يموت، وأمريكي أسود يُبعَث»!»
٤٢
والنتيجة تحوُّل مثير يُشعر بإعادة ميلاد للحيوية تبدو كأنها مزيجٌ من أفكار
«إرنست هايكل»، و«إريك فروم». والآن هو إنسان خلَّاق (الفنَّانون المحترفون يتكلَّمون
عن تغيُّر عميق وأساسي في نوعية أعمالهم)، وواسع الخيال، ونَشِط سياسيًّا.
«الشخص يتحوَّل من تفضيله الفردية إلى التبادلية أو الجماعية. نغمة جديدة متواصلة
من إنكار الذات والإخلاص والالتزام تبدو واضحةً». تغمره مشاعر حب واحترام الذات إلى
جانب حب الآخرين؛ حيث تكون هويَّته الغربية القديمة قد «كبحت عواطفها».
إحساسه بالمشاركة المجتمعية مع السُّود الآخرين يتأكَّد؛ حيث يناديهم ﺑ «الإخوة»
و«الأخوات»، مجتمع مبني على روابط عاطفية، وليس على المصلحة الشخصية العقلانية
(كما هو الأمر في المجتمع السياسي الأمريكي). أبطاله الجدد هم «مارکوس جارفي»، و
«أنجيلا ديفيز»، و«فرانز فانون»، وهو يقوم بالإعداد أيضًا من أجل تعبئة سياسية
طبقًا لصورته الجديدة عن نفسه. وبالرغم من أنه يُدرك أنَّ الثورة العنيفة على المستوى
الشامل، التي كان يُبشِّر بها «فانون» ليست ذات جدوى في أمريكا، إلا أنه سوف
يتبنَّى خطابًا يتضمَّن «المواجهة، والغلظة والمباشرة» في التعامل مع ظالميه
القُدامى من البِيض، ويؤكِّد صورته الجديدة والحيوية عن نفسه. العنف اللغوي كشكل
من أشكال الحيوية الثقافية يتزامن ويتوافق مع العنف المادي كجزء من نفس الثقافة
السوداء المعادية للغرب. وبتقليب صفحات «روح على الجليد» تأليف «إلدرج كليفر»
Eldrige Cleaver، وكتاب
Soledad Brother ﻟ «جورج جاكسون»
George Jackson، أو شعر «لو روا جونز»
Le Rois Jones، يلتقي المرء بالاحتفاء بالعنف
كعملية تنظيف وتطهير (كما في العنف المقدَّس عند «فرانز فانون»)، وكتأكيد للهويَّة
الثقافية الحيوية. السفَّاح المجرم الأسود في المدينة الداخلية، أو قاطع الطريق
يأخذ الصورة الفاتنة لفلاح «فانون»، أو رجل العصابات الثوري؛ حيث إنَّ عصابات شوارع
المدن قد أعادت تنظيم نفسها في «النمور السُّود». وفي فقرة رديئة، كان «نورمان
مایلر» يمتدح «حيوية» و«جسارة» أولئك السفَّاحين عندما يقتلون أصحاب المحلات في
المناطق المجاورة. كتب: «لأن الواحد لا يقتل مجرَّدَ رجل ضعيف يناهز الخمسين، وإنما
يقتل مؤسسة كاملة «اسمها الملكية الخاصة».» ويُنهي «مايلر» كلامه ﺑ: «هكذا يتحدَّى
السفَّاح المجهول، وبصرف النظر عن وحشية الفعل، إلا أنه ليس فعلًا
جبانًا.»
٤٣ مجرم المدينة المتحلِّل السابق أصبح الآن رجل العصابات الحيوي الشجاع.
مجرم كاليفورنيا القاتل المُدان «جودج جاکسون»، كان يری توسُّل «فانون» للعنف
ملائمًا تمامًا لمحاربة العنصرية في الولايات المتحدة، والتي كان يرى هو وغيره من
الراديكاليِّين أنها تؤكِّد الشَّبَه بين المجتمع الأمريكي وألمانيا النازية. يقول
«جاكسون»: «ليس من المفترض أن ينجح العنف في أمريكا. لِمَ لا؟! طلقة من بندقية في يد
مقاتلٍ فيتناميٍّ من جيش التحرير ستقتل خنزيرًا في فيتنام. لماذا لا تقتل خنزيرًا في
المكان الذي تصنع فيه الخنازير؟» ولم يُهمل «جاکسون» البُعْد الاضمحلالي:
الحضارة الغربية تحتضر لأنها مرتبطة بنظام اقتصادي متفسِّخ منذ مائة عام …
قدرتها البادية على الخروج من الأزمة ليست دليلًا على قوة طبيعية. إنها
بالأحرى دليل على إرادة قوَّة مدمِّرة بأيِّ ثمن.
٤٤
عند «جاكسون» و«كليفر» وغيرهما من متطرِّفي القوة السوداء، يعكس العنف الأسود
حيويةً تعتبر اختراقًا نحو الواقع، كما كان الأمر عند «نيتشة» والتعبيريِّين الألمان.
الرقص السحري في الشارع مثلًا، كما يقول «لو روا جونز»: «اركضْ جيئةً وذهابًا في
«رودستريت»، واجرف النفاية معك. كل المحلات ستفتح لك إذا نطقت بالكلمة السحرية،
والكلمات السحرية هي: وجهك للحائط، يداك لأعلى … إخواننا يتحرَّكون في كل مكان
يحطِّمون الوجوه البيضاء الهلامية. لا بد أن نصنع عالمنا يا رجل، عالمنا الحقيقي،
ولا يمكن أن يتحقَّق ذلك إلا بموت الرجل الأبيض.»
٤٥
وفي التحليل الأخير، نجد أنَّ هذه الصورة النمطية للثقافة الأمريكية المريضة مدينةٌ
بوجودها لنقَّاد من اليسار الجديد.
٤٦⋆
كانت أمريكا الآن تكشف عن المواصفات الكاملة لحداثة أو حضارة متفسِّخة، وكذلك
إمبراطورية «فاوستية» متحلِّلة. «نعوم تشومسکي» Noam
Chomsky، و«مایکل بارنتي» Michael Parenti، و«ريتشارد بارنت» Richard
Barnet، و«ريتشارد سلوتكن» Richard Slotkin كلهم كانوا يوضِّحون أنَّ الثقافة الأمريكية تمجِّد العنف والاستعمار والإبادة الجماعية.
فقد مارست شكلًا شريرًا من الرأسمالية والقمع
التكنولوجي (وصفه «ليو مارکس» في كتابه «الآلة في الحديقة»)، وليبرالية مفلسة
(انتقدها «روبرتو يونجر» بشدة)، ونزعة استهلاكية مستغلة (قام بتعريتها «كريستوفر
لاش»، و«وليم لیش»)، إلى جانب العنصرية والحقد ضدَّ جميع الأقليات والجماعات
الخاضعة. ليس السُّود فقط هم الذين عانوا من الإذلال والإهانة على أيدي المجتمع
الأمريكي في غالبيته، وإنما عانى أيضًا: الهنود الأمريكيون، واليهود، والصينيون،
واليابانيون، والمكسيكيون، والهسبانيون، والنساء.
وبهذا المعنى، كان المجتمع الأمريكي مجتمعًا غربيًّا نموذجيًّا. في عام ۱۹۷۹م، شرح
الناقد «إدوارد سعيد» كيف أنَّ الثقافة الغربية كلها ثقافة إمبريالية، وهو كواحد من
تلاميذ «فوکو»، و«تشومسكي»، و«مدرسة فرانكفورت» (يقتبس من «أدورنو» و«فانون» في
أعماله السابقة)، يقول إنَّ الغرب كله، ومنذ عصر التنوير، يشكِّل «خطابًا عن الآخر»
واسعًا وكليانيًّا. والآخر هو الشعوب غير البيضاء. مغامرات الاستعماريِّين الأمريكيِّين
والأوروبيِّين في القرن التاسع عشر، كانت معدَّةً قبل وقت طويل سواء بالمعنى المؤسَّسي
أو الأخلاقي. «نظرية العرق، الأفكار المتعلِّقة بالأصول والتصنيفات البدائية، أفكار
الانحلال الحديث، تقدُّم الحضارة، مصير الجنس الأبيض (أو الآري)، الحاجة إلى مناطق
مستعمرات — كانت تلك كلها عناصر في نظر إدوارد سعيد — «في بنية تعليمية وثقافية
هائلة»، صُنعت لكي «ترفع» أوروبا والجنس الأوروبي إلى مصافِّ السيادة على الأجزاء
غير الأوروبية من البشرية»، وكذلك على النساء والفقراء والمجانين والجانحين داخل
أوروبا.
الغرب ينظر إلى العالم على وجه الحصر بأسلوب الثنائية المتعارضة: «ما يخصُّنا وما
يخصُّهم»، أو «الذات» مقابل «الآخر»، وكما يقول «سعيد»، فإن «خطاب النزعة الإنسانية
عالمية الثقافة، إلى جانب الأنثروبولوجيا واللغويات والتاريخ، يُقوِّي من هذا
التعارض» في العصور الحديثة. «النظرة الغربية» المتشكِّكة والكليانية «تُغمض لأنها
تحتوي وتضغط وتجمد». وفي النهاية، لا يمكن لأيِّ خطاب غربي عن السُّود أو العرب أو
الفيتناميِّين والهنود والأمريكيِّين أن يكون، بدون أن تلجأ هذه الاندفاعة الأوروبية
إلى الإخضاع والسيطرة والذبح، حتى القراءة عن البدو أو الأفارقة في أيِّ نص
أنثروبولوجي عادي، أو في كتاب تاريخ — كما يقول «سعيد» —
٤٧ تُحرِّكنا خطوة أخرى في اتجاه الرغبة في قتلهم.
٤٨
أفكار «إدوارد سعيد» بدَت مؤثِّرة، متضمنة بين أشياء أخرى أنَّ جميع «أشكال
التاريخ» التي كتبها الغربيون، كانت تتضمَّن منظورًا يتَّسم بالشك في كلِّ ما يؤكِّده
الآخرون. المؤسسة كلها خدعة إمبريالية … من «جوبينو» إلى «توینبي». غير البيض، في
حاجة الآن إلى نوع جديد من التاريخ العام، يُمكِّنهم من النجاة من «بِنَى العنف
والانتهاك» الغربية، ولكنهم أيضًا، لا بد أن يُعيدوا كتابة تاريخ الغرب بما يتفق مع
التشاؤمية الثقافية.
تواريخ متعددة الثقافة: من المرايا إلى الكشف
كانت «الأمركة» بأسلوب بوتقة الانصهار تبدو الآن أشبهَ بعملية إبادة جماعية
متعمدة. «إبادة جماعية» لأنها دمَّرت هويَّات الجماعات، وبالتالي …
روحها.
٤٩
وبحلول منتصف الثمانينيات، كان أوائل المؤرِّخين الذين يؤمنون بتعدُّد الثقافات
يكتبون عن الحضارة الأمريكية على أساس عرقي، لدرجة قلبَت «ماديسون جرانت» بطنًا
لظهر. كانت الولايات المتحدة بالفعل هي الأساس الأصلي لسيطرة ثقافية أنجلو
ساكسونية آرية بيضاء، بما يصاحبها من أساطير عرقية. كلُّ مَن ليس «ذكر أبيض
بروتستانتي» فهو بلا هوية في المجتمع الأمریكي (الأمر الذي يمكن أن يوافق عليه
«جوبينو» و«نيتشة»)، ما دامت جميع الطبقات الحاكمة تُشيِّد حضاراتها طبقًا لصورتها
عن نفسها. أفكار «هنري آدمز» بخصوص اليهود، وأفكار «لوثروب ستودارد» بخصوص
الإيطاليِّين والمهاجرين من أوروبا الشرقية، وأفكار «إرنست سیفر كوكس» بخصوص السُّود،
اتضح أنها ليست تصوُّرات منفصلة عن الحضارة الأمريكية (كما كان يتصوَّر المعتنقون
لها)، وإنما مطابقة لها ومعبرة عنها.
المؤرِّخ «جاري. ب. ناش»
Gary B. Nash وصف قدومَ
المحتلِّين الأوروبيِّين إلى شمال أمريكا بأنه صدام هويَّات ثقافية شديد. القبائل
الهندية مثل «الإيروكيوس»
Iroquois كانت تعيش
مُثُلًا وقيمًا ثقافية مختلفة عن تلك لدى المتطفلين البيض (يعتقد «ناش» أنها كانت
أرقی). «كانت الفكرة الأوروبية عن سيادة الذكور وخضوع الإناث في كل شيء غائبةً
تمامًا في مجتمع الإيروكيوس». كان الرجال والنساء يعملون معًا على قدمٍ وساقٍ كما
يؤكِّد «ناش».
٥٠ الأمريكي الأصلي كان «فردًا مستقلًّا بذاته»، وكان «مواليًا للجماعة،
ولكنه مستقل ومتباعد». كما يقتبس «ناش» عبارة الواحد من «الكويكرز» من أوائل القرن
التاسع عشر، وهي: «كانت الحرية وبأقصى مدًى لها، هي العاطفة الحاكمة» بين
«الإيروكيوس». المحارب «الإيروكيوس» يصبح هو «التيوتوني» عند «هوستن ستيورات
تشمبرلين»، مع غريزة الوفاء الممتزجة بحب الحرية.
٥١ وإذا كان «الإيروكيوس» قد مارسوا نوعًا باكرًا من اشتراكية المساواة،
فإن الأوروبيِّين البيض، على النقيض من ذلك، كانوا استحواذيِّين، متنافسين، مهووسين
بالاهتمام بالذات والطموح الشخصي. كانت الثقافة الأمريكية لدى السكان الأصليِّين
تؤكِّد على «العصب، والنسب، والمجتمع»، وكانت استقلالية الفرد متوازنةً بواسطةِ حسٍّ
«بالمسئولية الاجتماعية». في الحضارة الأوروبية، السيادة كلها للنزعة الفردية
الأنانية التملُّكية. «الحد» الذي كان يدعو إليه «ناش» و«تيرنر»، كان سببًا في
إطلاق عنان الحيوية الأمريكية مع النتائج المدمِّرة التي تستتبع ذلك. التدافع من أجل
ضمِّ الأراضي في الإمبراطورية الأمريكية التي كانت تتَّسع بسرعة، كسر القيود
الأوروبية الباقية على الثقافة الاستحواذية مثل التطهُّرية
puritanism.
ويكتب «ناش»: «أصبح المحتلُّ يتطلَّع إلى المزيد، بعد أن وجد نفسه يكسب شيئًا من
استقراره في الشمال الأمريكي.» على أنَّ هذه الرغبة في المزيد لم تكن مقصورةً على
أمريكا فقط كما يقول «ناش»، بل كانت تشكِّل جزءًا من النظرة الغربية الحديثة بشكل
عام. تطوُّرات مماثلة نبعَت من أوروبا التنوير «بنموذجها الجديد للحياة الاقتصادية
والاجتماعية»، القائم على «فكرة أنَّ عقلية السوق أفضل من فكرة المجتمع القديم
المكوَّن من أفراد متناغمين تمامًا مع الصالح العام» أي أنَّ اﻟ
Gemeinschaft الجماعة الاجتماعية، قد استسلمت ﻟﻟ:
Gesellschaft الجماعة الرأسمالية؛
لكي تُفسد الروح الأمريكية من البداية.
٥٢
«روح تجارية تنافسية بدأت تُحكِم قبضتها» في أمريكا، جالبةً معها «نجاحًا تجاريًّا
يحتوي بداخله على بذور التوتُّر الاجتماعي»، مع تفاوت في الثروة بين البِيض، كما هو
بين البِيض وغيرهم وخاصة العبيد السُّود. إلا أنَّ تلك الجماعات الأخرى التي كانت
متأخرةً في النجاح المادي، كانت متفوقةً في حيويتها الثقافية، وتقوم بضخِّ بذورها
وقِيَمها العرقية في الثقافة الأمريكية (موسيقى الزنوج ولهجتهم والثقافة المادية
للأمريكيِّين الأصليِّين) لكي تجعلها متميزة عن نظيرتها الأوروبية، ويقدِّم لنا
«رونالد تاکاکي» Ronald Takaki عميد مؤرِّخي
التعدُّدية الثقافية الأمريكية توليفةً عريضة من هذه الأفكار التشاؤمية. تطوُّر
التاريخ الأمريكي عبارة عن مركب من عملية سيطرة رأسمالية روتينية كليانية، يعتقد
«تاکاکي» — وهو هنا يستعير فكرة «ماكس فيبر» — أنها مجموعة من الأقفاص الحديدية
الثقافية، ويقول: «وكما فصل البِيض الذين كانوا في السلطة أنفسهم عن الملك في حرب
الاستقلال، فإنهم أقاموا هويَّة سياسية جديدة ليصبحوا مقموعين غير مؤثِّرين، «مجرد
آلات جمهورية»، تقدَّمت لكي تُنزِل الأذى بنفسها وبالآخرين.»
جميع رموز «تاکاکي» الأمريكية الدالة — «توماس جيفرسون»، «بنیامین راش»، «أندرو
جاكسون»، «جورج كاستر» — يظهرون كرموز کلاسيكية متفسِّخة منحرفة جنسيًّا، تدفعها هواجس
غامضة وضعف سيكولوجي عميق. المؤسسون الأمريكيون كانوا مرضی جسدًا وروحًا كما يقول
«تاکاکي» ضمنًا، بينما «كانت عدوانيتهم الخارجية تدلُّ على تمزُّق داخلي». وبسرقة
الأراضي الهندية والمكسيكية، واستغلال قوة العمل السوداء والآسيوية، أقام الأنجلو
ساکسون نظامًا صناعيًّا إمبرياليًّا هائلًا. «الإمبراطورية الجديدة» شبه الفاشية،
التي كان يتكلَّم عنها «بروکس آدمز»، يتَّضح أنها ليست الوهم الرجعي الأخير لشخص
أخرق، وإنما هي القلب المدرَّع للحضارة الغربية. ويقول «تاکاکي»: «ولأنه عقل شيطاني
بقوته وطبيعته، كان يحملهم إلى السعي اللاعقلاني للسلطة والتدمير.»
٥٣
طيلة الوقت، كان «غير الواسب»
٥٤⋆ Non-Wasps — ذلك الجيش الكبير الواحد من العمال؛ رجال ونساء من كل الأجناس والأعراق — محرومًا
من الوعي الطبقي، والشعور بالمجتمعية وقوة العمل الجماعي — وباختصار کان محرومًا من
الهويَّة — بواسطة الكذبة البشعة، وهي أنَّ الحضارة الغربية تقوم على تكافؤ الفرص بين
الأفراد، أكثر مما تقوم على التضامن الجمعي.
«تاکاکي» يرى أنَّ التفرقة العنصرية والرأسمالية حليفان تاريخيان وليسا خصمَين،
وعلى خلاف «هيربرج» و«ناثان جلازر» وعلماء الإثنية الباكرين، لم يَعُد يميِّز بين
الذات التي يشكِّلها المجتمع الأمريكي،
وتلك الضاربة جذورها في العرقية. كلتاهما — بتعبير فوكو — «تاريخانية»، أي من صنع
زمان ومكان معينَين، والنتاج الطبيعي لتجربة الظلم والإقصاء … الإقصاء، مفهوم
أساسي في التاريخ القائم على التعدُّدية الثقافية.
إقصاء غير البِيض وغير الذكور من المجتمع الأمريكي والمجتمع الغربي، جعلهم «غير
منظورين»، ومهمَّة التاريخ الأمريكي التقليدية، كما يؤكِّد «تاکاکي» هي أن يُبقيَ
عليهم «غیر منظورین». وقد قام بذلك عن طريق التركيز على المؤسسات، مثل السياسة
والاقتصاد، التي يسيطر عليها البِيض الذكور، وهكذا يؤكِّد هويَّتهم الخاصة على حساب
الآخرين. أما دارس التاريخ المؤمن بالتعدُّدية الثقافة، فلا بد من أن يعتبر تلك
الجماعات المقصاة «منظورة» وموجودة، ولا بد من أن تستعيد هويَّتها. يقول «رونالد
تاکاکي»: «ما تدعوه «جلوريا شتاينم»
Gloria Steinem ﺑ «الثورة من الداخل» لا بد أن يكون أساسه في الجهل بكثير مما كان يُقال لنا عن ماضي
أمريكا، واستبدال ذلك بتاريخ أكثر شمولًا ودقة عن كل شعوب أمريكا.» هذا الشمول — أي
عدم إقصاء أو استبعاد أحد — يتطلَّب أن يُمسكَ المرء «بمرآة مختلفة للتاريخ» عن
غير البِيض، مرآة تعكس تجربتهم الجمعية مع الظلم والإقصاء.
٥٥ وعند الباحث الخبير المؤمن بالتعدُّدية الثقافية، فإن الاستراتيجيات
الغربية في الإقصاء تتمتَّع بخبث وتعقيد يتحديان السذاجة كما يبدو. إنَّ التمييز
العنصري الذي يمارسه الغرب و«تكوين العرق» هما أهمُّ سمات الغرب الأساسية، حتى إذا
لم تتمَّ مناقشة قضية الجنس بوضوح. يری «بول جيلروي»
Paul
Gilroy أنَّ تاريخ بريطانيا كلَّه ليس سوى محاولة مدروسة من قِبل
البِيض «لتفادي» مناقشة قضية الأعداد الفقيرة من غير البِيض الآسيويِّين والأفارقة
الذين سكنوا إمبراطوريتهم. كما يمكن أن تؤكِّد الروائية الأمريكية السوداء «توني
موریسون»
Toni Morrison أنه: «في جميع القضايا الكبرى التي يدور حولها جدل في هذه الدولة، يبرز غير البِيض والمرأة
بقوة، رغم أنَّ
وجودهم قد يكون مقنعًا أو منكورًا أو ممحوًّا.»
٥٦ وعدم وجود ذِكر لغير البِيض وغير الشواذ في التاريخ التقليدي أو الكتب
الدراسية، يُصبح دليلًا على أنهم كانوا مهمِّين. وكما يقول «إدوارد سعيد»، وكما ألمح
«دو بوا» قبل عقود، فإن الثقافة الغربية الحديثة هي بالفعل ثقافة إمبريالية وإقصاء …
حتى عندما لا تكون كذلك …
إن تاريخًا شاملًا لأمريكا سوف يُبرز بالفعل جميع الهويَّات العرقية الموجودة في
المجتمع الأمريكي (لدرجة أنَّ «تاکاکي» يقول إنَّ إعلان «رابطة الإيروكيوس» الحرب على
ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحرب العالمية الثانية، دليلٌ على معارضتهم المستقلَّة
والذاتية للفاشية).
٥٧ التاريخ الشامل سيُبرز كلَّ الهويَّات باستثناء الأنجلو ساكسون البِيض.
قصيدة «مايا أنجلو» في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي عام ۱۹۹۲م: «عند انبلاجة الصباح»
تذكر الأيرلنديِّين، الإسكندنافيِّين، السُّود، النساء، الهسبانيك، الأمريكيِّين الأصليِّين،
أبناء جزر الهند الغربية، أي أنها تذكر الجميع باستثناء الجماعة العرقية التي
صنعت الجمهورية الأمريكية.
التاريخ كتنوُّع إذن، يصبح معناه «إقصاء عكسي»: دافعًا بالأنجلو ساکسون الذكور
ومؤسساتهم خارج الذاكرة، وعلى الأقل يُظهرهم معتمدين على تلك الجماعات التي تمَّ
إخضاعها لثقافتهم وسيطرتهم السياسية.
٥٨ والمهمَّة المستمرة لهذا الشمول تتضمَّن تحوُّلًا رادیکالیًّا، ليس
بالمعنى السياسي فقط، وإنما على ضوء النظر إلى أمريكا كمؤسسة تجارية اجتماعية
ثقافية. التاريخ القائم على التعدُّدية الثقافية عند «تاکاکي» مثلًا، ليس تناولًا
للجماعات العرقية المختلفة التي نجحت في تحقيق «الحلم الأمريكي» وإنما هو تناول
لفشلها في ذلك، وهو يتبنَّى هذا الفشل الذي يحمي الفرد من استيعابه داخل القفص
الحديدي الشيطاني الذي يكوِّن الثقافة الأمريكية.
٥٩
ثورة التعدُّدية الثقافية عند مدافعين جادِّين عنها مثل «ستانلي آرونوفيتش»
Stanley Aronowitz، تتضمَّن استبعاد جميع مفاهيم
المواطنة الأمريكية، أو «معادلة الولايات المتحدة بما تعنيه الحرية والديمقراطية
الحق». وبدلًا من ذلك، لا بد من أن يتعلَّم الأشخاص كيفيةَ اختيار «المواطنة
الثقافية»، التي تستخدم فيها الهويَّة الجماعية الفرعية (السوداء، الأنثوية،
اللاتينية) كمهرب من بِنَى ثقافية أمريكية ظالمة. وهذا بدوره، يحرِّر الفرد لكي
يتوحَّد مع جماعات فرعية في بلاد أخرى (مثل أفريقيا والمكسيك)، أو أن يشارك في
«التضامن النسائي العالمي»، ويؤكِّد «آرونوفيتش»: «المواطنة الثقافية باختصار، تعني
مجتمعًا للمظلومين ووضعية أن تكون الدولة-الأمَّة (مثل الولايات المتحدة
الأمريكية) رمزًا للظالم».
٦٠ وبالمثل، فإن «توني موریسون» تعبِّر عن حيرتها بأن «اليهود في هذا
البلد قد أصبحوا بِيضًا بشكل عام، يتصرَّفون مثل البِيض أكثر منهم كشعب
يهودي».
٦١
النقطة الكلية في دراسة التاريخ الأمريكي المتعدِّد الثقافات بالنسبة للجماعات
والجماعات الفرعية العرقية، هي أن يتناول هويَّتهم لا كمخلوقات عقلانية في مواجهة
المصادفات (يمكن أن أكون أيَّ شخص أريد أن أكونه)، وإنما كجزء من مجتمعات کوَّنَتها
الضرورة التاريخية (أنا دائمًا ذلك الذي كان لا بد أن يكون). الفرد يستبدل فردية
أمريكية من النموذج الامتثالي، بفردية مبنية على هويَّة «مضادة للسيطرة». لم يَعُد
يؤمن بضرورة عضوية تطوِّق تلك الهوية، يكفيه مجرَّدُ الاعتراف به كواحد من المظلومين،
لكي تتولَّد بداخله ذات معادية للغرب. وبالنسبة للجماعات الثقافية الفرعية في أمريكا
العنصرية أو السُّود، فذلك يعني بروز ثقافة سوداء حيوية تأخذ بادرةَ انطلاقتها من
معارضة الثقافة البيضاء الذاوية. ويرى عالم الاجتماع «توماس کوشمان»
Thomas Kochman أنَّ الأمريكيِّين السُّود
يتحوَّلون ليصبحوا أكثرَ ظهورًا وقوَّة جسمانية، وتدفُّقًا وروحانية والتزامًا
عاطفيًّا من نظرائهم البيض. وبعبارات «نيتشة» وعلى نحو ساخر، هم السادة السابقون
الذين يُبدون أخلاقيات العبيد التي لا حياة فيها، والعبيد السابقون هم الذين
يعبِّرون عن أخلاقيات السادة عند «نيتشة».
٦٢
«هوستون بیکر»
Houston Baker، صاحب الدراسات
المهمة عن السُّود، يدافع عن موسیقی «الراب»
Rap بالأسلوب نفسه. «الراب مخزون من الطاقة الجيَّاشة، انتشرت على مشاهد المدينة
السوداء»، ويصف الطاقة نفسها في «الوحشية»، وفي عملية الاغتصاب الوحشية الجماعية
لامرأة بيضاء في «سنترال بارك» عام ۱۹۸۷م، بأنها عملية حيوية لعكس محاولة الرجل
الأبيض ترويض الطبيعة بإقامة حديقة من البداية. وكما كان الأمر في «جينيالوجيا
الأخلاق» عند «نيتشة»، فإن الوحش الأبيض يبرز «من بين سلسلة مقززة من أعمال القتل
والتخريب والاغتصاب والتعذيب، يخرج مبتهجًا هادئ البال، كما لو كانت مجرَّدَ مزحة
يقوم بها طالب»، هكذا أيضًا، يأتي الشبَّان السُّود بأعمال العنف والرعب إلى بنية
القوة البيضاء وهم مبتهجون (كما كتب نيتشة: إنَّ كراهية الحملان للطيور الجارحة لا
تبدو غريبة).
٦٣
الهويَّة الحيوية السوداء، على أية حال، تتقاطع الآن مع هويَّات المظلومين
والمستغلين الآخرين، وهويَّات الجماعات الخاضعة للسيطرة. كان «جويس لاندر»
Joyce Lander يقول في الستينيات إنَّ الحفاظ على
الهويَّة السوداء سيكون في غاية الأهمية بالنسبة للمرأة السوداء؛ حيث إنها أكثر مَن
عانَى من الاستغلال والعبودية. ومن هنا فإن كُتَّابًا مثل: «توني موریسون»، و«ريتا
دوف»، و«مايا أنجلو»، يُقدِّمنَ أنفسهن لا ككاتبات سوداوات فقط، وإنما كنساء
سوداوات، و«نیکیکي جیوفاني» لیست امرأةً سوداء فقط، وإنما كاتبة سوداء … سحاقية،
بينما «أودري لورد» لیست امرأةً سوداء وسحاقية سوداء فقط، وإنما كاتبة سحاقية سوداء
من أصل هندي غربي، أي أنها جماع أربع هويَّات تاريخانية «ثانوية» (وربما تصبح خمسًا
إن أضفنا إليها هويَّة الشاعر-المفكر).
٦٤
مع انتشار الهويَّات المتقاطعة المضادة للسيطرة، تجيء أيضًا إمكانية الصراع مع
العناصر الأخرى المعروفة لدى المظلومين، والتي تعكس عنصرًا أو آخر في الحضارة
البيضاء «الأبوية»، «بل هووکس»
Bell Hooks مثلًا، تحدِّد لنفسها نسويةً سوداء مائزة عن النسوية البيضاء؛ حيث إنَّ معظم دعاة
الحركة النسوية الليبراليات الجامعيات، مسهمات أيضًا في النظام الرأسمالي الأبيض
كما تلاحظ، فلن يكون مفاجِئًا أن يأتيَ «معظم الأدب النسوي» عنصريًّا ومنحازًا للجنس
في مضمونه، كما يفشل في أن يُدرك وضع الضحيَّة، الرازحة فيه المرأة السوداء منذ
العبودية. الشيء نفسه ينطبق على السُّود الذكور. «الرجال من جميع الأجناس متفقون على
أساس اعتقاد مشترك بأن نظامًا اجتماعيًّا أبويًّا، هو الأساس الوحيد القابل للتطبيق
في المجتمع»، ولكن «هووکس» تُعلن الآن — بسعادة — أنَّ النظام في حالة «انهيار
أيديولوجي ومادي بطيء»، وتتنبَّأ بأن بنية الأسرة الأبوية البيضاء التي عرفناها
تاريخيًّا «على وشك الاختفاء، وكذلك بِنَى السيطرة التي أفرزتها».
٦٥
وهكذا، فبينما توجد ثورة تعدُّدية الثقافة في أمريكا في صفوف اليسار بوضوح، إلا
أنَّ ملامح التغيير السائدة ما زالت تأتي من الثورة الباكرة في صفوف اليمين. الثقافة
الحيوية سوف تنبثق من بين أطلال الحضارة؛ حيث تحلُّ الهويَّات متعدِّدة الثقافة محلَّ
الهويَّات القديمة، وبالطبع فإن شكلًا جديدًا من النظام السياسي والقانوني لا بد أن
يحلَّ محلَّ القديم. ولكن ذلك أيضًا يتضمَّن ما هو أكثر من مجرَّد الانتقال من
الرأسمالية إلى الاشتراكية. وحسبما يقول «ماننج مارابل»
Manning
Marable كاتب سيرة «دو بوا»، فإن «الديمقراطية متعدِّدة
الثقافات تتطلَّب أشكالًا جديدة من المشاركة في السلطة». حكم الأغلبية لا بد أن يتمَّ
تجنُّبُه؛ حيث إنه — تاريخيًّا — كان مجرَّدَ «إلهاء» بغرض الإبقاء على السيادة البيضاء
التقليدية (كما في کتاب «لاني جینيير»: استبداد الأغلبية). الديمقراطية متعددة
الثقافات تتضمَّن أيضًا «إعادة تعيين الموارد اللازمة لصنع تقدُّم اقتصادي واجتماعي
للذين كان يتمُّ إقصاؤهم وإنكارهم على نحوٍ منظم» — أي دولة الوفرة التي تُعيد توزيع
«الوفرة» على الجميع.
٦٦ في الوقت نفسه، تظلُّ العلاقة بين النظامَين القديم والجديد، مسألةَ
تحوُّل ثقافي وليس انقلابًا عنيفًا، وبهذا المعنى، سوف يعترف «سارتر» بالتعدُّدية
الثقافية كجزء من «حركة طويلة يتم فيها تعرية السلطة». يقول «إدوارد سعيد»: إنه
بمجرَّد إدراك «المركزية التامة للغرب، وكيف أنَّ بنيته كليانية، وأنَّ توجُّهاتِه
ومواقفَه شمولية، وكيف أنه ينغلق عندما يحتوي ويضغط ويجمد …» هنا يصبح من الممكن
التقليل من شأن أُسُسِه الأيديولوجية. وهذا أيضًا يتطلَّب اعترافًا، على شاكلة اعتراف
«توینبي»، من جانب البيض بأن يومهم — وثقافتهم — قد أصبح في حكم الماضي. ويقول
الكاتب «إيليس كوز»
Ellis Kose: «ذات يوم قريب،
والمؤكَّد أنه أقرب مما يتصوَّر کثيرون، سيصبح الأمريكيون البِيض أقلية.» وهذا — كما
يقول بإصرار — لا بد من أن يُجبرنا على أن نقوم بعملية إعادة تقييم لكل القيم
بالأسلوب «النيتشوي»، بما في ذلك النظرة التقليدية إلى أمريكا كبوتقةِ انصهار. وإذا
كانت مشكلة أمريكا الأشد ضغطًا وصعوبة هي الانتحار العرقي عند «إي إيه روس»
E. A. Ross، فإنها عند «كوز»: «المرض العرقي»، أي الإصرار على هويَّة أمريكية ثقافية متماثلة.
٦٧ والبديل كارثة في رأي معلِّقين مثل «إيليس كوز» و«أندرو هاکر»
Andrew Hacker. فمنذ «دبو بوا»، ونقَّاد
العلاقات العرقية الأمريكية يستحضرون دائمًا صورة حرب عرقية غامضة، تُلقي بالدولة في
الهاوية. «جارفي»، «إرنست سیفر كوكس»، «أليجا محمد» … كلهم لعبوا باللغة نفسها،
لغة «هرمجدون»
٦٨⋆ عرقية. في كتابه «مسائل العرق» يقدِّر «کورنل وست»
Cornel West هذا الميراث الرؤيوي، ويؤكِّد
أننا «نمرُّ بالفعل بوقت مرعب لم يحدث له مثيل في هذا البلد من قبل. نعيش زمن
التشوُّش الثقافي والتفسُّخ الاجتماعي، إنه عصر مليء بالخرائب والأنقاض». ويجد متعة
«كالحة» في أن يَصِف كيف تمرُّ الحضارة البيضاء، أي المجتمع الأمريكي، بعملية انحلال
سريع، فهي غطرسة مقهورة، وقُوًى رجعية (ريجان – بوش – ولیم بینیت) محكوم عليها
بالدمار.
ولكن من بين «هذه الشظايا والأنقاض» لا بد أن يبرز (وسيبرز) اعترافٌ جدير بالحاجة
إلى مساواة عرقية وعدالة اجتماعية، كما يقول «كورنل وست»، وستكون النتيجة «سياسة
تحوُّل» جديدة يتقارب فيها البِيض وغير البِيض «في عملية مصالحة دراماتيكية». الغرب
يُنكر أنَّ آماله ساذجة وطوباوية، إلا أنه ينقل مستقبل أمريكا متعددة الثقافات من
إعادة تقييم حيوية للقيم، إلى حكم القديسين في «سفر الرؤيا». وليس في ذلك ما يدعو
للدهشة، إذا عرفنا درجةَ انبهاره بالتراث الديني للأمريكيِّين السود. «وست» يَصِف نفسه
بأنه «مقاتل في سبيل حرية مسيحية نبوئية»، «حتى بالرغم من أنَّ التقاليد الدينية
المسيحية نفسها»، في قدر كبير منها، رجعية أو قمعية أو منفِّرة. أما الذي يجذبه نحو
المسيحية بدل ذلك، فهو قوتها الرؤيوية التي تُعرِّف التاريخ من منظور الضحيَّة التي
يتمُّ إقصاؤها. يقول «وست»: «إنَّ ثقافة معذِّبي الأرض ثقافة دينية.» أي إنها رؤيوية،
كاشفة للمؤمنين بها كيف ولماذا سوف يتغلَّب المظلومون على ظالميهم، وكيف سيقضون على
سلطتهم العلمانية. النظرة النبوئية الرؤيوية للتاريخ تقوِّض أيضًا أساسَ أيِّ مفهوم
عن أنَّ التقدم المادي يرسم الطريق نحو التقدم الاجتماعي، أو أنَّ الحرية
الاقتصادية لا بد أن تكون شرطًا ضروريًّا من أجل أنواع أخرى من الحرية، أو أنَّ
التقدم الحقيقي يتضمَّن تحمُّلَ الرجال والنساء بعضَ مسئولية مصيرهم. «وست»، مثل
«مارکس»، لا يُخفي مارکسیته، كما أنه كنبيٍّ من أنبياء التعدُّدية الثقافية يفضِّل
مستقبلًا يحلُّ فيه «صهيون» اشتراکيٌّ متعدِّد الأجناس محلَّ «بابل» المفلسة أو أمريكا
المادية الرأسمالية، مثلما تحلُّ مدينة الرب الخالدة عند القديس «أوغسطين» محلَّ روما
المهزومة:
ذلك المجتمع المجيد، والمدينة السماوية للمؤمنين بالرب، الموجودة جزئيًّا
في مجرى هذه الأزمنة المتدهورة، هي مكان حجيج وسط الشرور … إلى أن «يعود
الصلاح إلى الحكم» (و) بذلك يتحقَّق النصر النهائي، ويتوج في كمال
السلام.
٦٩
عكس الأقطاب: المركزية الأفريقية
عند هذه النقطة نترك أفريقيا، ولن نذكرها بعد ذلك أبدًا؛ فهي ليست جزءًا
تاريخيًّا من العالم، ليس فيها حركة ولا تقدُّم لكي نعرض له.
«ج. ف. هيجل» (۱۹۳۰م)
لكل وجه روحه، ولكل روح جنسها.
«ألفرد روزنبرج» (۱۹۳۰م)
التحرُّر متعدِّد الثقافات في حالة «كورنل وست»، يكشف عن شيء غير متوقع، وفي
محاولة للإفلات من قبضة الحضارة الغربية القاتلة ووعودها الزائفة بالتقدم، يتَّجه
المرء نحو آراء وأفكار باكرة في التاريخ (إن كان لا بد أن تكون غربية)، وبخاصة تلك
التي ترى أنَّ الإنسان لم يتحرَّر بالتاريخ كعملية علمانية، وإنما هو واقع في أَسْره،
التاريخ كلُّه فساد لأن التاريخ في النهاية فساد.
الإنسان كسلالة، مثل المسيحي عند القديس «أوغسطين» والأمريكي الأسود عند «کورنل
وست»، «حاج بين الأشرار»، فهو يجد نفسه يجول بين «شظايا وأنقاض» مؤسسات لا يوجد
بينه وبينها صلة ذات معنى، مثل الإنسان الأول أو إنسان العصور الوسطى، هو مقيَّد
بالزمن تمامًا. وبينما ينتظر اختراقًا ألفيًّا سعيدًا، فلا بد له من أن يكافح ضدَّ
المصير أو القدر الأعمى، الذي يتضح أنَّ الغرب الحديث مجرَّد وجه واحد له. وأفضل
مثال لهذا الشعور بالسير على غير هدًى، أو على أنه مربوط بعجلة الحظ الذي هو حركة
المركزية الأفريقية، أصول المركزية الأفريقية موجودة بعمق في البدائية
الرومانتيكية: الأب الروحي المعترف به، وهو أمر مدهش، ليس أفريقيًّا أسود صاخبًا أو
مثقَّفًا أفريقيًّا في المنفى، ولكنه الرفيق الأرستقراطي ﻟ «نابليون» في حملته على
مصر، «كونستانتين دو فولني»
Constantine de
Volney. في كتابه «أطلال» كان «دو فولني» يخمِّن أنَّ الموطن
الأصلي للتوحيد وهو «طيبة»، لم تكن في الأصل جزءًا من مصر، وإنما من مملكة «إثيوبيا
القديمة». «هناك شعب، منسي الآن، اكتشف — عندما كان الآخرون لا يزالون برابرة —
عناصر الفنون والعلوم، جنس من البشر مرفوضون من المجتمع الآن؛ بسبب بشرتهم السوداء،
وشعرهم الأجعد، هم الذين أوجدوا هذه الأنظمة المدنية والدينية التي ستحكم
الكون».
٧٠ رؤية «دو فولني» هذه لمجتمع قديم من السُّود يحرس معرفة سريَّة متقدِّمة،
كان لها صداها القوي في حركة القومية السوداء في القرن التاسع عشر، وهي التي ألهمت
«جیمس بنجتون»
James Penington، و«هوسيا إيستون»
Hosea Easton أن يتصوَّرا حياةً إثيوبية سوداء
قوية سابقة على خروج أوروبا من البربرية. في عام ١٨٤٨م أعلن الوطني الأسود «هنري
ﻫ. جارنيت»
Henry H. Garnet: «عندما كان أبناء
جلدتنا يملئون العالم بالدهشة، كان أسلاف الأنجلو ساكسون يسكنون الكهوف تحت الأرض،
عراةً أو ملتحفين جلود الحيوانات المفترسة».
٧١ وفي الوقت نفسه، فإن منعة القارة الأفريقية، وعدم قدرة الأوروبيِّين على
اختراقها، منعَتهم من اكتشاف كنوزها وآثارها حتى وقت متأخر من هذا القرن؛ ولذلك لم
تلعب أفريقيا أيَّ دور تقريبًا في الخيال الاستشراقي.
٧٢ وفي عام ۱۸٥۱م، أصبح «هينرش بارث»
Heinrich Barth أوَّل رحَّالة غربي يزور «تمبكتو» … وبدأت رحلة ترجمة
النصوص العربية الأفريقية. هذه الاكتشافات التي تمَّ تجاهلها بشكل عام من قِبل
الأوروبيِّين، شجَّعت الباحثين السُّود مثل «بننجتون» و«إيستون»، اللذَين أصبح
بمقدورهما دحضُ دعاوی «علماء الأجناس» مثل «جوشيا نوت»
Josiah Nott، بأن الزنوج غير قادرين على الحضارة؛ لأنهم أبدًا لم
يصنعوا حضارة.
انتشر الزعم بأن كلًّا من «إثيوبيا» و«مصر» كانتا حضارتَين سوداوَين لمدة ستين
عامًا تقريبًا، عندما كتب «دبليو إي بي دو بوا» بحثَه المعنون «الزنجي». في عام
۱۹۳۹م أعاد «دو بوا» إصدارَ البحث بعنوان «شعب أسود حينذاك والآن» وضمَّنه جزءًا
كبيرًا عن الأصول السوداء للحضارة المصرية. كان «دو بوا» قد أصبح مقتنعًا بأن مصر هي
نقطة البداية أو «المهد»، ليس بالنسبة للحضارة الغربية فقط، وإنما للتاريخ الأسود
كله. هذه الأفكار والتأملات وصلت إلى «باریس» في العشرينيات عن طريق «نهضة هارلم»
Harlem Renaissance، عندما نشر المغتربان الأمريكيَّان «آلان لوك»
Alain Locke، و«کلود ماکاي»
Claude Mckay فكرةَ «الزنجي الحديث»، بالإضافة
إلى جوانب أخرى من عمل «دو بوا»، بين الشعراء والكتَّاب السود الناطقين بالفرنسية،
والذين سيشكِّلون فيما بعد حركة «الزنوجة».
٧٣
ثم ظهر في عام ١٩٤٨م كتاب «أورفيوس الجديد» الذي ابتكر فيه «سارتر» صورةَ حضارة
أفريقية سوداء صاعدة، طاردة ظالميها البِيض وثقافتهم التكنولوجية الرأسمالية، إلا
أنَّ «أورفيوس الأسود» أحدث انشقاقًا داخل حركة «الزنوجة» نفسها. فريق كان يضمُّ
«إيمي سيزار» و«فرانز فانون»، ويتبع ماركسيةَ «سارتر» الثورية، والفريق الآخر كان
يرفض الدعوة لثورة ماركسية تبدأ في المستعمرات، وكان يعتبرها شكلًا آخر من أشكال
التبعية الثقافية. كان المتحدِّث الرسمي باسم الفريق الثاني هو الطالب السنغالي
«شيخ أنتا دیوب» Cheikh Anta Diop، وقد تحوَّل
هذا الفريق بدل ذلك إلى حركة أفريقية ثورية جامعة ذات جذور حيوية عميقة. المتطلب
الرئيسي لتاريخ أفريقي جامع، مثل التاريخ الآري أو الجيرماني الجامع، هو لحظة من
الأصل النقي تستمدُّ منها كلُّ التطوُّرات اللاحقة طبيعتَها؛ إما كانتصار أو كاضمحلال.
حوَّل «دیوب» عناصر «الزنوجة» والنزعة الأفريقية الجامعة إلى نظرية كاملة عن
الحضارة مع انتشار الثقافة الحيوية والمتفوقة في بقية العالم. «دیوب» يقسم
الإنسانية إلى نوعين: «الجنوبيون» — الزنوج الأفارقة — و«الآريون» الذين يضمُّون
الشعوب السامية، والمنغوليِّين، والهنود الأمريكيِّين.
«الآريون» كوَّنوا مجتمعات أبوية، يميِّزها القمع السياسي للمرأة والشهوة للقتال.
وهم يحتفون بالمادية والفردانية والتشاؤمية. «الجنوبيون» — على النقيض منهم —
أموميون، يكوِّنون مجتمعًا متَّحدًا من بشر أحرار متساوين خلَّاقين ومثاليِّين، يعيشون
بقواعد اجتماعية جماعية بدلًا من الرأسمالية التنافسية في كل جوانب حياتهم، يشعُّ
الزنوج السود حيويةً وتفاؤلًا. «دیوب» يزعم أنَّ الدلائل الأركيولوجية تؤيِّد بشكل
جازم فرضيتَه أنَّ المصريين كانوا جنوبيِّين أو زنوجًا من ناحية العرق، ومن هنا فإن
أوَّل حضارة في التاريخ لم تكن أفريقية فقط في الأصل، وإنما هي أيضًا واعية بعمق
بقواها العرقية الخاصة.
كتب «ديوب»: «في كثير من النقوش البارزة، نرى جميع أشخاص الجنس الأبيض يظهرون
وراء السُّود تحت حكم الأسرة الثامنة عشرة، كما نجد «الوحش الأبيض» عند «جوبينو»
والنازيِّين، الهمجي الموشوم الذي يرتدي جلد الحيوانات … يشغل الدرجة الأخيرة في
الإنسانية.»
٧٤ على أنَّ حقيقة صنع الجنس الأسود لحضارة، ظلَّت مخفيةً جدًّا، أو مقموعة
بواسطة الباحثين الأوروبيِّين مثل: «هيجل»، و«جوبينو» و«کاروس»، و«کلیم»؛ وذلك لكي
يحافظوا على أسطورة التفوُّق الأبيض.
٧٥
تاريخ المركزية الأفريقية عند «ديوب»، كان في صميمه ردُّ فعلٍ قويٌّ وعميق ضدَّ تراث
طويل من العنصرية الأوروبية والاستعلاء تجاه أفريقيا السوداء، إلا أنه قدَّم
الحضارة الأفريقية بنفس الأسلوب التاريخي الرومانتیکي. «ديوب» مثل «جوبينو»
وأسلافه، جعل من العرق وسيلةً للحيوية الثقافية، تُولِّد بِنًی حضارية في المؤسسات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
٧٦ تاريخ العرق عند «ديوب» سرعان ما جذب اهتمام حركة القوة السوداء
وبرنامج الدراسات السوداء الجديد في الجامعات. كان «جويس لاندر»
Joyce Lander قد أعلن «موت علم الاجتماع
الأبيض» كوسيلة لفهم التجربة والهويَّة الأمريكية السوداء، وكان البديل الأسود
يتطلَّب مبادئَ تأكيديةً جديدة. وكما كتب «مولانا کارنجا»
Moulana Karenga في «مقدِّمة للدراسات السوداء»: «التعدُّدية الثقافية فكرٌ نقديٌّ وممارسة، لا يمكن
ولا ينبغي أن تُترَك لمنظِّري النظام
الراسخين.» والآن، كان «دیوب» يقدِّم تاريخًا عامًّا فوريًّا، يصلح كإطار عمل جديد.
ولم ينسَ كذلك قضيةَ الهويَّة الحاسمة: «نظرية المركزية الأفريقية» في الحضارة تزوِّد
السُّود بشعورٍ قويٍّ بالكبرياء العرقية، كما يفترض أن تكون النظريات السابقة قد
فُعِّلت بالنسبة للبِيض.
المقدِّمة المنطقية الرئيسية في كل نظريات المركزية الأفريقية، هي أنَّ الحضارة
المصرية بكلمات «دیوب»: «قد جاءت من النوبة وقلب أفريقيا». دعاة المركزية الأفريقية
لا يرون — كما يقال دائمًا — أنَّ التاريخ كله يبدأ بمصر. التاريخ عندهم يبدأ
بثقافة أفريقية سوداء، أما الحضارة فتمثِّل انتشارَ معبد ثقافي واحد بأسلوب
«جوبينو»، وهو أفريقي أسود مجاور للصحراء، وقد أصبحت عناصرُه واضحةً للعالم غير
الأفريقي عن طريق المملكة المصرية القديمة (أو الكيميت — Kemet — وهو المصطلح المفضَّل لدى المهتمِّين
بالمركزية الأفريقية من الأجيال الشابة)، مصر الأُسَر الحاكمة القديمة، هي حضارة تلك
الثقافة المجاورة للصحراء بالمعنى الذي كان يراه «شبنجلر»، وهي ثمرة ثرية للحيوية
الأفريقية السوداء، وتمثِّل كما كان يمكن أن يقول «شبنجلر»: الصلابة التي تتبع
التوسُّع … «المدينة العالمية الحجرية بعد الأرض الأم»، التي تحتوي أيضًا على بذرة
نهايتها.
دعاة المركزية الأفريقية مثل سابقيهم من دعاة الأفريقية الشاملة، يقولون إنَّ
العرق يجمع ويدمج التاريخ الأفريقي في كيانٍ ثقافيٍّ كليٍّ، يوحِّد بين المصريِّين
والإثيوبيِّين والشعوب المجاورة للصحراء في شعب واحد مستمر. ويقول «دیوب»: «وبسبب هذه
الهويَّة في العبقرية والثقافة والجنس، يمكن اليوم لجميع الزنوج أن يتتبَّعوا عرقهم
وصولًا إلى مصر القديمة، وأن يبنوا ثقافةً جديدة على هذا الأساس.»
٧٧ هذه الثقافة أكثرُ غِنًى وحيوية وعمقًا من الثقافتَين الغربية أو
الآسيوية المنافستَين لها، وكما يقول «يوسف بن جوشانان»
Yosef
ben-Jochannan، فإن المصريِّين القدماء اخترعوا نُظُم الكتابة،
والحساب، والطب (بما في ذلك القسم الأبوقراطي الأصلي) والسياسة، والعمارة الضخمة،
والدين، بالإضافة إلى كل المفاهيم الفلسفية التي نسبها الغربيون بعد ذلك للإغريق،
بما في ذلك فكرة الذرَّة. «هذا هو إرث القارة الأفريقية الذي قدَّمته لشعوب العالم»،
كما يقول «جورج جیمس»
George James في «التراث
المسروق»، الإرث الذي «أرسى أُسُسَ التقدم الحديث».
فيما بعد، استطاع الإغريق والبِيض الآخرون أن يسرقوا كلَّ تلك المهارات الحضارية
من
الإنسان الأفريقي ويتركوه في الظلام. وعندما سمع ذلك المؤرِّخ الليبرالي «آرثر
شليزنجر»
Arthur Schlesinger كان يتساءل
متشكِّكًا: «كيف يمكن أن يخسر المرء المعرفة عن طريق المشاركة فيها؟» والإجابة
بسيطة: لأن الثقافة بالصيغة المركزية الأفريقية ليست قائمةً على المعرفة، وإنما على
حيوية عرقية. وكما هو الأمر عند «جوبینو»، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يحصل
بها أيُّ جنس أدنى على المعرفة، هي أن يحصل عليها بشكل مستتر، سواء عن طريق الاندماج
العرقي أو السرقة والنهب.
٧٨
كانت «مصر» هي الباب بالنسبة للعالم البربري خارجها، الباب الذي ينفذ منه أولئك
البرابرة ليثأروا من المتفوِّقين عليهم ذوي البشرة السوداء. وبالنسبة لدعاة
المركزية الأفريقية مثل «تشانسلور ولیمز» Chancellor
Williams، أو «جون هنريك كلارك» John Henrik
Clarke فإن التاريخ أساسًا موضوع عن الفتح والإمبراطورية
والصراع بين الأجناس الأقوى والأضعف، كما كان عند «ماديسون جرانت» و«جوبينو» أو حتى
«کاروس» و«كليم». وإذا كانت الاستمرارية الموجودة في التاريخ هي استمرارية ثقافة
سوداء فإن انقطاعاتها تحدث نتيجة تدخُّل الشعوب غير الحضرية وغير الأفريقية التي
تقطع ذلك التدفُّق الحيوي، مثلما حدث من قِبَل الساميِّين والعرب أولًا، ثم البِيض
الأوروبيِّين.
ينظر «تشانسلور وليمز» إلى مسار التاريخ المصري باعتباره صراعًا من أجل النقاء
العرقي من قِبَل «جنس سيد» أسود كما يسمِّيه، ضدَّ جيرانه الساميِّين، وهو صراع على
الطريقة الجوبینووية، لا بد أن يكون خاسرًا. ويقول إنَّ آخر المصريين قد تمَّ تخفيضهم
إلى جنس خلاسي. أصبحت مصر في عهد آخر الأُسَر «بوتقة انصهار» للفوضى؛ «حيث تمَّ دفعُ
السُّود إلى أسفل السُّلَّم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، حيثما وحينما كان الآسيويون
وذريَّتُهم الهجينة يملكون الزمام.»
٧٩ من هذه اﻟ «مصر» المهجَّنة المتفسِّخة (نصف السامية نصف الزنجية)، كما
يقول «بن جوشانان»، كانت الإطلالة الأولى للأوروبي، المُسمَّى الآن بالقوقازي،
إطلالةً على ما يُطلَق عليه اليوم: «الحضارة الغربية».
٨٠
الجنس الأسود، «السيِّد» سابقًا، أصبح الفريسةَ المحتقرة لمن هم أقلُّ منه، وانقسم
تاريخ الجنس السيِّد الآن إلى اثنين: بعضه أصبح جزءًا من «شتات أسود» كبير ذهب إلى
أمريكا وأوروبا وآسيا كعبيد، بينما اضمحلَّ البعض الذي بقيَ في أفريقيا، رغم أنه كان
في بعض الأحيان جزءًا من حضارات عظيمة، وارتدَّ عميقًا إلى حياة بدائية وبربرية،
«وفي كثير من الحالات إلى همجية متطرِّفة»، ويفسِّر «تشانسلور ولیمز» ذلك قائلًا:
إنَّ النتيجة كانت أنهم أصبحوا «مادةً سهلة للغزو والسيطرة عليهم من قِبَل البِيض».
وبانهيار حضاراتها وتقاليدها، فقدَت الشعوب السوداء «كلَّ ذكرياتها الخاصة بتاريخها
المجيد»، وكان «أن شجَّعوهم على الاعتقاد بأنهم لم يكونوا أبدًا أصحابَ ماضٍ يستحق
التذكُّر … وإلا فأين تاريخهم المكتوب؟!» ومرة أخرى، يمثِّل الدليل المكتوب كذبة،
فالدليل الحقيقي موجود في الروح.
٨١
في الوقت نفسه، فإن البيض الذين انتزعوا آثار الحضارة المصرية، يصنعون الآن
نسختَهم المتحلِّلة. الإنجازات الفكرية الكبرى والحكمة فقدَت حيويتَها في أيدي
الأوروبيِّين، وأصبحت جافةً وبلا حياة. الأوروبيون لم يستطيعوا أن يُدركوا الحقيقة
الروحية السامية للثقافة السوداء. وهكذا «أصبحت الحقيقة نفسها مادية»، وأصبحوا
ينظرون إلى الكون نفسه على نحوٍ ميكانيكي وليس على نحوٍ حيوي، كما يقول «تشانسلور
وليمز»:
«وهكذا حدث أنَّ العلم الذي اعتمد عليه التنوير للوصول إلى التقدم
التام، استمر مع تقدُّم جانب واحد من جوانب الإنسان، ونتج عن ذلك أن أصبح
تطوُّر الصفات التي تميِّز الإنسان عن الحيوان مسألةَ مصادفة».
والنتيجة كما يقول «وليمز» — عائدًا إلى مزاعم «فروم» لكي يدعم استنتاجه — هي أنَّ
«الإنسان الغربي الحديث مفلسٌ أخلاقيًّا وروحيًّا؛ وبالتالي فهو لا يصلح لقيادة القرن
العشرين نحو غدٍ أفضل».
٨٢⋆،٨٣
التاريخ الحديث بمفهوم المركزية الأفريقية يصبح هو الصراع الذي كان يتحدَّث عنه
«هوستون ستيوارت تشمبرلین»، صراع بين حيوية عرقية سوداء ناهضة، وخصوم بِيض مفلسين
روحيًّا، حيثما توجد حيوية وتقدُّم إنساني، يوجد جنس أسود، أو على الأقل أحد الذين
قد بقوا منه — بما في ذلك الصين القديمة — بالتوازي مع مزاعم «جوبينو» عن جنسٍ آريٍّ
متحضِّر كلياني الوجود.
٨٤
وحيثما يوجد انحلال وعنف وقسوة وفوضى، يوجد الرجل الأبيض الذي يقضي وقته في
محاولات لإخفاء دلائل اعتماده الطفيلي على الحضارة الأفريقية.
الباحثون العنصريون كلهم إصرار على أنَّ المومياوات المصرية ليست زنجيةً مثلًا،
بينما يزعم آخرون أنَّ الرجال البيض كانوا أولَ مَن اكتشف العالم الجديد. والواقع،
كما يقول «إيفان فان سيرتيما»
Ivan Van Sertima في
كتابه «جاءوا قبل كولومبوس» (١٩٧٦م) فإن الأفارقة السُّود وصلوا إلى شواطئه منذ
عام ۸۰۰م — في كشفٍ مثير عن الهويَّة الثقافية العابرة للقارات — وصنعوا «حضارة
الأولمك».
٨٥⋆،٨٦ وكما كان يقول «مارکوس جارفي» قبل أربعين عامًا، فإن التاريخ الأبيض
بطبيعته معادٍ للسُّود، مثل الاستعمار نفسه. أما التاريخ المعترف به عند «موليفي
أسانتي»
Molefi Asante فهو «قتل أطفالنا عن
طريق قتل عقولهم».
٨٧ وهكذا فإنه يكون جزءًا من الخطوة التالية في المؤامرة البيضاء للإبادة
الجماعية: أسطورة الدمج والاستيعاب التي يعتقد البِيض — كما يقول «وليمز» — أنها
«سوف تقيس التطوُّر المنبِّه للشعور بالكبرياء العرقي، الشعور بالهويَّة الثقافية،
وبخطِّ دم الفرد». وعندما يفشل ذلك يضطرُّ البيض إلى العودة إلى خط الدفاع الأخير، وهو
«المخطط» أو الإبادة الجماعية للسُّود عن طريق المخدرات، حصرهم في «جيتو»، جرائم
العنف والإيدز. وحيث إنَّ كلَّ تلك المشكلات الاجتماعية تقع على السود بقدر غير متكافئ
كما يُشير «ليونارد جیفریز»
Leonard Jeffries، «فلا بد من النظر إليها كجزء من عملية تآمرية أكبر». المخطَّط يقدِّم دليلًا إضافيًّا
على محاولة البِيض منع مسيرة تقدُّم الحيوية السوداء عبر التاريخ باستخدام «حياة
السُّود وذواتهم كعلف لا ينتهي في نظامٍ أقامه البِيض الذكور، لمصلحة البِيض
الذكور».
٨٨
ويكتب «مولفاني کارینجا»
Molfani Karenga: «في
قلب التاريخ، يوجد الصراع ضدَّ الآخرين، الذين يهدِّدون الحياة والحرية والتطوُّر
الإنساني»، أي: الرأسمالية والعنصرية والاضطهاد والاستعمار.
٨٩
صراع الرجل الأسود ليس صراعًا ماركسيًّا ولا «دارونيًّا»، ولكنه صراع حيوي.
المركزية الأفريقية تُعيدنا إلى عصر العنصرية الرومانتيكية. وباختيارها لخصومها
ومؤيِّديها فإنها تعكس مرحلةً سابقة من التفكير في أمور الجنس والحضارة والتاريخ. من
أولئك الخصوم: «هيجل»، و«کوفيير»
Cuvier، و«جوبينو» و«شمبليون»، و«لوثروب ستودارد»، و«تشارلز دارون»، ومن المؤيِّدين: «فولني»،
وعالم المصريات «جاستون ماسبيرو»، وعالم الأنثروبولوجيا الألماني «ليو فوربینیوس»، و«جوهان
باکوفن»
Johaun Bochofen
زميل «نيتشة» في جامعة «بازل»، وهو من أبرز عناصر النظرية الأمومية في
الحضارة.
٩٠⋆
ومثل نُظَرائهم الآريين، يعتقد دعاة المركزية الأفريقية أنَّ الحيوية الثقافية لا
بد
من أن تتدفَّق من منبع أصلي واحد، وهو منبع الصحة الروحية كذلك. يكتب «مولیفي
أسانتي»: «اللون الأسود أكثر من مجرَّد حقيقة بيولوجية. إنه يعمل كالتزام بمشروع
تاریخي، يُعيد الشخص الأفريقي إلى المركز بالقدر الذي يعتبر به مهربًا إلى العقل.»
أما «ألفريد روزنبرج» فيضع ذلك في عام ۱۹۳۰م على النحو التالي: «قوة الارتباط
بالعرق هي معيارُ كلِّ تفكيرنا، هي التوق للإرادة والنشاط، وهي المعيار الأخير
لقيمتنا». هذا التدفُّق الحيوي يُنتج نظرةً للكون ذات مركزية أفريقية، ليست كتلك
النظرة التي يمجِّدها «تشمبرلین» و«روزنبرج» والمفكِّرون الآريون.
٩١ وكما هو الأمر عند «راتزل» و«دو بوا»، فإن النزعة الأفريقية تُنتج شخصًا
متكاملًا وشخصيةً صحيَّة «كليَّة». وعلى خلاف البِيض، فإن الشخص ذا المركزية الأفريقية
لا يتطلَّع إلى قوًى خارجية؛ «فالقوى موجودة بداخله كامتدادٍ لمستقبل أولئك الذين
رحلوا قبله».
٩٢ إنه يجسِّد ذلك المبدأ الأساسي: الروح، «الروح هي الحيوية التي يجلبها
الباحث للطريقة المركزية الأفريقية»، والتي تمكِّنه من إدراك حقيقة أعلى، أكثر من
نُظَرائه البِيض مع هاجس الدليل الواضح لديهم على أنَّ الزنوج قد وصلوا إلى أمريكا
مثلًا. الحيوية وحدها كافية لتفسير ذلك كما يقول «کارینجا»: «إذا كان الأوروبيون قد
تمكَّنوا من الوصول إلى أمريكا بالمصادفة، فلماذا لم يتمكَّن الأفارقة من الوصول
إليها بالتصميم والمهارة؟»
وباختصار فإن غرابة النظرية، وهي إحدى تجلِّيَّات العقل الغربي الفاسد. هذا
الافتراض يَصِل إلى أقصى مدًى له في عمل «فرانسيس کرس ولسنج»
Frances Cress Welsing. كتاباتها خليطٌ انتقائي فيها من المركزية
الأفريقية، و«سارتر»، و«فروید»، و«ماكس فيبر»، و«مدرسة فرانكفورت»، ونظرية الاضمحلال.
ذلك كلُّه كان يظهر في كتاباتها قبل أن يتشكَّل في دوامة نظريتها الحيوية عن العرق
«مفتاح الألوان». جميع الشعوب البيضاء عند «ولسنج» لونها أمهق، فاقدٌ للصبغة
الطبيعية؛ وحيث إنهم يفتقدون المادة الضرورية للون البشرة، فإن الحيوية الثقافية
تنقصهم أيضًا. الحضارة الغربية إذن هي النتاج الجماعي لجنس من المتفسِّخين تتبدَّى
عيوبهم الجينية المورثة، وتظهر في الخلل الوظيفي النفسي في المجتمع الحديث —
نرجسيته، اغترابه، قلقه — إلى غير ذلك من الأشكال الثقافية المريضة.
٩٣
ومثل أسلافها من السوفسطائيِّين الآريِّين، تتوقَّف «ولسنج» لتُمعن النظر في مغزى
الحكاية التوراتية عن طرد «آدم» و«حواء» من الجنة. هذه اللحظة، بداية التاريخ
العلماني، تعبِّر بالمجاز عن خجل الرجل الأبيض من الحياة في عالم «لا بد من أن يكون
للنموذج الإنساني لونٌ فيه». «یسوع» نفسه كان بطلًا أسود، والصليب رمز لقوته الجنسية
(فحولته)، وهو تصوير تخطيطي عند «ولسنج» لقضيب منتصب وخصيتين. إلا أنَّ المسيح صُلِب
وأُعدِم لكي ينقذ البِيض الأقل قوة (وراثية) بشرب دمه وأكل لحمه … وبالتالي يحصلون
على قوته الجنسية.
٩٤
تضحيته الطوطمية، هي في الواقع لحظة نشوء الثقافة الغربية عند «فروید»، وحضارتها
مثل دينها، مؤامرة واسعة من المتفسِّخين عرقيًّا، لالتهام الحيوية السوداء
المورثة.
الجسد الأبيض، القضيب الأسود يظهر في صور رمزية متنوعة: الولع الشديد بامتلاك
الأسلحة، الصواريخ النووية، السجائر (خاصة بين نساء الحركة النسوية البِيض اللائي
يدخِّنَّ كعلامة على التحرُّر) والنُّصُب التذكارية في واشنطن، حتى رقعة الشطرنج تُصبح
ساحةَ قتال عرقي رمزية، عندما يُسمَح للاعب الأسود أن يحرِّك قِطَعَه أولًا على
مربعات سوداء وبيضاء، ولكن اللاعب الأبيض يضمن الانتصار بالطبع.
٩٥
تاريخ العرق، مثل كتاب «فرانسيس بارکر یوکي»
Francis Parker
Yockey: «السُّلطة»، أو كتاب «روزنبرج»
Rosenberg: «أسطورة القرن العشرين» يرفض البحث الإمبيريقي لصالح الرؤية الأسطورية. عالم الحقائق
المؤكَّدة يصبح غيرَ مهمٍّ؛ لأن هناك
حقيقةً حيوية أعمق كامنة في القاع. وكشكلٍ من أشكال التاريخ العام، فإن المركزية
الأفريقية تتبع الأسلوب نفسه، الأسلوب النبوئي. وكما يقول أحدُ ممارسيها، فإن
المركزية الأفريقية «تأخذ ما هو متاح من بيانات، وتستخرج منه حقائقَ کافيةً بقدر ما
تسمح الظروف» من أجل تثبيت وتقوية هويَّة عرقية واحترام الذات.
٩٦
وبذلك صنعَت صورة مقلوبة من التشاؤمية العرقية الغربية، مثلما يعكس دعاة التعدُّدية
الثقافية المبادئ العدمية للتشاؤمية الثقافية الغربية.