اضمحلال مدينة التقنية: تخريب الغرب للطبيعة …
تذكَّر أنني مخلوقك: ينبغي أن أكون «آدمك»، ولكنني لستُ سوى الملاك الصريع الذي
تطرده من الفرح لغير ما ذنب أو جريرة …
«ماري شیللي – فرانكشتاین»
۱۸۱۸م
كان إنسان التنوير قد سلَّح نفسه بالعلم والفنون الميكانيكية كتعبير عن وفاقه
الأساسي مع الطبيعة، والذي يفهمه على أنه القانون الطبيعي. وكانت موسوعة «ديدرو»
Diderot، التي تعتبر إنجيل التنوير الفرنسي،
حاشدةً بصفحات كاملة تُصوِّر العمليات التكنولوجية والصناعية، وكانت تلك العمليات
يُنظَر إليها كتعبير معقول عن تقدُّم المجتمع المدني.
٢ كلُّ ذلك تغيَّر مع رفض الرومانتيكيِّين للطبيعة كنظام قانوني أو عقلاني.
رواية «ماري شیللي»
Mary Shelley: «فرانكشتاین» (۱۸۱۸م)، كانت البشير بالأدب العلمي ورواية الرعب، فهي تنقلنا إلى بدايات
نظرة
الرومانتيكية الجديدة للإنسان كجزء من طبيعة لاعقلانية، وتُقدِّم العناصر الأولى لما
سيصبح في النهاية: الصيغة الحيوية البيئية.
«فرانكشتاین» منقوع في الحيوية وفي فلسفة الحياة التي يقول بها الرومانتيكيون
الألمان. وكما يعترف البارون «فرانكشتاين»: «كان العالم بالنسبة لي لغزًا أريد أن
أكتشفه.» فهمُ قُوَى حياة الطبيعة يصبح هاجسًا، البحث عن «أسرار السماء والأرض»
يؤدي ﺑ «فرانكشتاين» إلى أن يرفض العلم الوضعي، ويتَّجه نحو «سيمياء»، وسحر العصور
الوسطى، الأصل السري القديم للحيوية. «فرانكشتاین» يتخيَّل نفسه «بروميثيوس» الذي
عرف كيف يتلاعب ﺑ «مبدأ الحياة» من أجل صنع الحياة. على أنه بدلًا من ذلك يجد نفسه
قد أصبح «باندورا».
٣⋆
وبعيدًا عن محاولة توفيق نفسه مع قوى الحياة في الطبيعة، يقوم «فرانکشتاین»
باستدعائها — فقط — لكي تنقلب عليه. ومثل الديناصورات في فيلم «الحديقة
الجوارسكية»، تَفُوق منتجات العلم الحديث كلَّ توقُّعاته بشكل يُنذِر بكوارث.
خَلْق «فرانكشتاين»، مثل خَلْق الإنسان نفسه، موجود في الصورة الذهنية لخالقه،
ولكن هذه الصورة تُصبح شائهةً شديدة البشاعة، وتحقِّق مصيرها الخاص بتدميرهما معًا.
الصورة الأكثر بقاء لهذه النظرة الرومانتيكية السلبية للعلم، هي صورة الإنسان
العقلاني في مواجهة الطبيعة الحيوية: هي الآلة. من «فرانسيس بيكون» إلى «سان
سيمون»، كان ينظر إلى التكنولوجيا كجانب أساسي في التقدم، وبالتحديد لأنها كانت
تبدو معبِّرةً عن المقابل لميول الإنسان التدميرية. الآلة مكَّنت البشر من صُنع ثروة
غير محدودة دون الحاجة للغزو أو الاستغلال. الحيوية الرومانتيكية أفسدت هذا المنظور
إلى الأبد. وكانت التكنولوجيا قد أصبحت عمليةً ميكانيكية تمامًا، مجرَّدة من أيِّ قيمة
إنسانية أو سموٍّ روحاني.
والواقع أنَّ الأساليب الفنية أو التقنيات
Technics، كما كان يُطلق عليها «شبنجلر»،
عقدت الصلة الحاسمة بين العلم والتخصُّص، وتقسيم العمل الممتهن للإنسان، اللذَين
جاءت بهما الرأسمالية؛ ففي رأي «شبنجلر» و«سومبارت» ونُقَّاد الثقافة الألمان
المعارضين للتقنيات، أن الآلة وقفت إلى جانب الرأسمالية والحضارة كأعداء للثقافة
الحيوية.
وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان قد بدأ ظهور التقدم التكنولوجي
للإنسان الغربي — حتى بالنسبة لبعض المعجبين به — على أنه نظامٌ مقدَّر ومجهول وظالم،
وتبدو وسائلُه كأنها تتخذ لنفسها حياةً خاصة بها، مثل وحش «فرانكشتاين» الشائه. صورة
العلم والتكنولوجيا ﻛ «صبي للساحر»، في عملية التقدم، ظهرَت فجأةً في نفس الزمان
والمكان تقريبًا، مثل المحرِّكات الأولى للانحدار الغربي: في باریس أربعينيات
وخمسينيات القرن التاسع عشر، في روايات الخيال العلمي ﻟ: «جولز فیرن»
Jules Verne.
كان «جولز فيرن» في الأصل كاتبَ روايات عاطفية تاريخية على طريقة «سیر والتر سكوت»
Sir Walther Scott، و«ألكساندر دوما» Alexandre Dumas، إلا أنه حوَّل خيالَه الواسع إلى تكنولوجيا القرن التاسع عشر. أشهر شخصياته «كابتن
نیمو»، ظهرَت لأول مرة في عام ١٨٦٨م في رواية «عشرون ألف فرسخ تحت الماء». «نيمو» يصوِّر
لنا كيف يصبح
الفنَّان الرومانسي المتحرِّر من الوهم هو العالِم الحديث المجنون. «نیمو» قطع كلَّ صلة
بالإنسانية والحضارة كما يقول لزائريه: «لستُ ما تُطلقون عليه اسم إنسان متحضِّر! لقد
قطعتُ صِلَتي بالمجتمع كلِّه لأسباب أنا فقط الذي أُقدِّرها؛ ولذا لا أُطيع قواعده،
وأنصحكم بألَّا تُشيروا إليها أمامي أبدًا.» وهو يعيش تحت الماء في غواصته
«نوتيلوس»، يحتفظ بمكتبة ملأى بالأعمال العلمية، ولكنها مثل مكتبة دكتور
«فرانكشتاين» … «بدون كتب سياسية أو اقتصادية». هاجس «نيمو» الذي يتملَّكه هو البحر
ككائن حي:
البحر هو كل شيء: إنه يغطِّي سبعةَ أعشار الكرة الأرضية، نَسَمَتُه نقيَّة
وصحيَّة. البحر صحراء واسعة، الإنسان ليس وحيدًا فيها لأنه يشعر بالحياة
تنبض من حوله، البحر حركة وحب، هو المطلق الحي كما قال أحد شعرائكم … هناك
فقط يمكن أن يكون المرء مستقلًّا … هناك فقط لا يوجد سیدٌ عليَّ، هناك يمكن
أن أكون حرًّا …
في رحلة حول الأرض بالغوَّاصة، يشعر الراوي عند «فيرن» بالقوة الحيوية لعالم ما
تحت الماء. عالم حاشد: بالزهور والكائنات والغابات الشاسعة والشِّعاب المرجانية
الخلَّابة، وسجاجيد الطحالب والرخويات. وفي النهاية، فإن البحر يُغریني كعالم بحياة
أكثر قوة من تلك التي فوق. وعندما يجد «نیمو» وزائروه أطلالَ قارة «أطلانطس»
المفقودة، فإن ذلك يذكِّر الراوي بالمكانة الضئيلة للبشرية، مقارنةً بقُوَى طبيعة
عنيفة دائمة التغيُّر. «نيمو» نفسه مقتنع بأنَّ نموَّ قوَّة الإنسان قد ذهب بعيدًا أكثر
مما ينبغي. وفي عام ١٨٧٥م، كان «نیمو» قد تحوَّل إلى ملاك الطبيعة المنتقم في
رواية «الجزيرة المجهولة». يقطع محيطات العالم، يُغرِق السفن الحربية للقوَى
الأوروبية الكبرى، في ثأرٍ أبديٍّ ضدَّ غرور الإنسان الحديث وخيلائه. الخطر الكامن ليس
هو العلم في ذاته، وإنما أولئك الذين يستخدمونه، كما يقول «نيمو» للرواي في «عشرين
ألف فرسخ تحت الماء»: «ما يحتاجه العالم ليس قارات جديدة، إنه يحتاج إلى بشر
جُدُد».
«نیمو» عند «فيرن» يقول إنَّ رجل العلم التقدمي له أيضًا اندفاعاتُه الهوجاء
الخرقاء، التي تقترب من العنف المبغض للبشر. في واحدة من روايات «فيرن» الأخيرة:
«روبر الفاتح» (۱۸۸۱م) يصبح العالِم بناءً قيصريًّا لإمبراطورية، يستخدم اختراعه
الميكانيكي بطريقة خرقاء، وهو ليس سوى طائرة (سفينة هواء) أثقل من الهواء! لتدمير
خصومه «الأقل تقدُّمًا»، «غير العلميِّين»، راكبي المنطاد. «روبر» برأسه القوي
الأشبه بالكرة، وشعره الأسود الكثيف الأشبه بنشارة الحديد، وجذعه المثلث الشكل،
ورئتَيه «الأشبه بالمنفاخ»، بكل ذلك، يحمل ميسم صلته بالعالم الميكانيكي أكثر منها
بالعالم الطبيعي. العبقري العلمي (الذي كان «سيزار لومبروزو» يشبِّهه بالجنون
والانحلال في شذوذه)، يدفع الإنسان إلى ما هو أبعد من قيوده وحدوده المتحضِّرة.
العالم كصانع للقانون، أصبح هو الخارق للقانون.
٤
«فیرن» لا يفقد رؤيته أبدًا عن حتمية التقدم. وكما تحذِّر إحدى شخصيات «الجزيرة
المجهولة» «نیمو»: «الحضارة لا تنحسر ولا تتقهقر أبدًا، قانون الضرورة يدفعها
دائمًا إلى الأمام». ولكن لا ينبغي أن يكون توقُّعًا سارًّا. هذا التكافؤ الضدِّي
نفسه يظهر في أعمال ذلك الرائد الآخر لأدب الخيال العلمي، نقصد «ﻫ. ج. ويلز»
H. G. Wells.
خصومه المعاصرون، بمن فيهم «أرنولد توينبي» اعتادوا شجبَه باعتباره أبلهَ متفائلًا
بمستقبل التقدم والعلم. ولكن رواياته تُكذِّب هذه السمعة. في «حرب الكواكب»
(۱۸۹۸م) تُثبت العنجهية التكنولوجية البشرية أنها خصم ضعيف أمام جنس متفوِّق من الغزاة
قادم من المريخ. وفي «طعام الآلهة» (١٩٠٤م) نجد تجربة علمية لإنتاج هرمون للنمو
الخارق، تؤدي إلى نتائج كارثية، بينما في «آلة الزمن» (١٨٩٥م)، و«جزيرة دكتور
مورو» (١٨٩٦م) نجده يجمع بين هذا التكافؤ الضدِّي عن التقدم العلمي وموضوع آخر
مألوف، وهو الانحلال أو التفسُّخ، مخترع آلة الزمن وراوي القصة، يجد نفسه ينتقل
إلى المستقبل البعيد (۸۰۲-۸۰۱ق.م. على وجه الدقة)، الطبقة الحاكمة العاجزة (اﻟ
«إيلوي» Eloi تعيش في رعب من رعاياها المرتدِّين
إلى صفات الأسلاف، وهم طبقة اﻟ «مورلوك» Morlocks)، «بوجوههم الشاحبة المنطفئة،
وعيونهم الحمراء الرمادية الواسعة التي لا جفون لها»، الذين يحتاجون لرؤيتهم في
الكهوف السرية العميقة، حيث يعيشون ويعملون. «المورلوك» عبيد تعساء لطبقة
«الإيلوي»، يُنتجون كلَّ ما يحتاجه سادتُهم لكي يعيشوا في نعيم. وبالرغم من أنَّ الراوي
يشعر بالتعاطف معهم في شقائهم (كان «ويلز» اشتراكيًّا) إلا أنه يلاحظ «شيئًا غيرَ
إنساني وخبيثًا في طبيعة «المورلوك»، وها هو يعترف …»
«أنا أمقتهم … هكذا بالفطرة». «المورلوك» ليسوا جنسًا من العبيد لكي يخسروا
قيودهم. إنهم جنس من المتفسِّخين — بشكل دائم — الذين لم تَعُد الحرية تعني لهم شيئًا
على الإطلاق. وسرعان ما يدرك الراوي أنَّ التقسيم الاجتماعي للحضارة الصناعية إلى
رأسمالية وعمل، كان قائمًا على مدى آلاف السنين بشكل دائم، الأمر الذي خلق جنسَين
مختلفين من الكائنات.
«فوق الأرض هناك مَن يملكون، الذين يبحثون عن المتعة والراحة والجمال، وهناك تحت
الأرض مَن لا يملكون شيئًا». أمله في التقدم يهتزُّ. «الانتصار العظيم الذي كنت
أحلم به للإنسانية أخذ شكلًا آخر في عقلي … أصبحت أرى، بدلًا منه، مجتمعًا حقيقيًّا
مسلَّحًا بالعلم المتقن ويعمل من أجل نهاية منطقية، وهي النظام الاقتصادي الذي نراه
اليوم. انتصاره لم يكن مجرَّدَ انتصار على الطبيعة، وإنما هو انتصار على الطبيعة وعلى
رفيقه الإنسان أيضًا». ومثل «تشارلز موراي» Charles
Murray في «منحنى الجرس» أصبح يتوقَّع مستقبلًا منقسمًا بين
طبقة دنيا دائمة، و«نخبة معروفة». ولكن في صيغة «ويلز»، فإن التكنولوجيا والتطوُّر
قد جلبا عمليةَ انحلال مزدوجة؛ فبينما «المورلوك» محاصرون دائمًا ومحبوسون في العمل
الشاق الحقير وفي الجهل، نجد النخبة «الإيلوي» قد فقدَت كلَّ دافع وكل قدرة على
الإبداع نتيجة اعتمادها على التكنولوجيا، إلى جانب «تضاؤل عام في الحجم والقوة
والذكاء». جزيرة «دكتور مورو» تعود إلى نفس النقطة. تجارب دكتور «مورو» (شبه
الإلهية) لتحويل الحيوانات جراحيًّا إلى بشر (أي: العودة العكسية إلى صفات الأسلاف)
تُخطئ تمامًا، وتُنتج بدلًا من ذلك مجموعةً من الكائنات الهولية المعذَّبة شديدة
الامتعاض … «البشر/البهيمة». وينتهي الراوي بأسفٍ، في مقطع يُشبه كتابةَ «فيرن» إلى
أنَّ «دراسة الطبيعة تجعل الناس في النهاية قساةً مثل الطبيعة»، وخاصة عندما يتمكَّن
من الهرب عائدًا إلى «لندن» الصناعية، ويلتقي ﺑ «وجوه الناس الباهتة، الخالية من
أيِّ تعبير، أمامي في القطارات»، ويجد أنه لا يستطيع أن يميِّز هذه «الحيوانات نصف
المخلَّقة في الصور الخارجية للأرواح الإنسانية»، من مجموعة الوحوش الشائهة عند
دكتور «مورو» الشرير.
ويقول للقارئ: «أمضي خائفًا، أشعر وكأن الحيوان يتموَّر بداخلهم، وأنَّ تفسُّخَ
سكان الجزيرة سوف يستمر على نطاق أوسع.» كان «ويلز» يرى في العلم والتكنولوجيا
نوعًا جديدًا من التمرُّد على الطبيعة. لم يكن ذلك هو الغزو الرومانسي كما يرى
«فیرن»، وإنما هجومًا موجَّهًا ضدَّ الواجب البيولوجي للتطوُّر ذاته، هجومًا من شأنه
أن يقتضيَ ثأره في النهاية. ومثل كثيرين من جيله، كان «ويلز» يخشى أن يكون التطوُّر
والتقدم يتحرَّكان في اتجاهات عكسية وغير متوازية. البيئة الصناعية التي تنمو
باستمرار لدى الإنسان الحديث، ستتركه في النهاية بلا دفاعٍ ضدَّ قوى الطبيعة الكامنة
«العنيدة المجهولة» التي تتبدَّى بكل قوتها البشعة في «حرب الكواكب».
بعد حربَين عالميَّتَين، تحوَّلَت تشاؤمية «ويلز» إلى كآبة رؤيوية غامضة في عملٍ
مهمٍّ
من أعماله وهو «العقل عند نهاية قيده». كتبه في نفس العام الذي صدر فيه «جدل
التنوير»، وكتاب «هيدجر» «سؤال بخصوص التكنولوجيا». في الكتب الثلاثة يبدو الانتصار
على الفاشية بدايةَ كابوس جديد، وليس نهايةً لكابوس طويل. «ويلز» يقول لقُرَّائه:
«العالم عند نهاية قيده، نهاية كل ما نسمِّيه حياة قد اقتربت، ولا يمكن تجنُّب
ذلك.» ويتصوَّر إمكانيةَ أن ينشأ نوعٌ جديد من الحياة بعد موت الإنسان، نوع أكثر
توافقًا مع الطبيعة. أما بالنسبة للإنسان، وبصفته نوعًا بيولوجيًّا، فليس هناك سوى
الانقراض الحتمي: «لا يوجد مخرج على أيِّ نحو، كوننا ليس مفلسًا فقط، بل ليس هناك
عائدٌ على الإطلاق. عالمنا لم تتمَّ تصفيتُه فقط، إنه يختفي من الوجود …» انفجار
القنبلة الذرية في «هيروشيما» كان يؤكِّد تشاؤمَه، كما كان أيضًا لكثير من أبناء
جيله.
٥⋆
عند نُقَّاد آخرين، أصبحَت التكنولوجيا هي الشكل الأخير للبربرية.
عندما وقف «هنري آدمز» (في معرض شيكاغو عام ۱۹۰۰م) أمام المولِّد الكهربائي
العملاق، الذي يدور بسرعة مدوخة وصوت خفيض، لم يكن يرى أمامه مجردَ آلة بل «تقنية
سحرية»، كانت تبدو وكأنها تُطلق الغريزة البدائية للكائن البشري لكي تنحنيَ أمام
«قوَّة صامتة ولا نهائية»، كما كان فلاح العصور الوسطى ينحني أمام تماثيل للعذراء،
أو الإنسان البدائي أمام طوطمِه. «ﻫ. ج. ويلز» نفسه نشر قصةً قصيرة بعنوان «آلهة
المولِّد الكهربائي»؛ حيث يعتقد شخص ملوَّن من السكَّان الأصليِّين للغابات الاستوائية،
أنَّ المولِّد الهائل إلهٌ بالفعل. وعندما تقتل تلك الآلةُ سيِّدَه الأبيض في غفلة، يرى
ذلك طقسًا من طقوس التضحية الإنسانية، «لم يسبق أن كان «أزوما-زي» قد رأى في
حياته رجلًا يقتل بمثل تلك السرعة المذهلة ولا بمثل تلك القسوة. الآلة المدمِّرة
الهائلة قتلَت فريستها دون أن تهتزَّ لحظةً في دورانها المنتظم، كانت إلهًا
جبَّارًا».
٦ في الصيغة الحداثية من التشاؤمية التكنولوجية، الآلة تدمِّر إنسانية
الإنسان بإلقائه في ظلام ثقافي صناعي مُضاء بالفلورسنت. هذا الارتداد البربري هو
أساس الرؤية المعادية للتكنولوجيا في الغرب الحديث، والتي نجدها لدى نقَّاد مثل:
«فالتر بنيامين»
Walter Benjamin، و«لويس ممفورد»
Lewis Mumford، و«جاك إيلول»
Jacques Ellul في «المجتمع التكنولوجي».
البشر يعيشون الآن في ظروف أقل من أن تُوصَف بأنها إنسانية. انظر إلى
كثافة المدن الكبرى والأحياء الفقيرة وقلة المساحات الخالية، والهواء،
والوقت، والشوارع الكئيبة، والأضواء الشاحبة التي تخلط الليل بالنهار،
فكِّر في المصانع اللاإنسانية وفي حواسنا غير المشبعة، وفي نسائنا
العاملات، وفي اغترابنا عن الطبيعة، الحياة في بيئة كهذه ليس لها أيُّ معنًى
… ثم نزعم أنَّ ذلك تقدُّم.
٧
وبعبارة «روبرتو فاكا»
Roberto Vacca، فإن
الغرب الحديث يُشكِّل «عصورًا مظلمة»، تكنولوجية جديدة، تأسر الإنسانية في الجهل
والعجز.
٨
على أنَّ «جاك إيلول» يميِّز بين الآلة التي هي بالفعل محايدة، والتكنولوجيا التي
تدمج الآلة في النظام الاجتماعي. التكنولوجيا ومصيرها لا ينفصلان عن مصير هذا
المجتمع الذي يطوِّرها ويستخدمها … أي الغرب الصناعي. وبالنسبة للنقَّاد في
الخمسينيات والستينيات، فإن قيمة التكنولوجيا والكمبيوتر ووسائل الإعلام، لم تكن
منفصلةً عن الرأسمالية وآليات استغلالها، ولا عن القوَّة المادية المدمِّرة لترسانات
الصواريخ النووية. التكنولوجيا، باختصار، تصبح هي الغرب الحديث: المواصفات القبيحة
نفسها، القوَّة الخبيثة نفسها، ونفس القابلية للاضمحلال.
كتب «أدورنو»: «كان «شبنجلر» يرى في سقوط الغرب وعدًا بعصر ذهبي للمهندسين، أما
التوقُّع البادي في الأفق فهو سقوط التكنولوجيا نفسها.» وبعبارة أحد الخبراء
المراقبين: «السؤال هو أيهما سوف يسقط أولًا: الاقتصاد الكوني، أم نظامه البيئي
المساعد؟»
٩
ومثلما كانت الرأسمالية والتكنولوجيا والليبرالية الحريصة على مصالحها تمثِّل
تحدِّيات للثقافة الحيوية، فإن تلك العوامل نفسها تمثِّل الآن تهديدًا مشابهًا
للطبيعة الحيوية. وقد ظهر معسكران أيديولوجيَّان كبيران، كلاهما يستخدم هذه المجموعة
من التعارضات بأساليب جديدة: الأوَّل يحرِّض التقدم والعلم ضد التكنولوجيا، أي
ضدَّ القيم الرأسمالية الغربية «المعادية»، التي لا بد إما أن تنتهيَ أو أن تُدمج في
رؤية للإنسانية، جديدة وأكثر سموًّا. ومثل الليبراليِّين المتأخِّرين، فإن أولئك
المهتمِّين بالبيئة قد توجَّهوا من أجل الإنقاذ، إلى نظام كوني ما بعد رأسمالي، هذا
النظام الجديد تفقد فيه القيمُ الغربية الاستحواذية المدمِّرة الكثيرَ من أرضيتها
لصالح قِيَمٍ أكثر إنسانية.
صنع المعسكر الثاني الصيغة التشاؤمية الثقافية الخاصة بالبيئة، عند هؤلاء، وهم
ورثة: «نيتشة»، و«هيدجر»، و«مدرسة فرانكفورت»؛ ومن ثَم فإن العلم المعياري الغربي
نفسه، يصبح هو أساس المشكلة أكثر مما هو الحل.
رؤيا نهاية العالم، والنظام الأخضر الجديد …
الأرض مهدَّدة بالدمار على نطاق العالم كله، وإذا عملنا معًا يمكننا أن نقهر
قُوَى الشر: الجفاف، والسيول، والأشعة فوق البنفسجية، والضباب الممتزج بالدخان،
والسرطان، والمجاعة، وكلُّها من صُنْع فرسان نهاية العالم الثلاثة: ارتفاع درجة
حرارة الأرض، استنفاد الأوزون، والشتاء النووي.
ديفيد فيشر، «نار وجليد»
(۱۹۹۰م)
يعتمد المفهوم العام للحضارة على رفضٍ حاسم للنظرة الرؤيوية للتاريخ. وكان مفكِّرو
التنوير يعتقدون أنَّ النبيَّ الرؤيوي، مثل المتعصِّب الديني، عدوٌّ للقيم الإنسانية
المتحضِّرة. كلاهما على استعداد لتحطيم المؤسسات القائمة العادية من أجل تصوُّر
شخصي — وبالتالي غير مؤكَّد — لأهداف إلهية.
القرن الثامن عشر أكَّد على أهمية العقل في الشئون الإنسانية؛ لأننا في غيبة
الأساس العقلاني الثابت للمعتقدات، نُصبح ضحايا لمخاوفنا وقلقنا. وكما كان «ديفيد
هيوم» يقول: «عقل الإنسان عرضة لمخاوف وأهوال لا حصر لها؛ نتيجةً للحالة التعسة التي
تئُول إليها شئونُنا العامة أو الخاصة، والصحة السيئة، والحالة المزاجية الكئيبة. في
مثل هذه الحالة الذهنية، عندما تكون كلُّ بواعث الفزع الحقيقية غائبة، فإن الروح …
تجد البواعث المتوهمة، ولا تضع حدودًا لقوَّتِها ولا لحقدِها.»
١٠ في عام ١٩٦٨م، نشر «بول إیرلش»
Paul
Ehrlich کتابَ: «القنبلة السكانية». وبالرغم من أنَّ كُتُبًا
أخرى مثل «الربيع الصامت» (١٩٦٣م) ﻟ «راشيل كارسون»
Rachel Carson، وكتاب «إیرلش» نفسه: «العلم والبقاء»، كانت تقول إنَّ
«التقدم» التكنولوجي الحديث، يُعرِّض الحياة للخطر بدلًا من إنقاذها، إلا أنَّ كتاب
«القنبلة السكانية» هو الذي قدَّم المستقبل بهذا الشكل الكاسح وبأسلوب رؤيوي. كان
يتنبَّأ بمجاعة عالمية «مؤكَّدة» بحلول عام ١٩٧٥م، إذا لم تتوقَّف الزيادة السكانية
في العالم. كانت أوَّل عبارة في كتاب «إیرلش»: «لقد انتهت معركةُ إطعام كل الجنس
البشري.» «في السبعينيات سيتعرَّض العالم لمجاعات، وبالرغم من أيِّ برامج عاجلة
لمواجهة الموقف، إلا أنَّ ملايين البشر سيموتون نتيجةً للجوع». كما يتنبَّأ بأن
«أمريكا وأوروبا» — على أحسن الفروض — ستضطرَّان إلى خطَّة «معتدلة» لتوزيع حصص الغذاء
خلال هذا العقد، بينما ستجتاح المجاعةُ والاضطرابات: آسيا وأمريكا اللاتينية
وأفريقيا والدول العربية. وعلى أسوأ الفروض، فإن الاضطراب العظيم في العالم الثالث
الذي لن يجد الطعام، سيكون سببًا في مجموعة من الأزمات العالمية، كما يؤدي إلى
حرب نووية.
هذه الأزمة العالمية كانت على وشك الانطلاق بسبب الزيادة السكانية كما حذَّر
«إیرلش». التقدم الذي حدث في مجالات الدواء والرعاية الصحية، الثورة الخضراء في
الزراعة، الحراك الكبير في وسائل الاتصال والانتقال، كلُّ ذلك مكَّنَ النموَّ السكاني
من أن يُجهد موارد الأرض، ليس بمعنی الغذاء والتلوُّث، ولكن بالحاجة إلى المزيد من
التكنولوجيا لتحسين مستويات المعيشة، الأمر الذي يؤدِّي بدوره إلى زيادة سكانية.
«إیرلش» حوَّل المستقبل التكنولوجي إلى ثورة:
anakuklosis كلاسيكية، أو بعبارة «باري کومونر»
Barry Commoner، «الدائرة المغلقة»، كما تنبَّأ
«إیرلش» كذلك بأن الزيادة السكانية ستُحدِث ضغطًا لا يُحتمَل على الدول الجديدة
في عالم ما بعد الاستعمار، «إنَّ فُرَص الحرب تتزايد مع كلِّ زيادة سكانية جديدة، ومع
المنافسة المتصاعدة على المصادر المتضائلة وعلى الغذاء».
١١
وبينما تمثِّل هذه المنافسة أشدَّ الخطر على العالم الثالث، إلا أنَّ «إیرلش» يقول
إنَّ جهود التحكُّم في الزيادة السكانية لا بد من أن تبدأ في الولايات المتحدة حيث
المشكلة ليست خطرة. والسبب، هو أنَّ «أمريكا» لا بد من أن تكون نموذجًا للتحفُّظ
الحضاري، «والغيرية» للدولة النامية، «حتى تحذوَ حَذْوَها في تنظيم النسل». «الإجراءات
اللاأنانية اللازمة لمساعدة بقية العالم وموازنة السكان، هي أملنا الوحيد من أجل
البقاء»، كما يُضيف مردِّدًا أفكارَ «أرنولد توينبي»: «نحن القوَّة الكبرى الأكثر
تأثيرًا ونفوذًا، نحن أغنى دولة في العالم، وفي الوقت نفسه نحن مجرَّد بلد واحد في
كوكب أخذ في الانكماش … لا بد من إيجاد وسائل لكي يُدرك الشعب الأمريكي الخطر
الداهم الذي يهدِّد أسلوبه في الحياة، أو بالأحرى يتهدَّد حياتَه ذاتَها». «إيرلش»
يرفض فكرةَ وضع المواد المسبِّبة للعقم أو الهرمونات المضادَّة للإنجاب في مياه الشرب؛
لأن ذلك من شأنه أن يُثيرَ احتجاجًا واسعًا. إنه يقترح بدل ذلك حوافزَ محدَّدة، مثل فرض
«ضرائب ترف» على أسرَّة الأطفال الصغيرة والحفَّاضات واللُّعَب؛ وذلك لعقاب الأمريكي
الذي يُصرُّ بكل أنانية على إنجاب المزيد من الأطفال. وضرورة إنشاء مكتب فيدرالي
للسكَّان والبيئة، بينما يمكن أن تكون قوانين التربية الجنسية في المدارس وحق
الإجهاض عند الطلب، خطوات في الاتجاه نفسه.
١٢
«إیرلش» كان يُدرك أنَّ أيَّ نظام سیاسي موجود لن يستطيع تنفيذَ هذا الانقلاب الطموح
في أولويات ذات مركزية أوروبية. مستقبل الإنسانية يتطلَّب تحوُّلًا راديكاليًّا من
«نظام متوجِّه نحو النموِّ والاستغلال، إلى نظام يرتكز على الاستقرار وصيانة
الموارد»، بالإضافة إلى إسقاط المؤسسات التي ساعدت على بقاء واستمرار النظام
القديم المدمِّر لذاته — الكنيسة الكاثوليكية، علم الأخلاق اليهودي المسيحي،
المؤسسات متعددة الجنسية. ويتصوَّر «إیرلش» مستقبلًا «نظامًا كوكبيًّا»، تتحوَّل
فيه الأمم المتحدة إلى وكالة دولية واسعة للسكان والموارد البيئية، يمكن أن تُدشِّن
برنامجًا إجباريًّا للتعقيم، ويمكن — إذا احتاج الأمر — أن تُقسم دول العالم الثالث
إلى وحدات أكثر كفاءة من ناحية الحفاظ على البيئة.
١٣ وإذا كانت مشروعات «إیرلش» تبدو طموحةً (وربما مليئة «بالإكراه بمعناه
الجيد»، كما كتب)، فإن كتاب «كومونر»: «الدائرة المغلقة» (۱۹۷۱م) يذهب إلى ما هو أبعد
من ذلك. «کومونر» يتنبَّأ بأن موارد الأرض المعدنية والوقود، سوف تُستَنفد بنهاية
القرن؛ لأن الغرب يستخدمها بسرعة أكثر مما ينبغي، وهو يرى أنَّ «نهب كوكب الأرض»، قد
أصبح هو القاعدة عند الحضارة الغربية، وأنَّ ديناميكيةَ نموِّها الاقتصادي وتقدُّمها
سوف تُسبِّب — حتمًا — تلوُّثًا يصل إلى حدِّ الكارثة، ونضوبًا شديدًا للموارد.
ومثلما كانت الرأسمالية نظامًا لسرقة أجور العمَّال، جاء الآن نظام سرقة الأرض
نفسها. الأرض تُصاب بالتلوُّث ليس لأن الإنسان حيوان قذر، ولا لأن عددنا أكثر من
اللازم، المشكلة تكمن في المجتمع الإنساني الذي اختار أن يكسب ويوزِّع ويستخدم
الثروة التي يتمُّ استخراجها نتيجة الجهد الإنساني، والمجتمع المقصود بالطبع، هو
«المجتمع الغربي». وعند «کومونر» — أكثر مما هو عند «إیرلش» — فإن إعادة توزيع
الموارد في نظام عالمي واحد جديد، ضرورة أخلاقية بقدر ما هي ضرورة عملية. العبء
الاقتصادي في نظام جديد كهذا، سيقع أساسًا على المجتمعات التكنولوجية ما بعد
الصناعية، مثل الولايات المتحدة، ولكن ذلك أيضًا «نوع من العدل» كما يقول؛ لأن تلك
المجتمعات بالتحديد، هي التي حقَّق اقتصادُها تقدُّمَه على حساب الآخرين.
١٤
استنتاجات «كومونر» و«إیرلش» كانت متوافقةً مع تقرير «نادي روما» لعام ۱۹۷۲م:
«حدود النمو»، الذي كان يتوقَّع نهايةَ النموِّ الاقتصادي في كل مكان مع بداية القرن
الواحد والعشرين. وسوف يختفي مبررُ وجودِ دول حديثة على النموذج الأوروبي (مثل
اليابان) سريعًا، ولن يستطيعَ أحد أن يتنبَّأ بالنتائج كما يقول المؤلفان. وفي نفس
العام خرج صوتان بارزان في حوار الشمال والجنوب، وهما «رينيه دوبوس»
René Dubos، و«باربرا وورد»
Barbara Ward بكتاب «كوكب أرضي واحد»، الذي
يعني عنوانُه ضمنًا أنَّ الدول الغربية الصناعية كانت تتصرَّف وكأن هناك أكثرَ من أرض.
«دوبوس» و«وورد» حذَّرا من أنَّ «الزيادة الكبيرة المضطردة والمفاجئة في أعدادنا،
وفي استخدام الطاقة والمواد الجديدة، وفي تمدين الحياة، وفي القيم الاستهلاكية، وفي
التلوث الناجم عن ذلك … كلها قد وضعت الإنسان الحديث في مسار يُعرِّض بقاءَ هذا
الكوكب للخطر».
كان «إيرلش»، و«وورد»، و«دوبوس»، و«نادي روما» كلهم يتطلَّعون إلى ما هو أكثر من
حماية البيئة أو وضع قيود على النفوذ الغربي على العالم الثالث. كانوا يريدون
نظامًا «سياسيًّا عالميًّا مسئولًا من الناحية الأخلاقية والاجتماعية». یعني نهاية
التغيُّر الاقتصادي والاجتماعي طبقًا للنموذج الغربي. وطالبوا بهيئات دولية جديدة
تفرض نظامًا عقلانيًّا على الثورة ما بعد الحداثية، والتكنو رأسمالية التي لا
يمكن التنبُّؤ بها، والتي تُضلِّل السيطرة الإنسانية مثل عجلة الحظ. وطبقًا لتقرير
نُشِر عام ۱۹۸۰م، فإن التنمية الاقتصادية «تتضمَّن تحوُّلًا عميقًا لكل البنية
الاقتصادية
١٥ والاجتماعية» في المجتمع … وهو تحوُّل إلى الأسوأ عادةً. إنَّ التنمية
الاقتصادية مشوِّشة وممزِّقة ومدمِّرة «للهويَّات الثقافية»، وتُخلِّف كثيرًا من
الحطام الإنساني وراءها … وقد اخترع أحدُ المؤلِّفين — وهو «ألفن توفلر»
Alvin Toffler — مصطلحًا جديدًا يَصِف به هذا
التأثير الصادم وهو: «صدمة المستقبل».
١٦
كانت هناك حاجةٌ إذن إلى نموذج جديد للتنمية، نموذج لا يؤدي إلى «الفوضى» (بمعنى
أن يمضيَ النشاطُ الاقتصادي بعيدًا عن سيطرة مخطِّطي الحكومة)، وإنما إلى الاستقرار
كما يتصوَّره العقل الليبرالي المتأخر. في عام ۱۹۸۰م شكَّل «روبرت مكنمارا»
Robert McNamara رئيس البنك الدولي، والمستشار الألماني السابق «فیلي برانت»
Willi
Brandt اللجنةَ المستقلة لقضايا التنمية العالمية، وتقدَّموا
بمشروعهم لسكرتير عام الأمم المتحدة «كورت فالدهايم»
١٧⋆Kurt Waldheim . وبالرغم من أنَّ تنبُّؤات «بول إیرلش» الكئيبة التي أطلقها قبل اثنَي عشر عامًا لم
تتحقَّق، إلا أنَّ الحالة
المعنوية للجنة لم تتغيَّر.
مع مطلع الثمانينيات، يواجه المجتمع العالمي أخطارًا أعظم مما حدث في أيِّ
وقت منذ الحرب العالمية الثانية. ومن الواضح أنَّ الاقتصاد العالمي يسير على
نحوٍ سيِّئ لدرجة أنه يدمِّر المصالح المباشرة والمصالح البعيدة المدى لجميع
الدول. لقد أصبحت مشكلات الفقر والجوع أكثر خطورة؛ حيث يوجد بالفعل
ثمانمائة مليون من المعدَمين تمامًا وأعدادُهم في ازدياد. نقص الحبوب
والأغذية الأخرى يزيد من فُرَص انتشار الجوع، والنموُّ السكَّاني السريع
سيؤدِّي إلى استنزاف أكبر للغذاء والموارد في العالم.
كما حذَّرت اللجنة من وجود خطر حقيقي، وهو أنه بحلول عام ۲۰۰۰م، سوف تنتشر
المجاعات، ويزيد عددُ السكَّان وأحجام المدن بشكل كبير، «هذا إذا لم تكن حربٌ كبرى
جديدة قد هزَّت بالفعل ما نُسمِّيه بالحضارة العالمية».
١٨
كان جزءًا من الحل أن تتخلَّى الدول التي ظهرَت حديثًا عن محاولاتها في أن تكون
مثلَ الدول الغربية الغنية. وكانت لجنة «برانت» تحثُّ على «ضرورة تجنُّب الخلط
المستمر بين النموِّ والتنمية». وبدلًا من ذلك «نحن نؤكِّد دائمًا على أنَّ الهدف
الأساسي للتنمية هو أن تؤدِّيَ إلى التحقُّق الذاتي والمشاركة الخلَّاقة في استخدام
القوى الإنتاجية للدولة، وكذلك كل طاقاتها البشرية»، وكان الجزء الأخير عبارةً عن
مشروع طوارئ للثمانينيات على مستوى العالم يتضمَّن: برنامجًا للغذاء، برنامجًا
دوليًّا للطاقة، وقوانين وطنية وقواعد دولية للسلوك، تكون فعَّالة، «تتضمَّن المشاركةَ
في التكنولوجيا بين الأغنياء والفقراء، إلى جانب وضع قيود على أنشطة المؤسسات
العابرة للحدود القومية».
ومثل نُظَرائهم من مفكِّري ما بعد الليبرالية في نهاية القرن التاسع عشر، فإن قلق
الليبراليِّين الجدد لم يكن سببُه فشلَ الرأسمالية الجامحة في إنتاج الثروة؛ بل إنَّ
المشكلة كانت في أنها قد أنتجَت ثروةً أكثر من اللازم ووضعَتها في الأيدي الخطأ (أيدي
سكان الشمال الصناعي الغني).
كانت نظرةُ الدول الغربية الرئيسة نظرةً «مادية قائمة على إيمانٍ بالنموِّ التلقائي
للناتج القومي العام ولِمَا يعتبرونه مستويات للمعيشة». وكانت الدول الغربية في
حاجة لأن تُدرك أنَّ «العالم نظام» على النموذج العضواني
organicist الكلاسيكي، يحتوي على «عناصر
مختلفة مكوِّنة له، تتفاعل مع بعضها».
١٩ واقترحت «لجنة برانت» وآخرون «نظامًا دوليًّا جديدًا»، يمكن بوكالاته
المنظَّمة وهيئاته الجمعية: «النظر إليه كعملية متغيرة باستمرار، يعمل فيها
التدبُّر والتفاوض بشكل دائم من أجل إقامة توازن شامل بين جميع عناصره، سواء كانت
فرديةً أو جماعية».
٢٠
وكما كان دعاةُ التشاؤمية التاريخية؛ مثل «بورکهارت»، و«هنري آدمز» يعتقدون أنَّ
الرأسمالية سوف تجفِّف مواردَ الإبداع والفكر الإنسانيَّين، كان دعاة التنمية
المستدامة مقتنعين بأن الرأسمالية العادية سوف تجفِّف مصادر المواد الخام.
هذه المخاوف والهموم المقلقة أدَّت إلى ظهور فكرة التنمية الاقتصادية المستدامة.
الاقتصاد المستدام طبقًا لأحد تقارير معهد الرصد الدولي في عام ۱۹۹۱م، هو الاقتصاد
الذي لا يمتدُّ إلى ما هو أبعد من الموارد المتاحة. «في اقتصادٍ كهذا، توجد كثافة
سكانية مستقرَّة، ونظام طاقة لا يُنتج غازات ضارة، ومستوى احتياج مادي لا يتخطَّى
بأيِّ شكل عائدَ الغابات أو المراعي أو مصائد الأسماك، ولا يدمِّر على نحوٍ منظَّم
الأنواع الأخرى التي تُشارك بقية الكواكب فيها».
٢١ الاقتصاد المستدام ينظر إلى ما هو أبعد من «النظرة الطبيعية الضيِّقة
للعالم»، أي: نظرة رجال الأعمال والاقتصاديِّين الذين يحلِّلون العالم طبقًا لمصطلحات
مجرَّدة: «مدَّخرات، استثمار، نمو». المهتمون بالبيئة، على العكس من ذلك، «يدرسون
العلاقات المعقَّدة دائمة التغيُّر، بين الأشياء الحيَّة وبيئتها». المهتمون بالبيئة
يفهمون فكرةَ «الحدود الطبيعية للنمو»، ويعترف «معهد الرصد» أنَّ «بناء اقتصاد بيئي
مستدام يمكن — تقريبًا — أن يُحدِث ثورةً في كافة جوانب الوجود الإنساني»، وبالطبع،
فإن «الانتقال إلى عالم آمن بيئيًّا»، سوف يتطلَّب تعبئةَ طاقات الدولة بكاملها، وكذلك
طاقات المنظَّمات الدولية مثل الأمم المتحدة، «أما السؤال فهو حول ما إذا كنَّا
مستعدِّين وبشكل جماعي أن نخوضَ النضال المطلوب من أجل صنع عالم جديد»، وإنقاذ كوكب
الأرض.
٢٢
في الوقت نفسه، فإن مدى انتشار الآثار الضارة والشريرة للحضارة الغربية، يتَّسع
وينمو مثل الفطر السام. خطر الموارد المسبِّبة للسرطان التي تُنتجها الصناعة،
النفايات الذرية والسامة، المطر الحمضي، نقص الأوزون، وأخيرًا ارتفاع درجة حرارة
الأرض … ذلك كله، ليس مجرَّدَ أخطار حقيقية على الصحة والسلامة، ولكنها نتائج أنماط
وافتراضات ثقافية سابقة، يجب أن يُعادَ التفكير بشأنها أو تلافيها — وخاصة في الغرب
— وقد اتخذ «جوناثان شل»
Jonathan Schell المنظور نفسه في كتابه «مصير الأرض» ليحمل على الأسلحة النووية. لم يكن مهتمًّا فقط
بنزع السلاح النووي كقضية سياسية أو دبلوماسية، كان همُّه وقلقه على صحة الحضارة
التي جلبت هذه الأسلحة في المقام الأول: «المجتمع الذي يفشل بشكل مستمر في اتخاذِ
أيِّ خطوة لإنقاذ نفسه، لا يمكن أن نعتبره سليمًا من الناحية النفسية». ويزعم «شل»
أنَّ وجود الأسلحة النووية «يصيبنا بالغثيان»، بالمعنى الحرفي والنيتشوي على السواء؛
حيث إنه يمثِّل تفسُّخًا ثقافيًّا يضعنا على حافة تدمير الذات.
٢٣ في الطاقة النووية، يواجه العلم الغربي حدودَ تقدُّمه، «العلماء، وهم
يرفعون صرح المعرفة العلمية التي تزيد بشكل مضطرد … لا يشعرون بأيِّ «أسف» أو تأنيب
«أخلاقي» ولا بوجود أيِّ «مصدر للفساد» من المفترض أنه يخرِّب كلَّ الإنجاز الإنساني».
وبدلًا من ذلك، فإن التقدم التكنولوجي یمثِّل «نظامًا لا إنسانيًّا حصينًا، اقتحم
عالمنا الإنساني القابل للتغيير، القابل للفناء»، ومثل «إنكا» «جوبينو»، أو سكَّان
«نينوى» عند «فولني»، أو «روما» القدِّيس أوغسطين، أصبحنا نعتقد بخلودنا إلى أن
جاءت الأسلحة النووية.
ويكتب «شل»: «إذا نظرنا إليه كحدث على مستوى كوكب الأرض، فإن المدَّ الزاحف لسيطرة
الإنسان على الطبيعة قد أدَّى إلى زيادة كبيرة في قوَّة الموت على الأرض، قدرة
الإنسان أن يزحف على الحياة جاءت لتهدِّد نظامَ الحياة على هذا الكوكب
بكامله.»
٢٤ ولكن بدلًا من مواجهة هذا الخطر، یأسَی «شل» لتجاهل المؤسسات السياسية
المعادية له: «المحافظون على الوضع كما هو عليه، يدافعون عن بنية تفكيرهم التي
تنطوي على مفارقة تاريخية، ويهدفون إلى سدِّ السبل أمام الثورة الضرورية في الفكر
والعمل لكي تواصل البشرية الحياة».
٢٥ ويقول «شل»: «إنَّ نهاية هذا الخطر الذي يهدِّد بإبادة نووية جماعية
تتطلَّب نهايةَ القومية»؛ «لا بد أن نترك أسلحتنا، وأن نتخلَّى عن سيادتنا، وأن نُوجِد
نظامًا سياسيًّا لتسوية النزاعات والصراعات الدولية بالوسائل السلمية». البقاء،
يتطلَّب أيضًا قبولًا تامًّا «بالمبدأ البيئي»، كما يتطلَّب تحقيق «وحدة كوكب الأرض
كنظام لدعم الحياة». ويُنهي كلامه بالقول: «إنَّ دورنا المتواضع ليس أن نخلق أنفسنا،
وإنما هو أن نحافظ عليها»، ويحذِّر متشائمًا:
«البديل هو أن نترك أنفسنا لظلامٍ تامٍّ ودائم، ظلام لن يبقى فيه دولة، أو
مجتمع أو أيديولوجية … أو حضارة، لن يُولَد فيه طفل، ولن يظهر فيه بشرٌ على
وجه الأرض مرَّة أخرى، ولن يكون فيه مَن يتذكَّر أنَّ شيئًا من ذلك قد
حدث».
٢٦
انتشار هذه الرؤيا لنهاية العالم، كان واسعًا لدرجةِ أنَّ «السيناتور جورج ميتشل»
— من ولاية مايني — نشر كُتيِّبًا عن البيئة بعنوان: «العالم يحترق»، ناقش فيه فرسان
الكارثة البيئية الأربعة، الكارثة التي تهدِّد كوكب الأرض (مضيفًا فارسًا رابعًا
إلى ثلاثي «ديفيد فيشر» غير المقدَّس)، وحثَّ على القيام بجهد حكومي مكثَّف لإعادة
هيكلة الاقتصاد الأمريكي على أساس مستدام. يقول: الولايات المتحدة مثل غيرها من
الدول الصناعية الأخرى، عليها الآن أن توفِّق نفسها مع نموذج «للتنمية الكونية»،
يكون آمنًا من الناحية البيئية. ويتفق مع ذلك «جوناثان شل»: «في وقت ما، كانت فكرة
النظام العالمي يُنظَر إليها كرؤيا خيالية. الآن نستطيع أن نرى أنها ضرورية وشديدة
الإلحاح لاعتبارات كثيرة.»
٢٧ وقد يستغرب البعض أنَّ كُتَّاب معهد الرصد كانوا يشبِّهون الكوكب في
عام ۱۹۹۱م بسفينة «تايتانيك» الغارقة، والأمريكيِّين بمسافريها الراضين عن أنفسهم
«بعجزهم عن فهمِ حجم الانحدار المستمر للكوكب، وكيف سيكون تأثير ذلك على مستقبلهم».
حينذاك، كانت فكرة أنَّ النموذج الغربي للتنمية الاقتصادية وتقرير المصير القومي،
تمثِّل تهديدًا شديدًا لبقاء الكوكب، قد أصبحت أمرًا تقليديًّا في الدوائر
الليبرالية، ولكن ذلك جعل المتشائمين الباكرين، مثل «بول إیرلش»، أكثر اكتئابًا. كتب
في عام ۱۹۹۱م: «نموُّ الاقتصاد المادي في الدول الغنية مرضٌ وليس علاجًا. لا بد
من أن نعترف بذلك الآن»، ويضيف … «وهذا النمو سوف يتوقَّف عن قريب في العالم
المتقدِّم.» لأن الأسواق العالمية لم تَعُد قادرةً على دعم إنتاج سلع أكثر. إنَّ
التنمية، حتى في شكلها المستدام المتواضع، أصبحَت لعنةً غربية على بقية دول العالم.
والمجتمع السليم بيئيًّا بعبارات «إيرلش»، كان يعني الرفض الواضح لكل ما يراه
قِيَمًا أساسية للمجتمع الغربي: النمو، الوفرة، المؤسسة الخاصة، إلى جانب:
العنصرية، الجنسانية، التعصُّب الديني، ورُهاب الأجانب. ويحذِّر: «إذا لم تُعالَج
هذه الآثار المسبِّبة للشقاق، فإنها سوف تعوق جميعَ محاولات تنمية التعاون الكوني
اللازم لصنع حضارة جديدة.»
٢٨
«حضارة جديدة»: كانت رؤية «إیرلش» للمستقبل تُعبِّر عن دعوة «البيئية» الجديدة
لنظام ثقافي جديد يحلُّ محلَّ سلفه القديم المحتضر. موت خصوم البيئة الراديكاليِّين في
الغرب في السبعينيات والثمانينيات بعد إعلانه، سوف يفتح الأبواب لمجتمع إنساني حيوي
کلي، جذوره ممتدَّة في رؤية عضوية «جديدة» للعالم.
هذه المراجعة الراديكالية بلغت ذروتها في حركة البيئة العميقة والمؤثرة، التي
وصفَت نفسها بأنها «الذهاب أبعد مما يُسمَّى بالمستوى العلمي الواقعي، إلى مستوى
حكمة النفس والأرض».
٢٩ وبالطبع، لم يكن ذلك نظامًا جديدًا بالمرة. آمال البيئية
ecologgy الجديدة لخلق ذات جديدة لكي تحلَّ
محلَّ تلك الغربية القديمة التي صنعَتها الحضارة، هذه الآمال أعادت الحماس الذي كان
يدفع حركةَ كلِّ جيل ثقافي جديد منذ أيام الرومانتيكيِّين الألمان. والحقيقة أنَّ فلسفة
الحياة الحيوية التي كانت أساسَ الشخصية الآرية عند «جوبينو»، والإنسان الأرقی عند
«نيتشة»، لها أكثر من علاقة سببية بحركة البيئة المعاصرة.
دعاة البيئية، استطاعوا أن يردِّدوا المحاجَّة نفسها التي قسمت النيتشويِّين وغيرهم
من التشاؤميِّين في ألمانيا بين الحربَين، والتي تمركزت حول شعار «العودة إلى الأرض».
نزع الحضارة عن الإنسان …
التشاؤمية الثقافية الألمانية، وحركة البيئة …
عودة إلى البليستوسين: الأرض أولًا – «شعار».
اخترع «إرنست هايكل» مصطلحَ «إيكولوجي»
ecology
في عام ١٨٦٦م كجزء من الأحدية البيولوجية الحيوية. وهو يَصِف «علم العلاقات بين
الكائنات الحية وبيئتها»، والتي كان «هايكل» يعتقد أنها تشكِّل الحياةَ الرئيسية.
في «كلية» هايكل التطوُّرية، تشكِّل الطبيعةُ بكل تنوُّعها واختلافها كلًّا واحدًا،
مادة لا نهائية، ليس لها بداية ولا نهاية، هي قوة الحياة التطوُّرية نفسها التي
تظهر في كل مكان، وفي كل شيء، بما في ذلك الإنسان. وفي عقله الخاص، أجهز «هايكل» على
أية فكرة تقول إنَّ الطبيعة أو الإنسان لهما جوهر مقدَّس أرقی. بَدَل ذلك، فإن كلَّ شيء
في الكون يكون عمليةً دائمةَ التطوُّر دون هدف أو قصد. كتب: «نظرتنا الأحدية لا
تتضمَّن فقط من جانبها الإيجابي الوحدة الضرورية للكون والعلاقة السببية لكل
الظواهر، ولكنها أيضًا — من جانبها السلبي — تمثِّل أعلى تقدُّم فکري؛ حيث إنها
تستبعد تمامًا الأفكارَ الميتافيزيقية الثلاثة الجامدة: الله، وحرية الإرادة،
والخلود.»
٣٠
والحقيقة أنَّ «هايكل» يتمنَّى أن يجعل فلسفته الأحدية تضع عبادةَ الطبيعة محلَّ
عبادة المسيحية للرب، وبدلًا من الفردانية الأنانية، تُرسي أحدية أخلاقية يُدرك فيها
الجميع أنَّ مصالحهم ومصالح المجتمع: مصلحة واحدة، نفس المصلحة. كان «هايكل» يعتقد
أنَّ المسيحية لم تُسهم فقط في عزلتنا الشديدة والضارة عن أمِّنا الطبيعة الرائعة،
بل إنها كانت أيضًا سببَ احتقارنا المؤسف لكل الكائنات الأخرى. ويقول إنه بناء على
النظرة الأحدية، فلا بد أن يكون للحيوانات نفس المكانة المساوية لمكانة البشر،
عاطفيًّا واجتماعيًّا وربما عقليًّا (في حالة الفقاريات العليا). صيغة «هايكل» الباكرة
عن «حقوق الحيوان» كانت تمثِّل جزءًا من حملته ضدَّ النظرة ذات المركزية
الأنثروبولوجية للطبيعة، ذلك «الاجتراء اللامحدود من الإنسان المغرور» الذي
«ضلَّله» لكي يجعل من نفسه «صورةً لله».
٣١ كانت أحدية «هایکل» منتشرةً ومؤثِّرة، أفكاره عن التناول البيئي
للطبيعة وكذلك عن اليوجینیا (علم تحسين النسل) انتشرَت عبر ألمانيا ما بعد الحرب
وما وراءها. وهي التي أوحَت لعدد من العلماء والمفكِّرين مباشرةً، بأن يتبنَّوا دعوته
الحيوية. كان من بينهم «ولهلم أوستوالد»
Wilhelm
Ostwald الكيميائي الحاصل على «نوبل» والذي أصبح رئيسًا
لرابطة الأحدية، و«هانز دریش»
Hans Driesch
أستاذ الفلسفة هي «هيدلبرج»، وعالم الحيوان «كونراد لورنز»
Conrad Lorenz، الذي أكَّدت دراساته عن سلوك الحيوان (أشهرها عن
العدوان) فكرةَ «هايكل» عن أنَّ الحيوان وبيئته — بما في ذلك الإنسان وبيئته —
يشكِّلان وحدةً واحدة.
٣٢⋆
حيوية «هايكل» ساعدت أيضًا على استلهام فكرة «شبنجلر» عن قوَّة الحياة في الثقافات
العالمية، بينما أثَّرت تمامًا على شخص آخر من اليمين الراديكالي في إنجلترا وهو
الروائي «د. ﻫ. لورانس» D. H. Lawrence، وفي
الوقت نفسه فإن حركة الشباب الألمانية وجدت طريقًا مماثلةً للعودة إلى الطبيعة في
النزعة القوية المعارضة للتكنولوجيا في الرومانسية الألمانية.
وبالرغم من أنَّ «هايكل» نفسه قد جمع بين الطبيعة الميكانيكية والعضوية كجوانب
لقوَّة الحياة التطوُّرية نفسها (والتي قدَّرها بعد ذلك مؤيِّدو التكنولوجيا مثل
إرنست یونجر)، إلا أنَّ الآخرين أخذوا الإيكولوجيا الحيوية إلى اتجاه مختلف. بعد
المؤتمر الشبابي الحاشد في جبال «میسنر» (۱۹۱۳م) كتب أحد المتحدِّثين باسمه، وهو
الشاب النيتشوي «لودفيج كلاجز»
Ludwig Klages مقالًا مهمًّا بعنوان «الإنسان وحياته»، أعلن فيه أنَّ التقدم كمشروع عقلاني قد
انتهى. «ما نراه كتقدُّم التاريخ أو كنهضة بشكل عام، إنما هو في الواقع السيطرة
التدريجية للروح على الحياة، والتي لا بد أن تنتهيَ بهلاك الأخيرة».
٣٣ كان «کلاجز» يقصد ﺑ «الروح» إرادةَ القوة. وعلى خلاف أستاذه «نيتشة»،
كان «کلاجز» يعتقد أنَّ إرادة القوة والعقلانية الغربية جانبان من القوة الشريرة
نفسها، وهو يسبق «فوكو» في ذلك.
إرادة القوة ليست نتاجًا لحيوية الإنسان العضوية؛ وإنما لعقله ولرغبته في قتل
الحياة. «الإنسان كحامل للروح قد بتر نفسه من الكوكب الذي أعطاه ميلاده». والإنسان
العقلاني عند «کلاجز» يقف عند القطب العكسي من الرجل الطبيعي. قطبٌ يُشير نحو ما
يسمِّيه «كلاجز» ﺑ «اغتصاب الطبيعة»، والموت الروحاني متمثِّلًا باليهود، والثاني
يشير نحو «الثمل الديونيسي» والحياة.
٣٤
بعد الحرب العالمية الأولى، ساعدت كلُّ هذه العناصر في دعم مجموعة من حركات العودة
للطبيعة في ألمانيا، وكان من الحتمي أن تجدَ طريقها إلى الحركات السياسية — بما في
ذلك حزب «هتلر» الاشتراكي القومي — كانت إحدى هذه الحركات «الزراعة العضوية»، التي
ترفض الأسمدة الكيماوية كجزء من المجتمع التكنولوجي الفاقد للحياة. وفي العشرينيات،
بدأ عالم البيولوجيا «ردولف شتاينر» Rudolf
Steiner برنامجًا للزراعة «البيوديناميكية»، يعتبر الزراعة —
بأسلوب هايكل — مشروعًا كلِّيًّا يجمع بين الإنسان والنبات والتربة. ومثلما كان
«روزنبرج» والنازيون النورديون يهاجمون «الروحانية الزائفة» للمسيحية، ويميلون إلى
العودة إلى التبجيل الآري الأصلي للطبيعة، كان رموز العودة إلى الطبيعة يرون
الإنسانَ الآريَّ عند الاشتراكيِّين القوميِّين، بشيرًا بالإنسان العضوي الجديد، المرتبط
بجنسيه وتربته وبيئته. «إيوجين ديدرتش» Eugen
Diedrichs أحد منظِّمي احتفال حركة الشبيبة، في عام ۱۹۱۳م، أصبح نازيًّا في وقت باكر. «لودفيج»
حاول أن ينضمَّ أيضًا (ولكنهم رفضوه لأنه كان
سلاميًّا مثل إرنست هايكل). أعضاء إحدى الجماعات الراديكالية
Artamanen أو «حراس التربة»، كانوا يحملون
شعاراتِ وصورَ «غاندي» و«تولستوي» (كمتحدِّثين باسم الفلاحين) في جانب، وفي جانب آخر
كانوا يرفعون الصليب المعقوف، كان التفاعل بين هذه الجماعات المضادَّة للتكنولوجيا
غامضًا ومعقَّدًا كما هو الأمر في حركة البيئة اليوم.
«هوستون تشمبرلين» وغيره من المفكِّرين الشعبيِّين كانوا يكرهون «هايكل» بسبب
نظرته التطوُّرية للطبيعة، وكذلك كان «هتلر»، على أنَّ «فالتر داريه»
Walter Darré وزیر زراعة «هتلر»، تبنَّى
قضية الزراعة العضوية كجزء من آرية «الدم والتربة». «أوزوالد شبنجلر» کتب في
«أُفُول الغرب» أنَّ: «الفلاح هو الإنسان الخالد»، ومثلما كان الفلاح الآري نموذجًا
للرايخ الجديد، كان «داریه» يعتقد أنَّ الزراعة الألمانية لا بد من أن تعبِّر عن نفس
الروابط العضوية، وكان حليفه الرئيسي في دائرة «هتلر» الداخلية هو «ردولوف هيس»
Rudolf Hess، وهو شخص نباتي وممارِس للطب بأسلوب
المعالجة المثلية،
٣٥⋆ وأحد الذين تحوَّلوا بحماس إلى
٣٦ قضية الزراعة البيوميكانيكية.
٣٧
وفي السبعينيات والثمانينيات، سيظهر متحمِّسون نازيُّون كثيرون غيرهم. «هینرش هملر»
Heinrich Himmler (الذي كان مربِّيًا للدواجن
قبل أن يُصبح رئيسًا لحرس «هتلر» الشخصي من أفراد اﻟ
ss) جرَّب الزراعة العضوية، وكان يرعى حدائق
الأعشاب العضوية لحساب تلك القوات.
المجنَّدون الجدد في قوات اﻟ
ss كان يتمُّ تلقينهم
«احترام حياة الحيوان»، وكما يقول أحد المؤرِّخين المحدثين إنَّ ذلك وصل إلى «درجة
تقترب من البوذية».
٣٨ وكان «هملر» يرى أنَّ التعليمات المعارضة للتشريح (للأغراض العلمية)
أصبحت قانونًا في ظلِّ الرايخ الثالث (كما أصبح القتل الرحيم
euthanasia إجباريًّا للأفواه التي لا فائدة
منها بين البشر)، بينما أصبح الشعار الرسمي لقوات اﻟ
ss هو ورقة شجرة البلوط، كرمز لقُوَى الطبيعة
المتجدِّدة. ربما تكون الشعب المختلفة في حركة البيئة الألمانية بين الحربين، قد
اختلفت في فهمها للطبيعة، سواء من ناحية المادية الأحدية، أو الإيروس الديونيسي،
أو الحيوية البيوديناميكية، ولكنها متفقة كلها على عدوٍّ رئیسي، وهو الغرب
الرأسمالي التكنولوجي الحديث، ولن يختلف أحد، بصرف النظر عن خطِّه السياسي، مع إعلان
البولشفيكي القومي «إرنست نیكیش»
Ernst Niekisch في
عام ۱۹۳۱م:
التكنولوجيا اغتصاب للطبيعة. إنها تُنَحِّي الطبيعةَ جانبًا. تطردها
— بخبث — من قطعة أرض بعد الأخرى، عندما تنتصر التكنولوجيا تكون الطبيعة قد
انتهكَت وخربَت، التكنولوجيا تقتل الحياة، وتهدم الحدود التي أقامتها الطبيعة
خطوة … خطوة.
٣٩
حتى أولئك الذين احتفَوا بمكانة التكنولوجيا في النظام الثقافي الألماني الجديد
مثل «شبنجلر» و«إرنست يونجر»، كانوا يُصرِّون على أنها لا بد من أن تُدمج في کیان
حيوي جديد، بينما حوَّل آخرون، مثل «مارتن هيدجر»، نقدَ معارضة التكنولوجيا (العودة
إلى الأرض)، إلى مكوِّن رئيسي للفكر المعارض للحداثة.
كان «هيدجر» شديدَ التأثُّر بهجوم «کلاجز» النيتشوي على الرأسمالية
التكنولوجية.
٤٠ «هيدجر» سيقضي الأيام والأسابيع في تسلُّق الجبال، وكان كثيرًا ما
يظهر في قاعة الدرس وملتقيات الحزب النازي بملابس التسلُّق.
وكان ينظر إلى فقدان الحداثة للصلة بالطبيعة، كجزء من فقدان الإنسان الحديث
للوجود، والذي كانت التكنولوجيا تُلخِّصه في الآتي: «الطبيعية الشيئية للسيادة
التكنولوجية تبسط نفوذها بسرعة أكبر، وباندفاع أكثر وبشكل تام». وكان «هيدجر» يشكو
من أنَّ التكنولوجيا الغربية لا تكتفي بأنها «تعتبر كلَّ الأشياء قابلةً للإنتاج في
عملية الإنتاج؛ ولكنها تقوم أيضًا بتوصيل المنتجات عن طريق السوق». ومن هنا، عن
طريق الرأسمالية التكنولوجية «تذوب إنسانية الإنسان وشيئية الأشياء في قيمة السوق
المحسوبة، في سوق تغطي الأرض كلها». «هيدجر» يُصرُّ على أنَّ الإنسان لا بد من أن يكون
خادمًا للطبيعة وليس سيِّدًا عليها، ومن خلال الشعر والفن يمكن للإنسان الحديث أن
يستعيد شعوره «بوحدة الأرض والسماء: اللاهوت والناسوت». الإنسان الحديث سيعرف كيف
يتجنَّب التكنولوجيا الاستهلاكية، ويقبل مكانه المتواضع في وحدة الطبيعة. كتب في
عام ١٩٢٦م: «الإنسان المؤكِّد لذاته، سواء كان يعرفها أو لا يعرفها، ويريدها كفرد،
هو موظَّف من قِبَل».
٤١ «هيربرت ماركيوز»، تلميذ «هيدجر»، جاء بهذه الافتراضات لرؤيته الخاصة
عن «مجتمع ما بعد الندرة» في كتاب: «الإنسان ذو البعد الواحد». صوره الجسورة عن
رأسمالية تكنولوجية حاولت أن تُخضِع الطاقات الحيوية للإنسان، بالإضافة إلى
التشاؤمية الثقافية الألمانية المشربة بالطبيعة عند اليسار الجديد. «ماركيوز»
قام بعملية تجميل للميول الأمريكية المحافظة في اليسار، والتي كانت تستمدُّ أفكارها
من كتابات أشخاص مثل «هنري دیفید ثورو»
Henry David
Thoreau، و«جون مویر»
John
Muir. هجوم اليسار الجديد على الرأسمالية الأمريكية كان يشمل
«إفسادها»، لما هو طبيعي، سواء بالمعنى الجنسي (وهو موضوع مفضَّل لدى «هايكل» الذي
كان يدعو بقوة إلى الحرية الجنسية)، أو بالمعنى البيئي. في عام ١٩٦٩م أسَّس
الطلاب الراديكاليون في «بیرکلي» ما يُسمَّى ﺑ «حديقة الشعوب»، منظِّمين «مؤامرة
التوبة» لاستصلاح الأرض من علاقات الملكية الرأسمالية. وكان أحد الثوريِّين يزعم أنَّ
الأشجار تُشبه الأقليات الأخرى المستغلَّة في أمريكا، مثل السُّود والفيتناميِّين
والهيبيز.
٤٢
أفكار «ماركيوز» أثَّرت بشدَّة على أبرز أمثلة حركة البيئة الشعبية في الستينيات،
وهو كتاب «تشارلز ریش» Charles Reich: «تخضير
أمريكا». في ذلك الوقت، كانت أمريكا الصناعية الرأسمالية تُواجِه دمارها الذاتي كما
أعلن أستاذ جامعة «ييل» في عام ۱۹۷۰م. الفوضى والفساد، و«غيبة المجتمع»، وثقافة
بلا معنًى، و«تكنولوجيا لا سيطرة عليها»، و«تدمير للبيئة»، كل ذلك كان يجعل معظم
الأمريكيِّين يشعرون أنهم بلا حول ولا قوة. كان السُّود الأمريكيون «منذ زمن بعيد
يشعرون بحرمانهم من الهويَّة، ومن إمكانيات الحياة». كانت الطبقة الوسطى البيضاء
تشعر بالشيء نفسه. كتب «ریش»: «قف في أيِّ قطار، اختَر صورةً مفضَّلة للتشاؤميِّين
الثقافيِّين، وانظر إلى الوجوه الجوفاء الخالية من أيِّ تعبير. نحن لا ننظر إلى الوجوه
غالبًا في أمريكا، بل وربما أقل مما نظر إلى الأنهار الخربة والتلال المدمرة». على
أنَّ «ریش» كان يؤكِّد لقُرَّائه أنَّ «هناك ثورة قادمة» ستُحدِث «علاقةً جديدة بين
الإنسان وذاته، وبينه والآخرين، وبينه والمجتمع والطبيعة والأرض». هذه الثورة
سيقودها الشباب بأسلوب نيتشوي حقیقي. الشباب الأمريكي، كحملة لحيوية غير مشوهة،
سوف يكسرون القيود الصناعية للمجتمع التكنولوجي، بواسطة موسيقى «الروك»، وملابسهم
وطريقة تصفيف شعورهم، وحريتهم الجنسية، إلى جانب مَیلهم الغريزي للطبيعة. ومثل كثير
من الشباب الألماني أو «مارتن هيدجر»، فإن أبناء الجيل الجديد «يقصدون الشواطئ
والغابات والجبال». ويضيف «ریش» مردِّدًا نغمةً آرية قديمة:
«الغابة في المكان الذي أتَوا منه، هي المكان الذي يشعرون فيه أنهم أقرب
إلى ذواتهم. الغابة هي التجدُّد، الطبيعة ليست عنصرًا غريبًا، الطبيعة هُم».
٤٣
على أنَّ المفكر الذي كان يفصل بين التشاؤمِ البيئي وصِلَتِه «بالدم والتربة»،
واستطاع أن يحوِّلَه إلى دعامة لليسار الجديد، كان هو «موراي بوکشین»
Murray Bookchin، وهو كواحد من المعجبين
بالتراث العدمي للقرن التاسع عشر، وكتلميذ قريب من أوائل النقَّاد المعارضين
للتكنولوجيا؛ مثل «لويس ممفورد» Lewis Mumford، و«بول جودمان» Paul Goodman تبنَّى فكرة
«ماركيوز»، وهي أنَّ مجتمع ما بعد الندرة كان يمثِّل تطوُّرًا جديدًا شديد العمق
والخطورة بالنسبة للحضارة.
في عام ١٩٦٦م نشر «بوكشين» كتابه: «أزمة المدن»، الذي تنبَّأ فيه بأن مدن أمريكا
الصناعية كانت تنتشر وتتكاثر مثل «سرطانٍ متفشٍّ» في المناطق الخلفية، يدمِّر البرية
والأراضي الزراعية والمجاري المائية، كما يقول إنَّ الحضارة التكنولوجية كانت تُلقي
«بعبء لا يُحتَمل» على البيئة، أو ما كان قد أطلق عليه «لويس ممفورد»: «المحيط
الحيوي» Biosphere.
على أنَّ «بوكشين» — مثل «ماركيوز» — كان يعتقد أنَّ الأساليب التكنولوجية الحديثة
تُشبه طاقة الرياح، يمكن أن «تضع الأرض والمدينة في مركب عقلاني وبیئي»، وبالنسبة ﻟ
«بوكشين» والمتحمِّسين للبيئة بعد ذلك، كان هناك «حافَّتان للتكنولوجيا»: إحداهما
«حادَّة»، وهي التي دمَّرت البيئة، ودفعت ماكينة الرأسمالية الصناعية: السيارات،
الكيماويات، الوقود المستخرج من الأرض، الطاقة النووية، وأخرى «ناعمة»، على العكس
من ذلك. والحافة الناعمة لا تحافظ فقط على الموارد الطبيعية، ولكنها أيضًا تُخلخل
قُوَى رأس المال المركَّز الواسع النطاق، وهي تضمُّ كلَّ التكنولوجيات قبل الصناعية من
جميع الأشكال: الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، ويُضيف البعض الكمبيوتر الشخصي.
كانت حركة الاهتمام بالبيئة هي أكثر منجزات اليسار الجديد نجاحًا. في ۲۲ أبريل من
عام ۱۹۷۰م، أخذَت شهرتُها شكلًا رسميًّا بالاحتفال ﺑ «يوم الأرض». وفي مشاهد
تُذكِّرنا بمؤتمر حركة الشباب الألماني عام ۱۹۱۳م في جبال «میسنر»، تجمَّع ألوف
الطلاب والشبَّان والهيبيز في ملتقيات حاشدة. موجة الحماس العام جذبَت الجماعات
المحافظة الرئيسية، ودفعَت بأشخاص من حركة مقاومات التلوُّث؛ مثل: «باري کومونر»، و
«بول إیرلش»، و«رينيه دوبوس» إلى قلب الأضواء والشهرة بشكل دائم، واستمدَّت الحركةُ
الدعمَ من المؤسسة السياسية الأمريكية بما فيها الرئيس «ريتشارد نيكسون». وكان
منظِّمها الأصلي السيناتور «جايلورد نلسون»
Gaylord
Nelson نائب «وسكنسن» يفسِّر ذلك بقوله: «قد يكون يوم الأرض
نقطةَ تحوُّل في التاريخ الأمريكي، وقد يكون ميلاد أخلاقيات أمريكية جديدة ترفض
فلسفة الحدود التي تقول إنَّ القارة قد وضعَت هنا من أجل نهبِنا.»
٤٤ ومع بداية السبعينيات سنَّ الكونجرس مجموعةَ القوانين والقرارات
البعيدة النظر والمتعلقة بالبيئة، مبتدئًا بقانون الهواء النظيف. وبعد سبعة أشهر
فقط من «يوم الأرض» أنشأ الرئيس «نیکسون» «وكالةَ حماية البيئة» التي كُلِّفَت
بتناول قضايا «تلوُّث الهواء والماء، والمخلَّفات الصلبة كجزء من مشكلة واحدة». وفي
الوقت نفسه تلقَّت حركةُ البيئة دعمًا قويًّا من اليسار الجديد. جماعات مثل «مجلس
الدفاع عن الموارد الطبيعية» (أُسِّسَ في ۱۹۷۰م)، و«صندوق دعم حماية البيئة»، كانت
تقود الطريق بأسلوب جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان في الستينيات. المنظَّمات
المحافظة القديمة؛ مثل: «نادي سييرا»، و«جمعية أودوبون»، و«جمعية البرية» استخدمَت
أعضاء راديكاليِّين، سيقومون بوضع الأجندة البيئية على مدى العقدَين التاليَين.
إلا أنَّ جماعات أخرى مثل «السلام الأخضر» — أُسِّسَت في ۱۹۷۱م — ألزمت نفسها
بشكل واضح بالسياسات اليسارية، واتخذت إجراءات مباشرة ضدَّ «أعداء البيئة»، مثل
صيَّادي الفقمة، ومهندسي الأسلحة النووية. ومثل نظرائها الألمان في فترة ما بين
الحربَين، رفضت جماعة «السلام الأخضر» كلًّا من المجتمع الرأسمالي والمقولات
السياسية الرئيسية. على أنَّ ذلك كان أكثرَ نجاحًا مع الشباب الأوروبي اليساري (كما
كان الأمر بالنسبة لحزب الخضر البيئي في ألمانيا، والذي شكَّل قائمةَ مرشحيه في عام
۱۹۷۷م). وفي الوقت نفسه كان هناك آخرون ممن عادوا إلى جذور «بوكشين» العدمية. مطالب
المعاديين للتكنولوجيا بالعودة إلى الأرض، أفرخَت عددًا من الكوميونات التجريبية —
كان هناك ما لا يقلُّ عن ألفَي كوميونة في أربع وثلاثين ولاية في السبعينيات — بعض
هذه الكوميونات من الهيبيز سوف يمضي برفضه لأعراف المجتمع الحديث إلى تطرُّف بعيد،
مثل «أسرة» القتل عند «تشارلز مانسون» في كاليفورنيا، أو «مدينة جونز» عند «جیم
جونز» في «جیانا». وفي ذلك الوقت، كان يبدو أنهم يدعمون استنتاج «تشارلز ريش» وهو
أنَّ الشباب كان على وشك أن يُعلن تخلِّيَه عن الرأسمالية الغربية والمجتمع
التكنولوجي، من أجل وجود أكثر طبيعية وأكثر نقاء.
٤٥ ومع ثاني احتفال كبير بيوم الأرض في عام ۱۹۹۰م، كان نقدُ التشاؤمية
الثقافية للرأسمالية التكنولوجية قد أصبح أكثرَ قبولًا لدى معظم المجتمع الأمريكي،
إلا أنَّ جماعات بيئية كثيرة كانت ما تزال غيرَ سعيدة؛ لعدم وجود تغيُّر جذري
أكبر.
كان «دينيس هايز»
Dennis Hayes، المنظِّم
الأصلي لأحداث ۱۹۷۰م يقول بأسًی: «كيف نقاتل هكذا بعنف، وننتصر في معارك كثيرة، ثم
نجد أنفسنا فجأةً على وشك أن نخسر الحرب؟»
٤٦ وكان آخرون يقولون إنَّ مقدمة التوجُّه الرئيسي لحركة البيئة —
المتمثلة بكلمات «ليستر براون»، وهي «جعل المجتمع الصناعي صالحًا وآمنًا من أجل
الحياة الإنسانية» — لم تكن جزءًا من الحلِّ، وإنما كانت جزءًا من المشكلة.
ولعدة سنوات، كان أشخاص مثل «بوکشین»، والفيلسوف النرويجي «آرني نايس»
Arne Naess ينادون بتوجُّه جديد لحركة
البيئة. في عام ۱۹۷۳م كتب «نایس»: «هناك إمكانيات سياسية في هذه الحركة يجب ألَّا
نُغفلَها، وليس لها علاقة كبيرة بالتلوُّث واستنفاد الموارد.» وكان يأسَى لكون
التوجُّه الرئيسي في حركة البيئة: «لا يتساءل عن نوع المجتمع الذي يمكن أن يكون
الأفضل من أجل الحفاظ على نظام بيئي ما». وبدل ذلك كان ينادي بتوجُّه جديد يسمِّيه
«إيكولوجيا عميقة»، تُصحِّح الافتراضات الثقافية التي سبَّبت التلوُّث من البداية.
ومثل أحدية «هايكل»، كانت إيكولوجيا «نایس» العميقة تعني تجنُّبَ نظرة المركزية
الأنثروبولوجية للبيئة، لصالح نظرة مركزية بيولوجية. ومثل فلسفة الوجود عند «هيدجر»
كانت تتضمَّن تحويلًا للإنسان ذاته وليس للمجتمع فقط. ويفسِّر «نایس» ذلك بقوله
«الذات الغربية الحديثة تعرف أنها ذاتٌ منعزلة، تحاول جاهدةً وبشكل ضيِّق أن تحقِّق
المتعة أو … الخلاص الفردي في هذه الحياة أو غيرها». هذه الصورة الزائفة للذات
«تسلبنا بداية بحثنا عن شخصيتنا الروحية الحيوية الفريدة» من خلال «التوحُّد
بالطبيعة».
٤٧
كتاب «موراي بوکشین»: «الأزمة الحديثة» يُشير إلى التحدِّي المتمثِّل في إضعاف
مجتمع الإنسان الحديث، أي: «مجتمع السوق والذهنية الشريرة التي تنجم عنه». التلوُّث،
إفقار البيئة الذي تُسبِّبه الصناعة والأمطار الحمضية، وارتفاع درجة حرارة الأرض،
والعسكرية النووية على نطاق واسع … كل ذلك هو النتاج الرديء والفظيع للرأسمالية
الغربية. «يمكنني أن أقول إنَّ الرأسمالية هي سرطان المجتمع.»
٤٨
«بوكشين» يؤكِّد — مردِّدًا أفكار «هيدجر» — أنها تخفض كل العلاقات بين البشر
وبين البشر والأرض والسلع. الرأسمالية «تتطفَّل وتهدِّد بإبادةِ كلِّ مجال اجتماعي
يوجد فيه روابطُ واهتمامٌ جماعي بين الناس». وكنتيجة لذلك، تترك آثارًا للدمار البيئي
والثقافي في أعقابها. فيلاحظ مثلًا أنَّ الولايات المتحدة «هي أكثر المجتمعات جهلًا
وقلة معلومات في العالم المتقدِّم»، ويستدعي «بوكشين» لا شعوريًّا وصفَ «جوبينو»
لفرنسا في خمسينيات القرن التاسع عشر، فيقول: «الحياة اليومية تكتسب صفات البقر بشكل
مضطرد. المجتمع لا يزيد كثيرًا عن كلأ، والناس قطيع يُرعَی … غذاؤهم التفاهات
والمساعي الحقيرة.»
٤٩
وفي الوقت نفسه، فإن «ما يُسمَّى بالمجتمعات الاشتراكية، مثل الاتحاد السوفيتي
والصين» قد انتهى بها الأمر إلى المأزق نفسه؛ بسبب قبولها لصورة الإنسان ككائن
اقتصادي. بدلًا من ذلك، فإن بقاء الإنسان يتطلَّب «وقفة أخلاقية» جديدة يُطلق عليها
«الإيكولوجيا الاجتماعية». كانت تلك فلسفة «مشاركة»، تدعم فيها «الحيوانات
والنباتات وجود الآخر، وإبداعه وصالحه» على نحوٍ متبادل وغير تنافسي. وتحتفي
«باختلافات» الأنواع وتنوُّعها الطبيعي «دون أن تجعل من الفوارق والاختلافات نظامًا
تراتبيًّا».
٥٠ «الإيكولوجيا الاجتماعية» عند «بوكشين» تكشف تقريبًا عن كل خواص
التطوُّر الأحدي الذي كان يقول به «هايكل»، وترى الحياة: «نشطة»، متفاعلة، منتجة،
مترابطة، «متماسكة»، كما ترى أنَّ التغيُّر عملية عضوية وليست ميكانيكية أو خطيَّة،
لدرجة أنَّ «كلَّ شكل ينبثق من الشكل السابق عليه»، والشكل اللاحق والأكثر تعقيدًا
يتضمَّن كلَّ الأشكال السابقة والبسيطة عمومًا، سواء كان ذلك داخليًّا — كما هو الحال
في
التطوُّر الجنيني، وهو المثال المفضَّل عند هايكل — أو كجزء من المجتمع.
ومن هذه الإيكولوجيا الاجتماعية، ينبثق مثال أو فكرة مساواة مجتمعية، يكون فيها
كلُّ الأعضاء، رجالًا ونساء، أغنياء وفقراء، بِيضًا وغير بيض؛ مشتركين في الروح
المجتمعية نفسها. هذا المجتمع الحيوي المنسجم يقف في تعارضٍ حادٍّ مع القوى
المحرِّكة للمجتمع المدني، الذي هو في الأساس مضادٌّ للطبيعة طبقًا لأفكار «بوكشين»
(بالرغم من مزاعمه المستمدَّة من التنوير، بأنها تتبع قوانين الطبيعة). وبدلًا من
ذلك، فإن المجتمعات البدائية وما قبل الرأسمالية تبرز على أنها النموذج الجديد
للمستقبل. يرى «بوكشين» أنَّ الإنسان البدائي والطبيعة قد كوَّنَا معًا
قالبًا/رحمًا خصبًا من أجل «الإنتاج الوفير والسعادة». الرجال والنساء شركاء
متساوون (مثل الإيروكيوس عند «جاري ناش»)، يقومون بدور مشترك حقيقي في صنع القرار.
فهموا مخاطر الفردانية التنافسية، يجتنبون التجارة ويعتبرون الربح خطيئة.
٥١
وبمعنًی ما، فإن «بوکشین» معجبٌ بالتنوير لنفس السبب الذي كان «هايكل» يراه، وهو
أنَّ التنوير قد أنزل العقل البشري من السماء إلى الأرض، من مملكة ما فوق الطبيعة
إلى مملكة الطبيعة. وقد دعم «رؤية علمانية واضحة نحو العالم الأسطوري المظلم الذي
كان سببًا في تثبيت دعائم الإقطاع والدين والاستبداد الملكي». على أنَّ «الرأسمالية
صرفت تلك الأهداف عن وجهتها».
٥٢ فقد حوَّلت «العقل إلى عقلانية صناعية فظَّة، تركيزها على الكفاءة أكثر
مما هو على الفكر الراقي» … واستخدمت الفكر من أجل تحديدِ كم العالم، وخلقت ثنائية
الفكر والوجود … واستخدمت التكنولوجيا لاستغلال الطبيعة، بما في ذلك الطبيعة
الإنسانية. وكما كتب «أدورنو» في «جدل السلب»: «لا يوجد تاريخٌ عامٌّ يوصِّل من
الهمجية إلى الإنسانية، ولكن هناك تاريخ موصِّل من «النبلة» إلى قنبلة
«الميجاطن».»
٥٣⋆
على أنَّ الخطر الأكثر قربًا والذي كان يراه «بوكشين» في عام ۱۹۸۷م، هو أنَّ
التغيُّر الاقتصادي والتكنولوجي قد يؤدِّي إلى تحسين حياة الناس، دون فرضِ أو إقحامِ
أيِّ مراجعة ثقافية أساسية. وكان «بوكشين» يقول إنَّ ثورة حقيقية في الاتجاهات
والقيم مطلوبة؛ لكي «تغيِّر كلَّ خيط في النسيج الاجتماعي، بما في ذلك الأسلوب الذي
نمارس فيه الواقع». كان «بوكشين» يتطلَّع إلى «مجتمع بیئي» مستقبلي، «مشيَّد حول
كوميون فيدرالي، مكوَّن من كوميونات صغيرة، تمَّ تشكيلُ كلٍّ منها بما يتلاءم مع النظام
البيئي والمنطقة الحيوية الموجودة فيها». كلُّ فرد سوف يشتغل بالزراعة العضوية،
ويستخدم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. الأساليب التكنولوجية الحديثة سوف يتمُّ
استخدامها «بطريقة فنية»؛ لتوفير الوقت للأنشطة الأخرى «البستنة، الحِرَف اليدوية،
القراءة، الحكي … إلخ، والزراعة التجريبية بغرض التنوُّع البيولوجي، مفهوم
الملكية، حتى الملكية الجماعية سوف يختفي»، ويحلُّ محلَّه توجُّهٌ «کليٌّ»
holistic نحو اقتصاد موجَّه بيئيًّا.
وبدلًا من ذلك، فإن «كلَّ فرد سوف يعمل كمواطن، لا كذاتٍ مهتمَّة بنفسها فقط» ملزِمًا
نفسه بشعور «التوحُّد مع المجتمع، ومع الطبيعة».
٥٤
أفكار «بوكشين» مدينةٌ بالكثير لتقاليد الاشتراكية الطوباوية، على أنَّ فلاح
«فردريك راتزل» المتكامل، وكذلك الطموحات شبه الصوفية لحركة الشبيبة الألمانية،
يظهران إلى حدٍّ ما في شيوعيته التي يتخيَّلها تقوم في المناطق الحيوية. وهكذا كانت
هناك صلة حيَّة بجذور الإنسان العضوية: وهي المجتمعات البدائية الموجودة في أرجاء
العالم. الكاتب «إدوارد إبسي»
Edward Abbey أحد
علماء البيئة، يرى أنَّ «الجنس الأرقی» هو المجتمع الإنساني الذي «ألحق أقلَّ الأضرار
بالأرض، وبأشكال الحياة الأخرى، وبالبشر، وبغيره من المجتمعات». وبهذا المقياس
يستنتج «آبي» أنَّ «الجنس الأرقی سيكون هم: سكَّان أستراليا الأصليِّين، قبائل
«البشمن» الأفريقية، وربما أيضًا قبائل اﻟ «هوبي» في «أريزونا».»
٥٥
التشاؤمية التكنولوجية في حركة البيئية، قلبت العلاقة بين المجتمع والبيئة كما
حدَّدها «توينبي»، والتي ترجع إلى «توماس باكل» و«هيجل» على الأقل. كانوا يعتقدون
أنَّ الصراع من أجل السيطرة على الطبيعة، والسيادة عليها في المراحل الباكرة من
الحضارة كان أهمَّ ما شغل بال الإنسان. والآن أصبح «بوكشين» وغيره يؤكِّدون أنَّ
التاريخ الغربي «ليس تقدُّمًا خطِّيًّا من مرحلة إلى أخرى، بشكل صاعد مستقر من أجل
المزيد من السيطرة على الطبيعة». ويقول باحتمال حدوث عكس ذلك، وأنَّ «ما قبل التاريخ
ربما يكون قد سمح ببدائل أخرى قبل ظهور المجتمعات الأبوية المتحاربة … والتي ربما
تكون قد شهدَت تطوُّرًا اجتماعيًّا أكثرَ اعتدالًا من ذلك الذي شكَّل
تاريخنا».
٥٦
عالم البيئة ينظر إلى الحضارة باعتبارها صراعًا متعمَّدًا أكثر منه ضروريًّا ضدَّ
الطبيعة. «أوزوالد شبنجلر»، وهو تلميذ آخر من تلاميذ «هایکل» كتب يقول: إنَّ الحضارة
«موت يتبع الحياة … تحجُّر مدينة عالمية يتبع الأرض». هكذا أيضًا التاريخ عند عالم
البيئة، الأسلاف القدامى للإنسان الغربي كانوا يعبِّرون عن «علاقة عضوية بالطبيعة»
قامت الحضارة الحديثة بمحوها. الإنسان الحديث وافدٌ متأخِّر، وقشرته الحضارية مجرَّدة
من الحيوية. ومثلما كان اكتشاف «كولمبوس» للعالم الجديد يمثِّل بالنسبة ﻟ «شبنجلر»
میلاد الإرادة الفاوستية للغزو والتوسُّع، كذلك كان مجيئه الاقتحامي وسط الشعوب
التي تسكن أمريكا الشمالية، يبدو لعلماء البيئة الجدد نقطةَ بداية نهب تاريخ الغرب
لكوكب الأرض.
الرجل الأبيض هو القادم الأخير لتدمير البوابات، والبوابات التي يدمِّرها هي
بوَّابات الجنة. هذا الدين الكبير ﻟ «شبنجلر»، وللتشاؤمية للثقافية يمرُّ دون
الاعتراف به في كتاب «كيركباتريك سيل» Kirkpatrick Sale «(۱۹٤٢م): غزو قارة» الصادر في ۱۹۹۰م، ولكن «سیل» يقحم «کولمبوس»
صراحةً كإنسان «فاوستي» مقتبسًا من «دكتور فاوستوس» ﻟ «کریستوفر مارلو».
يا لَه من عالم انتصار وبهجة،
عالم شرف وسلطة كاملة،
كلما يتحرَّك بين القطبَين الهادئَين
سيكون تحت إمرتي.
و«كولمبوس» كما يقول «سيل»: «هو الشخص الذي قدَّم أكثرَ من غيره تلك التركة التي
سادت بها الحضارة الأوروبية العالم الأمريكي لخمسة قرون، بما نعرفه الآن من نتائج
متضمنة قضايا لا تقلُّ عن كونها قضايا حياة أو موت.»
٥٧ ويعتقد «سيل» أنَّ عام ١٤٩٢م كان بدايةَ الانتصار الأوروبي على الطبيعة
عن طريق الإفقار والاستغلال. ويقول: «لقد كان ذلك هو نوع الانتصار الذي تأسَّست
عليه البداية الأمريكية.»
وأصبحت أمريكا «ما بعد كولمبوس» ساحةَ قتال، ليس بين الأوروبيِّين والهنود، بقدر
ما
هو بين الإنسان الغربي والبيئة. فقد حوَّل الأوروبيُّون إنتاجَ الأرض إلى سلع — الذهب،
الفضة، السكر، الأخشاب، التبغ، القطن — والغزو الغربي أصبح كارثةً بيئية طويلةَ
المدى. «المستفيد الأكبر» كان هو الحضارة الأوروبية، إمبراطورياتها فيما وراء
البحار مكَّنت الإنسان الأوروبي من «الانتشار والازدهار والسيطرة على الأرض كما لم
يسبق أن سيطر نوع آخر».
٥٨ الأوربيون عند «سیل» هم «کارهو الطبيعة» وهم مقطوعو الصلة بالحياة.
الشعوب التي غزَوها — من ناحية أخرى — وهم الأمريكيون الأصليون، يعبِّرون عن حيوية
ثقافية أرقى، لا في رموزهم الفنية فقط، بل وفي مؤسساتهم الاجتماعية والأخلاقية.
وهذا توجُّه جديد مثير، للتشاؤمية الثقافية، ولكنه يعبِّر تمامًا عن أنصار البيئة
الراديكاليِّين: إنَّ الميزة الرئيسية في الإنسان البدائي ليست في أنه إنسان خام بسيط
مفعم بالحيوية والنشاط، بل راقٍ ومتقدِّم … في تعامله مع الأرض على الأقل. الهنود
عند «سيل» ينطبق عليهم النموذج نفسه. كلهم جيِّدو التغذية، ينعمون بالمساواة بين
الذكر والأنثى، مزوَّدون بأنظمة للزراعة والعلاج، وربما بأساليب فنية أرقى مما لدى
الأوروبيِّين. جميع الحروب التي خاضوها كانت معتدلةً وقصيرة. وسكان أمريكا الأصليون في
رأيه بدائيون نبلاء عن حق، لديهم بُعْدُ نظر يمكِّنهم من أن يكونوا أكفاء من
ناحية الطاقة والنشاط. وقبل كل شيء فإن حياتهم تحكمها عقيدةٌ دينية تحقِّق توازنًا
مع الطبيعة والمحيط الحيوي، ولا تحمل أيَّ مفهوم مدمِّر للتقدُّم الإنساني، أو تقف
ضدَّ أيِّ تحسين لظروف الحياة. وذلك على النقيض تمامًا من الوافد الجديد، الأبيض،
البربري، القذر، الكريه الرائحة، العنيف، الزائف، ولید «ثقافة لا تعرف أنَّ الأرض
كائن حي، وأن كلَّ مَن عليها إخوة».
٥٩ و«کیرکباتريك» مثل «بوكشين» يرفض مفهومَ أنَّ الحضارة هي بمعنًى ما،
نتيجة أو تحوُّل حتمي لمرحلة سابقة من الثقافة البدائية. المجتمع البدائي يتمتع
بثقافة ليس لها صلةٌ جنينية بالحضارة، ومن هنا فهو يظلُّ بمنأًى عن التلوُّث بقِيَمها
السطحية.
والواقع أنَّ أيَّ غريزة قابلة لإفراز مثل هذا الاندفاع المدمِّر يمكن تفاديها، بفضل
روحانية بيولوجية الأصل، وليست أنثروبولوجية، بمعنى أنها ترى الإنسان بصفته كما هو
بالفعل: كائنًا ضليلًا. النظرة البيئية الراديكالية لا تكتفي فقط برفض فكرة
التحسُّن الإنساني، وفكرة الإنسان ككائن اجتماعي (أي: كائن ذو حاجات فردية معيَّنة —
فيزيقية، معنوية، ثقافية — لا بد من إشباعها بالتعاون مع الآخرين لكي يكون
سعيدًا). التشاؤمية الثقافية قد أكملت بالفعل هذه المهمَّة، فنظرة سريعة إلى:
«نيتشة»، أو «سارتر»، أو حتى «روسو» يمكن أن توضِّح ذلك.
عالم البيئة الراديكالي يذهب أبعد من ذلك ليقول إنه حتى إذا كان الكائن البشري
لديه تلك الحاجات، فهي لا أهميةَ لها. الإيكولوجيا العميقة تزعم أنَّ «حاجات الإنسان
المادية الحيوية»، هي بالفعل أصغر بكثير مما يجعلنا «المجتمع الصناعي التكنوقراطي»
نعتقد. كلٌّ منا يمكنه بسهولة أن يأكلَ أقلَّ، وأن يشرب أقلَّ، وأن يعمل أقلَّ، وبالطبع
يفكِّر ويرغب أقلَّ. و«بوكشين» يتوسَّل تحديدًا صورة خليَّة النحل كمجتمع مثالي؛ حيث
الفردُ ذائبٌ تمامًا داخل نشاط الكل العضوي. وبدل ذلك، فإن المهمَّ هو علاقة الإنسان
بالطبيعة غير الإنسانية. وحيث إنَّ الرموز التي تعبِّر عن حياة متحضِّرة — الشعور
بالممتلكات الخاصة، الاهتمام العقلاني بالذات كما يتبدَّى في المبادلات التجارية،
الرغبة في أنشطة ثقافية كمتنفَّس لعواطفنا — والتي تضعنا على الدرجة الأخيرة من
دائرة «كومونر» المغلقة، يجب أن تكبح كما هي (أو كما تبدو على الأقل) في «المجتمعات
العضوية» للشعوب البدائية؛ حيث التجارة خطيئة، وتأكيد الذات شرٌّ.
٦٠
وإذا كان علماء البيئة يميلون إلى الاهتمام الشديد بهنود اﻟ «هوبي»، أو بصيَّادي
الطيور في «بورنيو» مثلًا أكثر مما يهتمُّون بما في الحضارات غير الغربية: الأفريقية
أو الشرقية؛ فذلك لأن تلك الآثار الباقية من العصر الحجري «تعتبر بديلًا لعقدة
الحضارة».
إنَّ شعوبًا مثل: الصينيِّين، والزولو، والأزتيك، والمايا، قد أخذوا كلهم تلك الخطوة
المشئومة نحو دورة الحضارة للتدمير الذاتي. وبمعنى أعمق فإنهم فتحوا الباب للإذلال
الذي عانوا منه على يد الرجل الأبيض. الشعوب الفطرية في غابات الأمطار وسهول
السافانا — على النقيض من ذلك — تحتفظ ببراءتها البدائية. وهكذا فهم يخدمون أهدافًا
سياسية مهمَّة، كنماذج لمجتمع المستقبل المعادي للتقنية. يقول «کریس مانز»
Chris Manes، وهو من نشطاء البيئة: «إنَّ الطريق
إلى البساطة البيئية ليس خيالًا، فهناك الملايين من الذين ينتمون لشعوب قبلية
يعيشونها الآن في شتى أنحاء العالم».
٦١
وعند «ستانلي دایاموند» Stanely Diamond في
كتابه: «البحث عن البدائي» فإن «التوق لنمط بدائي من الوجود» ليس مقصورًا على علماء
البيئة ولا على سواح البيئة الرومانسيِّين، ولكنه «أمرٌ دائم بدوام الحاجات الإنسانية
الأساسية»، ويقول إنَّ الحضارة هي التي تعتبر خارجةً على السياق.
«يمكن أن نعتبر الحضارةَ نظامًا في حالة عدم توازن داخلي، التكنولوجيا أو
الأيديولوجيا أو التنظيم الاجتماعي متنافرة دائمًا مع بعضها. وهذا ما يجرُّ
النظام إلى مسار معين. إحساسنا بالحركة، بالنقصان يُسهم في فكرة
التقدم.»
ثم يُنهي كلامه مبتهجًا، شاعرًا بالانتصار بقوله: «إنَّ فكرة التقدم عامَّة وشاملة
للحضارة.»
٦٢
هذه المفاهيم تدفع «جيري ماندر» Jerry Mander لأن يزعم في كتابه: «غيبة المقدَّس» (۱۹۹۱م) أنَّ أسلوب المعيشة القبلي ليس نتيجةَ جهل،
وإنما نتيجة رفض للتكنولوجيا وللعلم وافتراضاته الثقافية (الإنتاجية، أخلاقيات
العمل، قهر الطبيعة). وبمعنًى آخر مثلًا فإن «الإيروكيوس»، أو «الأوروبورو» لا يبنون
المطارات والمفاعلات النووية، لا لأنهم لا يستطيعون بناءها، وإنما لأنهم — على
المستوى الأعمق — قد اختاروا «ألَّا» يفعلوا ذلك.
الشعوب الأمريكية الأصلية القانعة والمتواضعة، «التي تعيش» كما يرى «ماندر»، «فوق
هذا الكوكب برفق وبلا طيش»، و«تتشارك هبةَ الطبيعة السخيَّة على أساس فلسفة قديمة
بديلة تقوم على الطبيعة»، هي التي تحدِّد الطريق نحو مستقبل الإنسان، «إنَّ
المجتمعات البدائية — لا مجتمعاتنا — هي التي تملك مفتاح البقاء»،
٦٣ حتى عند «روسو»، كان التوافق البدائي مع الطبيعة مجرَّدَ حلم، أو تصوُّر
مثالي على أكثر تقدير. ولكنَّ المتشائمين ثقافيًّا وبيئيًّا يؤكِّدون أنَّ عمليات
المجتمع المدني نفسها سوف تُحقِّق هذا التوافق، وذلك بفضل تدمير التكنولوجيا
لذاتها، والارتداد الحتمي للظروف البدائية.
الكاتب «إدوارد آبي» Edward Abbey، المهتم
بشئون البرية، تنبَّأ في كتابه: «أخبار طيبة» الصادر عام ۱۹۸۰م، بأن «الدولة
العسكرية الصناعية سوف تختفي من على وجه الأرض في خلال خمسين عامًا، وسوف يحلُّ
محلَّها «انتصار الحب، والحياة، والثورة».» «آبي» هو الذي ساعد في الإيحاء بحركة
«الأرض … أولًا» بروايته: «مجموعة المفتاح الإنجليزي» (۱۹۷٥م): حيث تقوم فيها جماعة
من أنصار البيئة المرتدِّين بإيقاف عمليات إنشاء طريق عام عبر البرية؛ وذلك بتخريب
الشاحنات ومعدَّات الحفر وغيرها. مجموعة المفتاح الإنجليزي تُقلِّد — عن وعي — محاربي
عصابات «الفيت كونج»، إلى درجة اللجوء إلى استخدام الأسلحة النارية؛ لكي يهربوا من
الإمساك بهم. «إدوارد آبي» لم يعتذر عندما حوَّلت حركة «الأرض أوَّلًا» رسالته إلى
عمل مباشر، بل نجده يقوم بإعداد الكُتَيِّب الرسمي الخاص بهم، وهو: «الدفاع عن
البيئة»، وبمعنًى أعمق، فإنه يعتبر التوءم الفكري لمفجِّر القنبلة المجهول، الخيال
الذي نسجه «آبي» في كتاباته، ترجمَه مفجِّر القنبلة إلى أفعال.
كان «آبي» شديد الرفض والمعارضة لما يُطلق عليه
syphilization.
٦٤⋆ فكرته
السائدة عن المجتمع الحديث هي فقدان الحياة، الموت، والزيارة التي قام بها إلى
«مانهاتن الجنوبية» عام ١٩٥٦م أطلعَته على مشهد مثير: «فخامة باردة جامدة كالقبور:
مشهد مرعب لا إنساني، أقرب إلى وادي الموت والجماجم مما هو إلى موطن إنساني
للسُّكنَى».
كتب بعد ذلك: «من الواضح أنَّ حضارتنا قد دخلت مرحلتها التيبيرية؛
٦٥⋆ حيث البرابرة في الشرق ينتظرون
٦٦ (يقصد الاتحاد السوفيتي والصين.) ومثل «كابتن نيمو»، كان «آبي» يشعر
بالقوة الحيوية للطبيعة العضوية، التي صدمها حضورُ الإنسان وأقلقها. كان «آبي» على
وعيٍ بما يربطه بتراث التشاؤمية الثقافية: «هيدجر في كوخه في الألب، زرادشت في
كهفه، يسوع في البرية، نيتشة وحيدًا في جنونه».»
٦٧ لقد رفض الدعوات الإنسانية العاطفية لأنصار البيئة الآخرين (لا يمكنك
أن تغيِّر الطبيعة الإنسانية دون أن تشوِّهَ البشر)، وهاجم دولة الرفاهة الأمريكية
بعنف، كما هاجم «دولة الحرب». كذلك شطح خياله لكي يكون عنيفًا في ردوده. أثناء سفره
عام ۱۹٥۹م، عبر وادي «جلن»، والذي كان سيُقام عليه سدٌّ لتحويله إلى بحيرة، راح
يتأمَّل المنظر:
«كنَّا نتساءل فيما بيننا عن كمية الديناميت التي نحتاجها لنسف السد، وكنَّا
نتخيَّل كم سيكون بهيجًا وعادلًا أن نضع الديناميت في شبكة أسلاك السد،
حيث سيجيء الرئيس أو وزير الداخلية وحاكم الإقليم وجماعتهم من المرءوسين
والصحافة والسواح … سيكون الإصبع الأبيض القصير السمين لأكبر شخصية فيهم،
هو الذي يضغط على الزر الأسود الصغير؛ ليفجِّر المسئول الرسمي نفسه وضيوفه
والسواح، والجسر وسد وادي «جلن».»
٦٨
قبل وفاته بوقت قصير كان لدى «آبي» تصوُّرٌ يُشبه تصوُّرَ «فولني» لحضارة ما بعد
حداثية، تقوم من بين أطلال الحضارة القديمة، مكوَّنة من «تجمُّعات سكَّانية متناثرة،
قليلة العدد، تعيش على صيد السمك والقنص وجمع الغذاء والزراعة المحدودة وتربية
الماشية»، يجتمعون كلَّ عام بين أطلال وبقايا المدن الكبرى لإقامة احتفالات سنوية،
بالتجدُّد الروحاني والأخلاقي والفني والفكري …
٦٩
وبالطبع، كانت هناك كارثةٌ مجهولة قد أضعفت الكوكب المزدحم، فلم تتمكَّن جنة «آبي»
البسيطة الوادعة من الظهور إلى حيِّز الوجود، ولكن الدمار الكارثي، مرة أخرى، لن
يكون خبرًا سيِّئًا بالنسبة للمتشائم الثقافي، خاصة إذا كان بدافع من الذات، بل إنه
يمثِّل فرصةً كجزء من الموروث التشاؤمي الرؤيوي.
التاريخ الأخضر العام: «جیرمي ريفكين»، و«ألبرت جور»
تُقدِّم لنا التشاؤمية البيئية تاريخًا عامًّا معاديًا للحضارة. كتاب «جیرمي
ريفكين» Jeremy Rifkin: «ما بعد لحم البقر»
(۱۹۹۲م) يفعل الشيء نفسه ولكن بشكل معكوس. بدلًا من مجتمعات الإنسان الزراعية التي
تحلُّ محلَّ المجتمعات الرعوية القديمة، والتي تحكم على كوكب الأرض بالفناء بسبب
الشهوة لامتلاك المساحات الصالحة للزراعة، فإن المجتمع الزراعي هو الذي يعيش على
الأرض برفق.
إنسان الإصلاح الزراعي يُقيم مجتمعًا نباتیًّا مسالمًا يقدِّس الحياة ولا يستولي
عليها. ويقول «ريفكين» إنَّ المتطفِّل على جنَّة عدن هذه هو راعي القطيع، بقطعانه
الجوَّالة وتكنولوجيا الحصان! فهو يسلب وينهب جيرانه جشعًا للاستيلاء على ماشيتهم.
أما الأرض بالنسبة له فهي مجالُه الحرُّ. «إمبراطورية حريته»، كما كانت دائمًا،
ويكتب «ريفكين»: «معظم التاريخ الغربي هو وصفٌ للصراع الدائر بين تجمُّعَين: الأول
هو الراعي، والثاني هو المزارع، الأول يعتمد على العشب، والثاني على النباتات
المنتجة للحبوب، وهو صراع لصالح الأول».
٧٠
عندما نزل فرسان «کورجان» في الهلال الخصيب من سهول آسيا الوسطى عام ٤٠٠٠ق.م. فرضوا
طبيعتهم على الأراضي التي فتحوها، كما يزعم «ريفكين». ولأنهم كانوا «شديدي
الاستقلال، مسلَّحين، منفصلين عن الأرض غير مرتبطين بها، مُولَعين بالاكتساب
والاستحواذ، هادفين إلى المنفعة … فقد كانوا الغزاة العظام، فرسان الشمال، مرهوبي
الجانب»، وكانوا أيضًا نموذجًا أوَّليًّا من الرأسماليِّين، برغبتهم الطائشة في
الاستحواذ والتملُّك والاستغلال للأرض.
٧١ فمَن كان أولئك الجوَّالة الهندو أوروبيون: الألمان، الرومان،
اليونانيون، البراهما الهنود، الفرس-الآريون الذين يقول بهم «جوبينو». مَن كان
أولئك في الحقيقة؟ هكذا يظهر المحارب مرَّة أخرى، في قناع وكيل للحضارة وليس
للثقافة.
هؤلاء الغزاة الآريون الرعاة (يجد «ريفكين» متعةً في الإشارة إلى أنَّ كلمة
«معركة» بالسانسكريتية تعني: «الرغبة في الحصول على الماشية»)، مهَّدوا الأرض
«للرأسمالية الجديدة والحِقبة الاستعمارية في تاريخ العالم». ويقول «ريفكين»: إنَّ
«شكلًا راديكاليًّا جديدًا من الاقتصاد تمَّ إعداده للمرحلة العالمية، وهو يقوم على
الرغبة في الاستحواذ والتملُّك، وتبرير ذلك فيما بعد بالمصلحة الشخصية الواضحة». من
«أتيلا الهوني»
٧٢⋆ إلى الفاتحين الإسبان الراكبين، إلى ثقافة أكلة لحم البقر في بريطانيا
التجارية في القرن الثامن عشر، (حيث كان طعم الدسم مرادفًا لطعم الرغد والقوة
والنعمة)، فإن تراثًا من غريزة القطيع والقوة المسلَّحة، يحدِّد الطريق نحو السيطرة
الغربية على الكرة الأرضية. ومثل الطاعون الوحشي، نشر قطعان ماشيته المنتجة لغازات
الميثان عبر مساحات واسعة من الأراضي الأوروبية والآسيوية والأمريكية. حتى مصنع
تعبئة اللحوم في القرن التاسع عشر، له مكانة في تاريخ العالم كسلف للعملية الصناعية
الحديثة: كان «خط تفكيك» يعمل في إطار «منفعي بدافع الربح».
٧٣ ويقول «ريفكين»: «إنهم يصطفُّون اليوم في محلات «مكدونالد» في مدن حول
العالم. روح العصر النفعية، تقضي على كل تحفُّظات لديهم على الصفقة الفاوستية التي
دخلوا فيها.» ويقتبس «ريفكين» قول مسئول یاباني: «إذا أكلنا الهمبورجر على مدى ألف
عام سنُصبح شقرَ اللون، وعندما نصبح شقرًا سنغزو العالم.»
٧٤ في الوقت نفسه، فإن الإنسان والأرض يدفعان الثمن — من خلال إزالة
الغابات، وزيادة حرارة الكرة الأرضية، ونسبة الكوليسترول العالية المصحوبة
بالمجاعات، ناهيك عن الاحتفاء بعنف مربِّي ورعاة البقر — حيث تتحوَّل إمبراطورية
الماشية عند «ريفكين» إلى حدود العنف عند «جاري ناش» و«ريتشارد سلوتكن»
Richard Slotkin. وباختصار، فإن البراعة
التكنولوجية للإنسان الغربي، تُصبح إحدى وظائف ثقافته الفاسدة (كما كان يقول
المتشائمون الثقافيون السابقون مثل «نيتشة» و«ماركيوز») أكثر مما هي العكس. وهذا
يجعل المتشائم البيئي يستطيع أن يُبطل الجهود الثقافية، ليس للإنسان الغربي فقط
وإنما لبقية الأنواع كذلك، وهو ما سيفعله بالتحديد «ألبرت جور»
Albert Gore في كتابه «الأرض في الميزان». إسهام
«جور»، مثل كتاب السيناتور «جورج ميتشيل» السابق «العالم يحترق»، يبيِّن مدى
الانتشار الواسع للتشاؤمية البيئية، سواء في أشكالها الليبرالية المتأخِّرة أو
أشكالها الراديكالية. «الأرض في الميزان» كتاب ذاتي وربما فلسفي، فهو يزعم أنه كتاب
عن الطبيعة وأصل الثقافة الغربية كما هو عن البيئة. أسماء مثل: «نيتشة»، و«هيدجر»،
و«فروم»، و«أدورنو»، و«سارتر» ليست هناك لتزيين الصفحات، ولكن وجودها ملموس.
نظرتهم التشاؤمية للثقافة الغربية تُوعز لنا بحكم أبعد من ذلك على دور «جور». ليس
الإنسان الغربي وحده هو المخطئ، وإنما البشر جميعًا ككائنات عقلانية: دوافعهم
ككائنات اجتماعية، وحملة ثقافة على أيِّ مستوًى تضمن تدميرهم لأنفسهم. بهذا التراجع
المتلف فإن الخوف من اضمحلال الغرب يؤدِّي حتمًا إلى رفض العملية التي كانت تعتمد
عليها فكرةُ الحضارة.
مصطلح «الحضارة» يظهر بشكل مستمر في كتاب «الأرض في الميزان»، والحضارة عند «جور»
تُعادل التكنولوجيا، هما الشيء نفسه، وعملية التحضُّر تتضمَّن الاغترابَ المضطرد للبشر
عن بيئتهم الطبيعية؛ لكي نَصِل إلى المأزق الذي نحن فيه اليوم. «الحضارة الصناعية
الحديثة، كما هي منظَّمة في الحاضر، تصطدم بشدَّة مع النظام البيئي لكوكب الأرض»، و«قوَّتها
التكنولوجية الكبيرة» تمثِّل هجومًا «ضاريًا» وواضحًا على الأرض ومواردها.
اليوم، يتضح أنَّ الافتراضات القديمة التي قامت عليها الحضارة الحديثة كلها جوفاء،
أما دمار الكائنات الحيَّة فلا يمكن تجنُّبه إلا بتغيير قيم الحضارات
ذاتها.
٧٥
إلى هنا، فكلُّ ذلك مألوف ومعروف، ولكن الحضارة الحديثة عند «جور» هي حضارة «نيتشة»
أيضًا، التي تشوِّه وتخرِّب الطاقة الإنسانية الروحية، والشعور بقدسية وحرمة العالم
من حولنا. وهي ضحلة؛ «فالسعي من أجل السعادة والراحة» هي القيم العليا، إلى جانب
«استهلاك كمية لا نهاية لها من المنتجات الحديثة المغرية». وهذا يقودنا إلى «أن
ننسى ما نشعر به بالفعل، وأن نتخلَّى عن البحث عن هدفٍ ومعنًى حقيقيَّين في حياتنا».
الحضارة أيضًا ليست حقيقيةً ولا أصيلة بمفهوم «هيدجر» و«سارتر»؛ لأنها واقعة في «أسر
التدمير المحموم للعالم الطبيعي، والهوس ببدائل زائفة للتجربة المباشرة مع الحياة
الحقيقية»، وكما هو الأمر عند «بوکشین» فإن الأدوار الجديدة للنوع مع سيادة «الذكر»
على «الأنثی» هي النتاج الفظيع لذلك الانفصال بين الإنسان الغربي والطبيعة. «آل
جور» يشبِّه الغربَ الحديث بالأسرة المتفكِّكة التي لا يستطيع أبناؤها — نحن —
المنحرفون أن يفصلوا أنفسهم عمَّا تُقدِّمه من مباهج وإشباع. «الطعام الموجود على أرفف
السوبر ماركت، الماء في صنابير المنازل، المأوى والمأكل، الملبس والعمل المنتج،
الترفيه … حتى هويَّتنا، كلُّ ذلك تقدِّمه لنا الحضارة، ولا نجرؤ حتى على عزل أنفسنا
عن هذه المنافع.»
٧٦
العنصر النيتشوي واضحٌ سواء كان مفكَّكًا أو مريضًا. الأخلاق (بالمعنى النيتشوي) في
هذه الأسرة المفكَّكة «القواعد غير المكتوبة التي تحكم علاقتنا بالبيئة»، وُرِّثَت
«وانتقلت من جيل إلى الجيل الذي يليه» منذ «ديكارت» والثورة العلمية، ولكن الأصول
الحقيقية كما يكشف «جور» لنا، أقدم من ذلك بكثير، فهي تعود إلى أيام أفلاطون
والإغريق، والموروث العقلاني المشئوم الذي شكَّل الميتافيزيقا والعلم
الغربيَّين.
مستلهمًا مثال أفلاطون، يشرح لنا «جور» كيف أنَّ «الإنسان الحديث الجديد يتَّجه إلى
أعلى بوضوح وحسم … بعيدًا عن الطبيعة … بعيدًا عن الأرض.» هذا النسيان للوجود کما
سيُطلق عليه «هيدجر»، يحدِّد «أهمَّ نقلة في التفكير الغربي، والتي تُحدِّد بدايةَ
التاريخ بمعنًی حقیقي». بإعطاء البشر سيادة متزايدة على الطبيعة والمادة، فإن هذه
الحضارة الميتة روحًا، تُضعف فينا «القدرةَ على الإحساس بروابطنا وصلاتنا بالعالم
الطبيعي». بفصل العقل عن الجسم، والآخر عن الذات، أصبح الإنسان الغربي كما قال
«ديكارت» شبحًا في الآلة. وأحيانًا يبدو «جور» مثل «برجسون» فينعَى فقدان «الصلة
المباشرة بحيوية ونشاط بقية العالم الطبيعي».
٧٧ الإنسان يشنُّ هجومًا محمومًا على الأرض نفسها؛ لكي يعوِّض خواءه
الروحي، وهذا يذكِّرنا بوصف «أدورنو» لعادات السامية في كتاب «جدل التنوير»؛ حيث
«أولئك الذين يجب أن يدفعوا ثمن قوتهم بالاغتراب الشديد عن الطبيعة، بإمكانهم أن
يجدوا الراحة فقط في «افتراس الضعيف» … الذي هو الطبيعة في هذه الحالة. والنتائج
الفادحة لذلك هي: التلوُّث، ارتفاع درجة حرارة الأرض، ونقص الأوزون.»
كما تظهر أيضًا الحيوية الرومانسية القديمة في كتاب «آل جور» وإن كان ذلك في قناع
بيئي محدَّد: ما يُسمَّى بفرضية «جایا»، والتي — من الواضح — أنَّ لها تأثيرًا كبيرًا
على أفكاره. هذه الفرضية هي نظرية «جیمس لافلوك»
James Lovelockوآخرين، وهي أنَّ كوكب الأرض «حي» بالمعنى الحرفي
للكلمة، المحيط الحيوي يكون كائنًا حیًّا واحدًا مع قانون حياة وآليات ذاتية
التنظيم تكوِّن بيئته.
قوة الحياة الموحَّدة هذه، والتي تقوم بالتوحيد، كانت موجودةً بالطبع منذ ثلاثة
بلايين ونصف البليون سنة، قبل ظهور الإنسان كنوع. ومع السجل الرديء منذ ذلك، في
تخريب وتهديد الحياة على الأرض، «يضطر منظِّر اﻟ «جایا» إلى إثارة هذا السؤال
المهم: «هل هناك مكان للإنسان على الأرض»؟» وبعد التفكير المطلوب يضطر «لافلوك»
إلى الإجابة ﺑ «نعم»، يوجد له مكان، ولكن الكائن البشري فكرة تالية، هو قادم
متأخِّر … اقتحامي (لا يختلف عن «كولمبوس» عند «کیرکباتريك سيل»)، ليس لديه هدفٌ
محدَّد في إطار الكل الحيوي ﻟ «جایا»، والذي يتحرَّك وينمو دون إعطائه اهتمامًا
كبيرًا. «أيُّ نوع يؤثر على البيئة تأثيرًا مناوئًا محكومٌ عليه بالهلاك، ولكن
الحياة مستمرة».
٧٨
«آل جور» يرى أنَّ هذه الرؤية الحيوية عن «جايا» تُثير استجابةً «روحانية»؛ حيث إنه
يفكِّر في «المعنى الأعمق» للحملة العنيفة من أجل البيئة، وهي تقوده إلى شكل من
أشكال «وحدة الوجود» ويُشبه ذلك عند «هايكل» «بتجربة الطبيعة والتعلُّم منها إلى
أقصى حدودها — طبيعتنا وطبيعة كل ما في الكون — حيث يمكن أن نلمح صورةً مطلقة لله».
هذه الحقيقة الحيوية كما يقول، موجودة في جميع الأديان في العالم (ربما باستثناء
المسيحية الغربية).
والحقيقة أنَّ «جور» من خلال «الأرض في الميزان»، يُشير إلى الدين أكثر مما يشير
إلى العلم كمصدر للتبصُّر الحقيقي في نظام الطبيعة الحيوي، حتى الثقافة
Kultur، تلك القلعة القديمة للمذهب الحيوي،
تفشل في هذا الخصوص، بل سرعان ما يتضح أنَّ الثقافة التي صنعها الإنسان هي العدو
الأول والأخير للطبيعة.
«حيوية» «آل جور» مثل حيوية «هایکل». هي حيوية بيولوجية تمامًا، أي ثقافة هي
ضد النظام الطبيعي تقريبًا، وليس ثقافة الحضارة الغربية فقط، حتى الوحش النبيل عند
«روسو». وفي الأنثروبولوجيا البيئية عند «آل جور» يبدأ الصعود الثقافي للكائن
البشري مع إنتاج التصوير الرمزي للعالم في الأسطورة ورسوم الكهوف والأدوات المصنوعة
من الحجر، و«التي نتعلَّم منها كيفيةَ تطويع العالم نفسه». الثقافة هي القوة على
الطبيعة، سواء كنَّا نصنع رأسَ سهمٍ أو طلقةَ سلاحٍ ناريٍّ. «عندما نستخدم أيَّ تكنولوجيا
في
احتكاكنا بالحياة، فنحن نكتسب قوة، ولكننا نخسر شيئًا في هذه العملية أيضًا»، نخسر
بالتحديد، مباشرة الوجود.
٧٩
التكنولوجيا في شكلها الحديث مجرَّدُ امتداد متطرِّف لنزعة الثقافة
الإنسانية؛ لاكتساب القوة على الطبيعة، وهذا موجود حتى في أكثر الثقافات الإنسانية
بدائيةً. «آل جور» يتفق في ذلك مع النظرة الراديكالية لعالم الحيوان «جوناثان كنجدون»
Jonathan Kingdon (من أكسفورد) التي عبَّر عنها
في كتابه: «الإنسان العصامي» (۱۹۳۱م) وهي أنَّ التطوُّر البيولوجي للإنسان بكامله،
تُحرِّكه لهفتُه الشديدة على الأدوات الجديدة والتكنولوجيا. ومنذ بروزه من بين
الثدييات الأخرى كما يقول «کنجدون» — بأسف — كان الإنسان بوصفه نوعًا بيولوجيًّا
إنسانًا «فاوستيًّا»، سواء كان حطَّابًا في العصر الحجري، أو ناسجًا بدائيًّا، أو
صياد فقمة في الأسكيمو، فهو بالفطرة صانعٌ لقمامة بيئته ونفاياتها، شهيته التي لا
تشبع لتغيير وتشكيل الطبيعة تُوصله في العصر ما بعد الحداثي إلى حافة الانقراض
الوشيك.
٨٠ «آل جور» — بالمثل — مضطرٌّ للانتهاء إلى أنَّ الخطر على العالم ليس
الحضارة الغربية فقط، وإنما الحضارة الإنسانية نفسها.
٨١
وهكذا يدفع «جور» التشاؤمية الثقافية إلى مدًى متطرِّف جديد، مؤكِّدًا أنَّ المجتمع
الإنساني محكوم عليه بالفناء منذ البداية. تاريخ العالم عنده هو الصراع بين الإنسان
والطبيعة، ولكن الطبيعة هي التي تحدِّد السرعة الآن أكثر مما يحدِّدها الإنسان.
الطبيعة، أكثر مما هي أي فضيلة أو رذيلة في الإنسان، تُصبح هي القوة الدافعة وراء
سقوط الحضارات في الماضي أو الحاضر.
زعَمَ مؤرخون آخرون ممن تناولوا المناخ والجغرافيا البشرية، الزعمَ نفسه. عالِم
البيئة «ديفيد أتنبورو»
David Attenborough راح يُخمِّن أن يكون السببُ الرئيسيُّ لسقوط روما ليس هو الانهيار الأخلاقي أو الاقتصادي
أو
السياسي، وإنما إزالة الغابات.
٨٢ «آل جور» نفسه يعتمد على مثال اﻟ «مايا» کرمزٍ له دلالتُه بالنسبة
للعصور الحديثة: ثقافة راقية ومدينية، مزوَّدة بعلوم الرياضيات والفلك، ثورتُها
الزراعية تم اكتساحها نتيجةَ سخونة الكرة الأرضية في القرن الحادي عشر، والتي أحدثَت
تغيُّراتٍ في الطقس وتآكلًا في التربة. هذا التحوُّل الحاد المماثل في الطقس، كما
يتصور «آل جور» نفسه، والذي أذاب الطوف الجليدي الذي كان يسدُّ الأزقَّة البحرية
الإسكندنافية، ومكَّن الفايكنج من الوصول إلى أيسلندا وأمريكا الشمالية. الفايكنج،
الغزاة الجيرمان، صعود مصر وسقوط «مسينيا»
٨٣⋆ و«روما»، كل التحوُّلات التاريخية العالمية الكبرى في التاريخ
الرومانسي، يتضح أنها كانت من المستحيل أن تحدث دون إذن من «جایا» — كما حدث —
بالإضافة إلى الطقس المواتي.
في هذا التاريخ العالمي الأخضر، نحصل على لمحة سريعة أخيرة عن الشعوب الهندو
أوروبية، إنهم يشقُّون طريقهم ببطء ومشقة، وليس ذلك بسبب أيِّ حيوية داخلية أو قلق
عرقي، وإنما لكي يهربوا من الجفاف في سهول آسيا الوسطى.
٨٤
وأخيرًا: نهاية الإنسان
بلغةِ «توينبي»، انقلبَت عملية التحدِّي والاستجابة بطنًا لظهر. سواء نظرنا إلى
عملية إزالة الغابات التي قامت بها روما على نحو أخرق، أو سوء استخدام الصين
القديمة لنظام الأنهار، أو عمليات إزالة غابات الأمطار المعاصرة، سنجد أنَّ المجتمع
الإنساني هو الذي يمثِّل تهديدًا للطبيعة، وأنَّ الطبيعة بوثوبها الحيوي، هي التي
تقدِّم الاستجابة: الفيضانات، الأعاصير الاستوائية، ارتفاع درجة حرارة الأرض. إنه
«جايا» يردُّ الضربة.
الصورة التي رسمها «فوكو» لنهاية الإنسان: «وجه مرسوم على الرمال على شاطئ
البحر»، تلوح فجأةً في الأفق وكأنها يمكن أن تحدث بالضبط. حركة البيئة العميقة رفضت
مباشرةً فكرةَ أنَّ للبشر حقوقًا أعلى من حقوق أيِّ نوع آخر على الكوكب. وحيث إنَّ
الحضارة الإنسانية تفترض العكس، فإنها تشكِّل جريمةً مستمرة ضدَّ حقوق الأرض.
«على مدى آلاف السنين، ظلَّت الثقافة الغربية مسكونةً بفكرة الهيمنة، «هيمنة الغني
على الفقير، الرجل على المرأة، الغرب على الثقافات غير الغربية، والبشر على
الطبيعة».» كما يقول كُتَّاب مثل «ولیم دیفال»
William
Devall، و«جورج سيسيونز»
George Sessions. «الإيكولوجيا العميقة» تريد أن تطردَ أوهام الهيمنة
هذه، وبدلًا من ذلك ترى أنه لا بد من «قيام كليات تكون أكبرَ من حاصل جَمْع أجزائها»،
بما في ذلك «كل الأرض»، وهم يقتبسون قول «ديفيد هنري ثورو»، ويردِّدون مقولةَ «فوكو»
لا شعوريًّا، بأن العالم «ليس مكانًا لعبادة الإنسان».
٨٥ مبادئ الإيكولوجيا العميقة تُعيدنا مرةً أخرى إلى «أحدية» «هايكل». ليس
هناك فرقٌ أساسيٌّ بين النصفَين: الإنساني وغير الإنساني في الحياة. المساواة التي
تستند إلى الناحية الحيوية تضمُّ «كافة الكائنات الحية والموجودات في المجال
البيئي، كأجزاء من كلٍّ متداخل، وكلها متساوية في قيمتها العضوية الجوهرية»، البشر،
القردة، الحيتان، السلاحف، النحل، الحشرات … كلها تكون جماعةً بيئية واحدة، «التوازن
(بين مواطن البشر وغير البشر) كان يميل دائمًا ومنذ وقت بعيد، لصالح البشر» كما
يقول «أرنیه نایس»
Arne Naess، «والآن، علينا أن
نُعيد التوازن لحماية مواطن الأنواع الأخرى». رفض الإيكولوجيا العميقة لمزاعم
الإنسان ومطالبته بالكوكب، دعَّم مؤسِّسي جماعة «الأرض أولًا». «ديفي فورمان»
Dave Forman محرِّر نشرة «الأرض أولًا» يقول
أمام مؤتمر لعلماء البيئة:
«لا يكفي إنقاذ العشرة في المائة الباقية من البرية؛ فقد حان الوقت لاستعادتها
كلها»، ولدرجة أنه دعا لنخبة «جوبینووية» جديدة: «مجتمع مقاتل، ينهض من الأرض ويُلقي
بنفسه أمام قوى الدمار الهائلة، لتكون أجسامًا مضادة أمام الجدري الإنساني» الذي
غطَّى كوكبَ الأرض منذ أول ظهور للإنسان عليه. ومثل نُظَرائهم في حركة حقوق الحيوان
الراديكالية، يرى أنصار «الأرض أولًا» قضيةَ طرد البشر من المناطق البرية، قضيةً
أخلاقية في الأساس. ويشبِّه عالم البيئة «بيل ديفال» Bill
Devall عمليةَ قطع الأشجار، بإرسال اليهود إلى معتقل
«أوشفتز».
الجماعات البيئية التقليدية كلها «متواطئة» في هذه الممارسات الإجرامية ومشاركة
فيها كما يقال؛ حيث إنهم يمثِّلون «إنسانية بيئية»، وهي «إحدى الشموع الأخيرة
الذاوية للتنوير».
٨٦ أعمال العصيان المدني — الاهتمام بالبيئة مثل غرس الأشجار في غابات
شمال غرب الباسيفيك، واختطاف الحيوانات من المختبرات وإطلاقها — كلُّها تُصبح «عملیات
مقاومة»، وتُشكِّل «منصةَ انطلاق لتفكيك القيم التي تُعطيها الحضارة ميزة». الثوريون
في
حركة «الأرض أولًا» مثل «کریستوفر مانز»
Christopher
Manes يُشبهون برنامجهم — بكل وضوح — بمحاولات «فوکو» لإزالة
مركزية الإنسانية الغربية، وهم على وعيٍ بالتأثير الذي يُحدثونه على المدى الطويل،
وكما يقول «ديفي فورمان»: «أعتقد أنَّ نورَ أيِّ جماعة طليعية هو أن تتخلَّص من الأفكار
التي تلقَی اعتراضًا، وتعتبر سخيفةً ومنافيةً للعقل أولًا. ثم ينتهي بها الأمر لكي
تنسابَ مع التوجُّه العام وتُصبح مقبولةً مع الزمن.» كان الحال كذلك بالنسبة لأطروحة
«جايا»، التي أصبح الراديكاليون يرفضونها ويعتبرونها متوددة للإنسان أكثر من
اللازم.
٨٧
هذا التطرُّف زاد من غضب أشخاص أكثر تحديدًا مثل «موراي بوکشین»، الذي اتَّهم
حركة «الأرض أولًا» بالانجراف إلى «فاشية بيئية»
٨٨ من ناحية أخرى، فإن «الخضر» الألمان يتغاضَون عن أعمال «العنف ضدَّ
أهداف» — مثل جماعات حقوق الحيوان، عندما يُلقون بالأصباغ على معاطف الفراء — كجزء
من العصيان المدني. وفي عام ۱۹۹۰م، قام أنصار «الأرض أولًا» بتحطيم أبراج الكهرباء
في كاليفورنيا الوسطى كجزء من «احتجاجهم التدميري» على «يوم الأرض» (شعار
الإنسانية البيئية). القوة امتدَّت إلى مائة وأربعين ألف عميل؛ حيث ألمح نشطاء آخرون
بحرب عصابات ضدَّ عمال تصنيع ألواح الخشب في الشمال الغربي. إطراء العنف معروف في
الحركات السياسية المنبثقة من التشاؤمية الثقافية، والشهود على ذلك هم النيتشويون
الألمان و«فرانز فانون». على أنَّ التشاؤمية الثقافية لحركة «الأرض أولًا» قد شطحت
بعيدًا جدًّا عن معالمها المألوفة في الثقافة والعرق، حتى أشكالها المعاصرة
المتعدِّدة الثقافة. ويبدو أنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي ليس له جنودٌ في
الأرض. وفي النهاية، فإنه «يعيش على الأرض برفق» — بتعبير «جیري ماندر» — لأنه كنوع
بيولوجي هو القادم الأخير، غير المرغوب فيه. «وجوده الشاذ، في رأی بعض المنظِّرين،
ربما يوقف التطوُّرَ البيولوجي الطبيعي للأنواع.»
٨٩
الإنسان إذن، هو الزائر الغريب الأخير، «بلا تقاليد، عملي، لا دیني، ماكر، عقیم»،
ذلك هو وصفُ «شبنجلر» لإنسان المدينة العالمية المتفسِّخ في كتابه «أُفُول
الغرب».
الإنسان كنوع بيولوجي، في نظر الإيكولوجيا العميقة، يُشبه التاجر عند «فيرنر
سومبارت» أو اليهودي الرأسمالي عند «ج. أ. هوبسون»: كائن طفیلي، و«آفة تُشبه الجراد
على كوكب الأرض» حسب وصف عالم البيئة «جاري شنايدر» الذي يعتبر التاريخ الإنساني:
«تاريخ نهب وتخريب لهذا الكوكب الثمين الجميل». أما حل «جایا» الأخير لهذا التحدِّي
فهو أنَّ «الطبيعة ستكون قادرةً على إعادة تشكيل نفسها بمجرد أن يتمَّ تشذيب قمة سلسلة
الغذاء»، «والمقصود … نحن.»
٩٠ وتقول «جودي باري»
Judi Bari وهي
من نشطاء الحركة: «أعتقد أنَّ الأرض ستقوم وتطردنا من فوقها، إنَّ فشل الأرض في أن
تكون قادرةً على الإبقاء على هذا النوع من الحياة سوف يجعلها تسقط منهارة. وأنا
واثقة من أنَّ الحياة سوف تنجو من ذلك.» وتُضيف: «ولكنني لا أعرف إن كان البشر
سيمكنهم ذلك. لا أعرف إن كنَّا نستحق ذلك».
٩١ بعض الراديكاليِّين يفترضون، وبجدية شديدة، أنَّ الإنسانية فيروس في
المجال الحيوي يتطلَّب فيروسًا مضادًّا. هذا هو «الإيدز» الذي سيدمِّر الكوكب كما
قال «کریستوفر مانز» في ۱۹۸۷م. ويقول: «نحن نفسِّر قول «فولتير» … لو لم يوجد
وباء الإيدز، لكان علماء البيئة الراديكاليون قد اخترعوا واحدًا.»
٩٢ كتاب حديث من الكتب الأكثر مبيعًا، وإن كان كتاب دعاية مفرطة، يقول:
إنَّ الفيروسات الفتَّاكة مثل «الإبولا»
Ebola، والماربورج
Marburg هي أيضًا جزءٌ من ردِّ فعلِ
المحيط الحيوي ضدَّ «الطفيلي البشري» و«النفايات السرطانية» للمجتمعات الصناعية
المتقدِّمة، التي ستواصل نشْرَ سمومها المعدية عبر الكوكب إذا لم يتمَّ
إيقافها.
٩٣
وبهذه الرؤية الاضمحلالية، فإن الإنسان نفسه وليس المجتمع الحديث فقط، هو الذي
سينقرض بهدوء في النهاية. تدميره المحموم لبيئته، نهبه للكوكب، كلُّ ذلك سوف ينتهي،
وسوف تتوقَّف الثرثرة الجوفاء عن الحضارة. الكلمة الأخيرة هي كلمة «د. ﻫ. لورانس»،
التلميذ الإنجليزي ﻟ «هايكل»:
(نظر «بيركن» إلى الأرض في المساء وهو يفكِّر:
حسن! إذا تمَّ تدمير البشرية … إذا هلك جنسنا كما حدث ﻟ
«سدوم»،
٩٤⋆ وبقيَ هذا المساء الجميل، بالأرض النيِّرة والأشجار … فإن ذلك يكفيني …
فلتمضِ البشرية … حان وقتها … لم تَعُد الإنسانية تجسِّد ما لا يُسبر غورُه … الإنسانية
كتابة ميتة … دعِ الإنسانيةَ تختفي بأسرع ما يمكن …)
٩٥