الفصل الثاني
طفوًا … على حطام السفينة الغارقة
آرثر دو جوبينو … والتشاؤمية العِرقية
إنَّ سقوط الحضارة، هو الظاهرة الأكثر وضوحًا، والأكثر غموضًا في الوقت نفسه،
بين كل ظواهر التاريخ … وأي تجمُّع بشري مهما كانت براعة شبكة العلاقات
الاجتماعية التي تحميه، يحصل يوم مولده على بذرة الموت الحتمي مخبأة في عناصر
حياته …
آرثر دو جوبينو
Arthur de Gobineau
«فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية»
بدأ «جوزيف آرثر دو جوبينو» حياتَه بازدراء شيئَين مهمَّين: الثورة والبرجوازية.
وُلد يوم
١٤ يوليو عام ١٨١٦م، ذكرى يوم «الباستيل»، وفيما بعد كتب بسخرية متجهمة أنَّ «الأضداد
تتجاذب». كان أكثر ما يحب في حياته الكتب (الشعر والأدب بخاصة)، ونفسه (أو بالأحرى أصله
الأرستقراطي)، رسم شجرة للعائلة ادَّعى فيها أنَّ «آل جوبينو»، كانوا ينحدرون مباشرة
من
«الفايكنج» الذين فتحوا «نورمانديا»، وهي السلالة نفسها التي أنجبت «وليم
الفاتح»،
١⋆ وكانت أمه — بالمثل — تدَّعي أنها من سلالة ابن غير شرعي للملك «لويس الخامس عشر»، الأمر
الذي أسهم في تقوية الهاجس الذي لازم «جوبينو» طيلةَ حياته بخصوص الدم والصبغات الموروثة
والجنس … إلى جانبِ كرهٍ شديد للحِقبة التي وُلد فيها.
كان أبوه «لويس دو جوبينو» قد حارب بإخلاص مع الجانب الملكي إبان الثورة الفرنسية،
وسُجِن في عهد «نابليون»، أما فشله في الحصول على أي مكافأة أو تقدير من ملوك
«البوربون» فقد جعله يشعر بالمرارة، ولأنه كان مضطرًّا للعيش على الكفاف كضابط في الجيش،
يتقاضَى نصف راتبه، نقل ذلك الشعور بالمرارة ورثاء النفس إلى ابنه. كتب «لويس» في
مذكراته وهو يبرِّر ذاته لابنه وهو في سنوات المراهقة:
«وضعي هو وضع إنسان مهزوم، الخزي الذي أشعر به هو أن يرى الناس سيفي وقد انتُزع مني
بسبب طاعتي لأميري.»
٢
في الثامنة عشرة من عمره، كان الشاب «آرثر دو جوبينو» كلُّه عزم وإصرار على أن ينجح
فيما فشل فيه أبوه. قرَّر أن يقلب حظ الأسرة، وليس بالعمل ضابطًا كما كان أبوه، وإنما
كشاعر وكاتب مسرحي وأديب بارز … كان يريد أن يكون «جوته» فرنسيًّا. كتب مرة إلى أخته
في
سنة ١٨٣٤م وبنفس الأسلوب البليغ الذي كان يستخدمه أبوه: «سيفي الذي كسره هذا العصر،
سوف يحلُّ محلَّه قلمي … ولأنني أُدرك كيف أحتفظ باستقلالي مهما كان الثمن، فلسوف
أُكذِّب ظنَّ كلِّ العالم … وسأنجح!» وفي لحظات أكثر صراحة كان يعترف: «النجاح أو
الموت.»
٣ عندما غادر موطنه «نورماندي» وجاء إلى «باريس» في سنة ١٨٣٥م، لكي يبدأ
حياته الأدبية كان مثل أبيه: مؤيِّدًا للملكية، وكاثوليكيًّا محافظًا، أما في الأمور
الفنية والشعرية فكان حديثًا حتى النخاع.
معلِّمه (الذي كان عشيقَ أمه في الوقت نفسه) أحاطه بأعمال الشعراء الألمان المعاصرين،
مثل
«هولدرين»
Hölderlin، و«نوفاليس»
Novalis، وكان لديه اهتمامٌ عميق بما سوف يُطلق عليه
فيما بعد «الطليعة»،
٤ وفي الوقت نفسه لم يكن هناك شيء غير عادي بخصوص المزج بين السياسة
المحافظة والأذواق الطليعية. وفي مقابل كل متطرف فني أو سياسي أو «بوهيمي» يعمل ويعيش
في باريس، مثل «جورج صاند»
Georges Sand، أو «تيوفيل جوتييه»
Théophile Gautier. كان يمكن أن تجد بالسهولة
نفسها شخصًا مثل «شاتوبريان»
Chateaubriand يعمل وزيرًا للدولة تحت «البوربون»، أو مثل «ألفريد دوفيني»
Alfred de Vigny يُزيِّن صالونًا أدبيًّا مفرطًا في تأييده للملكية، مثل صالون
«الدوقة دي كايلا»
de cayla مع الأديب الشاب «فيكتور هوجو»
Victor Hugo.
٥ وبالرغم من الاختلافات السياسية، إلا أن الرومانسيِّين البوهيميِّين
والمحافظين، كانوا مشتركين في احتقارهم للمجتمع الفرنسي الحديث. في أعقاب الثورة
الصناعية والثورة الفرنسية، ظهرت طبقة حاكمة جديدة من التجار وموظفي البنوك ورجال
الصناعة. وعلى خلاف سابقتها في النظام القديم، لم يكن لدى هذه الطبقة الجديدة وقتٌ ولا
رغبة في تذوق الفنون، وكان الشاعر الألماني «هولدرلين» يستخدم مصطلح «المتشبث بالقديم»
لوصف هذه الطبقة الوسطى الجديدة … ضيِّقة الأفق والمعادية للفكر. كما ظهر بين الرومانسيِّين
الفرنسيِّين مصطلحٌ آخر، وهو «البرجوازية»، وقد كانت البرجوازية الفرنسية «همج» كما كان
«هولدرلين» يقول عن الطبقة الوسطى الألمانية، ولكنها كانت حديثةً وليست بدائية، كانوا
همجًا عديمي الذوق، والنتاج الجمعي «للتصنيع والعلم»، وكطبقة، لم يكونوا مؤهلين لأي
عاطفة راقية بالمرة.
٦
كان «تشارل بودلير» يرى مجتمعه: «أكثر المجتمعات غباء»، و«عالمًا للنفاق الرومانسي
الأبله، وموطنًا للحماقة التامة» … كما كتب يقول: «التجارة شيطانية في جوهرها.» وكان
كثيرٌ من الراديكاليِّين أو الرجعيِّين يتفقون معه في ذلك.
٧ كان الروائي «ستندال»
Stendahl، أحد
نماذج «جوبينو» الأدبية، يقول إن رؤية رجل أعمال أو محامٍ أو طبيب ناجح تجعله يشعر
بالرغبة في «البكاء والغثيان في الوقت نفسه».
٨ وكان «جوستاف فلوبير»
Gustav Flaubert يقول بسخرية وازدراء: إنَّ عقيدة البرجوازية هي: «وُلد الإنسان لكي يعمل.» أما عقيدة
الفنان — في المقابل — فقد جاءت من رواية «ثيوفایل جوتييه»: «مدموازيل دو موبان» التي
نُشِرت عام ١٨٣٤م قبل عامٍ من وصول «جوبينو» إلى باريس، والعقيدة هي: «الفن للفن»
L’art pour L’art.
٩ أن تكون فنانًا أو كاتبًا، كان يعني أن تكون ضد البرجوازية: وبعبارة أخرى
ﻟ «جوتييه» فإنَّ الدور الثقافي للكاتب هو أن «يصدم البرجوازية»
épater
la bourgeoisie. الفنان مثل الأرستقراطي، كان يقف بعيدًا وفوق
الطموحات الصغيرة «لتجار التبغ والبقالين وبائعي رقائق البطاطس» الذين يكوِّنون نواة
المجتمع التجاري الحديث. وبدلًا من ذلك، فإنَّ الفنان الرومانسي كان ينظر في اتجاهات
أخرى من أجل الإلهام والقرابة الروحية.
وكما ناقشنا في الفصل الأول، فإنَّ الاغتراب الرومانسي أيقظ الافتتان بالعصور الوسطى
والحنين إليها، وهي المرحلة ذاتها التي كانت حركةُ التنوير تحتقرها وتصفها بالعصور
المظلمة وتهاجمها كمرحلة من مراحل الخرافة والاستبداد الديني.
أما طريق الهروب الآخر من الحداثة فكان الجغرافيا، الهروب إلى الثقافات غير الغربية
في الشرق الأوسط والهند وآسيا. منذ أن رافق العلماء «نابليون» في حملته على مصر سنة
١٧٩٨م، ومنذ أن فكَّ عالمُ اللغة «جان فرانسوا شمبلیون» Jean Francois Champollion رموزَ حجر رشيد في عام ١٨٢٢م، أصبحت «باريس» واحدةً من المراكز القيادية للدراسات الشرقية
التي كانت الخميرة الفكرية والفنية في
المدينة.
وعلى أحد المستويات، أيقظ الاستشراق الاهتمام بحضارات قديمة في الشرق الأوسط والهند،
وبالدراسات اللغوية المقارنة: الجمعية الآسيوية في «باريس» ۱۸۲۲م، والجمعية الآسيوية
الملكية في «لندن» ۱۸۲۳م، والجمعية الشرقية الأمريكية ١٨٤٢م، كانت كلها مراكز رئيسية
للبحوث وترجمة الآداب والنصوص غير الأدبية.
ولكن النكهة الجديدة للاستشراق راقَت أيضًا للخيال الفني الرومانسي. الأضواء المرشدة
للرومانسية الفرنسية، «شاتوبریان»
Chateaubriand، و«جيرار دو نيرفال»
Gerard de Nerval، وغيرهما، تأثروا
بترجمة العلماء الأوروبيِّين للأوبانیشاد الهندية والدراما الهندية «شاكونتالا»، والملحمة
الفارسية «الشاهنامه»، إلى جانب أعمال كلاسيكية أخرى صينية وعربية. الفيلسوف «فردريك
شليجل»
Friedrich Schlegel، الذي جاء إلى «باريس»
ليدرس السانسكرتية في سنة ۱۸۰۳م، كان يقول: «في الشرق فقط، يمكن أن نبحث عن أسمى درجات
الرومانسية.»
١٠⋆ كما أعطى الاستشراق الرومانسي انعطافةً جديدة للاعتقاد القديم بأن هناك توجهًا حتميًّا
للحضارة نحو الشرق. وبسبب تحرُّرهم من وهمِ نتائج الحضارة الأوروبية الحديثة، كان لدى
الرومانسيِّين افتتانٌ جديد واحترام جديد لأسلاف الحضارة الشرقيِّين. الممثلون الرواد
للاستشراق؛ مثل الرسام «إيوجين دو لاكروا»
Eugene De
lacroix، و«جوبينو»
Gobineau نفسه فيما بعد، صدمَتهم حقيقةٌ كبيرة، وهي أنه بالرغم من أن أوروبا كانت تبدو في الظاهر
أكثرَ «تقدمًا» من حضارات الشرق «المتدهورة»، إلا أنَّ تلك الثقافات القديمة حفظت القِيَم
الروحية، التي كانت تبدو مفقودةً في المجتمع الأوروبي. «دو لاكروا» غادر «باريس» إلى
«مراكش» قبل عام من وصول «جوبينو»، بحثًا عن متنفسات ومثيرات فنية جديدة، كما سافر
١١ بعد ذلك «جوبينو» إلى «فارس»، و«جوجان» إلى «تاهیتي». وقبل ذلك كله، فإن
تلك الشعوب غير الأوروبية، مثل نظرائهم الأوروبيِّين في مرحلة ما قبل الحداثة، كانوا
يشعرون بحيوية أخمدَتها أو قضَت عليها الحضارة الحديثة، وكما كان «شارل بودلير» معاصر
«جوبينو» يقول: «هناك ثلاث مجموعات فقط جديرة بالاحترام: القس، المحارب، الشاعر، أن
يعرف، أن يقتل، أن يخلق.»
١٢ والثلاثة يختفون من الحياة الحديثة، والنتائج الأكثر تمثيلًا لها كما يزعم
الرومانسيون هي «السأم»
ennui، البلادة، أو «الغثيان المدوخ» الناجم عن نمط حياة مفرطة في تقدُّمها. «رومان الانحطاط»
عند «توماس كوتير»
كانوا يعانون من السأم، وكذلك شبان روايات «بلزاك» الضجرون المفتقدون للعاطفة والحماس.
و«السأم» هو نقيض ما كان يُطلِق عليه الرومانسيون الألمان «الإحساس بالحياة»، وهو عدم
القدرة على الإبداع والخلق الفني. وقد لخَّص «بودلير» الانقسامَ بين الحديث والبدائي
على
النحو التالي: «الشعوب البدوية، حتى المتوحشة آكلة لحوم البشر، ربما كانوا أرقى من
أجناسنا في الغرب، استنادًا إلى ما لديهم من قوة ووقار شخصي.»
١٣ أو كما عبَّر «ثيوفايل جوتييه»: «الهمجية أفضل من السأم.» وقد كانت تلك
فكرة عاطفية سوف يحوِّلها «جوبينو» فيما بعد إلى نظرية جديدة عن التاريخ.
اتجه «جوبينو» إلى التاريخ بشكل موسَّع لكي يفسِّرَ لنفسه أسبابَ انتهاء مسيرته الأدبية
بالفشل. عندما وصل إلى «باريس» اكتشف هناك ألوفَ الشبان الذين لديهم الطموح نفسه وكانوا
يحاولون النجاح،
١٤⋆ وحيث إنَّ «جوبينو» لم يكن لديه صلاتٌ أو معارفُ تساعده، فشلَت قصائده ومسرحياته في
أن تجد
جمهورًا، واضطر لقبول وظيفة في إحدى شركات الغاز في «باريس». وعندما شعر بالغضب
والإحباط، بدأ يعبِّر عن ذلك في رسائله إلى بلده، كتب في سنة ١٨٤٠م: «إنَّ بلادنا
المسكينة تسقط في انحطاط روماني، أصبحنا بلا قوة مادية أو معنوية، لم أَعُد أومن بأي
شيء.» وكان يعرف المسئول عن ذلك كله: «لقد قتل المالُ كلَّ شيء …» وكتب العبارة السابقة
بحروف كبيرة. ومثل «بلزاك» الذي كان معجبًا به ككاتب: تعلَّم «جوبينو» أن يرى مدينة
النور محكومةً بقوَّتَين: «الذهب والمتعة». في رسالة لأخته يُنفِّس عن إحباطه الشديد:
«أصبح المال أساسَ القوة والشرف، المال يسيطر على العمل التجاري، المال ينظِّم البشر،
المال يحكم، المال معيار تقدير ما يستحقه المرء من احترام.» لقد أصبحت «باريس» «مملكة
لأصحاب البنوك … كم أنا يائس من المجتمع … المجتمع الذي لم يَعُد له قلب!»
١٥
وهناك حدثان آخران ثبتاه في هذه الحالة من التشاؤم. في سنة ١٨٤٣م تمكَّن «جوبينو»
عن
طريق بعض الأصدقاء الألمان من أن يلتقيَ بمسئول بارز في المؤسسة الثقافية الليبرالية
وهو
«أليكسس دي توكفيل»
Alexis de Tocqueville، والذي عيَّنه مساعد باحث في مشروع ضخم عن أصول قواعد السلوك والأخلاق في أوروبا الحديثة.
كان «توكفيل» يريد أن يبيِّن أن ليبرالية القرن التاسع عشر، رغم كل صفاتها العلمانية
الواعية بذاتها، كانت في أساسها محتفظةً بالتعاليم الأخلاقية المسيحية. سواسية كل البشر
أمام الله «واجب أولئك الذين يملكون الكثير في مساعدة مَن يملكون القليل»، القيمة
الجوهرية للفرد … كانت تلك المسائل — كما يرى «توكفيل» — هي المبادئ الهادية في المجتمع
الليبرالي.
١٦
ولكن … بينما كان «جوبينو» يقضي جلَّ وقته مستغرقًا في قراءة أعمال الفلاسفة
التقدميِّين البارزين في تلك الأيام، مثل «جیرمي بنتام»
Jeremy
Bentham، و«جوزيف بریستلي»
Joseph Priestley، و«وليم جودوین»
William Godwin، والاشتراكي الفرنسي «تشارل فورييه»
Charles Fourier، و«كنت»
Kant، و«هيجل»
Hegel، و«فيخته»
Fichte، توصَّل إلى استنتاج يتعارض مباشرةً مع رأْي مخدومه (دو توكفيل). كان يعتقد أن المسيحية
التقليدية «السلسلة التي تقيِّد البشر معًا
عن طريق معتقداتهم.» من الواضح أنها قد تفكَّكت، وأصبحت القوى السائدة هذه الأيام هي:
الجشع، المصلحة الشخصية، الزيف، الكسب المادي، وفي الوقت نفسه، ينحو «جوبينو» باللوم
على المسيحية لهذا الإفلاس الأخلاقي، وبدلًا من تثمين القوة والبسالة والتضحية بالنفس
كما كان يفعل القدماء، فإنَّ الأخلاق المسيحية قد «أعلنت بوضوح أنها تفضِّل الضعيف
والوديع على القوي والجسور.»
١٧ وقد ساعد ذلك على تسلُّل قدر من وهن الروح إلى المجرى الثقافي العام لأوروبا
على حساب المبادئ والمثل الأكثر حيوية، تاركةً في أعقابها أثرًا من التوسط. أما الحدث
الآخر، فكان موجةَ الثورات الشعبية التي انفجرت في أنحاء أوروبا في سنة ١٨٤٨م، في شهر
فبراير قلبت جموع من الطلبة والعمال عرش «لويس فيليب» في مظاهرات عارمة في شوارع باريس،
وبحلول شهر «مارس» كان الحماس الثوري قد امتد إلى ألمانيا والنمسا. وفي «نوفمبر» طُرِد
«البابا» وحلَّت جمهورية رومانية جديدة محلَّ حكومته، وبالرغم من ذلك كله، سرعان ما
انهارت آمال الثوار في «نظام عالمي جديد» وفي تقرير المصير الوطني وفي الحرية. اختلفت
الدول والجمهوريات الجديدة التي قامت على أطلال الإمبراطوريات السابقة — الألمان،
والتشيك، والبولنديون، والهنغاريون، والصرب، والكروات — فيما بينها على الحدود
والمساحات. واكتشف ليبراليو الطبقة الوسطى أنَّ قوى السخط الاجتماعي التي مكَّنتها الثورات
من الاندلاع في الشوارع، لا يمكن كبْحها إلا بالقوة. وانهارت الجمهوريات الجديدة واحدةً
تلو الأخرى، وعادَت القوى القديمة إلى عروشها لكي تحميَ القانون والنظام. وفي «فرنسا»
نفسها استسلمت الجمهورية الثانية لدكتاتورية تحت «لویس نابليون» (نابليون الثالث فيما
بعد) — وهو ابن شقيق نابليون الأكبر — وسط سلسلة من الانتفاضات العمالية والفلاحية بطول
البلاد وعرضها كان يتم قمعها بسفك الدماء.
١٨ ومثل ثورات ١٩٦٨م، كانت ثورات ١٨٤٨م هناك لتحدِّد سياسات جيل بأكمله، وكما عبَّر عن
ذلك أحد المؤيدين بقوله: «لم يحدث أبدًا أن هزَّت العالم المتحضِّر دوافعُ أكثر
نبلًا من تلك … إلا أنَّ ذلك كله انتهى بالفشل.» الليبراليون المعتدلون؛ مثل «توكفيل»،
الذين ورثوا مبادئ التنوير في الحضارة والتقدم، اهتزوا بشدة من جراء تلك الفورات وذلك
العنف، وفي المقابل كان الراديكاليون؛ مثل «کارل مارکس»، و«فردريك إنجلز» يرَون أنَّ
العنف
لم يأخذ مداه بما يكفي. الحرية والتقدم الحقيقي الآن يتطلبان التدمير الشامل والنهائي
للرأسمالية وكذلك للواقع السياسي. كتبَا في البيان الشيوعي: «فلترتجف الطبقات الحاكمة
أمام الشيوعية …» «العمال أمامهم عالمٌ كامل ليفوزوا به.» كذلك حطَّمت ثورات ١٨٤٨م
الطموحات الليبرالية. عدد كبير من الكتَّاب والمفكرين سارع لكي يتجمَّع حول نداء الحرية
والمساواة، من بينهم شعراء؛ مثل «لامارتين»
Lamartine، الذي ساعد في تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، و«شارل بودلير»
Charles Baudelaire، ومؤرخون مثل
Jules Michelete «جولز میشلیت»، الذي كان قد نشر لتوِّه أنشودةَ مديح لروح الأخوَّة والوحدة الفرنسية
بعنوان «الشعب»، وموسيقيون مثل «ريتشارد فاجنر»
Richard Wagner، المدير الشاب لأوبرا «درسدن» … وغيرهم. كان «میشليت» يقول: ما كان يجب أن أكتب قصيدة
«الشعب» الآن. «فاجز» الذي أيَّد انطلاقةَ ثورة اشتراكية في «درسدن» أُجبر على الفرار
إلى الخارج بعد فشلها، وظل في منفاه قرابة اثنتَي عشرة سنة وطلَّق السياسة بعد ذلك.
١٩ الثورات والانتفاضات دقَّت الإسفين النهائي بين «جوبينو» والمجتمع، موقفه
من كل من الثُّوار وخصومهم «كان كارثةً للبيتين»، «جوبينو»، مثل مراقبين كثيرين غيره
صرف
النظرَ عن جموع الثُّوار واعتبرهم «همج»!
«ولكن بينما كان «توكفيل» وآخرون ينظرون إلى أعمال العنف الهمجية والوحشية التي وقعت
في عام ١٨٤٨م على أنها رِدَّة إلى حالة قبل حضارية، كان جوبينو «يرى» في ذلك شيئًا
«جديدًا».» في سنة ١٨٤٢م كان قد بدأ كتابةَ مسرحية بعنوان: «مانفريدين»
Manfredine، ولكنه الآن يتراجع على أثر أحداث
١٨٤٨م، أحداث المسرحية تدور عام ١٨٤٢م، وبطلتُها الصقلية الكونتيسة «مانفريدين» تقود
تمردًا شعبيًّا ضد الحاكم الإسباني. ليس بهدف تحرير الجماهير الذين لا تشعر نحوهم إلا
بالاحتقار، وإنما بغرض الثأر لشقيقها «روجر» الذي قتله الإسبان ظلمًا. وفي النهاية، على
أية حال يستولي الديماجوجي «ماسانيللو» على التمرُّد الذي يتحوَّل إلى ثورة
فلاحية.
٢٠⋆ «جوبينو» يصوِّر «ماسانيللو» وحشود الغوغاء المتمردين بعبارات معادية للديمقراطية كما
هو متوقَّع، ولكن القسوة الوحشية وعدم الجدارة بالثقة تنسحب على كل الشخصيات الأخرى.
وسواء كانوا أغنياء أو فقراء، نبلاء إسبان أو فلاحين من صقلية، فكلهم نتاج مجتمع سيِّئ
لا يمكن إصلاحه. الكونتيسة فقط هي المستثناة من هذا التدهور الذي لا يمكن إيقافه، فهي
مثل «جوبينو» من سلالة النورمانديِّين الذين فتحوا صقلية في العصور
الوسطى، وقبل ذلك من سلالة القراصنة «الفايكنج» الذين نقلوا جسارتهم وإقدامهم إليها عبر
الأجيال. وباختصار، هي البقية الباقية من جنس نقي، فاضل، يَقِيها تفوُّقُها الفطري من
التفسُّخ الحتمي للعصر الذي تعيش فيه، كما كان «جوبينو» يتصوَّر نفسه دائمًا. عندما
انتهى من مسرحيته كان «جوبينو» مقتنعًا بأنَّ هناك صلةً سببية مباشرة بين نسبة
الأرستقراطي واغترابه عن المجتمع البرجوازي، كان يعتقد (خطأ) أنَّ الدم النبيل للعرق
الفرنسي القديم ما زال يتدفق في أوردتِه لكي يُقيم حاجزًا ضد تفسُّخ المرحلة التي يعيش
فيها، وكما كان يقول بعد سنوات: «لقد اكتشفت أنَّ المجتمع من حولي هو الذي يُهزَم
ويضمحل، وليس أنا.»
٢١ والآن كانت مهمته هي ترجمة تلك الرؤية الداخلية إلى صيغة تاريخية أكثر
عمومية.
سيشرح «جوبينو» كيف كان الغزاة الجرمان للإمبراطورية الرومانية هم المؤسسون الحقيقيون
لعظمة أوروبا، الوندال، القوطيون، الفرانك، الفايكنج، هم الذين قضَوا على التفسُّخ
الروماني، وجاءوا بالنبالة والحيوية الداخلية إلى عالم قديم منهك، وسوف يصوِّر بالتفصيل
كيف أنَّ الأرستقراطية الأوروبية القديمة، أولئك الذين «وُلِدوا للسيف والدرع، الذين
سيكرهون ويحتقرون الاستكانة والضعف حتى النخاع»، يختفون تدريجيًّا من العالم الحديث،
ساحبين معهم حيويتَه وقوته، وقد أعطاه البحث الذي قام به لحساب «توكفيل»، إلى جانب
دراساته الاستشراقية في المقارنة بين الأديان والحضارات، إطارًا علميًّا راسخًا لتلك
النظرية الجارفة التي كانت مسيطرةً عليه، في رسالة إلى شقيقته في سنة ١٨٥١م يذكر: «أقوم
الآن بكتابة عمل ضخم عن الأجناس البشرية.» وبعد عامين ظهر ذلك الكتاب الضخم بعنوان «فصل
المقال في اللاتساوي بين الأجناس البشرية»: The Essay on the
Inequality of the Human Races.
الجنس والخرافة الآرية …
حتى سنة ١٨٥٣م كانت فكرة «الجنس» ما تزال جديدةً نسبيًّا. وفي بداية القرن التاسع
عشر اقترح كلٌّ من «يوهان فردريك بلومنباخ» Johann Friedrich Blumenbach، و«جورج كوفير» Georges Cuvier تقسيمًا ثلاثيًّا للجنس البشري، وهو: الجنس الشرقي أو المغولي، والزنجي أو الحبشي، والأبيض
أو القوقازي.
هذا الفرع من المعرفة العلمية الذي أسَّسه «بلومنباخ»، و«كوفير» وهو
الأنثروبولوجيا كان يحاول أن يفهم أصول الاختلافات الفسيولوجية، ويقرِّر ما إذا
كانت الأجناس أنواعًا متمايزة بالفعل، أو أنها مجرد تنويعات على النموذج الإنساني
نفسه. إلا أن الأوروبيِّين سرعان ما بدءوا يستخدمون الفوارق الجنسية أو الفسيولوجية
لتفسير الاختلافات الثقافية وفَهْمها. وكان الافتراض هو أنَّ الانحدار من جنس إلى آخر
يعني إحراز السمات الذهنية والأخلاقية لأولئك الناس، والتي تظهر في أنشطتهم
الثقافية، والآن، يبدو أنَّ الحضارة، أو المسيرة المتقدِّمة من البربرية إلى المجتمع
المدني الحديث، قد أحرزت قاعدةَ انطلاق إمبيريقية: وهي قاعدة الجنس، وكانت هذه
النظرية تبدو للمؤمنين بها في أوائل القرن التاسع عشر على أنها امتداد علمي للتاريخ
العام للبشرية كما جاء عند «التنوير»؛ حيث يمكن إرجاع الغطاء الكلي للتقدُّم
الإنساني إلى سبب واحد. وقبل «دارون» بوقت طويل كانت نظرية الجنس تقول بأنَّ
القوانين الموحدة للتقدُّم، لم تكن سياسيةً ولا اقتصادية (كما ستصبح مثلًا في كتاب
«رأس المال» عند «مارکس») وإنما هي قوانين بيولوجية.
جميع نظريات الجنس قبل مقال «جوبينو» كانت قد صنَّفت الأجناس البشرية في ترتيب
هرمي، يحتل البيضُ قمَّتَه، والسود يحتلون القاع. وكان «کارل جوستاف کاروس»
Carl Gustav Carus، الذي صاغ أفكار «جوبينو» بحماس شديد، يقول إنَّ الأوروبيِّين ما داموا أقرب إلى نموذج
٢٢ الجمال الجسداني الكلاسيكي عن غير الأوروبيِّين، فإنَّ ذلك يعتبر دليلًا
على تفوُّقهم
٢٣ المقدَّر لهم عن الشعوب الأخرى الأقل جمالًا. فالأوروبيون البيض هم
«ناس النهار» كما وصفهم «کاروس»، بياضُ بشرتهم يعكس ضوء الشمس الذي يمنح الحياة، ومن
الناحية الأخرى، فإن الزنوج هم «ناس الليل»، الذين تعكس بشرتُهم الأبنوسية طبيعتَهم
المظلمة والبدائية.
٢٤ وكان «کاروس» وغيره من أصحاب النظريات يُجمعون على أنَّ البيض يتمتعون
بمزايا عقلية وجسدانية تفوق ما لدى نظرائهم من أصحاب اللونَين البُني والأصفر.
هذا الافتراض بالتفوُّق الأبيض، هو بالطبع أبرز الجوانب السيئة في نظرية الجنس
بالنسبة للقرن العشرين، ولكنه كان في وقته، الجانب الأكثر إثارة بالنسبة للتفكير
العِرقي. أما الذي أثار خيال القرن التاسع عشر فكان افتراض نظرية الجنس بأنَّ التاريخ
الطبيعي للإنسان (كنوع بيولوجي) هو الذي أنتج أيضًا التاريخ الثقافي للبشرية
(ككائنات اجتماعية أخلاقية). وبدا التقسيم طبقًا للجنس كأنه يكشف أسرارَ وغموضَ عمليةِ
التحضُّر بتفسيرِ أسبابِ مُضيِّ بعض المجتمعات في مسيرة التقدم بشكل أسهل وأسرع من
غيرها. نشر «جوستاف كليم»
Gustav Klemm «التاريخ
الثقافي العام للبشرية» — ۱۰ مجلدات — بين عامَي ١٨٤٦م، و١٨٥٢م، أي قبل ظهور مقال
«جوبينو» بعام. «کلیم» يرى — وبإصرار — أنَّ كل «التطورات الثقافية في التاريخ
تكوَّنت نتيجة انتشار وتطوُّر أنواع جنسية متمايزة»، ويقول إنَّ الفارق الأساسي بين
الأجناس ليس لونَ البشرة وإنما السمات «النشطة» و«الكسولة»؛ فالجنس أو العرق النشط
يظهر في المراحل الباكرة، (أثناء ما يسميه «كليم» ﺑ: همجية الإنسان) على شكل قوة
وإرادة داخلية يستخدمها لكي يتغلب على العقبات المادية التي تقابله، ولكي يقهر أو
يهزم الأجناس الأكثر كسلًا (وبالتالي الأقل قدرًا). هذا القهر، من المحتمل أن
يُحدِث تمازجًا بين الأجناس، حيث المنتصرون يستقرون ويفقدون استقلالهم الحاد
وإرادتهم، وتختفي المجموعة الأصلية المسيطرة ويتشكل نوع جنسي جديد يتبعه مرحلة
جديدة من الحضارة.
٢٥ والتاريخ — بالقطع — هو قصة امتزاج الأجناس في نظر «كليم» و«کاروس». ولكن هذا الامتزاج
كان شيئًا جيدًا وليس سيئًا. كان «کلیم» يعتقد أنَّ من الممكن
تتبُّع التقدم المطرد للإنسان الأوروبي من البدائية إلى الحرية وحتى مستويات أعلى
متوالية من التربية الجنسية والتمازج، وهو هنا يواصل نظرة «التنوير» عن التقدم
الثقافي العام، ولكن هناك مَن لا يوافق على ذلك. بيد أن هناك إجماعًا بين النظريات
الجنسية على أنَّ تاريخ الجنس البشري تاريخُ تقدُّم. هو تاريخ التقدم المطرد
للسيادة البيضاء وانتشار الحرية السياسية لكل البيض (أو للذكور منهم على الأقل) في
شكلها الأوروبي القائم على الجنس؛ ولهذا السبب فإنَّ الإغراء الرئيسي للعِرقية في
القرن التاسع عشر، كان هو رسالتها السياسية المتقدِّمة، أو بالأحرى الليبرالية. فلو
أنَّ جميع البيض (أو الذكور البيض) كانوا متساوين من ناحية الجنس، فلا مبرر إذن لأي
تمييز اجتماعي، أو أنَّ نظرية الجنس حطَّمت مزاعمَ الطبقة الأرستقراطية في التميُّز
والسلطة. وبدلًا من ذلك، كان جميع الإنجليز أو الفرنسيِّين أو الألمان يتمتعون منذ
الميلاد بالمواهب الثقافية نفسها، بصرف النظر عن الأصل الاجتماعي، وحتى أثناء تحرُّك
المجتمع الأوروبي نفسه في هذا الاتجاه السعيد، كان من الطبيعي أن تمتدَّ القوة
الثقافية البيضاء على العالم غير الأبيض.
٢٦ وباختصار، فإنَّ مجملَ توجُّه التفكير العِرقي في أوروبا كان توجُّهًا
ليبراليًّا متفائلًا، بل ويدلُّ على الرضا الذاتي. كانت كلمة «عرق» قد ظهرَت مرة واحدة
قبل ذلك في كتابات «جوبینو» في سنة ١٨٤٩م
٢٧ وعندما كان يضع مسودةَ أطروحته، اعتمد بشكل كبير على أسلافه الألمان،
وبخاصة «كليم»، و«کاروس»، و«کریستیان لاسن»
Christian
lassen.
٢٨⋆
قَبِل «جوبينو» التقسيمَ الهرمي العِرقي: «أبيض – أصفر – أسود»، وفكرة أن يكون
التاريخ العِرقي تاريخًا ثقافيًّا، إلا أنَّه عندما وضع أفكاره الخاصة عن العِرق على
الورق، استولى عليه يأسُه الرومانسي واغترابه، ناهيك عن تنفجه الأرستقراطي القديم،
وبدلًا من أن تكون أوروبا الحديثة هي قمة التطوُّر البيولوجي للإنسان، كان يعتبرها
بالوعةً للتفسُّخ العِرقي، وبضربة واحدة، غيَّر «جوبينو» توجُّهَ التفكير الأوروبي
بشأن الجنس تغييرًا جذريًّا.
في «فصل المقال»، الأوروبيون البيض المعاصرون — طبعًا — لا يزالون أرقى من
نُظَرائهم الزنوج أو الشرقيِّين، وكما يقول «جوبينو»، فإنَّ الرجل الأبيض لديه توافق
أعظم بين مكوِّنات القوة الجسدانية والذكاء والأخلاق، ومن بين كلِّ الأجناس الموجودة
يظلُّ هو الأكثر حيوية، تلك الحيوية التي هي قوة حياة أو جوهر تنتقل إلى ذريته، وهي
أساس الحضارة والإبداع الإنساني.
٢٩ حَملَةُ هذه الحيوية العضوية، هم السلف الآرومي (الأصلي) للجنس
الأوروبي الأبيض الذين يسمِّيهم «جوبينو»: «الآريون»، المصطلح جاء من عالم الدراسات
الاستشراقية وله في حدِّ ذاته تاريخٌ مثير. في سنة ١٧٨٨م، حدَّد السير «ولیم جونز»
William Jones — وكان موظفًا مدنيًّا لدى شركة
الهند الشرقية — أوجهَ التشابه اللغوي بين اللاتينية واليونانية والفارسية
والسانسكريتية، بالإضافة إلى اللغات الجرمانية والسلتية. وألمح «جونز» إلى احتمال
أن تكون كلُّ تلك الشعوب مشتركةً في لغة واحدة في الأصل، وربما في سمات ثقافية أخرى
أيضًا.
٣٠ «فردريك شليجل» دفع هذا الاحتمالَ خطوةً إلى الأمام عندما جاء إلى
«باريس» ليواصل دراسةَ الفلسفة الهندية. افترض «شلیجل» أن «السانسكريتية» كانت هي
اللغة الأصلية المشتركة بين كل الحضارات شرقًا وغربًا، وأن الناطقين الأصليِّين بها
(الآريون الذين فتحوا الهند) كانوا هم أسلاف الإغريق والرومان والمؤسِّسين الآخرين
للثقافة الغربية، والذي حدث أنَّ «شلیجل» لم يكن مُصيبًا في ذلك، بيد أن استنتاجه —
أنَّ جميع الحضارات كانت في الأصل حضارةً واحدة — استولى على خيال المستشرقين
والفلاسفة في أنحاء أوروبا.
فكرة وجود جنس يضمُّ كائنات كاملة منحَت العالمَ كلَّ معرفته، وأن هذا الجنس قد اختفى،
فكرة ترجع إلى أيام الإغريق وخرافة «أطلانتس»
Atlantis، وكانت تلك تنويعة أخرى على خرافة
العصر الذهبي. كان عام وصول «شلیجل» إلى «باريس» ذروة الافتتان بمصر القديمة وﺑ «الفنية
البدائية»
Primitivism، والاعتقاد بأن
جنسًا من الفلاسفة والفنانين والمخترعين أقدم وأكثر رقيًّا، كان يسكن هذا الكوكب،
وصنع حضارة متفوقة … اختفَت الآن. هذه «البدائية» أثارَت جدلًا علميًّا في عصر
«روسو»، وأيقظَت اهتمامًا واسعًا بالآثار الخاصة بالعصر الحجري الحديث.
٣١
كان «شلیجل» شخصيةً مهمة، ليس في مجال الاستشراق ودراسة «الآرية» فقط، وإنما في
الحركة الرومانتيكية كذلك. رأيُه العلمي الخاص ﺑ «الآرية» سرعان ما تجذَّر في تربة
الخيال الخصبة. أصبح «الآريون» هم المؤسِّسون الأصليون للحضارة، والذين يسبقون
الإغريق والرومان والمصريين. وبحلول عام ١٨١٣م كان العلماء والدارسون قد اخترعوا
مصطلح «الهندو-أوروبيون» ليصفوا به أولئك الروَّاد الآريِّين، الشعب القلِق المغامر
الذي ترك موطنه الأصلي وانطلق من أجل رسالة تاريخية. وعندما كانوا يجولون، كانوا
ينشرون مواهبهم الثقافية من الشرق إلى الغرب «حيث كانت مسيرة الثقافة تتبع دائمًا
مجرى الشمس»،
٣٢ كما كان «أوجست فردريك بوت»
August Friedrich Pott يقول. وفي رأْي «كريستيان لاسن»
Christian Lassen في جامعة «برلين»، فإن أولئك الآريِّين الرُّحَّل كانوا ينشرون كلَّ فضائل ومزايا أوروبا
السابقة للبرجوازية.
كانوا يتمتعون بقدر كبير من الجمال الجسداني والشجاعة والإحساس بالكرامة الشخصية.
(آريا: في السانسكريتية تعني الرجل الشريف)، وكانوا يعبِّرون عن نبالة الروح
والحيوية في شعر الملاحم منذ «هوميروس»، و«بيولف»
Beowulf إلى «المهابها راتا». كانوا رجالًا ذوي مواهبَ عقليةٍ عظيمة، قادرين على موازنة الخيال
والعقل على خلاف الشعوب الدنيا التي قهروها. (مثل «الدرافيديان» في الهند القديمة، والشعوب
السامية في الشرق
الأوسط).
وقبل كل شيء، فإنهم كانوا رجالَ «تربة» يتمتعون بجذور عاطفية عميقة ممتدة في الأرض
أكثر منها في المراكز الحضرية والتجارية. كان «الآريون» باختصار، عكس «المهذبين»
بالمعنى المفهوم عند «التنوير»، وبدلًا من ذلك كانوا «فضلاء» بمفهوم «روسو»، لم
يخرِّبهم الفساد ولا القيم الزائفة. كانت الفضيلة بالنسبة لهم حقًّا وامتيازًا بحكم
المولد والنشأة، وكانت هي أيضًا تَرِكتَهم لذريتهم.
وعند هذه النقطة بالطبع، كان لا بد أن تندمج النظرية الآرية أو «الهندوجیرمانية»
في نظرية الجنس أو العِرق. كان الآريون الرُّحَّل هم النموذج الأوَّلي لأجناس «کلیم»
النشطة، وطبقًا لافتراضات الحيوية العِرقية وافق «لاسن» وغيره من علماء الآرية على
أن تلك الشعوب الآرية، الأقرب إلى السلالة الأصلية، هم الذين ظلُّوا محتفظين بحيوية
العِرق وصفاته البطولية. الفرس والحيثيون والإغريق الهوميرويون (نسبةً إلى هوميروس)،
والهندوس الفيديون (نسبةً إلى الفيدا) في العصور القديمة، والقبائل الجرمانية،
والفايكنج بعد ذلك، كلُّهم حملوا حضارةً بطوليةً بعيدًا عن وطنها الأصلي، وحسب الخرافة
الآرية الرومانسية فإنَّ الماضي البطولي الفاضل يحلُّ محلَّ الحاضر كوسيلة لتحديد قيمة
العِرق أو الحضارة. امتزاج النظرية الآرية ونظرية العرق هو الذي أعطى «جوبينو»
أساسًا يجعله يزعم أن الثقافةَ الأوروبيةَ كلَّها كانت نابعةً من نموذج بيولوجي واحد
…
وهو الأبيض، وليس في أوروبا فقط. يقول: «إنَّ التاريخ يُثبت لنا أنَّ جميع الحضارات
نتجَت عن الجنس الأبيض وأنها مستمدة منه، وأنه لا توجد حضارة دون إسهامه ومساعدته.»
وقدَّمت الأجزاء الثلاثة الأخيرة من «فصل المقال» عملية مسح للحضارات التي صنعها
الدم الآري، والمجال هنا واسعٌ لدرجة كبيرة. قدَّم «جوبينو» وصفًا دقيقًا لعشر
حضارات تاريخية كبرى تحرَّرت من عصابات الحروب الآرية … «ومن حشود الناس الذين
يعيشون أو عاشوا على الأرض … كانت البقية تتحرك بفعل الجاذبية حول تلك الحضارات …
سواء كانت مستقلةً أو غير مستقلة، مثلما تدور الكواكب حول شموسها.»
الأولى كانت الهند موطنَ الحضارة الآرية إن شئنا الدقة، بعد ذلك جاءت مصر وآشور
بما في ذلك فارس، والمفترض أنها جميعًا قد تأسست بواسطة جنس واحد هو الذي قام
بالغزو، وهو الجنس الآري الأبيض، الذي أخضع الشعوب السامية الفقيرة واحتلَّها.
بعد ذلك، جاءت اليونان وروما، والغزاة الجرمانيون الذين أسَّسوا المسيحية
الغربية، وبين هذه الحضارات البيضاء المؤسسة، وضع «جوبينو» الصين، بحجة أن جماعة
من المحاربين الآريِّين من الهند هم الذين أقاموها. والأكثر مدعاةً للدهشة أن الحضارات
السابقة على أمريكا «كولمبس»، يتضح أنها أيضًا من نتاج الروح الآرية الغازية نفسها،
ومثلما هو في حالة الحضارة الصينية، فإنَّ الإنجازات الثقافية ﻟ «الأزتيك» و«المايا»
لم تكن أبدًا إنجازاتهم، بل لا بد أن تكون قوانينهم وعاداتهم ومهاراتهم الرياضية
والتكنولوجية «تركة جنس أرقى اختفى منذ زمن بعيد». كان منطق الحيوية العِرقية واضحًا
بالنسبة ﻟ «جوبينو»، حيثما وجدت ثقافة، فلا بد أن نفترض وجود الرجل الأبيض؛ لأنَّ
«التاريخ لا ينشأ إلا نتيجة للاحتكاك بالرجل الأبيض». وبعد أن منحوا نِعَم الحضارة،
اختفت الشعوب الآرية على الفور كجماعة مائزة. تركوا خلفهم لغتَهم فقط (التنازل
الوحيد من قِبل «جوبينو» لعلماء اللغات الهنود-أوروبية) وعنصرًا بيولوجيًّا راقيًّا
في الشعوب التي فتحوها. هذه البقايا العِرقية أصبحت هي أرستقراطية كل حضارة: من
البراهمة الهندية، إلى النبالة الزرادشتية في فارس، والبطولة «الأكيانية» في
اليونان الهوميرية … إلى المحاربين الفرنجة في أوروبا «شارلمان»، وعند «جوبينو»،
العِرق وليس الاقتصاد هو الذي يخلق الطبقة الحاكمة. «إنَّ المجتمع يكون عظيمًا
ورائعًا بقدر ما يحافظ على الدم النبيل للجماعة التي صنعته.»
٣٣
وفي النهاية، فإنَّ خرافة الجنس الآري كانت من نسج خيال النشأة الأرستقراطية التي
كتب عنها. «فصل المقال في لا تساوي الأجناس»، خلق أرستقراطية فرنسية متصورة، لم
تلوِّثها الثورة ولا التجارة على نطاق کوني بالفعل؛ ولهذا السبب أيضًا كان المهم
بالنسبة ﻟ «جوبينو» هو أن يرجع نسبه إلى «أوتو – جارل»، الغازي الفايكنجي شبه
الأسطوري الذي فتح «نورمانديا».
وكما هو الحال بالنسبة للكونتيسة «مانفريدين»، الشخصية الروائية، فإن أصله الآري
قد حفظه بمعزل عن أصحاب النزعة المادية ومجتمعهم الهمجي المتفسِّخ. «جوبینو» يرى
أنَّ «الجنس الأبيض اختفى من على وجه الأرض بعد أن فقد نقاءَه التام في زمن المسيح»،
وأنَّ الحيوية العِرقية ذات الأساس الآري أصبحت «متفسِّخة ومنهكة»، وأن القبائل
الجرمانية والفايكنج كانت الزفرةَ الأخيرة، والحضارة — منذ ذلك — تجري في زمن مسروق
وحيوية مسروقة.
٣٤ وحيث إنَّ الجنس الآري قد بسط سيطرته ومدَّ نفوذه بقوة عن طريق الحرب
والغزو (وهما في النهاية دلائل حيوية عِرقية) فقد أصبح ضعيفًا في العدد والعُدَّة،
وبسبب الغزوات البعيدة والمختلفة، أصبحت الدول الآرية (التي كانت عظيمةً ذات يوم)
«غنية وتجارية ومتحضِّرة». الغزاة الفاتحون وجدوا أنفسهم في علاقات حميمة مع أصحاب
البلاد المفتوحة … ويتنفَّسون معهم الهواء نفسه، كان النفور الطبيعي يؤكد نفسه بين
الأجناس المختلفة، ولكنه تلاشى في النهاية إلى أن أصبحت الأجناس الدنيا الخاضعة لا
تبدو قبيحةً كما كانت. «الفروق الأخلاقية والجمالية، والغزو»، كلها جزء من العملية
نفسها المكوِّنة للقيمة كما يقول «نيتشة». لقد حدثت عمليةُ تهجين للسلالات، ودمُ
الجنس القائم بعملية التحضير كان يُستنزَف تدريجيًّا ويجف؛ لأنه توزَّع على الأجناس
الأخرى.
٣٥ عملية التحضير هي عملية إفساد في رأي «جوبینو»، ويتمثَّل ذلك في اختلاط
الأجناس. الغزاة يقعون فريسةً لعبقريتهم الأكيدة لكي يخلقوا نظامًا اجتماعيًّا
وسياسيًّا مستقرًّا، وتلك هي «بذرة الموت الحتمي» التي كان يخشاها «جوبينو» أكثر من
أي شيء آخر، وهي لعنةُ الحضارة، إنه يرى أنَّ الامتزاج الحتمي للبشر في مجتمع معقَّد
مصدر للإبداع … ولكنه أيضًا مصدر لعدم الاستقرار. الحضارات تحاول أن تُطيلَ من عمرها
بأن تُصبح إمبراطوريات بدمج ومزج شعوب وثقافات مختلفة في كل واحد. هذا الاندماج
متعدِّد الثقافات لا يمكن أن يعيش؛ لأن الدم في النهاية «يحنُّ».
الدم هو المهم، والمثال المفضَّل عنده هو الإغريق والفرس في العصر «الهلينستي»
Hellenistic Age، أولئك الذين تفرَّقت بهم السبل بعد موت «الإسكندر الأكبر»، بالرغم من كل جهوده. المصير
العِرقي أيضًا يفسِّر لنا
لماذا يظلُّ الهمج همجًا حتى بعد احتكاك طويل مع المتحضِّرين والأرقى منهم كما يقول:
إنَّ العملية التاريخية وحدها لا يمكن أن تحوِّل البرابرة إلى بشر متحضِّرين، ولا
يمكنها — لنفس السبب — أن تخفض المتحضِّرين وتُعيدهم إلى البربرية. الجنس وحده هو
الذي يمكن أن يصنع ذلك.
٣٦ عند «جوبينو»، الجنس أو العِرق «هو الذي يفرض على البشر أساليبَ وجودهم
… وهو الذي يُملي قوانينهم، رغباتهم، ما يحبون وما يكرهون.» هو الذي يقود الشعوب
والحضارات «مثل العبيد العميان» نحو انتصاراتهم الكبرى … وكوارثهم الكبرى.
٣٧ وحيث إن العرق المتسيِّد، يفرِّق دمه (ويخسره) على السلالات والأجناس
الأقل شأنًا، تفقد ذريته القدرةَ على السيطرة على الأحداث. ويَصِل «جوبينو» إلى نتيجة
مفادها أنَّ الحضارات تنهار لأنها لم تَعُد في نفس الأيدي تحديدًا. «والضربة لا يمكن
تفاديها، هي ضربة حتمية، يراها العاقل الحصيف قادمةً، ولكنه لا يستطيع أن يصنع
شيئًا.» وأيُّ نظام للحكم لا يمكنه أن يُبطل قوانين العلم الثابتة لحظة … مهما كان
براعته، هذه القوانين الثابتة هي قوانين «الحيوية العِرقية». هذا المصير المتفسِّخ
كان يستولي على أوروبا القرن التاسع عشر؛ فالحضارة الأوروبية كما قال «جوبينو» لم
يكن لديها متوالية خطية صاعدة من البربرية إلى المدنية، أو من العبودية إلى الحرية،
وبدلًا من ذلك، فإنها كانت تتحرك في دائرة الشعوب الأكثر قربًا من المصدر الآري
الأصلي، وبالتالي الأكثر حيوية، هزمت البعيدين عن المصدر … والنتيجة أنها امتزجت
بمن هم أدنى منها، وفقدَت نقاءَها العِرقي. وهكذا يصبح التاريخ دورةً لا نهائية من
الحروب والغزو واختلاط الأعراق، هذه هي صيغة «جوبينو» العنصرية للثورة،
anakuklosis، ليس هناك منتصرون في التاريخ، بل هناك — على المدى الطويل — منهزمون دائمًا:
يمكن أن نشبِّه حضارتنا بالجزر المؤقتة، التي يُلقي بها البحر نتيجة
البراكين الموجودة تحت الماء، ولأنها عرضة لعمليات التدمير التي تُحدثها
التيارات؛ ولأنها تفقد القوة التي كانت تحفظها ذات يوم، فإنها كذلك سوف
تتحطَّم ذات يوم، ولسوف تبتلع الأمواج العاتية بقايا الحطام …
«جوبینو» يعترف بأنها «نهاية فاجعة»، نهاية كان لا بد أن تُواجهها أجناس نبيلة
كثيرة قبلنا … «ولكنه المصير الحتمي لأهل أوروبا الجدد المهجَّنين، الورثة الجهلاء
لتراث عِرقي كان نبيلًا ذات يوم.»
٣٨
بعد الغزوات الجرمانية الآرية، كانت أوروبا ما قبل الحداثة تنعم بطبقة حاكمة
متجانسة عرقيًّا، استمرت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى العصور الوسطى
المتأخرة. كان «جوبینو»
Gobineau يصفهم بأنهم «شقر»، و«عريضو المناكب»، «رُبُّوا على جوهر دين نقي وبسيط وسياسة حكيمة
وتاريخ
مجيد»،
٣٩ أولئك المحاربون الجرمان احتفظوا بحيوية الآريِّين الأصليِّين زمنًا ما،
ثم بعد ذلك جاءت الكنيسة الكاثوليكية — بغباء — لكي تعلِّم النبالة التي كانت ما
تزال على بكارتها العِرقية … علَّمتها «المرونة والقابلية للتكيُّف» و«مبررات
المخالطة الاجتماعية»،
٤٠ تلك المخالطة (والتي هي «التهذيب» بمفهوم التنوير) كانت حتفَهم. وبدلًا
من القتال، والسيطرة على شعوبهم الأقنان، تعلَّم الغزاة أن يتزوجوهم. وفي النهاية
امتزج «الجرمان» و«اللاتين» و«الغال» … وغرقَت الصفوة الأوروبية الحاكمة في دورة
«جوبينو» الحتمية … دورة الفساد والتفسُّخ العِرقي. وفي نهاية العصور الوسطى بزغَت
طبقةٌ جديدة من الأوروبيِّين، كانت طبقةً مدينية وسطى معيشتها من التجارة وليس من خلال
الحرب والأرض، ولكنها كانت «وسطى» أيضًا بمعنى أنها كانت هجينًا من العِرقَين الغازي
والمهزوم. ما تبقَّى من التاريخ الأوروبي أصبح صراعًا بين بقايا الأرستقراطية الآرية-الجرمانية
الأصلية، وذلك النظام البرجوازي الناشئ، صراعًا تفوز فيه البرجوازية وتنتصر باستمرار،
وذلك بفضل دهائها وأعدادها المتفوقة. ومن منظور «جوبينو» كانت الثورة الفرنسية هي الهزيمة
النهائية للمقصورية الجنسية.
٤١⋆ والآن أصبحت مطالبُ الطبقة الوسطى في الحرية والمساواة و«مبدأ الأخوة الإنسانية الليبرالي»
لا تُقاوَم. النظام الاجتماعي الأوروبي الذي كان
مقدسًا ذات يوم، نظام الأرستقراطية والتاج والمذبح، هُزِم تمامًا، وتم تدميره كما
حدث لأسرة «جوبينو» نفسها. وقد يبدو غريبًا أن نعتبر الثورة الفرنسية صراعًا عرقيًّا
بالضرورة، إلا أنَّ «أوجستان ثييري»
Augustin
Thierry قال ذلك في كتابه «تاريخ الثورة الفرنسية»، قبل
عشرين عامًا. في هذا الكتاب تصل الثورة الفرنسية بصراعٍ عمرُه قرونٌ إلى ذروته، وهو
الصراع بين جنسَين أو شعبَين متمايزَين: «الغال» و«الفرانك». في النهاية، تنتصر
الأغلبية الغالية، ويحرِّرون أنفسهم من الفرانك الظَّلَمة في أحداث ۱۷۸۹م الدرامية،
وهكذا يكون التاريخ العرقي — مرة أخرى — عند «ثييري»: هو انتصار الحرية
والمساواة.
٤٢ من ناحية أخرى، يستبعد «جوبينو» النهايةَ الليبرالية السعيدة ويُقصيها،
بينما يكون الجانب العِرقي للصراع خفيًّا تمامًا على الخصوم. وبعبارة «ماثيو أرنولد»
Mathew Arnold:
«الثورة صدام ليلي بين جيوش جبَّارة»؛ حيث يتصارع اليعاقبة والملكيون
والبونابرتيون وفاسدون آخرون بين أطلال وخرائب تركَها أسلافٌ أكثر حيوية
منهم.
صورة الأطلال والبقايا تتكرر على امتداد المقال، والأطلال حسب تفكير «جوبينو» هي
الآثار المرئية لشعب أرقى منَّا، وهو أرقى لأنه سابق، ولكنه كان غافلًا عن مصيره
الحتمي، كما نحن غافلون الآن عن مصيرنا. «كل الحضارات السابقة على حضارتنا كانت
تعتقد بخلودها … «الإنكا» وأُسَرهم، كانوا مقتنعين — وبكل ثقة — بأن غزواتهم ستدوم
إلى الأبد، ولكن الزمن بضربة واحدة من جناحه، ألقى بإمبراطوريتهم مثل كثير غيرها
في غياهب الهاوية.»
٤٣
تشاؤم «جوبينو» العِرقي ليس نظريةً في التاريخ، بقدر ما هو عمل فني رومانسي. كتب:
«لم تَعُد هناك — اليوم — طبقات، لم تَعُد هناك شعوب، بل أفراد بعينهم طافين على الموج
مثل حُطام سفينة غارقة.» مثل «جوبینو» نفسه. إلا أنه بالرغم من انتصار البرجوازية،
تظهر جماعات جديدة من الجماهير المهجَّنة، تظهر من بين الظلام الريفي وتهبط على
المدن … وكانت النتيجة الحتمية أحداث ١٨٤٨م … والأسوأ قادم! أما بالنسبة
لأمريكا، التي رآها متفائلون، مثل «توكفيل»، وهي حاملة لمشعل الحضارة في النهاية،
بعد أن انتقل من الأيدي الأوروبية، فهي — أمريكا — بلد يمثِّل قاعَ النزف العِرقي،
حيث النفاية البشرية من الأمم والشعوب الأخرى — أفريقيا وآسيا إلى جانب أوروبا —
تتجمَّع وتتراكم. أمريكا تمثِّل «الشكل الأخير الممكن للثقافة».
٤٤
وحيث إن الدم الآري الأصلي يُستنزَف ويُنضَب أكثر فأكثر، فإن تلك الجماهير المهجَّنة
سوف تُمتَصُّ تمامًا في النهاية ولن يكون لها وجود، ستنهض الأجناس الأخرى (الأصفر –
البُني – الأحمر)، وتأخذ مكانها وتمحو ذكرى الجنس الأبيض تمامًا. وستكون الفترة
الخلَّاقة بالنسبة للبشرية قد انقضَت. البشر «لن يكونوا قد اختفَوا تمامًا، وإنما
تفسَّخوا وانحلُّوا وأصبحوا مجردين من القوة والجمال والذكاء.» وبأسفٍ شديد يصل
«جوبينو» إلى استنتاج:
«وربما يكون هذا الخوف الذي سينتقل إلى ذريتنا، هو الذي سيتركنا في حالة من
اللامبالاة، إذا لم نشعر — مرعوبين — أن أيدي القدر فوق رءوسنا بالفعل.»
٤٥
التشاؤمية العِرقية كنظرية
عندما ظهر «فصل المقال» كان ردُّ الفعل هو اللامبالاة التامة، أو هكذا كان الأمر
يبدو بالنسبة ﻟ «جوبينو»، وقد روَّعه كثيرًا فشلُ الكتاب في أن يُثير عاصفةً من الجدل
حوله. علماء الأنثروبولوجيا الفرنسيون وأصحاب النظريات العِرقية كانوا فاتري الحماس
إلى حدٍّ بعيد، وربما كانوا معادين لطرح «جوبينو». والأكثر مدعاةً للارتباك، هو أنَّ
المؤلفين الذين كانوا مصادره الرئيسة بمن فيهم «کاروس»، و«أوجست بوت»، أدانوا عمله
واعتبروه قاصرًا وتحت العنوان الخطأ.
٤٦ ومن ناحية أخرى، كان «جوبينو» يرفض تلك الانتقادات ويعتبرها متوقعةً،
وأنه يمكن التنبُّؤ بها. فقد أخبر أحد أصدقائه المقرَّبين: «لم يَدُر بخلدي قط أنني
يمكن أن أقول للناس اليوم: أنتم في حالة تفسُّخ تام، وحضارتكم مستنقع، وذكاؤكم
مصباح ذابل، ودخان من غير نار، وأنكم في منتصف الطريق نحو القبر … دون أن أتوقَّع
منهم بعضَ الاعتراض.»
٤٧
ولكن حيث إنَّ الكتاب لم يحقِّق انتشارًا على مستوى القراءة في فرنسا، ولم يحقِّق
له شهرةً كفيلسوف أو مؤرِّخ كبير، فقد أصابه ذلك بخيبة أمل أيضًا. كان «جوبينو»
يعتقد أنَّ «فصل المقال» كان عملًا من أعمال العلم الدقيق، بوصفه شيئًا ثوريًّا مثل
اكتشاف «كوبرنيكوس» أنَّ الشمس وليست الأرض هي مركز المنظومة الشمسية، وأنه قد أرسى
إلى الأبد المبادئ العِرقية التي يعتمد عليها التاريخُ كلُّه، والتي قد تدفع الناس
الآن لإعادة النظر في كل ما عرفوه أو تصوروا أنهم عرفوه عن قيام وسقوط الحضارات.
كتب: «نحن في حاجة لأن نُدخل التاريخ في الطبيعي من العلوم الطبيعية، ونعطيه كلَّ
الدقة العلمية لهذا النوع من المعرفة.» والشبه بين «جوبينو»، و«کارل مارکس» الذي
كان يكدح في المتحف البريطاني في ذلك الوقت وهو يكتب المسودة الأولى من «رأس المال»
تشابهٌ مثير: «لو أنَّ للتاريخ أيَّ قيمة، فلا بد أن تكون هي قيمته كعلم؛ بسبب قدرته
على التنبُّؤ بالأحداث إلى جانب تحليلها.»
٤٨ على أن تلك المزاعم بقدرة التاريخ على التنبُّؤ والإحاطة بكل شيء، لم
تترك انطباعًا قويًّا لدى ظهير «جوبينو» السابق وراعيه «ألكس دو توكفيل». كان
«توكفيل» نتاج تراث ديمقراطي ونظرة مختلفة تمامًا عن تلك التي لدى «جوبينو». كانت
عائلته من طبقة النبلاء النورماندية القديمة. آل «توكفيل» يعود نسبُهم إلى القرن
الثاني عشر، خدموا العرش الفرنسي بالسيف لمدة تربو على سبعمائة عام. لم يكن الوسط
الذي نشأ فيه «ألكسيز دو توكفيل» وسط ادعاءات فقيرة أو ذكريات أليمة، كان وسط
مسئوليات عملية وواجبات مدينية.
٤٩ في الأمور السياسية، كان «توكفيل» ليبراليًّا، ولكن ليبراليته — مثل
والده — كانت مخفَّفة باحترامٍ للتقاليد والعادات، وبها مسحة من «أدموند بيرك».
كتابه «الديمقراطية في أمريكا» ١٨٣٥م كان يناقش فكرةَ أنه: بالرغم من أن قُوَى
التغيُّر الاجتماعي والاقتصادي قد تكون مدمرة، إلا أنَّه من الممكن الاحتفاظ بأفضل
ما في الماضي؛ وذلك من خلال الانتباه الواعي والإصلاح. والحقيقة أن «توكفيل» توصَّل
إلى أنَّ المجتمع الحر بحق، يحتاج الأمرين معًا. وعلى العكس من رومانسية «جوبينو»
المفرطة في الذاتية وتصوير الذات، كانت إطلالة توكفيل — بالتأكيد — مثل نظرة
التنوير: عقلانية … شكوكية … ساخرة أحيانًا، إلا أنها مليئة بالأمل في المستقبل.
وكما كتب إلى «جوبينو» بعد ذلك بسنوات: «نعم! أحيانًا يُصيبني اليأس من البشرية …
ومَن منَّا لا يصيبه ذلك! وكنت أقول دائمًا إنه قد بات من الصعب علينا أن نحافظ على
الحرية في مجتمعاتنا الديمقراطية الحديثة. كان الأمر أسهل من ذلك بكثير في مجتمعات
أرستقراطية معينة في الماضي، ولكنني لن أجرؤَ على الاعتقاد في استحالة
ذلك.»
٥٠ وأرسل إليه «جوبينو» نسخةً من «فصل المقال»، رغم أنه كان يعرف حتمًا
صعوبةَ أن يكون هناك أيُّ ردٍّ مشجع، وكما قال «توكفيل»: «عالم كامل يفصل بين
معتقداتنا.» وكان ذلك أكثرَ صدقًا مما يعرف؛ فالمقال وردُّ «توكفيل» عليه يمثِّلان
خطًّا فاصلًا في الروح الأوروبية بين تراث التنوير وليبراليته العقلانية التي صارت
الآن في موضع الدفاع، ونظرة جديدة سوف يلعب فيها تشاؤم «جوبينو» العِرقي دورًا
يتزايد في أهميته. كان نفور «توكفيل» شديدًا قبل كل شيء، من منظور «جوبينو» العِرقي،
والذي كان يراه بحقٍّ رفضًا وإنكارًا لفكرة سواسية البشر جميعًا أمام الله. كان
«توكفيل» يفهم — أيضًا — أنَّ الإيمان بتفوُّق عِرقي كان نتيجة وليس سببًا، لظروف
تاريخية محدَّدة. «أنا واثق من أن يوليوس قيصر لو تيسَّر له الوقت، لكتب كتابًا يُثبت
فيه أن الهمج الذين التقاهم في بريطانيا لا ينتمون إلى نفس الجنس مثل الرومان، وأنَّ
الرومان كان مقدَّرًا لهم بالطبيعة، أن يحكموا العالم، بينما كان الهمج مقدَّرًا لهم
أن يقبعوا في إحدى زواياه.»
٥١
وبعد ألفَي عام، حدث العكس بالطبع، حيث كانت إنجلترا الصناعية متسيِّدة على القارة
الأوروبية … بالإضافة إلى معظم العالم. ثم كانت بعد ذلك قضية تشاؤمية «جوبينو»
المحمَّلة بالهلاك. «توكفيل» كان يُقلقه أن شعورًا باليأس من مستقبل الحضارة،
وخاصة بعد اندفاعة ١٨٤٨م، يمكن أن يُصبح نبوءةَ تحقيق للذات. وكان يعترف بأنه ربما
كان لدى القرن السابق إيمانٌ وثقة بالتقدم أكثر مما ينبغي. الآن وعلى أية حال، فإن
إخفاقات الحملة الفرنسية وأحداث ١٨٤٨م «قد أوصلَتنا إلى أقصى الطرف الآخر، وبعد أن
كان لدينا اعتدادٌ بالنفس زائد عن الحد، أصبح شعورنا برثاء الذات هو الزائد عن الحد،
كنَّا نعتقد أننا يمكن أن نفعل كل شيء، والآن نعتقد أننا لا نستطيع أن نفعل أيَّ شيء.»
كما نبَّه إلى أنَّ «التشاؤم قد أصبح علَّة عصرنا الكبرى.» وكان «توكفيل» يعتقد أن
«جوبينو» بإعلانه أن تدهور أوروبا كان مقدَّرًا لأسباب عِرقية، فإنه (أي جوبينو) يقوم
بتشجيع حتمية تقوض طاقة الثقة وإرادة الإنجاز. يقول «توكفيل»: «لو جاء طبيبي ذات
صباح ليقول: من الأمانة أن أُخبرك بأن حالتك الصحية ميئوس منها، وأن لا أمل من أي
نوع في شفائك، فلن يكون أمامي سوى أن أضعَ رأسي تحت الغطاء … وأستعد للحياة الأبدية
…»
٥٢ إلا أنَّ «الجبرية المتحجِّرة» كانت هي الجانب الذي أزعج «توكفيل» أكثر
من غيره في مقال «جوبينو»، تلك الحتمية العِرقية التي تلغي الحرية الإنسانية.
الأفراد لهم مكانةٌ ضئيلة في المقال، مقارنةً ﺑ «القوانين الثابتة» لتاريخ العِرق،
والطبيعة البهيمة التي تقتادهم «كالعبيد العميان» وتُملي عليهم اختياراتهم، وحسب
صيغة «جوبينو» فإن الحياة العضوية لمجتمع أو حضارة ما، تقف بمعزلٍ تامٍّ عن البشر
الذين يصنعون ذلك المجتمع أو تلك الحضارة. ليس للأفراد أيُّ دور واعٍ، سواء في صنع
المجتمع أو الحفاظ عليه.
٥٣
وحيث إنَّ الإنسان لا حول له ولا قوة في مشروع «جوبينو»، فهو كذلك ليس مسئولًا عن
الكارثة حتمية الحدوث، «جوبينو» يستنتج أن «لا شيء هناك» في مصير حضارته يمكن أن
يكون مسئولًا عنه … لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يفعله. والافتراضان روَّعَا «توكفيل»،
فكان يقول: «المجتمعات الإنسانية عندي مثل الأشخاص، تُصبح شيئًا له قيمة من خلال
استخدام حريتها … فقط.» فالهبة العظمى للمجتمع المتحضِّر هي الحرية، الحرية بمعنى
المسئولية الأخلاقية للفرد عما يحدث له مثلما يحدث للآخرين. أما «جوبینو» فقد ألغى
تلك الحريةَ بضربة واحدة … من الحتمية البيولوجية. والحقيقة أن «توكفيل» كان يشعر
بأن «جوبينو» قد ألغى الحرية الفردية؛ لأنه كان يخاف منها على نحوٍ عميق. وكان ردُّ
فعل «جوبينو» حادًّا … فكتب:
«أنا لا أقول للناس «إنكم أبرياء»، أو «مذنبون»، أنا أقول لهم إنكم
«تموتون»، ما أقوله هو أنكم قد أضعتم شبابكم وأنكم الآن تقتربون من سنِّ
الاضمحلال … شيِّدوا الممالك، الإمارات، الجمهوريات، ما يحلو لكم … قد تكون
تلك أشياء ممكنة، وقد تكون حتمية … ولكن في الحساب الختامي فإن أسباب وهنكم
تتجمع، ولن يحلَّ محلَّكم في العالم أحدٌ بعد تفسُّخكم وتحلُّلكم …»
ويُضيف … «إن كنت مخطئًا فلن يبقى شيء من كتبي الأربعة، وإن كنت محقًّا فلن يقمع
الواقعَ رغباتُ أولئك الذين لا يريدون أن يواجهوه.»
٥٤
لم تكن لدى «جوبينو» رغبة في تغيير العالم، مقاله وأعماله التالية تبقى في صميمها
أعمالًا من أعمال التمرُّد الرومانسي، هي علاماتُ احتجاجٍ وتحدٍّ موجَّهة ضد ما كان
يراه نظامًا اجتماعيًّا مرفوضًا، تسيطر عليه البرجوازية.
إلا أنَّ «جوبينو» قد وضع تمييزًا حادًّا وقاتلًا في نظر «توكفيل»، بين القابلية
الاجتماعية للبشر والقوى النفسية الجمعية التي قادَتهم لصنع حضارات عظمى، وبين
«الصفات التي تجعل الحقائق الأخلاقية فعَّالة»، الأمانة، النزاهة، التراحم، الوعي
الأخلاقي بالصواب والخطأ. القابلية الاجتماعية عند «جوبینو» تعتمد على القوة
الحيوية النابعة من الدم والعرق. ومن جهة أخرى، فإن الصفات الأخلاقية اعتباطية وغير
أصيلة، ويمكن الاستغناء عنها في النهاية. في نظام «جوبينو» للأشياء، لا علاقة
لموقف الإنسان الأخلاقي بعملية التاريخ الأكبر.
كتب «جوبينو»: «المجتمع أو الحضارة، لا يحمل أخلاقيات من أي نوع فهو ليس فاضلًا
ولا شريرًا، هو موجود فقط.» لم يكن «جوبينو» مجرَّد ناكر لأي صلة بين السلوك العام
الهادف وما تُمليه الأخلاقيات العادية، إلا أن «ميكيافيللي» كان قد قال بذلك قبل
ثلاثمائة عام. كان يؤكد على أنَّ السلوك العام وممارسة القوة ليس لهما أيُّ مضمون
أخلاقي من أي نوع، وأنهما من إملاء الدم والعرق والبيولوجيا. إن حيوية وقيمة حضارة
ما، تعتمدان بالكلية على قدرة تلك الحضارة على توليد أشكال السلطة والسيطرة
الضرورية، التي تميل الاعتبارات الأخلاقية الحساسة (سريعة التقلب) أو المفرطة في
الاحتشام إلى تعويقها، والإخفاق في اتباع إملاءات القوة سواء بالاحتفاظ بهوية
المرء العِرقية أو قتل عدو مأسور، يعني أن الأسس الحيوية للمجتمع قد تعفَّنت.
المبادئ الأخلاقية هي نقيض الحيوية والإبداع، وهي ما سوف يُطلِق عليها «فردريك
نيتشة»: «إرادة القوة». في كتابات «جوبینو» التالية وفي كتابه «النهضة» (۱۸۷۷)
بخاصة، نجد أن القوة الإبداعية الحقيقية تُزيح قضايا الأخلاق دائمًا وتكنسها من
طريقها. وكما يقول، فإن النهضة كانت الانتصار الأخير للأرستقراطية الآرية الأوروبية
على قوى البرجوازية التي قامت ضدها، وكانت النتيجة انفجارًا سريعًا أخيرًا للحيوية،
وليس في المجال الفني فقط. «مايكل أنجلو» Michelangelo، و«دافنشي» Davinci، و«رافائيل» Raphael، وإنما في السياسة متمثلة في «سيزار بورجيا» Cesare Borgia،
«وميكيافيللي» Machiavelli كذلك.
البطل الثقافي عند «جوبينو» فاقد لحسِّ المسئولية الأخلاقية تمامًا. أما القيود
والضوابط التقليدية سواء في الفن أو في الأخلاق فهي من أجل الضعاف والجبناء
…
«ولتعلم إذن أن قوانين الحياة العادية معكوسة تمامًا بالنسبة لأولئك
الذين اختارهم القدَر لكي يُهيمنوا على الآخرين. الخير والشر ارتفعَا إلى
منطقة أخرى أعلى … إلى مستوى آخر … دَعِ الكسل والتردد للعقول
الصغيرة.»
بعد ذلك كتب «جوبينو» إلى «ريتشارد فاجنر»
Richard
Wagner يقول: «القوة هي كل شيء، هي المفتاح الرئيسي، إنها
تدمِّر كلَّ ما في طريقها ولا تترك شيئًا وراءها.»
٥٥ وهي «أبعد من الخير والشر» كما سيقول «نيتشة» فيما بعد.
مات «جوبينو» في «تورين» في ١٤ فبراير عام ۱۸۸۲م.
٥٦⋆
كان توقُّع ذهاب الحضارة إلى الهاوية يبدو أنه أصاب «جوبينو» في نهاية حياته بنوع
من المرض الرومانسي الخرافي يُسمَّى
Schadenfreude، أو الاستبشار والفرح لمصائب
الآخرين! قبل موته مباشرةً، كتب في مقدمة الطبعة الثانية من «فصل المقال …» «تيهور
ضخم من الصينيِّين والسلاف مرقش بالتتار وجیرمان البلطيق سوف ينهار ليضع نهاية لكل
الأفكار البلهاء، بل لكل حضارة أوروبا في الحقيقة … لقد تنبَّأت بهذه الظواهر
الغريبة وكنت أتوقعها منذ سنوات، لكنني لا بد أن أعترف بأنني لم أتصوَّر أبدًا أن
تحدث تلك الأشياء بهذه السرعة.»
«جوبينو» و«الجوبينوويون» الجدد في ألمانيا
أطلقت الهزيمة الساحقة لفرنسا في عام ۱۸۷۰م على يد الإمبراطورية الألمانية
الجديدة والحرب الأهلية وكوميونة
٥٧⋆ العام التالي، موجة من المخاوف بخصوص الاضمحلال القومي الفرنسي، وهي
إن لم تكن مستمدةً مباشرة من «جوبينو»، إلا أنها جعلَته يبدو مصيبًا أكثر منه مخطئًا،
ولكن أحدًا في فرنسا لم يعتبره أبدًا مُنظِّرًا عرقيًّا، أو ربط بين أيِّ منظورٍ محدَّد
عنده وبين لغة الاضمحلال.
كانت جذور لغة الاضمحلال موجودة في مكان آخر، في ذلك النوع «العلمي» و«الوضعي» من
النظرية العرقية الليبرالية التي كان «جوبينو» يُنكرها. وبالرغم من ذلك، فإن
«جوبینو» الذي كان حزينًا لفشل مقاله عن لا تساوي الأجناس في فرنسا، كان يتوقَّع أن
تكون الاستجابة في ألمانيا أفضل … وقد حدث. وكان نجاح «جوبينو» هناك يرجع إلى شخص
واحد. أصبح «ريتشارد فاجنر»
Richard Wagner مهتمًّا بأعمال «جوبینو» في سنة ١٨٧٦م، عندما كان يقوم بالتحضير لأول حفل يقيمه في
«بايريث»
Bayreuth، تقابلَا بعد ذلك بوقت قصير
وسرعان ما أصبحَا صديقَين حميمَين. وصف «فاجنر» صديقه «جوبينو» لزوجته «كوسيما»
Cosima ذات مرة بقوله: «إنه معاصري الحقيقي
الوحيد.»
٥٨ وبالرغم من أنَّ أفكار «جوبينو» العِرقية ظهرت في فترة متأخرة عن أن
يكون لها أيُّ تأثير على أوبرا «فاجنر»، إلا أنَّ الموسيقار الكبير كان يلفت الأنظار
ويروِّج بلا هوادة لنظريات الكونت الفرنسي بين حلقات الفنانين والموسيقيِّين
والمثقفين الشبان في «بايريث».
اثنان على وجه التحديد، هما «لودفيج شيمان»
Ludwig
Schemann، و«هوستون ستيوارات تشمبرلين»
Houston Stewart Chamberlain، سوف يتبنَّيان أفكار «جوبينو»، ويحوِّلانها
إلى إنجيل سياسي من أجل ألمانيا جديدة ليكون مصاحبًا لإنجيل «الفاجنرية»
٥٩⋆ الفني.
كان «لودفيج شيمان» في السابعة والثلاثين عندما قرأ كتاب «النهضة» لأول مرة،
وأخذه هذا الكتاب إلى «فصل المقال»، الذي سيقول عنه للجميع بعد ذلك إنه غيَّر
حياته، وقد تأثَّر على نحوٍ خاصٍّ بذلك التشابه بين أفكار «جوبينو» وأفكار أهم رموز
الحركة الجيرمانية المغالية في القومية وهو «بول أنتون بوتشر» Paul
Anton Böttcher، والذي كان «شيمان» وغيره يعرفونه باسمه
المستعار — ذي النغمة الفرنسية — «بول دو لاجارد» Paul de
Lagarde، والذي كانت أفكاره خليطًا مشوشًا من أفكار «هيردر»
Herder، و«فيخته»
Fichte، و«الأخوين جريم»
Grimm، وفلسفة الحياة
Lebensphilosophie الرومانسية الألمانية، والتي تركت تأثيرها على «جوبينو» كذلك. كتب يقول: «جوهر الإنسان
ليس عقله، بل إرادته، والقوة الدافعة هي الحب.» كان يعتقد أن الأمة الألمانية لها إرادتها
الخاصة
للتعبير عن روحها الجمعية Seele. وفي حالة
ألمانيا، كانت المادية تقوم بتدمير تلك الروح، جشع الطبقة الوسطى، التصنيع الذي
يجتاح المنظر الطبيعي لوديان «الراين» و«الروهر». وعندما أصبحت ألمانيا أمةً
موحَّدة وتحرَّكَت في المسار الحديث، كان «لاجارد» يحذِّر وينبِّه إلى أنَّ ألمانيا
الحقيقية، المتجذِّرة في العادات والتقاليد الريفية للناس الحقيقيِّين مشرفة على
الغرق. والنتيجة هي أزمة ثقافية يمكن أن تؤدِّيَ إلى حرمان الشعب الألماني من تراثه
الفريد ومن هويته الفريدة. كانت رؤية «لاجارد» للمستقبل قاتمةً وكئيبة بالمعنى
الرومانسي، بل حسب مفهوم «جوبينو». كتب في سنة ۱۸۸۱م يقول: «لقد أصبحنا وجهًا لوجه
مع الإفلاس الروحي.» «سنغرق جميعًا في العدم.» كان «لاجارد» يعبِّر عن مرارة خلفاء
الرومانسيِّين المحافظين «الألمان»، الذين كانوا يرَون التقدم حصان طروادة في مستقبل
برجوازي لا روح له: الميكنة، المادية، الاشتراكية، الليبرالية … كلها نسيج واحد،
أما السلامة الروحية الحقيقية فتعني الهرب من الآثار الخبيثة لذلك كله. كما كان «لاجارد»
يرى أن الثقافة الألمانية الحقيقية واقعةٌ تحت هجوم مباشر من الليبراليِّين (بإصرارهم
على الفردانية individualism على حساب
التضامن الشعبي)، ومن اليهود، ومن الكنيسة الكاثوليكية، ومن رجال الصناعة، ومن
مجموعة عوامل وعناصر أخرى «غير ألمانية».
كتب «لاجارد»: «في ألمانيا الجديدة هذه، ألمانيا القوية، الليبرالية، والتي ليست
ألمانية بالمرة … نحن نعبد آلهةً أجنبية، وهذا هو سبب ما نحن فيه من
خراب.»
٦٠ وعلى الفور، أدرك «شيمان» أنَّ ما كان «لاجارد» وآخرون يحاولون تحديده
بلغة ثقافية وقومية، كان «جوبينو» قد فَهِمه بلغةٍ عِرقيةٍ. كانت الروح القومية
الألمانية عند «لاجارد» في الحقيقة، هي هويتها الآرية، تراث يعود قديمًا إلى غابات
ومستنقعات أوروبا الشمالية وإسكاندينافيا الممتدة حتى المجتمعات الريفية وتقاليد
الشعب الألماني. أصبح «شیمان» مهووسًا بالفكرة، وكما كتب فإنها كانت «أداةً لقوى
عُليا»، ورغم أنه لم يلتقِ ﺑ «جوبینو» أبدًا، إلا أنه كتب قصة حياته في مجلدين (فعل
الشيء نفسه عن «لاجارد» بعد ذلك)، وقام بتحرير مقالات الأرستقراطي الفرنسي غير
المنشورة، وأنشأ «أرشيف جوبينو» في «ستراسبورج»، والذي يضم أكثرَ من ستة آلاف كتاب
عن العرق ونظرياته. في سنة ١٨٩٤م اجتمع «شيمان» ومجموعة من المتحمِّسين للأفكار
ذاتها في مقر إقامته بجامعة «ستراسبورج» ليؤسِّسوا «جمعية جوبينو» وليجمعوا
الاشتراكات لإصدار ترجمة جديدة ﻟ «فصل المقال»، كما قدَّم أفكار «جوبينو» عن الآرية
العِرقية لرابطة «كل ألمانيا»، وهي جماعة قومية يمينية ضاغطة، شرعَت في توزيع نسخ من
«فصل المقال» على كل المكتبات الفرعية،
٦١ ورغم أن «جمعية جوبينو» لم يتحقق لها حجم عضوية كبير، (في سنة ١٩١٤م
كان عدد أعضائها الرسميِّين ٣٦٠ عضوًا) إلا أنها جذبَت انتباهَ السياسيِّين والمثقفين
الألمان، كما أصبحت تُمارس نفوذًا متفاوتًا على المسائل الثقافية، إلى جانب أنها
أعطت دفعةً عرقية جديدة للشعور القومي الألماني العام. «شيمان» و«الجوبينويون»
الجدد، سيُعلنون أنَّ ألمانيا، وألمانيا وحدها، هي التي تقف ضد التفسُّخ والانحلال
الثقافي والاجتماعي والعرقي لأوروبا الحديثة، وأنَّ الثقافة الشعبية الألمانية هي
البقية الباقية للشعوب الهندو جيرمانية الآرية، وأنَّ الألمان هم الذرية والورثة
الوحيدون. وكأعضاء في حلقة «بايريث»، كان «الجوبينويون» الجدد يعتبرون أوبرات
«فاجنر»، و«مجموعة الجرس»
Ring Cycle بخاصة، بعثًا
جديدًا للأساطير الآرية الأصلية، وأصبحت «بايريث» مهرجانًا سنويًّا يشارك فيه
الجيرمان الآريون ﺑ «طقوسهم البدائية»، ويعيدون اكتشاف أصول ثقافتهم
Kultur، ويعودون إلى الصحة الروحية.
٦٢ أصبحت قضية الاستعادة والتجدُّد حاسمةً بالنسبة «للجوبینوويين»، وعلى
أيدي «شيمان» وخليفته المؤثر «هوستون ستيورات تشمبرلين» حصلت خرافةُ «جوبينو» على
نهايتها السعيدة: الآريون الشقر، عريضو المناكب، الممتلئون بالحيوية … لا يضمحلون.
إنهم يصبحون «التيوتون»
Teutons، ذرية اليوم
للقبائل الجيرمانية القديمة، ولكن الثقافة الحديثة ظلَّت في أزمة بالطبع. خوف «لاجارد»
و«جوبينو» من أنَّ «كلَّ ما له قيمة يضمحل»، كان له تأثيره من الناحية النظرية
بحيث لا يمكن التغاضي عنه، على أنَّ عملية الاضمحلال وتدمير الروح في الحضارة
الحديثة يوجد لها الآن ترياق … وهو السعي وراء النقاء العرقي. كانت عملية تحويل
«جوبينو» إلى شخصية مركزية في البانثيون
٦٣⋆ الجيرماني تتطلَّب التمويه على بعض النواحي المزعجة. يأس «جوبینو» بالنسبة لوطنه الفرنسي،
لم يكن يُعادله سوى احتقاره الشديد لكلٍّ من ألمانيا وبروسيا. كان دائمًا يصوِّر الألمان
الجدد على أنهم «ماديون … برجوازيون … يفتقرون لروح
الدعابة.» مستخدمًا اللهجة الشاجبة القاسية ذاتها، التي سوف يستخدمها «نيتشة» فيما
بعد. فكرة أنَّ «ألمانيا ولهلم» كانت تعكس فضائلَ وحيويةَ الآريِّين القدامى، كانت فكرةً
سخيفة ومضحكة في رأيه، وهذا بالتحديد ما كان «شيمان» والمدافعون عن الآرية يجادلون
فيه.
٦٤ المعجبون ﺑ «جوبينو» من الألمان، ضيَّقوا كذلك منظوره التاريخي مسقطين
العواملَ النسبية النابعة من دراساته الاستشراقية. التراث الآري الآن، يخصُّ أوروبا
وحدها، بل أوروبا الغربية و«إسكاندينافيا» تحديدًا، حتى مصطلح: «آري»
Aryan، بالرغم من صلته الواضحة بالهند الفيدية، بدأ يحلُّ محلَّه مصطلحُ: «نورديك»
Nordic، أو «الإندوجیرمان»
Indo-German،
٦٥ وسوف يطرد كلٌّ من «شيمان»، و«وتشمبرلين» أفكارَ «جوبينو» الخاصة بالأصول الآرية لحضارات
الصين وما قبل كولمبوس، ويعتبرانها شطحات خيال. السلف الأعلى
للحضارة كانوا جميعًا — وبكل تأكيد — أوروبيِّين بيضًا … وألمانًا بالتحديد! وبينما
ظلَّت كتابات «شيمان» مقصورةً على جمهور قليل، (رغم تميزه) فإنَّ «هوستون ستيورات
تشمبرلين» وصل إلى جمهور أوسع، وكإنجليزي محب للألمانية ومتزوج من ابنة «فاجنر»،
أصبح «تشمبرلين» الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في دائرة «بايريث» و«الجوبينوويين» الجدد.
في سنة ۱۸۹۹م نشر «أسس القرن التاسع عشر»، وهو مسح عام وشامل للتاريخ الأوروبي،
يهدف كما قال إلى أن: «يجعل الماضي جزءًا من الحاضر»، كان دَيْنُه لكتاب «جوبينو»
«فصل المقال …» واضحًا وعميقًا، إلا أنَّ الاختلافات بينهما ترجح أوجه الشبه.
في «أسس القرن التاسع عشر»، الحضارة الأوروبية كلها من إنتاج الجنس الآري الذي يُعرف
اليوم ﺑ «التيوتون»، أو الألمان العرقيِّين الجدد … الآري غير الأصيل أسقط العجرفة
الأرستقراطية واستبعاد الآخرين وهي الأفكار التي يقول بها «جوبينو»، وبدلًا من ذلك،
فإنه يُفصح عن فضيلتَين بارزتَين، هما: «الحرية» و«الولاء»، بمعنى الولاء لنفسه مثلما
هو للآخرين، من خلال مقدرة طبيعية للحفاظ على هويته العِرقية واستقلاليته.
الشعوب الجيرمانية تظهر في نهاية الإمبراطورية الرومانية، مثل «سيجفريد» وهو
ينطلق في رحلته في أوبرا فاجنر
Götterdämmerung:
«ناشرين الصحة الجسمية والقوة والذكاء العظيم والخيال الخصب والدافع الذي لا يكلُّ
من أجل الإبداع، مشرقين بحيوية الشباب … أحرارًا، لديهم كل الصفات التي تؤهلهم
لأرقى منزلة.»
٦٦ كتب «تشمبرلين»: «الجنس التيوتوني دخل التاريخ كطفل، وليس كواحد من
البرابرة.» ولكنَّ ثقتَهم العليا وبراءتَهم البكر، كانت هي سببَ سقوطهم. «كل القوى
تحرَّكت لكي تخذلهم «مثل طفل يقع في أيدي مجموعة من الفاسقين».» الأوروبيون القدامى،
— اللاتين، الغال، إغريق البحر الأبيض، واليهود — تآمروا ضد القادمين الجدد …
الجيرمان، وعلى مر الزمن، خُدِع الغزاة بعناق أعدى أعدائهم، ولوَّثوا «دمهم النقي
بالاختلاط بالأجناس غير النقية من نسل العبيد.» ومع بداية «التنوير» واجه الدم
التيوتوني الأصلي للشعب الألماني الضعف والنسيان وحضارة أوروبية معلقة وغير
منجزة.
كان ذلك كله يبدو مألوفًا منذ «جوبينو»، ولكن «تشمبرلين» الآن يُدخِل عنصرًا
مفسدًا آخر: اليهود، الوغد الرئيسي وراء تدمير الحيوية التيوتونية. معاداة
«تشمبرلين» للسامية نبعَت من «فاجنر» ومن المفكرين الشعبيِّين
(
Volkish) مثل «لاجارد»، وليس من
«جوبينو»
٦٧⋆ كان
«فاجنر» مثل «کارل مارکس» يحتقر اليهود ويعتبرهم رموزًا للمجتمع التجاري.
القزم «ألبيريش» ذو الأنف المعقوف في «مجموعة الجرس» — أوبرا فاجنر — والذي كان
يتخلَّى عن الحب والجمال بسبب جشعه من أجل الذهب، أصبح هو الرمز الثابت لليهودي عدو
الطبيعة … عدو الروح.
لمسَت آراء «فاجز» وترًا ولقيَت استجابةً من أعضاء دائرته في «بايريث» (والغريب أنها
كانت تضم يهودًا كثيرين)، وأصبحت حجرَ الزاوية في النظرية العرقية «للجوبينوويين»
الجدد.
٦٨⋆
كان اليهود في رأْي «تشمبرلين» جنسًا آسيويًّا هجينًا، ومثل «فاشر لابوج»
Vacher Lapouge (وكان هو الآخر جوبينيًّا
متشائمًا)، عرف «تشمبرلين» الجنس اليهودي بأنه نتيجة هجين للتزاوج بين البدو
والحيثيِّين والسوريِّين والعموريِّين والآريِّين في الهلال الخصيب في العهد القديم،
وكما
يقول فإن «وجودهم جريمة في حق قوانين الحياة المقدسة». ونتيجة لذلك فهم نقيض Lebensgefuhl والحيوية، اليهود «وُلدوا عقلانيِّين … العنصر الخلَّاق … الحياة الجوانية الحقيقية
لا وجود لها فيهم.»
ومقارنةً ﺑ «حياة الآريِّين الدينية شديدة الثراء»،
٦٩ فإن عقيدة اليهود «صارمة»، «شحيحة»، «عقيمة» … وباختصار فإن اليهود
«بلا روح»،
٧٠ وهكذا أصبح اليهود بالنسبة للجوبينوويين الجيرمان الجدد، كما كان
الأوروبيون في تلك الأيام بالنسبة ﻟ «جوبينو»: «جنس ملوَّث مدرك للَّعنة التي
يحملها»، اليهود يعملون بوعي من أجل تلويث الحضارة التي بناها «التيوتون» الأرقى
منهم، الرأسمالية، والنزعة الإنسانية الليبرالية، والعلم العقيم «العلم اليهودي»
كما كان «تشمبرلين» يُطلق عليه (مشيرًا إلى «ألبرت أینشتاين»
Albert Einstein والمكونات الأخرى للنظرية
الجديدة للنسبية) كانت كلها أشكالًا من التلوُّث العرقي، والأدوات الجديدة التي
ينتقم بها اليهود. تاريخ أوروبا لم يعد دورة «جوبينو» … أي دورة للغزو والإفساد
وإعادة الغزو، ولكنه أصبح صراعَ قوة عنيفًا وغامضًا بين التيوتون الآريِّين، وأعدائهم
اليهود.
ويصف ناقد إنجليزي معاصر کتاب «تشمبرلين» بأنه «إلياذة الآريين ضد اليهود» وملحمة
شاملة للصراع العرقي، بها أبطال آريُّون رائعون؛ مثل «مارتن لوثر»
Martin Luther، و«دانتي»
Dante، و«يسوع المسيح» (الذي يُثبت تشمبرلين أنه
كان «آريًّا» وليس يهوديًّا)، ومجموعة متنوعة من الشخصيات الشريرة المعادية للآرية؛
مثل: «أجناتيوس ليولا»
Ignatius Loyola
(الباسكي
٧١⋆ المتفسِّخ مؤسس الجيزويت).
٧٢⋆
حيثما توجد القوة والحيوية والإبداع والابتكار، كما كان الأمر في مسيحية القرون
الوسطى أو في عصر النهضة، يمكن أن نجد أيضًا التيوتونية Teuotonism كقوة عِرقية تاريخية، وحيثما لا يوجد
سوى الآثار المشئومة للهيولية التاريخية والعِرقية أو اﻟ Volkerchaos يُعيدنا تفكير «تشمبرلين» إلى
الصورة التي رسمها «جوبينو» للتفسُّخ العِرقي في «فصل المقال»، والذي ينتهي «بالعجز
الكامل ويجرُّ المجتمع إلى هاوية العدم.» ومع ذلك يظل هناك في توصيف «تشمبرلين»
طريق افتدائية للهرب. الحضارة تنتهي بمرحلة أخيرة من التجدُّد، عملية داخلية لإعادة
الميلاد، تتحوَّل فيها طبيعة الإنسان الأساسية من الموت إلى الحياة. النقاء العرقي
مسألة استعادة للشباب تجدُّد شخصي، إلى جانب كونها عملية خلاص اجتماعي، وقد استطاع
«تشمبرلين» أن يَصِل إلى هذا الادِّعاء الكاسح؛ لأنه لم يَعُد يعرف العِرق على ضوء
الوراثة فقط. العرق قوة روحية أكثر منها فسيولوجية، «كل» معقد متداخل مكوَّن من
صفات جسمية وذهنية وحيوية. الانتماء إلى جنس يعني أن تمتلك «أسلوبًا خاصًّا في
التفكير والشعور». لكي يكون الإنسان يهوديًّا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن يُولد
يهوديًّا: «من الضروري فقط أن تكون هناك تعاملات متكررة مع اليهود، أن يقرأ الصحف
اليهودية، أن يعتاد الفلسفة والأدب والفن اليهودي»، ويستنتج «تشمبرلين» أنه بوجود
هذه الإمكانيات للتلوث الثقافي «يُصبح من حقِّنا ومن واجبنا أن نتخذ — دون أي عداء
— الاحتياطات الحاسمة ضد شخص مغاير … خطر كهذا.»
«حيث لا يدور الصراع «بين الأجناس» بقذائف المدافع، فإنه يمضي في صمت أو
في قلب المجتمع عن طريق الزيجات … بواسطة قوى المجتمع المتنوعة في مختلف
أنواع البشر، بانتقال الثروة، بميلاد مؤثرات جديدة واختفاء غيرها، ولكن هذا
الصراع رغم أنه صامت، إلا أنه صراع حياة أو موت قبل كل شيء …»
٧٣
وفي سنة ۱۹۲۷م التقى «تشمبرلين» بالرجل الذي سيتولَّى أمر صراع الحياة أو الموت،
«أدولف هتلر». كان قد تربَّى على النمط النمسوي للجرمانية، والذي كان معاديًا لليهود
تمامًا، إلى جانب معارضته للإكليروس، إلا أنه في الوقت الذي كان «هتلر» فيه في
النمسا، كانت «الجوبينووية» الجديدة تكتسح العالم الناطق بالألمانية. كان كتاب
«تشمبرلين»: «أسس القرن التاسع عشر» جزءًا من منهج دراسة مادة التاريخ في المدارس
البروسية، بينما كانت «جمعية جوبينو» تعمل على توزيع نسخ من كتاب «جوبينو»:
«النهضة» على الجنود الألمان — مثل الجندي الشاب هتلر — وهم في طريقهم إلى ميادين
القتال في الحرب العالمية الأولى،
٧٤ ولا يبدو أن «هتلر» كان قد قرأ شيئًا ﻟ «جوبينو» حينذاك أو بعد ذلك،
إلا أنه بعد أن عاد من الحرب، التقى بكلٍّ من «ألفريد روزنبرج»
Alfred
Rosenberg، و«ديترتش إيكهارت»
Dietrich
Eckhart اللذَين عرَّفاه على أفكار «تشمبرلين» وغيرها من
الأفكار الآرية العرقية.
وأثناء وجود «هتلر» في سجن «لاندزبرج»، بعد محاولة
Putsch في سنة ۱۹۲۳م، كانت «الجوبينووية» قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من نظرته للعالم. في كتابه
«كفاحي»
Mein Kampf يقرُّ «هتلر» صراحةً أن «كلَّ الثقافة والفن والحضارة كانت من إنجازات الجنس الآري الحامل
للثقافة»، وبإقراره أن «جميع ثقافات الماضي قد اختفت؛ لأن الجنس الخلَّاق الأصلي مات
بسبب تلوث الدم» إنما يضع يده على الروح
الأصلية في تشاؤمية «جوبينو» العرقية،
٧٥ ومع ذلك، كان «هتلر» يشارك «تشمبرلين» أيضًا في أمل الافتداء على
طريقة «فاجنر». ألمانيا يمكن أن تحقِّق قدرًا عرقيًّا جديدًا من خلال نقاء الدم
وإعادة الشباب لروحها الجمعية وتجديدها. وأصبح ذلك هدف «هتلر»، ووعد «الجوبينووية»
الجديدة للحركة النازية. في ۱۹۲۷م سيلتقي «هتلر» أخيرًا بمعلِّمه الفكري الجديد
وجهًا لوجه … «هوستون تشمبرلين»، يصف «جوزيف جوبلز»
Joseph Goebbels — كشاهد عيان — ما حدث … «كان مشهدًا بالغ التأثير». كان الرجل العجوز، قعيدًا … مشلولًا
في كرسيِّه المتحرك بسبب سكتة دماغية منذ ثلاثة
عشر عامًا، يقبض على يد «هتلر» بشدَّة، و«هتلر» يُخاطبه ﺑ «أبي الروحي».
٧٦ بعد أيام قليلة، كان «تشمبرلين» يكتب إلى «هتلر»: «لقد غيَّرت حالتي
الروحية بضربة واحدة … أن تُنجب ألمانيا «هتلر» في لحظة الحاجة … فذلك دليل على
حيويتها. والآن أستطيع أن أنام في سلام … لن أكون في حاجة لأن أستيقظ مرة أخرى،
حفظك الله.»
لم يعِش «تشمبرلين» حتى يرى «هتلر» وهو يصعد إلى السُّلطة، ولكن «لودفيج شيمان»
أدركه، ويوم عيد ميلاده الخامس والثمانين سيتسلَّم أكبر جائزة أدبية في ألمانيا …
سيتسلَّم «وسام جوته» من الرايخ الثالث.