كانت المدينة ما زالت تحكمها عائلاتُ النبلاء القديمة مثل عائلة «بوركهارت» التي
كان
أبناؤها يخدمون في كنائسها كأساقفة وقساوسة وأساتذة في جامعاتها (الأقدم في سويسرا) منذ
القرن السادس عشر. «جاكوب بوركهارت» نشأ في عالم منظَّم من القيم الدينية؛ حيث تراث من
العمل الذهني والروحاني ينتقل من جيل إلى جيل. وكان لا بد أن يصدِّق «بوركهارت» الصغير
ملاحظة
«إدموند بيرك»
Edmund Burke «أنَّ هناك قانونًا يجعل الأشياءَ ثابتةً متماسكة في مكانها، قانون مصنوع من أجلنا ونحن
مصنوعون له.» كان
الجميع يتوقَّعون أن يتبع «جاكوب» أباه وجدَّه في الكهنوت، إلا أنَّ اللاهوت
البروتستانتي كان في حالة احتدام في كل مكان. كانت الأفكار «اللوثرية»، و«الكالفنية»
القديمة الجامدة تحت حصار التنوير بتأكيده على العلمانية وما يُسمَّى بالنقد
الأعلى
٢⋆ في الدراسات التوراتية. الدرس الدقيق للعهدين القديم والجديد كشف عن ثغرات
ضخمة وعدم تماسك منطقي في النصوص، بما يُضعف الادِّعاء أنَّ الإنجيل كان هو كلمة الرب
حرفيًّا. ولقد أفتى «النقد العالي» بأن «الإنجيل» — على أية حال — يعتبر وثيقةً تاريخية
مثل أي نص قديم، وأنه عرضة لحرِّية التأويل نفسها. وفي سنة ١٨٣٥م، نشر «ديفيد شتراوس»
David Strauss — ناقد في جامعة «توبنجن» — كتابَه المثير للجدل «حياة يسوع» ليقول إنَّ كل ما جاء في
أناجيل العهد الجديد الأربعة نسيجٌ من
الخرافة والأسطورة، مثلها مثل الأساطير المؤسسة للديانات الأخرى. وبعد هذه الطرقات
الثقيلة، فقدَ «بوركهارت» إيمانَه بالمسيحية ولم يستعِدْه.
٣⋆ لم
يُصبح «بوركهارت» ملحدًا أو «لا أدريًّا»
Agnostic، لم يتخلَّ عن اعتقاده بوجود إله، ولكنه احتفظ بفقدان إيمانه سرًّا عن والدَيه حتى موتهما،
وبدلًا من ذلك، أصبح واحدًا من جماعة — يتزايد عددها — بين مثقَّفي الجامعة في القرن
التاسع عشر، وجدوا أنهم لا يستطيعون مواصلةَ إيمانهم بالمسيحية (أو اليهودية) كنظام
لحقيقة موحًى بها، كان من بين هؤلاء: «ماثيو أرنولد»
Matthew
Arnold، و«إميل دوركايم»
Emile
Durkheim (كان أبوه حاخامًا)، و«سورن كير كجارد»
Soren Kierkegaard، و«فريدريك نيتشة»
Friedrich Nietzsche، و«ولهلم ديلثي»
Wilhelm Dilthey … وبعد ذلك بفترة … «مارتن هيدجر»
Martin Heidgger.
كان انهيار اليقين الديني والمعنوي لهؤلاء وغيرهم في فترة الصبا، تجربة ممزَّقة،
جعلَتهم يبحثون عن أفكار جديدة يتعلَّقون بها. سيجد بعضهم ذلك في فلسفة «هيجل»
Hegel، و«كنت»
Kant، كما سيتحول آخرون فيما بعد إلى «كارل ماركس» Karl Marx، بينما سيجد غيرهم تلك الأفكار الجديدة في
المعارف الأكاديمية السائدة في الجامعة الحديثة، وبمعنًى آخر يبحثون عن إيمان منطقي أو
حتى علمي ليحلَّ محلَّ ذلك الموحَى به من عند الله. بالنسبة ﻟ «إميل دوركايم» كان ذلك
هو
علم الاجتماع، وبالنسبة ﻟ «فردريك نيتشة» كان فقه اللغة
(philology)، أو الدراسة الموسَّعة لليونانية
واللاتينية طبقًا لمبادئ علمية صارمة، أما بالنسبة للشاب «جاكوب بوركهارت»، فقد أصبح
الطريق البديل نحو الحقيقة، هو دراسة التاريخ.
في سنة ۱۸۳۸ شدَّ الرحال إلى جامعة «برلين»؛ حيث كان أستاذان هما «تيودور درويسن»
Theodor Droysen، و«لیوبولد فون رانكه»
Leopold von Ranke يُعيدان تشكيل الدراسات
التاريخية. كان «بوركهارت» مفتونًا بذلك. كتب: «أكتشفُ كل يوم في مسار عملي مصادر جديدة
للعظمة والجمال، وكلِّي عزم بالفعل أن أكرِّس حياتي لذلك.» كان أساتذته يمثلون تناقضًا
حادًّا في الأسلوب ووجهات النظر. كان «درويسن» نموذجًا للمؤرِّخ «التقدمي» في زمنه،
وكان يرى أنَّ التاريخ الأوروبي هو قصة ظهور الدولة-الأمة
Nation-State والحرية السياسية. ومثل «هيجل» كان «درويسن» يرى أنَّ التاريخ عملية يتم بواسطتها التصالح
في النهاية — ونهائيًّا — بين الطموح الإنساني
والقَدَر داخل الدولة. «يد الله هي التي توجِّه الأحداثَ كبيرَها وصغيرها، وليس لعلم
التاريخ من واجب سوى تبرير هذا الإيمان … والاعتقاد بوطن الأسلاف.» كان «درويسن»
نموذجًا لذلك النوع من المؤرخين الذين كَرِههم «بوركهارت» فيما بعد؛ فقد كان واحدًا من
الذين يفترضون باعتداد أنَّ «زماننا هو أوج كل الأزمنة … (و) أنَّ الماضي كلَّه يمكن
اعتباره متحققًا فينا.» كما كان يعتبر ذلك خلاصةَ التقدم الإنساني.
٤ أما «رانكه» فكان حالةً مختلفة، كان يرى أن الانحياز أو التركيز العقلي على
الحاضر هو الخطيئة الأساسية للكتابة التاريخية، وهو يرفض فكرةَ التقدم الخطي، أو
القوانين التاريخية من أيِّ نوع سواء بمفهوم «هيجل» أو «كونت»
Comte، أو الوضعيِّين
Positivists (كان شكوكيًّا بالنسبة للمشروعات
الفلسفية الكبرى التي تحاول أن تفرض هدفًا كبيرًا وتوجُّهًا على الماضي الإنساني، وكان
يفهم الفرق بين ادِّعاء رؤية «نموذج» في الأحداث الماضية وادِّعاء اكتشاف «قانون»
أساسي. وبدلًا من البحث عن قوانين — كما يقول — فإن واجب المؤرخ هو كشف الماضي «كما حدث
بالفعل»
Wie es eigentlich gewesen ist، وقد أصبحت هذه
العبارة هي الشعار المميِّز «للرانكية» أو المدرسة الألمانية في التاريخ).
٥ ويضيف «رانكه» أنَّ القضية الوحيدة المهمة في دراسة التاريخ «ليست هي
تقدُّم الحضارة … تلك القضية الملتبسة دائمًا … حيث إنَّ هناك قوًى — وهي قوى روحانية
بحق — خلَّاقة، ليست الحياة فحسب، هناك طاقات معنوية نرى تطوُّرها … في تفاعلها
وتتابعها، في حياتها، في انهيارها وتجددها. يوجد سرُّ تاريخ العالم.»
٦ كما كان «رانكه» يعتقد أنَّ ميدان السياسة هو الميدان الذي يمكن أن يجد فيه
المؤرخون أوضحَ تداخُل لكل تلك القوي الخلَّاقة. ومن جانب آخر، كان يُكِنُّ احتقارًا
شديدًا
للباحثين والدارسين الذين يسمحون للقضايا والتوجُّهات السياسية المعاصرة أن تُشوِّه
كتاباتهم التاريخية. كان «رانكه» محافظًا، وكمؤرخ فإنه يشعر بالتعاطف مع آمال الرجال
الذين قاموا بالثورة الفرنسية، كما كان بروتستانتيًّا يستطيع أن يفهم طموحات ومخاوف
بابوية العصور الوسطى.
٧⋆ ويرى أن وظيفة المؤرخ هي تأمُّل الماضي وتحليله وليس الحكم عليه، وقد ترك هذا الاقتناعُ
أثرًا كبيرًا على «بوركهارت» الشاب، الذي سيقول فيما بعد إنَّ المؤرخين ضروريُّون لكي
يجدوا
«نقطة أرشميديسية» خارج الأحداث، «وإنَّ التاريخ لا بد أن يُكتَب «بروح التأمل»، وليس
بروح
المواجهة.» إلا أنَّ «رانكه» و«بوركهارت» يتفقان أيضًا على أنَّ البشر يكشفون عن الشخصية
ذاتها بصرف النظر عن المكانة أو الثقافة. المؤرخ يجد في كل زمن عدمَ الاستعداد نفسه
لترك العقل يقود العواطف، والخلط المضطرب نفسه بين الآمال والمخاوف. أبحاث «رانكه»
ودراساتُه أقنعَته بأن الدين والسياسة يقدِّمان الأساليب الضرورية للاعتقاد والنظام
اللذَين يُمكِّنان الناس من إيجاد الترابط والتوازن المستقر في حياتهم المشتركة من خلال
مؤسسات محدَّدة بزمانهم ومكانهم. كان على المؤرخ أن يُدرك أنَّ قدر الإنسان التاريخي
له
عدة أوجه وليس وجهًا واحدًا. «هذه المجتمعات العديدة المنفصلة، الأرضية-الروحية،
٨ التي تستدعيها الطاقةُ المعنوية، وعدم المقاومة المستمر كلٌّ على طريقته،
انظر إليها، تلك الكيانات السماوية، في دورانها، في جاذبيتها المتبادلة، في
نظامها.»
٩
أثناء إقامته في «برلين»، كان «بوركهارت» مؤيِّدًا متحمسًا للقومية الألمانية، إلا
أنَّ موجة العنف السياسي والفوران الديمقراطي التي ضربَت مدينته الأثيرة «بازل» والأقاليم
السويسرية الأخرى في الأربعينيات، والكارثة الأوروبية في سنة ١٨٤٨م عكسَت حماسه الباكر.
واحد من أقرب أصدقائه وهو «جوتفريد كينكل»
Gottfried
Kinkel، حُوكِم وأُعدِم في أعقاب الثورة الألمانية. انقلب حزنُ
«بوركهارت» إلى كراهية واشمئزاز من المثاليَّة الرومانتيكية التي أوصلَته هو وأوروبا
إلى
حافة الكارثة، فكتب لأحد أصدقائه الألمان يقول: «لقد تركت النشاط السياسي إلى الأبد،
وسئمت العالم الحديث، أريد أن أهرب منهم جميعًا: الراديكاليون، الشيوعيون، الصناعيون،
المتعلمون، شديدو الحساسية، المقلِّدون، التجريديون، المؤيدون للأحكام المطلقة،
الفلاسفة، المتصوِّفة، المتعصِّبون للدولة، المثاليون … إلخ».
١٣ أما بالنسبة ﻟ «جوبينو»، فإن فجر الحداثة العنيف كان شيئًا قد حدث لجيل
والده أثناء الثورة الفرنسية، شيئًا كالأسطورة، مثل سقوط «آدم» من النعمة الإلهية.
«بوركهارت» مرَّ بهذه السقطة مباشرةً وشخصيًّا. العالم المستقر الآمن الذي يعرفه تغيَّر
بشكل مرعب أمام عينَيه وتركه خائفًا متحررًا من الوهم. كتب إلى صديق له: «ليس لديَّ أمل
في
المستقبل بالمرة … ربما تكون هناك عدةُ عقود قليلة يمكن تحمُّلها، نوع من الزمن
الروماني الإمبراطوري.»
١٤ انسحب «بوركهارت» إلى عزلةٍ أشبهَ بعزلة النُّسَّاك، واجدًا له ملجأً في حبِّه
للتاريخ والفن. قام برحلة إلى إيطاليا أنعشَت روحه حيث أبهجَته روائع «مايكل أنجلو»،
و«رافائيل»، و«تيتيان»، وعاد ليكتب كتابًا عن الثقافة الفنية لإيطاليا
The Cicerone — الدليل السياحي — وليقبل منصبًا في جامعة «بازل» … أستاذًا للتاريخ. لم يبرح مدينته
الأم منذ عام ١٨٨٥م حتى موته بعد
ذلك بأربع وثلاثين سنة إلا لتمضية إجازات في إيطاليا التي يحبها. كان يعيش حياةً هادئة
ويرتدي حُلَّةً سوداء متواضعة، اشتعل شعرُه شيبًا قبل الأوان، وكان من السهل أن تظنَّه
قسيسًا، الأمر الذي كان يمكن أن يحدث له لو لم يفقد إيمانه الديني، حتى عندما ذاعَت
شهرتُه كمؤرخ، كان يرفض أن يقوم بأي مغامرة في الخارج. وفي سنة ۱۸۷۱م عرضَت عليه جامعة
«برلين» كرسيَّ التاريخ الذي كان يشغله أستاذه المحبوب «ليوبولد فون رانكه»، ولكنه رفض
العرض.
١٥ في برجه العاجي، مكتبته، محاطًا بكُتُبه ومخطوطاته، كان «بوركهارت» يحاول أن
يضع أحداث ١٨٤٨م في الإطار التاريخي الأوسع للحضارة الأوروبية، ومثل «جوبينو» و«توكفيل»،
وكثيرين غيرهما، كان «بوركهارت» يعتقد أنَّ الثورات وردود الأفعال العنيفة
للطبقة الوسطى، علامات على ظهور بربرية جديدة، ولكنه اختلف أيضًا مع بعض أتباع المذهب
الحيوي
Vitalism١٦⋆ مثل «جوبينو»، والمؤرخ السويسري الرومانسي «إيرنست فون لاسال»
Ernest von Lasaulx، اللذَين كانا يحاولان التمييز بين بربرية «قديمة» تُعبِّر عن أجناس حيوية وسائدة، مثل
القبائل الجيرمانية والفايكنج، ونوع آخر «حديث» أو متفسِّخ استنفدَت فيه قوة الحياة نفسها.
كان «بوركهارت» يعتقد أنَّ حيوية شعب أو جنس لا تقرِّر صحة المجتمع وإنما العكس؛ فالشعب
البدائي يمكن أن يكون ضعيفًا وعقيمًا مثل نظيره الحديث. المهم هو حالة النظام الاجتماعي
الأكبر: إذا كان في حالةِ نموٍّ وتطوُّر، أو كان قد وصل إلى نضج أكثر مما ينبغي مع ما
يصاحب ذلك من «تفسُّخ
داخلي ونقصان في الحيوية.» الأمر الذي يميِّز نهاية القديم وبداية الجديد. كان
«بوركهارت» يقول إنَّ كل المجتمعات والحضارات عبارة عن توازن ديناميكي بين ثلاثة عناصر
أو ثلاث قوًى اجتماعية؛ اثنتان أخذهما من «رانكه»، وهما: الدين والدولة، والثالثة هي:
الثقافة (أو ما يسمِّيه التنوير: نمط السلوك)، «تلك العملية التي يتحوَّل بها النشاط
التلقائي أو الغافل لجنس أو أمَّة ما إلى فعل محسوب». كل عنصر يتبع مسار «النمو
والازدهار والانحلال»، كما تأتي وتذهب الجماعات والكيانات الاجتماعية الجديدة. «وخلال
عصور الحضارة العالية، تتواجد العناصر الثلاثة في الوقت نفسه في جميع مستويات التفاعل
المتبادل»، ومع ذلك فهي عندما تتصادم أو تتصارع مع بعضها «تُنتج أزمة في جميع الأحوال»
تؤثِّر على كل الناس وكل التجمعات. تاريخ «بوركهارت» لا يقدِّم لنا تفاعلًا سلسًا
ومتدرِّجًا للقوى والتحرُّكات الإنسانية، وإنما بتوتُّر بين العناصر الثلاثة يعبِّر عنه
«بأزمات دورية». وفي الأزمة «تتسارع العملية التاريخية فجأةً بشكل مرعب، والتطوُّرات
التي كان يمكن أن تأخذ قرونًا تمرُّ بسرعة كالشبح في أشهر أو أسابيع ويتمُّ
تحقُّقها.»
١٧ كان سقوط الإمبراطورية الرومانية أزمةً من تلك الأزمات. في أوَّل عمل
تاريخي موسَّع له «عصر قسطنطين الأكبر» ١٨٥٢م، أوضح «بوركهارت» أن قوة الدولة
الإمبراطورية الرومانية قد اتَّسعت على حساب مؤسسات اجتماعية أخرى لدرجة أنَّ الحضارة
نفسها تمزَّقت. ويقول إنَّ الغزوات البربرية لم تُسبِّب سقوط الإمبراطورية الرومانية،
ولكنها فقط فاقمَت أزمةً كانت في طور التكون في المجتمع الروماني نفسه؛ فقد اقتحم الجرمان
«الممتلئون شبابًا وحيوية» حدودَ إمبراطورية قابلة للاختراق، وحثَّت مجموعة من الأباطرة
العسكريِّين على الاستيلاء على السلطة، أولئك الأباطرة وفيالقهم، وليست القبائل
الجرمانية، هي التي دمَّرت الحياة المدنية للعالم القديم، وهي تحاول أن تدعم سلطانها
العظيم الذي كان في حالة وهن. ونتيجة لذلك، ظهرَت قوة أخرى، هي قوة الدين، لكي تحلَّ
محلَّ الدولة. وعندما أساءت الكنيسة الكاثوليكية استخدامَ سلطتها وأفقدَت النظام توازنه
مرة أخرى كانت النتيجة هي حركة الإصلاح
Reformation، وظهرت قوة تاريخية جديدة هي قوة الدولة، لكي تقوِّض قوة الكنيسة، حينئذٍ كان «بوركهارت»
مقتنعًا بأن الحضارة الأوروبية كانت تمرُّ بأزمة مشابهة، وهي أزمة ثقافية هذه المرة؛
حيث إنَّ الحركات والمُثُل القومية التي أطلق القرن التاسع عشر عنانَها قد حطَّمت مستقبلها
بنفسها.
«بوركهارت»: الديمقراطية، والفردانية، والأزمة الأوروبية
الديمقراطية الحديثة هي إحدى القوى المدمِّرة لنفسها كما يعتقد «بوركهارت»،
الثورة الفرنسية أرسَت المبدأ الذي يقول إنَّ: «حكم الشعب هو الصيغة الشرعية الوحيدة
للسلطة السياسية.» وفي رأيه أنَّ هذا المبدأ قام بعملية تنبيه أشبه بالصدمة
الكهربائية للجماهير العريضة، العامة والجاهلة، من المدينة والريف، على شكل رأي عام
وجعلها جزءًا من النسيج السياسي للدولة (كما كان يحدث للطبقة العاملة في مدينته
المفضَّلة «بازل»)، ولكن ذلك زاد أيضًا من الاستياء الاجتماعي والمطالبة بالمساواة
الاجتماعية والاقتصادية. أصبح الناس يأملون في أن يجدوا الخلاص في هدم وإعادة بناء
التركيبة الاجتماعية كلها باسم «التقدم والإصلاح»، وهذا هو الذي أطلق الثورات
والتمرُّدات الراديكالية والاشتراكية في عام ١٨٤٨م، وفي النهاية فإن المؤسسات
السياسية والسياسيِّين عرفوا كيف يرضخون، وكما كتب في سنة ۱۸۷۳م، «فإن رجال الدولة
لم يعودوا يرغبون في مقارعة الديمقراطية، وإنما في أن يحسبوا لها حسابها الخاص على
نحوٍ أو آخر، ويستخدمون قوتها المخيفة لأغراضهم الخاصة»، إلا أنَّ الحاجة لتدمير
القديم تظل موجودة. وفي النهاية يعتقد الناس أنه إذا كانت سلطة الدولة بكاملها في
أيديهم، فإن بإمكانهم تشكيلَ وجود جديد. الجماهير تضمُّ قوتها إلى جانب القوة
الديناميكية لمجتمع «البيزنس» الكبير، مجتمع التجارة والصناعة والتعطُّش «للتملُّك
وكسب المال». «البيزنس» يتَّجه نحو سلطة الدولة لحماية وتوسيع مصالحه، بينما تريد
الجماهير من الدولة أن تقدِّم لها الامتيازات التي لا يستطيعون تحقيقها بأنفسهم. من
هذين الضغطَين المتلازمَين، تظهر الدولة الحديثة كاملة القوة، جنبًا إلى جنب مع
مستخدمي سلطتها الجدد. كان «بوركهارت» يرى في «نابليون الثالث» في فرنسا نموذجًا
لحكام المستقبل الذين يبسطون
١٨ الأمور على نحو رهيب، وللطُّغاة العسكريِّين وأتباعهم الذين يختزلون
الكيان المعقَّد الهش للتجربة الإنسانية إلى حقيقة واحدة هي السلطة،
١٩ الجماهير تتعلَّم أن تُذعن. كتب ساخرًا «إنهم يريدون سلامهم وأجرهم،
وسوف يقبلون ذلك من أي صيغة سياسية تقدِّمها لهم حتى ولو كان ذلك يعني» عبودية
طوعية طويلة «لدكتاتورية وحشية».
وبالطبع فإن النتيجة التي توصَّل إليها «بوركهارت»، وهي أنَّ الديمقراطية تُخلي
مكانها حتمًا للديكتاتورية، كانت نتيجةً قديمة قِدَم «أفلاطون» و«أرسطو»، ولكنه أضاف
إلى ذلك النقد المضاد للديمقراطية خوفًا جديدًا، والذي سيكون حجرَ الأساس لكل النقد
التالي الذي سيوجَّه ﻟ «مجتمع الجماهير»: إنَّ حكم الشعب يُهدِّد الحياة الثقافية
للمجتمع ككل، ويفسر ذلك بقوله: «الشيء الجديد الحاسم الذي برز في العالم عن طريق
الثورة الفرنسية، هو الإذن والإرادة لتغيير الأشياء»؛ وذلك لمجرد أنَّ الجماهير ترغب
في ذلك، الواحد من العامة يستخدم سطوته السياسية ليضع خاتمه المتواضع على كل
الأنشطة السياسية لأنه الآن يحدِّد أولويات المجتمع، وقد كان ذلك هو الاستبداد
الحقيقي الذي صنعَته الثورة الفرنسية كما يظن، أو «إطلاق سراح الأنانية … جميع
الرغبات». كان «بوركهارت» يرى أن أحداث ١٨٤٨م وظهور القومية الذي تلا ذلك، برهانًا
على هذا التوجُّه الأكبر: الاستبداد الديمقراطي الجديد؛ سيُصلح نموذجًا لكافة صور
الاستبداد … وإلى الأبد.» وكان يؤكد: «لا بد أن يخضع الديمقراطيون والبروليتاريا
لاستبداد يزداد ضراوة.» لأنَّ فسادهم الفكري والأخلاقي «يجرُّ كلَّ جحيم الطبيعة
الإنسانية»، وعندما تنهار القواعد الفكرية والأخلاقية، وتقوم طبقة منبثقة من
البيروقراط بانتزاع كل الحرية والاستقلال الذاتي، يصبح المجتمع عاجزًا عن التصدِّي
لأصحاب السلطة العسكرية الجديدة. المجتمع كما تنبَّأ «بوركهارت»، لا بد أن يصبح
«مصنعًا عسكريًّا واحدًا كبيرًا، والجماهير تُجنَّد في جيوش ضخمة مدمرة، وحُكَّامه
يتعاملون مع الموت الكبير كما تتعامل الصناعة مع الإنتاج الكبير، وصحافته مع
الدعاية الكبيرة.»
٢٠ لم يكن «بوركهارت» أوَّل نبي للدولة الشمولية والمجتمع العسكري
الصناعي فقط، كان يَصِف انتصار ثقافة جماهيرية منحطة يمكن أن تسود المجتمع أيضًا، هذه
الثقافة تُخلخل استقرار النظام الاجتماعي بما فيه من توازن تقليدي وعضوي بين مؤسساته
وقِيَمه. كانت الديمقراطية الحديثة تدمِّر حضارةً أوروبية، وهي حضارة متفسِّخة في نظره
فقدَت مبررَ وجودها. ولكن الديمقراطية كانت عاجزةً عن إنتاج بديل بنَّاء، وكان ذلك
فعلًا، «بربرية سلبية ومدمرة تمامًا». في الديمقراطية، يتعلَّم الناس أن يرفضوا
دورهم المحدد لهم كأجزاء من كل منتظم، والمجاهدة الفردية تساعد على حلِّ نسيج
المجتمع والثقافة. الإنسان الحديث يريد أن يكسر القواعد، بينما الحرية الحقيقية عند
«بوركهارت» هي الرغبة في العيش بداخل تلك القواعد، تمامًا كما فعل «بوركهارت» نفسه —
وعائلته من قبله لعدة أجيال — في «بازل». وبالرغم من ذلك، وهو أمر مضحك، كما اضطرَّ
«بوركهارت» للاعتراف، فإن تلك الرغبةَ في كسر القواعد قد أنتجت كذلك إحدى النقاط
العالية في الحضارة الأوروبية: عصر النهضة، وقد كشف كتابُه «حضارة النهضة في
إيطاليا» ١٨٥٩م كيف «أصبح الإنسان لأوَّل مرة — في عصر النهضة — فردًا روحانيًّا
وكيف أدرك نفسه هكذا»، وكانت النتيجة هي التحرُّر الفوري للنشاط الإنساني من أَسْر
مُثُل وقِيَم العصور الوسطى وتقديم قوة دافعة جديدة للعصر الحديث. وكان لهذا التحرُّر
نتائجُ إيجابية «الأعمال الفنية العظيمة، إعادة اكتشاف قِيَم اليونان وروما القديمة،
وشغف شديد بالحرية السياسية، وقد أرسَت النهضة —
Renaissance — المبدأ الحديث، وهو أنَّ المهم هو
الإنجاز وليس الميلاد.» في عصر النهضة، كما هو في العصر الحديث «الموهبة والجراءة
يربحان الجوائز الكبرى»، ولكن «النهضة» أظهرَت أيضًا الجانب السلبي في الفردانية.
بيد أن «بوركهارت» لم يكن مفرطًا في إعجابه ﺑ «النهضة». كان شخصيًّا يفضِّل العصور
الوسطى بما فيها من حسٍّ بالوحدة العضوية والروحانية المشتركة،
٢١⋆ وكما يعتقد، فإن «النهضة» هي التي أطلقَت عنانَ العبادة المخجلة للسلطة. كتب: «لأول
مرة نكتشف الروح السياسية الحديثة لأوروبا … والتي تُعبِّر دائمًا عن أسوأ الملامح الأنانية
بلا قيود، تغتصب كلَّ حقٍّ وتقتل كلَّ خلية حية في ثقافة أكثر صحة.» حُكَّام مثل «آل
بورجيا»، أسقطوا إحساسهم بالمسئولية الأخلاقية؛ «حيث تكون الفردانية من أيِّ نوع قد تحقَّقت
في أعلى تطوُّر لها، نجد ملامحَ من هذا الشر النموذجي المطلق يسعد بجرائم
لذاتها.»
٢٢ نهضة «مايكل أنجلو» كانت أيضًا «نهضة» «ميكيافيللي»، وهذا هو الطيف
الأسود الذي يُطارد أو يتَّبع «حضارة النهضة في إيطاليا»، وفي أوروبا الحديثة أيضًا،
كما كان «بوركهارت» يعتقد. كان الكتاب «طفل ندامة» كما أخبر أحد أصدقائه. ومع ذلك
لم يجد «بوركهارت» إجابةً عن سؤال مهم: ماذا لو كان جانِبَا الفردانية: فضيلتها
الخلاقة وشرها المدمر، جوادان في الشيء نفسه؟ عند «جوبينو»، هذا السؤال غير قائم
بالنسبة للنهضة، الدم يقول كل شيء: حيث نجد بعض الأفعال التي قد تبدو قاسيةً ووحشية
في نخبة عِرقية، نجد الحيوية والصحة أيضًا. «واصِل طريقك إلى الأمام، افعل ما تحب،
هكذا ببساطة، ما دام يخدم مصالحك، دَعِ الضعف وسفاسف الأمور للعقول الصغيرة
والرِّعاع.»
٢٣ «بوركهارت» لم يستطع أن يقبل خلاصة قاسية كتلك؛ فبالرغم من تشاؤمه
التاريخي ظلَّ مثلَ «توكفيل» وريثًا لعصر التنوير إلى حدٍّ كبير. كان مقتنعًا بأن
التمييز بين الخير والشر يجب أن يكون شيئًا أكبر من مجرد نزوة شخصية، وأن ذلك يجب
أن يظهر إلى حدٍّ ما في طبيعة الإنسان الداخلية، ولكن إذا لم تكن الحضارة والتقدم
يدمران طبيعةَ الإنسان الأخلاقية كما كان «روسو» والرومانتيكيون يقولون، فإن
«بوركهارت» يوافق على أنهما لم يفعلا شيئًا من أجلها أيضًا.
٢٤ مرة أخرى، المجتمعات والدول موجودة لتحقيق أهدافها ككيانات جماعية،
وهي تقف بمعزل فوق المسائل الأخلاقية التي أغاظَت أعضاءها كأفراد، فأين يكمن الفرق
بين الخير والشر إن كان هناك أيُّ فرق إذن؟ سؤال لم يُجِب عنه «بوركهارت» ولم يواجهه
أصلًا في أعماله، زميله الصغير «نيتشة»، هو الذي سيتابع المسألة حتى
النهاية.
«نيتشة» Nietzsche، و«شوبنهاور»
Schopenhauer، و«فاجنر» Wagner
كانت قاطرة السكة الحديد، إحدى الصور المفضلة لدى «بوركهارت» كرمزٍ للحياة الحديثة
الزاحفة. في سنة ١٨٤٤م تم افتتاح أول خط في «بازل» ليصل المدينة ببرلين وبقية
ألمانيا، وفي ١٩ أبريل ١٨٦٩م جاء القطار القادم من «برلين» وعلى متنه أستاذ جديد
في «الفيلولوجيا» ليعمل في جامعة «بازل» وهو «فردريك نيتشة» عبقرية في الرابعة
والعشرين من العمر. عندما هبط من القطار كان «نيتشة» يبدو شخصًا غيرَ جذَّاب، حُلَّة
رثَّة ونظَّارة طبية سميكة، وسلوك حيي، كان لا يُشبه أبدًا رجلًا على وشك أن يُطلق
ثورةً تهزُّ أوروبا، وربما على نحوٍ أعمق مما صنعَته أحداث ١٨٤٨م، ولكنها كانت — على
أية حال — ثورة في العقل وليست في الشارع.
ومثل والد «بوركهارت»، كان والد «نيتشة» قسيسًا لوثريًّا. مات و«نيتشة» في الخامسة،
سنوات تكوين «نيتشة» كمفكر سوف تحتوي على سلسلة من العلاقات الواسعة مع مجموعة من
الآباء المتميزين، ولكنها كانت علاقاتٍ متكافئةَ الأضداد.
٢٥ كانت العائلة قد توقَّعت أن يتبع «فردريك» الانسحابي دودة الكتب، خطوات
أبيه ويدخل الكهنوت، درس اليونانية واللاتينية بتوسُّع في إحدى المدارس الابتدائية
المتميزة،
٢٦⋆ ولكن
إيمان «نيتشة» بالمسيحية لم يتخطَّ امتحان القبول في جامعة «بون» ومثل «بوركهارت»
الشاب، كان عليه أن يجد منفذًا آخر لطاقاته الفكرية. كان ذلك المنفذ هو
«الفيلولوجيا» الكلاسيكية، الدراسة المعمَّقة لقواعد اللاتينية واليونانية طبقًا
للمبادئ العلمية الصارمة، والركيزة الأساسية للتربية والآداب الكلاسيكية في القرن
التاسع عشر. كان شديدَ الذكاء، وبدَا نضجُه العقلي كدارس للدكتوراه في جامعة «ليبزج»،
وعندما عُيِّن في جامعة «بازل» كان واحدًا من أصغر الأساتذة عمرًا في عالم الناطقين
بالألمانية، كانت محاضرته الافتتاحية في «بازل» يوم ۲۸ مايو دفاعًا مدويًا عن قيمة
«الفيلولوجيا» كوسيلة لكشفِ وفكِّ أسرار الأدبَين اليوناني واللاتيني، وماضي
أوروبا،
٢٧ ولكن خطابه أعطى فكرةً خاطئة عن شكوكه بالفعل. كان في قرارة نفسه
مقتنعًا بأنه لم يُصبح دارسًا كلاسيكيًّا عن اختيار وإنما عن إهمال، بالرغم من كفاءته
كعالم فيلولوجيا. قبول المنصب في «بازل»، بأعبائه التدريسية الشاقَّة والصارمة، سوف
يتطلب منه أن يُنحِّيَ جانبًا اهتمامه المتفتِّح بالفلسفة والأدب المقارن والموسيقى،
وبالرغم من أنه قد أثبت أنه مدرس محبوب وجماهيري، إلا أنه كان قلقًا … ولم يكن
سعيدًا، بعد سنوات سيقول إنه كان يشعر بأنه كان يضيِّع وقته في «بازل». لم تبدُ
الحياة الجامعية بالنسبة له أكثر من نظام معوق؛ لأنه كان ينتظر يقظةً داخلية أكبر،
تنتزعه من سُباته العميق.
٢٨ شعاع ضئيل من الضوء، هو الذي كسر ضجرَه وقلقه في «بازل»: صداقته
النامية مع «جاكوب بوركهارت»، وبالرغم من أن «نيتشة» و«بوركهارت» كانا متباعدَين
بمقدار ثلاثين عامًا من العمر، إلا أنهما حقَّقَا تقاربًا وتفاهمًا وقبولًا متبادلًا.
كلاهما كان يحضر محاضرات الآخر، وفكَّرَا وخطَّطَا لكتابة عمل مشترك عن ثقافة اليونان
القديمة. كان «نيتشة» يواظب على حضور محاضرات «بوركهارت» عن التاريخ الحديث؛ حيث شهد
هجوم الرجل الأكبر منه على «صديقنا القديم … فكرة التقدم». كان «بوركهارت» يقول
لجمهوره إنَّ المبدأ المرشد لهذا العصر هو «المساواة»، «المساواة أمام القانون،
المساواة في الضرائب، وأهلية متساوية للمناصب» تشترك في نفس المنطلق مع الفرصة
المتساوية للملكية والثراء المادي، إلا أنه «بالرغم من كل مميزات العالم الحديث —
المساواة، الثروة، الاتصال السريع، والتأثير الكبير للرأي العام على كل الأحداث عن
طريق الصحافة الحديثة — فإن من المشكوك فيه أن يكون العالم قد أصبح
سعيدًا.»
٢٩ الرأسمالية بتقديسها «لحب التملُّك الطاغي»، خلقت تعاساتٍ جديدةً بإفساد
واستغلال العمل الصناعي، الثقافة الرفيعة والإبداع أصبحَا في منزلة منحطَّة في عالم
«يصبح فيه المال ويظل هو المقياس الأساسي للأشياء … (و) الفقر هو الخطيئة الكبرى»،
ومن المؤكد «في لحظتنا التاريخية هذه … أنه ليس من حقِّنا أن نحكمَ على أيِّ عصر
مضى».
وهذا يشمل العصور الوسطى التي كانت بالرغم من كل أخطائها «بدون … تهديد الحروب
القومية، بدون صناعات كبيرة مقحمة بمنافسات قاتلة … بدون دين ورأسمالية» … ويصل
«بوركهارت» إلى نتيجة مفادها أنَّ «حياتنا بيزنس … حياتهم كانت حياة». واليوم، فإن
«التسرُّع والقلق يُفسدان الحياة». المنافسة العالية تجعل كلَّ شيء «في حالة اندفاع
بأقصى سرعة ويُصارع على خلافات دنيا». كان «بوركهارت» يُدرك أنَّ «تحت هذا التغيُّر
الشديد في نبض» القرن التاسع عشر، يوجد «التفاؤل السائد» الذي جاء به التنوير،
و«إرادة عمياء للتغيير» ناتجة عن إيمان بالتقدم، إلا أنه كان يرى أن ذلك التفاؤل
سيُصبح مُرًّا؛ حيث إنَّ الناس يُدركون أن آمالهم الكبرى في الثروة والسعادة لن
تتحقق. «من المتصوَّر أن يتحوَّل ذلك التفاؤل إلى تشاؤم في المستقبل القريب»، ثم
يُضيف «كما حدث في نهاية العصور القديمة» وسقوط روما.
٣٠
كتب «نيتشة» إلى أحد أصدقائه: «مساء أمس كنت سعيدًا وأنا أستمع إلى «بوركهارت» …
فأنا أواظب على محاضراته الأسبوعية عن دراسة التاريخ، وأعتقد أنني الشخص الوحيد من بين
مستمعيه الستين الذي يفهم خطَّ فكره العميق … إنها المرة الأولى التي أستمتع
فيها بمحاضرة في حياتي، والأهم من ذلك أنه نوع المحاضرات نفسها التي سأكون قادرًا
على تقديمها عندما أكبر.»
٣١
وبالرغم من أنه و«بوركهارت» كانَا ينتميان إلى جيلَين مختلفَين، إلا أن «نيتشة» كان
يشارك الرجل الأكبر منه، في التحرُّر من وهْم أوروبا ما بعد ١٨٤٨م، كما كان «نيتشة»
قد قرأ أيضًا الفيلسوف «إدوارد فون هارتمان»
Eduard von
Hartmann، الذي تنبَّأ بأن عالم المستقبل سيكون عالم «ثراء
مادي وجدب روحي».
٣٢ كان «نيتشة» أيضًا لا يرى فرقًا يُذكَر بين الرأسمالية الصناعية وبديلها
الاجتماعي، فكلاهما يعتمد على نظرة مادية كبيرة للعالم، وكلاهما يضع الشروط نفسها
على سلطة الدولة المطلقة.
٣٣⋆
تنبُّؤات «بوركهارت» الكئيبة أصبحَت دليلَ «نيتشة» عن مستقبل الحضارة الأوروبية
بعامة ومستقبلها السياسي بخاصة. كان «بوركهارت» يقول إنَّ انتصار القومية
الديمقراطية هو الانهيار النهائي للحرية. أما عند «نيتشة»، فإن القومية هي نهاية
السياسة أيضًا. وبعيدًا عن كونها تخلق إحساسًا جديدًا بالوحدة والتضامن، فإن الدولة-الأمة
تُكمل الطلاق بين الفرد والمجتمع، الأمر الذي يميِّز العصر الحديث بكامله. الديمقراطية
تجعل الحياة المدنية المستقرة أمرًا مستحيلًا. يقول «زرادشت» نيتشة: «لقد أدرتُ ظهري
لأولئك الذين يحكمون، عندما رأيت أنَّ ما يسمونه الحكم عبارة عن مساومات مع الدهماء على
السلطة.»
التضليل الاشتراكي هو دليل الديمقراطية غير المباشر، انهيار النظام الاجتماعي
التقليدي و«غياب الحضور الراقي» و«سوقية وفظاظة رجال الصناعة بأيديهم الحمراء
السمينة»، كل ذلك يُقنع الرجل العادي بأنه لا بد أن تكون لديه هو أيضًا الفرصة لإدارة
الدولة.
٣٤ الديمقراطية، القومية، الاشتراكية … كلها عند «نيتشة» سلسلة واحدة
متصلة، وامتدادات لحداثات منحطَّة لا معنى لها. أعماله الناضجة كانت مرقشةً بهجوم
على ألمانيا الحديثة ورموزها القيادية وبخاصة «بسمارك» والقيصر، وتلك الشخصيات التي
كان المعجبون بها يحذفونها بعد ذلك عند النشر،
٣٥ وفي الوقت نفسه، ظلَّ «نيتشة» متفائلًا، بينما فقد «بوركهارت» الأمل.
كان «نيتشة» يعتقد أن الحضارة الأوروبية يمكن إنقاذها، وإن لم يكن بالشروط المعروفة
ﻟ «بوركهارت» وليبراليِّي التنوير من الطراز القديم.
كان من رأيه أن الثقافة الأوروبية تحتاج إلى ثورة تعكس اتجاه القرن التاسع عشر،
بخضوع البرجوازية والجماهير لنخبة جديدة، وقد التقى «نيتشة» بالرجل الذي يمكن أن
يقود تلك الثورة. كان «نيتشة» في سن المراهقة عندما التقى بالقوة العاطفية الطاغية
للموسيقِي «ريتشارد فاجنر»، إلا أنه لم يقع تمامًا تحت سحر «فاجنر» إلا في سنة
١٨٦٨م، عندما حضر عرضًا افتتاحيًّا لأوبرا: «أساتذة الغناء»
Die
Meistersinger، و«تريستان وايزوالده»
Tristan und Isolde، «كل خليَّة، كل عصب في جسمي يهتز لهذه الموسيقى، لم أشعر أبدًا في حياتي بمثل ذلك الشعور
الدائم بالخلاص، كما حدث عندما كنت أستمع إلى افتتاحية أساتذة الغناء». وفي نفس العام،
حضر «نيتشة» بعد ذلك حفل عشاء مع المؤلف، وكان في حالة من التوتر لدرجة أنه مزَّق معطف
العشاء الجديد من الظهر بينما كان يحاول ارتداءَه،
٣٦ ولكن المؤلف الموسيقِي أُعجب بطالب الفلسفة الشاب ودعاه لمنزله في
«تريبشين» بالقرب من «لوكيرن»، وبعد ذلك سوف تتعدَّد زيارات «نيتشة» له أثناء فترة
عمله في «بازل». في تلك الفترة كان «فاجنر» منهمكًا في عمله الكبير: «رباعية الخاتم
النيبلونج»
Ring des Nibelungen، كانت حياته هي ما يُطلق عليه معاصروه «البوهيمية»، كان يعيش مع امرأة، لم تكن زوجته،
وهي «كوزيما فون بالو» التي حملَت منه، والحقيقة أنها كانت زوجةَ صديقه «هانز فون بالو»،
ولكن قوة
شخصية «فاجنر» جعلت «بالو» يظلُّ تلميذًا مخلصًا لأستاذه (يمكن أن نقول تابعًا
ذليلًا)، ويواصل قيادة أعماله لجمهور من المعجبين كان في ازدياد مستمر.
٣٧
أوبرات «فاجنر» جعلَت منه البطل الثقافي لجيل كامل من الفنانين والكُتَّاب
الرومانسيِّين في الفترة الأخيرة في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا، وكان على وشك أن يُصبح
رمزًا للإبداع الفني والعمق الفلسفي، على قدمٍ وساق مع «جوته» و«شكسبير». ولو قُدِّر
له أن يعيش لكان في نفس عمر والد «نيتشة».
كان «نيتشة» مسحورًا بشخصية «فاجنر» الشاملة … القوية … وثقته الشديدة بنفسه، وهو
ما كان نقيضَ حياء «نيتشة»، إلى جانب السخرية الشديدة والهروب من الأضواء والنزوع
إلى الحزن والكآبة … وكل تلك الصفات التي كان يتَّسم بها «جاكوب بوركهارت» المعلِّم
الآخر ﻟ «نيتشة». فتح «ريتشارد فاجنر» و«كوزيما» عالمًا جديدًا أمام «نيتشة»،
عالمًا وجد نفسه مقبولًا فيه بالرغم من صفاته الشاذة وانطوائيته.
٣٨⋆،٣٩ و«فاجنر» كان سعيدًا بهذا الاهتمام به، والذي يُشبه العبادة، من أستاذ
جامعي مرموق، وهكذا، كما كان «فاجنر» يعتقد، كان هناك تلميذ لامع شديد الذكاء، يمكن
أن يدافع عن أعماله ويقدِّم نظريته عن الجمال بلغةٍ أكاديمية محترمة. في القلب من
هذه النظرية، كانت توجد أفكار «آرثر شوبنهاور»
Arthur
Schopenhauer، الناقد الفلسفي الألماني الأشهر، عن تقدُّم
القرن التاسع عشر. كان «شوبنهاور» مثالًا جيدًا عن كيفية تحويل سحر الاستشراق في
بدايات القرن التاسع عشر لحياة مفكِّر. عندما كان طالب فلسفة في شبابه، وقع
«شوبنهاور» على ترجمة فرنسية ﻟﻟ «أوبانیشاد» الهندية، وفتنَته الأفكار الهندوسية
والبوذية عن النكران الزهدي للذات. العمل الرئيسي الوحيد لشوبنهاور وهو كتابه
«العالم كإرادة وتمثل»، يميل وينحاز لهذا النمط الشرقي التصوُّفي من الحكمة، أكثر
من ميله لأفكار عصر التنوير عن العقل والعلم والمدنية، وكما شرح «شوبنهاور»، فإن
العالم الذي نُدركه من حولنا، أو «العالم كفكرة» ما هو إلا من صنع ذاتنا المتمركزة
حول نفسها، إنه وهمٌ أو تصوُّر خادع وانعكاس لآمالنا ومخاوفنا، وكان «شوبنهاور»
متفقًا مع الفلاسفة الرومانتيكيِّين الألمان في أنَّ الحقيقة الوحيدة هي الإرادة
الإنسانية، إلا أنَّ المؤثرات الشرقية على «شوبنهاور» دفعَته إلى موقف أكثر
راديكالية. الإرادة الإنسانية هي مصدر كل مجاهدة من أجل المال والحب والسلطة، وهي
أيضًا مصدرُ كلِّ مصائبنا وكروبنا. لا بد أن نتعلم كيف نتجنبها، وأن نشجبها؛ لكي نهربَ
من «مرض حياتنا في العالم» كما يقول «شوبنهاور». الهدف النهائي للإنسان العاقل في
الحياة هو ما أسماه «بوذا» ﺑ: «النرفانا»، أو «الخلاء»، وهو انعتاق نهائي من
الإرادة والرغبة التي تؤدي في النهاية إلى الانطفاء والموت. كما يُنسَب إليه دائمًا
القول: «ما كان يجب أبدًا أن تكون الحياة هكذا». ويعني بها الحياة حسب التقليد
الأوروبي أو الغربي العلماني.
وجَّه «شوبنهاور» فلسفته عن التخلي الجذري أو النكران الزهدي للذات نحو هدفَين
رئيسيَّين: الأول هو التنوير بتفاؤله الزائف وإيمانه الأجوف بالعقل، والتقدم ممثلًا
بفلسفة «هيجل»،
٤٠⋆ وكان هدفه الثاني هو المسيحية أو التراث اليهودي المسيحي تحديدًا. كان معظم الرومانسيِّين
يفهمون التنوير والدين المنظم على أنهما عدوَّان كلٌّ منهما للآخر، ولكن «شوبنهاور» كان
يراهما حليفَين، كلاهما يحثُّ الناس على خلاصهم في هذه الدنيا، سواء عن طريق
العقلانية العلمية أو الدولة-الأمة، أو عن طريق الالتزام بالقانون الديني. كان
«شوبنهاور» عدائيًّا، على نحوٍ خاصٍّ، تجاه اليهود بهذا الشأن، وكان يعتقد أن اليهودية
قد أصابَت المسيحية بعدوى وهْم «الإرادة كفكرة»، وهي المحاولة المستميتة لتغيير أو
تحويل العالم لكي يتلاءم مع مجموعة من الأفكار الدينية والأخلاقية المسبقة، والتي
كان يسميها اليهود، ثم المسيحيون بعدهم بقوانين الرب.
٤١
والآن، لا يبقى سوى طريق واحد للتحرر، وهو الفن والموسيقى بخاصة. الفن يصبح طريقةً
جديدة لمعرفة العالم، وهو محصَّن ضد رغبات النفس المتوحشة وضد «العالم كإرادة». ومن
خلال الخبرة الجمالية، مثل مشاهدة لوحة أو الاستماع إلى سيمفونية، فإننا نخبر
العالمَ بطريقة جديدة ويتحقق لنا الانعتاقُ الفوري من أسر سجن الرغبة. الفن والموسيقى
يمنحان لحظات التأمُّل العميق التي لم يُفسدها الاحتكاك بالمادية الفظة المحيطة بنا،
ولكي يصبحا «فلسفة حقيقية» فلا بد أن يظلَّا هكذا، كما يقوله «شوبنهاور». بقيَ كتاب
«شوبنهاور» غير مقروء — فعليًّا — لمدة أربعين عامًا، إلى أن جلب له التحرُّر من
الوهم الرومانسي بعد ١٨٤٨م جمهورًا جديدًا لديه الاستعداد لذلك. كان «بوركهارت»
أحد التلاميذ، وكان «إدوارد فون هارتمان»
Eduard von
Hartmann تلميذًا آخر، وهو الذي حوَّل «الإرادة المتوحشة» عند
«شوبنهاور» إلى «اللاوعي» في كتابه «فلسفة اللاوعي» ١٨٦٩م، وهو المفهوم الذي تبنَّاه
ونقَّحه «سيجموند فروید»
Sigmund Freud فيما بعد، وفي الوقت نفسه، اكتشف «نيتشة» الشاب، نسخة من «العالم كإرادة وتمثل» في أحد
محلات الكتب القديمة في «ليبزج» في عام ١٨٦٥م، وكان الإعجاب المشترك بفلسفة
«شوبنهاور» هو نقطة البداية لصداقة «نيتشة» و«بوركهارت»، الذي سيصبح «شوبنهاور»
يُعرف عنده ﺑ: «الفيلسوف»،
٤٢ إلا أنَّ «ريتشارد فاجنر» كان تحولًا آخر. كانت أعماله الأوبرالية
«الهولندي الطائر»، و«تانهاوزر»، و«تريستان وايزوالده»، تدور كلها حول فكرة
«شوبنهاور» المركزية، وهي أنَّ عالم النشاط الإنساني هو عالم معاناة تصبو الروح
للتحرُّر منه،
٤٣⋆،٤٤ عندما زار «نيتشة» «تریبشين» لأوَّل مرة في سنة ١٨٦٩م التقطَت أُذُنُه
أنغامَ بيانو معذبة قادمة من شباك مفتوح، في ذلك الصباح كان «فاجنر» يكتب «انتحار
برون هيلد»، المشهد الأخير من «رباعية الخاتم»، والتي حرَّرها قبولها لمصيرها في
النهاية، وحرَّر العالم من الدورة اللانهائية لإعادة الميلاد (التقمُّص) والرغبة
والموت. كان المشهد يحمل ملامح «شوبنهاور»:
سأمضي إلى الأرض المختارة … الأكثر قداسة،
خلف كل الرغبات وسراب الوهم،
نهاية الرحلة الأرضية،
هل تعرفين كيف حققت
الهدف المقدس، المبارك
في كل ما هو سرمدي؟
لقد فتح ألمُ الحب الموجع عيني،
فأبصرتُ نهايةَ العالم.
لقد أكد «شوبنهاور» أن الموسيقى مكَّنَت البشر من السموِّ، ومن تجاوز
قبضة الإرادة القاسية وإن كان ذلك بشكل مؤقت. «فاجنر» شرح ﻟ: «نيتشة» اعتقادَه بأن
أوبراه يمكن أن تقدِّم فترةَ راحة أكثر دوامًا، «الخاتم النيبلونج» يمكن أن تحوِّل
الأوبرا إلى فنٍّ ثوري — كما أعلن — فن يضم الموسيقى والدراما والشعر والفن التشكيلي
في «عمل فني متكامل» Gesamtkunst Werk. أوبرات
«فاجنر» في الحقيقة، سوف تُنقذ حداثةً فاسدة عن طريق مزج التطهير العاطفي بالتجربة
الموسيقية السامية، بالطقس الأسطوري.
هذه الرؤية المثيرة، سارت متلازمة مع خطة متهورة بالدرجة نفسها لبناء مسرح ضخم،
تُقدَّم عليه «رباعية الخاتم» كحدث سنوي، جزء منه احتفال فني والجزء الآخر طقس
ديني، المسرح سوف يُبنَى على الأرض الألمانية في «بايريث» في «أبر فرانكونيا»،
وبمرور الأشهر ونمو الصداقة بين «نيتشة» و«فاجنر» سوف يجد المؤلف الموسيقي في صديقه
الأستاذ الشاب، حليفًا على استعداد — في خطته — أن يُدشِّن بداية جديدة للفن
والإنسانية، في العامَين التاليَين ١٨٧٠م و١٨٧١م، وبينما يواصل محاضراته ومهامه
الأكاديمية في «بازل»، سيُلقي «نيتشة» بنفسه في خضمِّ تلك المهمة الجديدة الأوسع: خلاص
أوروبا الفعلي عن طريق موسیقی «فاجنر». في العام التالي نشر أول كتبه: «مولد
التراجيديا»، الذي كان في ظاهره كتابًا عن الدراما الإغريقية والدين، بينما هو في
حقيقته احتفالًا برؤية «فاجنر» للعلاقة بين الفن والمجتمع، كما قدَّم الكتاب أيضًا
أول إجابة — مؤقتة — عن سؤال «نيتشة» الذي سوف يشغله طيلة حياته وهو: كيف نمنع
اضمحلال الحضارة الحديثة؟
جميع كتابات «نيتشة» منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، بما في ذلك «مولد
التراجيديا» وأعماله الأربعة: «تأملات في غير أوانها»، أخذت ملامحها من نظرة
«شوبنهاور» عن لا جدوى الإرادة الإنسانية، ومن صورة «بوركهارت» غير الواضحة للعصر
الصناعي الحديث، في كتابه «شوبنهاور كمعلم» تقرأ: «مياه الدين تنحسر مخلِّفةً وراءَها
مستنقعاتٍ وبِرَكًا آسنة»، وحيث إنَّ حربًا شاملة كانت تُهدد باجتياح أوروبا، «فإن الطبقات
المتعلمة والدول يجتاحها اقتصادٌ مالي جدير بالازدراء الشديد»، كما يُعلن: «لم يكن
العالم أبدًا أكثرَ انغماسًا في شئون الدنيا، لم يكن أبدًا أكثرَ فقرًا في الحب
والخير مما هو الآن.»
٤٥ أما رجال الفكر فقد جعلوا الأمور أكثرَ سوءًا بتشجيعهم الاعتقاد في
أوهام التقدم، بدل أن يكونوا «منارات، أو ملاذًا وسط هذا الاضطراب العلماني»، لقد
أغرَوا الجماهير بأن تعتقد أنَّ التحسُّن النهائي للبشرية يوجد في مكان ما في
المستقبل، وأنَّ السعادة موجودة هناك خلف ذلك التل الذي يتقدَّمون نحوه، وبالطريقة
نفسها ينتهي «نيتشة» إلى ما انتهى إليه «بوركهارت»، وهو أنَّ «كل شيء معاصر، بما في
ذلك الأدب والعلم، يخدم البربرية القادمة … نهار شتوي غائم يخيِّم علينا ونحن نعيش
في جبال شاهقة … في فقر وخطر.»
٤٦ ولكن «نيتشة» يرفض أيضًا حلَّ «روسو» الطبيعي أو البدائي للمدينة
الحديثة، أي «عودة للطبيعة» عنده هي عودة للفقر واليأس. التاريخ لا بد أن يكون له
دائمًا قوة دفع للأمام حتى وإن كانت تدفع نحو آفاق محدودة، وبالرغم من ذلك، فإن
الحياة الاجتماعية وعملية التحضُّر ما هي إلا تعبيرات عن حيوانيَّتنا المنحطَّة، لا عن
طبيعتنا السامية، وهي سلسلة متصلة لا تتغير من الخبرة الإنسانية المملة، لا يمكن
تحسينها، وإنما يمكن التسامي عليها فقط، كما يقول «شوبنهاور»،
٤٧ وهكذا نجد أنَّ «نيتشة» بينما يقبل بتشخيص «بوركهارت» وهو أنَّ الحضارة
الحديثة محكوم عليها بالفناء؛ لأنها «مخرمة كالغربال» بما فيها من تحلُّل وضعف،
نجده يقوم في الوقت نفسه بتعديل الافتراض الأكبر للفيلسوف، وهو أنَّ المجتمع ككل،
يتبع مسارًا منتظمًا للتطوُّر العضوي؛ فكل أمة أو حضارة عند «نيتشة»، كما كانت عند
«بوركهارت»، هي وحدة ديناميكية من القوى والقوى المضادة، تقوم كلٌّ منها بموازنة أو
إزاحة الأخرى طول الوقت
٤٨ وهو ما يعني أن الحاضر كشفٌ نهائي للماضي المطوي، وكما يقول، فإن:
«أفضل ما يمكننا فعله هو أن نُواجه طبيعتنا الموروثة والقابلة لأن توَّرث، ونغرس في
أنفسنا عادةً جديدة، غريزة جديدة، طبيعة ثانية لكي تذويَ طبيعتنا الأولى.» وقد اضطره
إخلاصه ﻟ «شوبنهاور» والتزامه به حينذاك أن يُضيف: «كلُّ ماضٍ جديرٌ بالإدانة؛ لأن تلك
هي طبيعة كل ما هو إنساني.»
٤٩
هكذا كان الفرق بين «نيتشة» و«بوركهارت». أعطى الرجل الأكبر منه حقَّه، وسلَّم له
بتعريفه على القوى التي أدَّت إلى انحلال وانهيار النظام القديم، ولكن «بوركهارت»
فشل أن يرى أن الخطأ لم يكن في المكوِّنات الفردية، بل في ضعف النظام القديم ذاته،
الحضارة الأوروبية بناء على نموذجها اليهودي المسيحي التقليدي، كان «بوركهارت» ما
زال يتعبَّد في ضريح المجتمع القديم، وما زال يأمل في إنقاذ تقاليد السلوك
«المهذَّب»، وأخلاقيات زملائه مواطني «بازل»، إلى جانب ثقتهم في إله خيِّر وعادل،
كان عماء «بوركهارت» هو عماء القرن التاسع عشر، «إنه يعرف فقط كيف يحفظ الحياة … لا
أن يولدها … شعاره: دع الموتى يدفنون الأحياء … وهذا بالتحديد هو السبب في أن
ثقافتنا الحديثة ليست شيئًا حيًّا».
أوروبا الحديثة لم تفقد شرارة العظمة الحيوية، ولكن «نيتشة» أعلن بشكل حاسم أنَّ
تلك الشرارة لم يكن لها وجود أبدًا، ولكي تتحرَّر من أَسْر هذا الماضي المحتضر، لا بد
أن يندفع الناس نحو ثقافة جديدة، بعادات جديدة، و«غرائز جديدة». كانت «البطولة
الرومانسية» هي ترياق «نيتشة» المضاد للتشاؤم التاريخي عند «بوركهارت»، فكان أن
أطلق نداءه لأولئك الذين كان يسمِّيهم ﺑ «رجال الاقتداء»
٥٠⋆ –
الفلاسفة، الفنانون، الكُتَّاب، «أفراد مختارون … مؤهلون للمهام الكبرى الخالدة»،
نخبة مثقَّفة جديدة سوف تتقدَّم، كما كان «نيتشة» يقول، وسوف يُديرون ظهورهم عمدًا
للاتجاه المادي السائد للحضارة الحديثة، سيكدحون من أجل إنتاج ثقافة «شوبنهاورية»
حقيقية، «سينادي كلُّ مارد فيها الآخر عبر صحاري الزمن، لن تُزعجَهم الأقزام اللاغية
الزاحفة تحتهم، ولسوف يتواصل الحوار الرفيع الراقي.»
٥١ كما كان «نيتشة» يُوحِي لقرَّائه بأن واحدًا من «رجال الاقتداء» أولئك،
كان يعيش بينهم، وهو «ريتشارد فاجنر»، وأنَّ أوبراته سوف تجدِّد الحضارةَ وتُحرِّر
غرائز الإنسان الحيوية الكبرى بتغلُّبها على التقسيم الفاجع، الكامن في أساس
الثقافة الأوروبية ذاتها. في دراسته للثقافة اليونانية القديمة «مولد التراجيديا»
رسم «نيتشة» ما سوف يُصبح خطًّا فاصلًا بين الروح الديونيسية،
٥٢⋆ الروح غير المستأنسة للفن والإبداع، والروح «الأبوللونية»،
٥٣⋆ روح العقل وضبط النفس.
٥٤
كان «نيتشة» يُلمِّح بقوة إلى أنَّ قصة الحضارة اليونانية، وكل الحضارات بعامة، هي
قصة الانتصار التدريجي للإنسان «الأبوللوني» — برغبته في السيطرة على الطبيعة وعلى
نفسه — على الإنسان «الديونيسي» الذي يحيا فقط في الخرافة والشعر والموسيقى
والدراما. كان سقراط وأفلاطون — قبل ذلك — قد هاجما أوهام الفن ووصفاها بأنها
«زائفة وغير حقيقية»، وقلبَا الميزان الثقافي الدقيق بتثمينِ وعيِ الإنسان النقدي
والعقلي، بينما سَفَّهَا غرائز حياته الأساسية واعتبراها منحطةً ولا عقلانية. ونتيجة
هذا التقسيم هي ظهور «الإنسان الإسكندري»،
٥٥⋆ المواطن اليوناني المتحضِّر، المتحقق في العصر القديم المتأخر
(زمنيًّا) «المزوَّد بأعظم قوى المعرفة»، ولكن ينابيع الإبداع جفَّت بداخله،
والإنسان الأوروبي الحديث هو النسل المباشر للإنسان «الإسكندري»،
٥٦ هو صورة مصغَّرة من الحضارة عند «توماس باكل»
Thomas
Buckle، و«أوجست كونت»
Auguste
Comte.
اعتقاده أنَّ بإمكانه اكتشافَ الحقيقة عن طريق العقل وحده، سوف يؤدي مباشرةً إلى
«روح التفاؤل السهل، التي هي جرثومة دمار مجتمعنا»، بالإضافة إلى اعتقاده الخاطئ
بأن العلم والمؤسسات الاجتماعية يمكن أن تجعل الناس سعداء أحرارًا.
٥٧
كان «نيتشة» يرى أوبرات «فاجنر» عودة خطيرة إلى «كُلِّيانية» الإنسان الأوروبي
الأصلية، عالم «الثقافة التراجيدية» الذي يقبل كلًّا من العجز والتفوق الإنسانيَّين،
الشديد البشاعة والجليل في الوقت نفسه، بواسطة مائة إنسان من هذا النوع «يمكن إسكات
ثقافة عصرنا الصاخبة الكاذبة بالكامل وإلى الأبد، ليُصبح العقل والروح كيانًا واحدًا
مرة أخرى».
٥٨ في ۲۲ مايو ١٨٧٢م كانت الجماهير الحاشدة تصعد التلال بمشقة في
«بايريث»، وسط الأمطار الغزيرة التي استمرت طول النهار، لمشاهدة الاحتفال الخاص
بتدشين مسرح «فاجنر» الجديد. كانا يجلسان متجاورَين في العربة، «نيتشة» و«ريتشارد
فاجنر»، الرجل الذي كان يعيش تأملات مثالية في عصر «تَحْكُم العالم فيه مضاربات
البورصة»،
٥٩ كان «نيتشة» ينظر نظرات سريعة إلى «فاجنر»، ولكن الرجل «كان صامتًا،
يبدو أنه كان يحدِّق داخل نفسه بنظرة تعجز الكلمات عن وصفها … كل ما حدث قبل ذلك
كان تحضيرًا لهذه اللحظة»، وبالنسبة للرجلين … كانت تلك اللحظة بالفعل، فجر عصر
جديد.
«نيتشة» والتشاؤمية الثقافية
«وحده المنذور للثقافة، ذلك الذي علَّق قلبه بحبِّ رجل عظيم» … لسوء الحظ، عندما
بدأ
العمل في مسرح «بايريث» في ذلك الصيف، بدأت أيضًا شكوك «نيتشة». كانت تلك الشكوك في
البداية تجد طريقها إلى مفكرته. «فن فاجنر يتكلَّم لغةً مسرحية … زائفة … لغة رخيصة …
وهكذا فإنها — من المؤكد — سوف تُصيب أرقَّ المشاعر بالخشونة.» وأصدر حكمه بأن
«فاجنر»: «كان ممثلًا حصل على حب وثقة لا يستحقهما.» وبعد ذلك كان يقول: «لم يكن
أحد من مؤلفينا بمثل هذه الدرجة من الفقر الموسيقِي في الثامنة والعشرين كما كان
«فاجنر».» ثم في انفجارة أخيرة: «موسيقاه ليست ذات قيمة كبيرة، ولا الشعر ولا الحبكة
… التأليف المسرحي مجرَّدَ طنطنة في معظم الأحيان.»
٦٠ وقد تأكدت أسوأ مخاوف «نيتشة» في أوَّل احتفال في «بايريث» في عام
١٨٧٦م عندما كان جمهوره عبارة عن البرجوازية الحديثة والأرستقراط الذين كان
«نيتشة» يحتقرهم، وكان يظن أن «فاجنر» يحتقرهم أيضًا. أما أكبر ضربة دعائية غير
متوقَّعة ﻟ «فاجنر» فكانت ظهور الإمبراطور «ولهلم الأول» شخصيًّا … عندما رأى «نيتشة»
القيصر وهو يصفِّق في نهاية المشهد، ثم يستدير ناحية مساعديه العسكريِّين لكي
يعلِّقوا «بائسة … بائسة». انهار صبر «نيتشة» وقال لنفسه لقد أفلس «فاجنر»، وأصبحت
«بايريث» خزانة عرض لكل الأفكار والعواطف الضحلة، والبرجوازية، والوطنية التي كان
«نيتشة» يمقتها (رغم أنَّ تلك كانت هي نفس الصفات التي سوف تجذب «لودفيج شيمان»، و«هوستون
تشمبرلين»، و«برنارد فورستر» الذي تزوَّج شقيقة «نيتشة»، وتجذب معجبين آخرين
إلى مدار «فاجنر»). تقييم «نيتشة» الجديد لمعبوده السابق انعكس في عنوان كتابه
التالي: «إنساني … إنساني أكثر مما ينبغي.»
في الوقت نفسه كان القلق قد بدأ ينتاب «جاكوب بوركهارت» على صديقه الشاب. في ٥
أبريل ١٨٧٩م، كتب إلى «نيتشة» يشكره لإرساله نسخة من كتابه «إنساني … إنساني أكثر
مما ينبغي» له، ويمدح ما في الكتاب من عمق و«حرية فكر». وبالرغم من ذلك، كان يعبِّر
للآخرين عن قلقه لتدهور حالة «نيتشة» الجسمية والعقلية، «نظره الضعيف، الصداع
المستمر، نوبات المغص العنيفة المتكررة». وتدهورت حالة «نيتشة» لدرجةٍ اضطرَّته لطلب
إجازة من جامعة «بازل» في ذلك الصيف، ولم يَعُد.
٦١ نهاية علاقة الأب-الابن مع «فاجنر»، جعلَته يقوم بعملية فحص ذاتي
لأفكاره ودوافعه «كيف وقع في هذا الخطأ بخصوص فاجنر؟» ودفعت به في الرحلة الفلسفية
التي سوف تستهلك بقية حياته. وصل «نيتشة» إلى اقتناعه بأن فن «فاجنر» كان يعاني من
المرض نفسه الذي أصاب «الإنسان الإسكندري» في «مولد التراجيديا» وبقية المجتمع
الحديث: وهو التفسُّخ!
ما هو التفسخ؟ الحياة لم تَعُد ساكنةً في الكيان الكلي … التردُّد وحيوية
الحياة تراجعَا في المكوِّنات الصغيرة … لم يَعُد الكيان الكلي حيًّا بالمرة …
إنه مركب محسوب، متكلف … مصطنع …
وهنا، كان «نيتشة» يردِّد انتقادات «نیسارد»
Nisard، و«كوتير»
Couture، وغيرهما من النقَّاد المحافظين قبل
أربعين عامًا. وقبل ذلك كله فإن العمل الفني المتفسِّخ، أو الشخص المتفسِّخ يفتقد
«الأصالة»، وهو الاصطلاح الذي سيجعله «نيتشة» شائعًا. «إنَّ أحدًا لا يجرؤ على أن
يظهر كما هو، فهو يتنكَّر في ثياب شخص مهذَّب، مثقَّف، شاعر، سياسي – أو كموسيقِي»،
ولكي يُبرهن على سلامة تشخيصه يُشير «نيتشة» إلى شهرة «فاجنر» التي ارتفعت إلى ذرا
جديدة بعد وفاة المؤلف الموسيقِي في سنة ١٨٨٣م، «في الثقافات المنهارة، عندما يصبح
القرار في يد الجماهير، تصبح الأصالة غير ضرورية، تصبح عيبًا … وحده الممثل
(فاجنر) يظل مثيرًا للحماس.»
٦٢
جميع أعمال «نيتشة» المؤثرة التالية: العلم المبهج، جينيالوجيا الأخلاق، ما
وراء الخير والشر … وعمله الرمزي التأملي: هكذا تكلَّم زرادشت — كانت بمعنًى عميق،
بحثًا عن جذور التفسُّخ في الثقافة الأوروبية، وكما لاحظ «بوركهارت» نفسه بذكاء،
فإن ما كتبه «نيتشة» لم يكن فلسفةً بالمعنى المعتاد، بقدر ما كان تاريخًا.
٦٣ كانت نقطة الانطلاق عند «نيتشة»، هي نفسها عند «بوركهارت»: قيام عصر
جماهيري ديمقراطي رأسمالي، يعجِّل بانهيار المجتمع الأوروبي، و«قيمة» (مصطلح آخر
سوف يجعله «نيتشة» شائعًا)، ولكن «نيتشة» وصل إلى استنتاج أقرب إلى استنتاج
«جوبینو»: أوروبا الحديثة فقدَت قوةَ الحياة الدافعة لخلق قِيَم وخصوبة تؤدي إلى ثقافة
قوية حقًّا. قوة الحياة هذه سوف يُطلق عليها «نيتشة»: «إرادة القوة»، كما اكتشف أن
الجذر التاريخي «لتفسُّخ حياة» الحداثة، ليس هو تمازج الأجناس (رغم أنه لم يستبعده
كقوة مساعدة)، وإنما هو «مولد الأخلاق»؛ ولذلك فإنه سوف يَصِف كل فلسفة بأنها «حملة
ضد الأخلاق» واحتفال بإرادة القوة.
٦٤
كان «نيتشة» يفهم إرادةَ القوة في الإنسان على أنها شيء أوسع وأكثر شمولًا من
مجرد رغبة في ممارسة السيطرة على الآخرين، كما في السياسة أو علاقات العبد-السيد، والأخيرة
(علاقات العبد-السيد) ليست سوى تجليات لما هو جزء من الحياة
نفسها بمعنى ما، كما يقول الفيلسوف «ريتشارد شاخت»
Richard
Schacht: «إرادة القوة هي الميل الأساسي لكل القوى، وكل ما
تمثِّله — في الإنسان، في المجتمع، في الطبيعة — لأن تبسط نفوذها وتُهيمن على
الآخرين». هذه القوى «تؤلِّف بشكل جمعي حقيقةَ العالم، كما هي موجودة بالفعل»، إرادة
القوة هي أصل كل ما هو موجود وكل ما صنع الإنسان، من أرقى الأعمال الفنية، إلى أشد
الجرائم عنفًا وأكثرها إرهابًا.
٦٥ والفرد السليم المفعم بالحيوية والنشاط، مثل المجتمع السليم يُدرك
إرادةَ القوة الموجودة فيه، يعيها، ويقول «نيتشة» إنها تمنحه شعورًا «بالكمال،
بالقوة المنضبطة، والصلاحية التي تمكِّنه من أن يواجه بشجاعة وروح مرحة، الكثيرَ مما
يجعل الضعفاء يرتعدون».
٦٦
وعلى العكس من ذلك فإن المرض والتفسُّخ يطردان غريزةَ الحياة والقوة «الحياة التي
هي معادل الحيوية تتقهقر في المكونات الصغرى». الكل الأكبر يفقد الطاقة ويتآكل
ويدخل مرحلةً «يفقد فيها الشخصُ القدرةَ على المقاومة»، وتحلُّ «عدمية مرهقة»، «وحيثما
تنهار قوة الإرادة، على أي نحو، يوجد كذلك التردِّي النفسي … التفسُّخ.»
٦٧ وكما يرى «نيتشة» فإن التاريخَ كلَّه يُصبح صراعًا ميتافيزيقيًّا بين
مجموعتين: هؤلاء الذين يعبِّرون عن إرادة القوة وغريزة الحياة، وأولئك الذين لا
يعبِّرون عنها: هؤلاء ذوو الحياة الفقيرة … الضعفاء …» يفقرون الثقافة، و«أولئك ذوو
الحياة الغنية … الأقوياء» يثرونها،
٦٨ وكما يقول «نيتشة» فإن الحضارة كلَّها هي من صنع «أصحاب القوة والسطوة
الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا تُقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضُّوا على
الأجناس الأضعف، الأكثر مدنية أو الأكثر مسالمة، أو على الثقافات القديمة اليانعة
التي تعبِّر عن حيويتها الأخيرة بمظاهر تتم على الفساد.»
٦٩ هؤلاء الرجال أصحاب القوة والسطوة والانقضاض يسميهم «نيتشة»:
«الآريون» — اصطلاح «جوبينو» — الذين يُصبحون الطبقة الحاكمة في المجتمع الجديد،
وكما يقول: «فإن طبقة النبلاء كانت دائمًا هي طبقة البربرية»؛ لأنهم — بمعنى الكلمة
— بشر أكثر حيوية واكتمالًا من المتكلِّفين المتخمين الذين يُنزلون بهم الهزيمة.
«الآريون» عند «نيتشة» يتنفَّسون حيوية، كان من السهل أن يُدركها «جوبينو»، والحقيقة
أنَّ الدليل على تأثير «جوبينو» على «نيتشة» قد لا يكون مباشرًا، ولكنه
مقنع
٧٠ مثل «جوبينو»، كان «نيتشة» معجبًا بالأرستقراط كنموذج لقوة الحياة
النشطة في المجتمع. كتب: «إنَّ كل ارتقاء بالنوع الإنساني حتى الآن، هو من صنْع
المجتمع الأرستقراطي، وسيظل هكذا دائمًا.» ثقافة «نيتشة» الباكرة عن العبقرية
والتأمُّل (الثقافة الشوبنهاورية)، مدينة للعالم الحيوي العفوي في الساموراي
الياباني، والبطل الهوميروسي، وألمانيا الباكرة، وسكاندينافيا الفايكنج، حيث كانت
قِيَم القوة والشرف واحتقار النماذج الدنيا من الحياة هي السائدة. على أية حال، فإن
«الآري» المفعم بالحيوية والنشاط عند «نيتشة» وهو «الحيوان الأشقر»، ليس نموذجًا
عرقيًّا، وإنما نموذج ثقافي، سمتُه الرئيسية هي القدرة المستمرة على «خلق قيم» لنفسه
ولمجتمعه، الطبقة الأرستقراطية القوية تخلق تعريفها الخاص للشرف والواجب والجمال
(الذي هو دائمًا في الاتجاه الذي يريده الأرستقراط)، كما تخلق نموذجها الخاص
للصواب والخطأ وتُقرر ما يعتبر حقيقيًّا وما يعتبر زائفًا. هذه القيم يفرضها الغازي
أو المنتصر على المهزوم، تمامًا كما يُصادرون ممتلكاتهم وأراضيهم كغنائم حرب.
«نيتشة» لا يأسى لوحشية الفرد في التاريخ، بل هو على العكس، معجبٌ بها؛ لأن «الحياة
نفسها بالضرورة، استيلاء وظلم وإخضاع لكل ما هو مغاير وكل ما هو أضعف».
الحيوية والإبداع، بما في ذلك خُلُق القيم «هي امتياز القوى»، أي الغزاة
والأرستقراط، ويُضيف إليهم «نيتشة»: «الفنانون». الأخلاق — من جانب آخر — هي من صنع
الطبقة الدنيا، وهي وسيلتهم للانتقام من المتفوقين عليهم … الأكثر حيوية. ونموذج
«نيتشة» للفرد الحيوي في التاريخ الأوروبي هو نفسه عند «جوبينو»: «سيزار بورجيا»،
«نيتشة» يمجِّده ويمجِّد كلَّ مَن هو «بورجيا» تحديدًا؛ لأن ضحاياهم مع الأجيال التالية
أدانَتهم كمجرمين وكوحوش ساديِّين. «نيتشة» لا يأبه بتلك الشعارات: كلما كان الفرد
أكثر حيوية، سيكون أقدرَ على أن يصدم ويروِّع الأغلبية الخاملة. في المجتمع
الأرستقراطي مثل يابان «الساموراي»، أو يونان «هوميروس»، كان يُحتفَى بأعمال
المحاربين والقتلة، ويُمجدونهم في الفن والشعر (كما في الإلياذة)، أما في المجتمع
المتفسِّخ أو الديمقراطي فالمحارب مذموم. المحارب الآري يخرج من سلسلة مقزِّزة من
أعمال القتل والقرصنة والاغتصاب والتعذيب منتعشًا، لا يُزعج روحَه شيءٌ، حتى عندما
يكون ضحاياه الممتعضون والأقل شأنًا، يتسامرون سرًّا لإسقاطه، وحيث إنهم لا يستطيعون
أن يهزموه في ساحة القتال، فهم يفعلون ذلك عن طريق الثقافة، يُنتجون ما يسمَّى بلغة
التنوير «التهذيب» و«المؤانسة»، وهو ما يسميه «نيتشة» «أخلاق العبيد».
في جانب آخر إذن، هناك أخلاق السادة، أخلاق المحاربين من الأرستقراط، وهي تُثمن
«الحالات الرفيعة للروح والباعثة على الفخار»، والتي تتم ممارستها مباشرةً عن طريق:
«الحرب، المغامرة، الصيد، الرقص، ألعاب القتال، وكل ما يتضمن نشاطًا قويًّا وحرًّا
وممتعًا بشكل عام.» أخلاق السادة تشكِّل رؤية للعالم هي بالضرورة
٧١ متمركزة حول الذات «هذه الأخلاق هي تمجيد للذات».
٧٢
في جانب آخر هناك «أخلاق العبيد» المتولِّدة من «الاستياء»، (يستخدم «نيتشة» هذا
المصطلح الفرنسي بكل ما يدل عليه من استجابة ارتكاسية) لدى الذين يتحكم فيهم
ويستغلهم المتفوقون عليهم بطبيعتهم وحيويتهم. (أن تكره الخرافُ الطيورَ الجارحة ليس
أمرًا غريبًا)، وهكذا تتظاهر الخراف بأن سعادة الأرستقراط ليست حقيقية. وتقول إنَّ
السعادة الحقيقية والفضيلة تتوقفان على مساعدة المظلومين، «الشفقة، اليد الحنون
الكريمة، القلب الدافئ، الصبر، المثابرة، التواضع، المودة … كلُّ ذلك محلُّ حفاوة من
قِبل ضحايا «الآري» (الحيوان الأشقر) لكي تتفوق عليه وتهزمه.»
٧٣ وفي تناقض واضح مع «أخلاق السادة» فإن «أخلاق العبيد» هي بالضرورة
«أخلاق منفعة»، وكلمة «منفعة» هنا حاسمة؛ فكل حضارة مادية وتقدُّم اقتصادي كما يقول
«نيتشة»، بما في ذلك حضارة واقتصاد الطبقة الوسطى الأوروبية، تقوم على أخلاق
العبيد. إنها تغذِّي فضائل حيوان القطيع الذي «يعطي نفسه مظهرَ أنه النوع الإنساني
الوحيد المسموح به، ويمجِّد صفاته التي تجعله مستأنسًا، ومن السهل أن يتقدَّم، وأن
يصبح نافعًا لبقية القطيع.» القواعد الاجتماعية الجديدة تصبح هي: العطف، إنكار
الذات، الامتثال — والمقدرة المتوسطة — «كل ما يرفع الفرد عن مستوى القطيع ويُخيف
الجار يعتبر شرًّا»، عملية التحضر برمَّتها هي انتصار الأغلبية الضعيفة على الأقلية
الحيوية، وهي التضحية بالكمال الأرستقراطي من أجل الإنسان العادي. «نيتشة» لم يلجأ
إلى رجوع «جوبينو» للاندماج البيولوجي العرقي لكي يشرح عملية الإفساد هذه، بدلًا من
ذلك، فإن القطيع يُضعف ويُلوِّث قِيم المجتمع الثقافية عمدًا. ولكن المجتمع أيضًا يدفع
ثمنًا قاتلًا، فهو بتمدينِ نُخَبِه الأرستقراطية يسمح بدخول «إرادة إماتة الحياة» إلى
الكيان الكلي، وهي مبدأ «للانحلال والتآكل».
٧٤
مسئولية «انتفاضة العبيد» هذه تقع على المسيحية تمامًا، ومثل «جوبينو» يخلص
«نيتشة» إلى أنَّ المسيحية «هي الدين النقيض للآرية بامتياز»، ولكن ليس لأسباب عِرقية
مرة أخرى، وبدلًا من ذلك، فهو مثل معلِّمه «شوبنهاور» يرى «نيتشة» أنَّ روح المسيحية
وعقيدة التنوير في التقدم المادي «مبدأ المنفعة» شيء واحد، كلاهما يقيِّد ويقلِّص
الإرادة الإنسانية بدلًا من إطلاق الطاقات الإبداعية وإنتاج قِيم جديدة، إنهم يُديرون
إرادة الحياة ضد نفسها لكي تُنتج الذنب والعار، «إنَّ تصميم المسيحية على أن تجد
العالم قبيحًا وسيئًا جعل العالم قبيحًا وسيئًا، المتوسطون فقط هم الذين ينتعشون،
بينما يخفق النوع الأرقى. وعندما يُواجَه بهذه الحضارة المزعومة يفقد شجاعته
ويستسلم.»
٧٥ «الأخلاق تنفي الحياة». استنتاج «نيتشة» ليس مجردَ حكم أخلاقي أو فلسفي
ولكنه حكم تاريخي. انهيار الحضارة ليس حركةً للخلف نحو حالة بدائية وحشية بربرية
بتعبير «بوركهارت»، وإنما هو حركة للأمام نحو التفسُّخ واللامعنى. «لا نستطيع أن
نرى اليوم شيئًا يريد أن ينموَ ليصبح أعظم، نشك في أن الأشياء سوف تواصل الانحدار …
أسفل … أسفل … تصبح أكثر نحافة، ذات طبيعة أفضل، أكثر تدبُّرًا، أكثر راحة، أكثر
توسطًا، أكثر لا مبالاة، أكثر صينية، أكثر مسيحية — لا شك في أنَّ الإنسان يصبح «أفضل
طوال الوقت» — سريان هذا السم في «ثنايا جسد البشرية كله يبدو عصيًّا على المقاومة»
وبالتحديد؛ لأن الجماهير تعتقد أنَّ هذا القمع لغريزة الحياة هو التقدم.»
٧٦ وبتبنِّيها للمسيحية والعلم وللروح الإنسانية الليبرالية، فإن الثقافة
الغربية تتبنَّى دمارها، «منذ مدة، وثقافتنا الأوروبية تتحرك نحو كارثة»، الغرب
الحديث «مريض» … اصطلاح يستخدمه «نيتشة» بالمعنى الحرفي التشخيصي، «ألسنا ضائعين في
عدم لانهاية له؟ ألَا نشعر بالفراغ نفسه؟ ألم يصبح الطقس أكثرَ برودة؟ ألَا يُخيِّم
علينا ليلٌ طويل؟» عندما انتهى من «جينيالوجيا الأخلاق» في سنة ١٨٨٧م، كان مرض
نيتشة يشتد عليه، وكان يدمِّر عقله وجسده (وكان يدرك ذلك). كان يجلس إلى مكتبه،
وجهه ونظارته ملتصقان بالورق، يكتب بكثافة عن «حالات الوجود النشطة والقوية»
لأرستقراطية آرية متلاشية، ومباهج الحرب والصيد، ثم يقضي ثلاثة أيام متواصلة في
الفراش مع معاناة رهيبة من الصداع الحاد والقيء، إلا أنه كان مقتنعًا بأن هناك — وما
يزال — مخرجًا للثقافة والإنسانية، وهو أن يواصل رحلةَ تفسُّخ الحضارة الحديثة حتى
القاع، أن ينزل إلى «الأعماق»، أعماق اللامعنى والعدمية، الأمل الأخير للإنسانية،
معلَّق الآن على أعداء القيم التقليدية — «أولئك الذين يجدفون على الله (اللاأخلاقيِّين،
البدو من كل نوع، الفنانين، الموسيقيين) — في القاع، كل الطبقات غير
المحترمة من البشر … نحن اللاأخلاقيين أقوى قوة اليوم.» العدمي واللاأخلاقي
يخترقان الواجهة الزائفة للخير والشر، «الكفر الكامل مثال لأعلى درجة من الضعف …
إلى هذا المدى، العدمية كنكران لعالم صادق للوجود، قد تكون طريقًا مقدسًا
للتفكير.»
٧٧ ثم يُشرق فجر جديد كما أوضح «نيتشة» في أشهر كتبه وعمله الروائي
الوحيد: «هكذا تكلم زرادشت»، وبينما كانت كتب «نيتشة» الأخرى نتاجَ صراع، وتعبيرًا
معذبًا عن الذات، كان «زرادشت» عملًا ملهمًا بمعنى الكلمة، كتبه بسرعة لا تُصدَّق،
انتهى من كلٍّ من الأجزاء الثلاثة الأولى في عشرة أيام فقط في سنة ١٨٨١م، (الجزء
الرابع والخاتمة أنجزهما بعد ذلك بعام)، والكتاب أمثولةٌ للبشرية في نهاية الحضارة
الحديثة، ومثلما كشفت «رباعية الخاتم» عند «فاجنر» موت عالم تحكمه الآلهة، وبداية
عالم يحكمه البشر، يصف «نيتشة» هنا موت «الإنسان الأخير»، الإنسان الغربي.
٧٨⋆
اختار «نيتشة» النبي الفارسي القديم «زرادشت» كشخصية رئيسة، «زرادشت» نادَى بأن
الكون مقسَّم إلى نور وظلام، حياة وموت، وهو بالنسبة لتفكير «نيتشة» رمزٌ على حيوية
الدين الآري القديم، وهو في القصة «نيتشة» نفسه، (مثل نيتشة بعد عشر سنوات من
زياراته لفاجنر في تریبشين)، يعود «زرادشت» إلى عالم البشر ليُعلن أنَّ «الله مات»،
العقل والعلم قتلاه، الثقافة الحديثة تعتمد على قلب من الكفر … غيبة الإيمان،
فقدان الإنسان الحديث للإيمان حطَّم طاقته على التقييم وقدرته على خلق قيم جديدة
لتحلَّ محلَّ أسطورة المسيحية الميتة، في رحلته يقابل «زرادشت» الإنسان الأخير، المنتج
النهائي الفظيع لمجتمع برجوازي متعفن، حشرة، مقارنة بأسلافه، «جنسه متعذر استئصاله،
إلا أنه بفضل سيطرته على عالم المادة ومبدأ التقدم فإن الإنسان الأخير يعيش
أطول»، «زرادشت» يأتي إلى ساحة السوق، رمز تفاهة الإنسان الحديث وقيمه الجوفاء،
«حيث كل واحد يريد الشيء نفسه، كل واحد هو مثل الآخر نفسه، أما مَن يريد شيئًا
مختلفًا فليس أمامه سوى مستشفى المجانين».
ورغم أنَّ الإنسان الأخير يزعم أنَّ الإنسان الحديث «اخترع السعادة»، فإن ما فعله
في الواقع هو أنه دمَّرها عن طريق استبعاد ونفي إرادة القوة: البذل والإبداع
والمجاهدة. إنه مجتمع «بلا راعٍ … وقطيع واحد»
٧٩ «زرادشت» كذلك يلتقي بآبائه (المجازيين) السابقين، مثل «شوبنهاور» و
«فاجنر» كنماذج ثقافية، الساحر «فاجنر» يلجأ في البداية لزرادشت طلبًا للمساعدة، ثم
بعد ذلك يدَّعي أنه في همٍّ وحزن. «كُفَّ عن ذلك أيها الممثل، أيها المزيف، أيها الكذاب
القادم من الحضيض.» يصرخ فيه «زرادشت» مستعيدًا وصفَ «نيتشة» ﻟ «فاجنر» بأنه «ممثل
في المكان الخطأ».
٨٠ بعد ذلك يعترف الساحر بأنه أيضًا في انتظار «زرادشت» ليقول له كيف
يعيش في عالم بدون إله، بدون حقائق أخلاقية مؤكدة.
العرَّاف «شوبنهاور» يبشِّر بعقيدة «السأم العظيم»، يرتِّل «الكل يريد الشيء
نفسه، لا شيء يستحق، العالم بلا معنى، والمعرفة خانقة.» والحقيقة أنَّ عدميته لها ما
يُبررها في المجتمع الحديث «أصبح العالم صغيرًا … الإنسان الأخير يجعله صغيرًا»، إلا
أنَّ ذلك كله على وشك أن ينتهيَ … «زرادشت» يأتي بأخبار عن نهاية الإنسان الأخير
وميلاد الإنسان الأرقى
Übermensch. إنَّ شعار الإنسان الأخير هو «لا يوجد إنسان أرقى … كلنا سواسية أمام الله»، ولكن «زرادشت»
الآن يمكن أن يُخبرهم بالحقيقة المرعبة، «أمام الله؟! ولكن «ذلك» الله قد مات!»
«الأخلاق دمَّرت كلَّ إيمان بمبادئها، وما كان ذات يوم مصدر يأس، أصبح اليوم مصدر
خلاص، أيها البشر الكبار، ذلك الله كان الخطر الأعظم عليكم … ومنذ أن رقد في قبره
… بُعثتم … الآن فقط طلع النهار، الآن فقط أصبح الإنسان الأرقى سيدًا.»
٨١
الإنسان الأرقى هو «الأرقى» بمعنى أنه قد تغلَّب في داخله على تلك الصفات التي
تجعله مكبَّلًا بالزمن، تجعله جزءًا لا حول له ولا قوة من مدِّ وجزر التاريخ،
و«الحيوانية» الموصوفة بمثل هذا الاشمئزاز في المقالات الأولى ﻟ «نيتشة».
الإنسان الأرقى ينتصر على الحضارة المتفسِّخة، ليس بالمعنى الفيزيايقي الذي هزم به
«الآريون» العصور القديمة، وإنما بالمعنى النفسي والثقافي. لقد هزم فوضى عواطفه كما
كان «نيتشة» يقول عن «جوته»: «لقد ضبط نفسه على الكمال … خلق نفسه»، إنه يخلق قِيَمه
الخاصة، أخلاقه الأساسية الخاصة؛ حيث إنَّ أخلاق العالم تُصبح غشًّا، هو الإنسان
الكامل، روح أصبحت حرة.
٨٢ وفوق كل شيء، فإن الإنسان الأرقى قد حرَّر نفسه من قيود والتزامات
المجتمع المدني؛ حيث أدرك أنها من نتائج التاريخ، وبالتالي فلا معنى لها … وهي
فارغة … الإنسان الأرقى يُدرك أنَّ التاريخ ليس له معنًى أكبر؛ لأنه محكوم بقانون
التواتر اللانهائي. التغيُّر الوحيد الذي له معنًى في المجتمع الإنساني هو التحرك من
الحيوية، من وفرة إرادة القوة والطاقة إلى التفسُّخ وانحسار تلك الطاقة. وحيث إنَّ
مجمل الطاقة في الكون يظلُّ دائمًا كما هو، فإن «نيتشة» يُصرُّ على أنَّ الحركة لا بد
أن تكون دائرية، قانون «التواتر اللانهائي» هو صيغة «نيتشة» الحيوية من «دائرة
الهلاك» اليونانية. معناها أنَّ كل الأحداث تتكرَّر إلى ما لانهاية، أن لا خطةَ ولا
هدفَ هناك ليُعطيَ معنًى للحياة أو للتاريخ … التواتر اللانهائي هو خلاصة: «حكاية
يرويها أبله، مليئة بالصوت والغضب، لا تدلُّ على شيء»، والإنسان الأرقى الحقيقي، قد
روَّض نفسه على هذه الحقيقة الجرداء.
يقول «زرادشت»: «أعود ثانيةً مع هذه الشمس، هذه الأرض، هذا النسر، هذه الحيَّة …
لا إلى حياة جديدة … حياة أفضل، أو حياة مشابهة. أعود إلى هذه الحياة نفسها …» «حيث
إنه ليس هناك هدف نهائي فإن خيار الفرد فقط هو المهم.» «عِشْ (هكذا) لكي ترغب في أن
تعيش ثانية …»
٨٣
ويقول زرادشت: «حانت ساعتي … هذا صباحي … هذا يومي يُشرق … ابزغ.
الآن … ابزغ … أيها النهار العظيم.»
لقد نمت … نمت …
أفقت من حلم عميق …
العالم عميق … أعمق مما تخيل النهار …
في خريف ١٨٨٨م كتب «نيتشة» إلى أحد مراسليه: «هذا هو موسم حصادي
العظيم»، «بالنسبة لقضايا التفسُّخ، أنا أعلى محكمة استئناف.» في ذلك الصيف، انتقل
إلى «تورین» في إيطاليا «ضاحية ومدينة رحيمة»، كان المدينة التي مات فيها «جوبينو»
قبل ست سنوات كما كان «نيتشة» يعرف (سأل الناس عن المنزل الذي كان يعيش فيه
«جوبينو» قبل وفاته)،
٨٤ مع الهجمة الأخيرة لمرضه كانت قبضة «نيتشة» على الحقيقة تضعف، في عمله
الأخير المنشور: «عدو المسيح»، أخذ هجومُه على المسيحية شأوًا بعيدًا، كان يسمِّيها
«وصمة البشرية الخالدة»، «جعلت من كل قيمة لا قيمة، ومن كل صدق كذبًا.» أعلن أنه هو
نفسه عدوُّ المسيح؛ «حيث إنَّ الإله القديم قد مُحِيَ، فأنا جاهز الآن لكي أحكم
العالم.»
٨٥
في ١٥ مايو ١٨٨٨م احتفل «نيتشة» بعيد ميلاده الخامس والأربعين، «لم تكن هناك في
التاريخ لحظة أكثر أهمية … الناس جميعًا ينظرون إليَّ كأنني أمير … هناك تميُّز ما
في فتح الأبواب لي … وإعداد الموائد.» والحقيقة أنَّ إقامته في «تورين» كانت عزلةً
شديدة، كان يجلس وحده بالساعات في ردهة المنزل الذي يُقيم فيه يعزف على البيانو،
وكان معظم ما يلعبه من موسيقى «فاجنر»، كما تقول ابنة صاحب المنزل.
٨٦ في طريق رحلته الفكرية الطويلة المعذَّبة، انحرف «نيتشة» بشكل كبير عن
طريق اثنين من معلِّميه: «فاجنر» و«شوبنهاور»، ولكنه لم يقطع صلته أبدًا بالأب المعلم
«جاكوب بوركهارت»، كان مستمرًّا في إرسالِ نُسَخٍ من كُتُبِه إليه حتى النهاية، حتى عندما
كان «بوركهارت» قد أصبح لا يستطيع أن يعترف أو يعرف صديقه الشاب في الفلسفة العدمية
التي اعتنقها. مع آخر عمل له «قضية فاجنر»، كتب إليه في الإهداء … وبنغمة مثيرة
للشفقة: «كلمة واحدة منك كفيلة بأن تُسعدني»، ولكن «بوركهارت» وجد أنه لا يمكنه أن
يردَّ عليه. في آخر خطاب من «نيتشة» إلى «بوركهارت»، كتبه بعد انهياره العقلي الأخير
في يناير ١٨٨٩م، يعترف: «أنت أعظم عظماء معلِّمينا.»
٨٧ شبحُ «نيتشة» يخيِّم على تاريخ فكر القرن العشرين، إنه نبيُّ «التشاؤمية
الثقافية» العظيم، وبمعنًى مهمٍّ فإن تشاؤمَه ينبع من نظرة «بوركهارت» الباكرة لمصير
الحضارة الحديثة. التشاؤمية التاريخية عند «بوركهارت» نابعةٌ من نظرة إلى المجتمع
وَرِثها عن «رانكه»، نظرة ترى المجتمع كيانًا عضويًّا كاملًا لا بد من أن يُواجه
الاضمحلال والموت في النهاية مثل كلِّ كائن حي. وعندما واجهَته القُوى الجديدة غير
المألوفة للقرن التاسع عشر، (الديمقراطية، الرأسمالية الصناعية، اتساع وقسوة
الدولة-الأمة)، استنتج «بوركهارت» أنَّ ذلك كله كان بمثابة الانهيار لتوافق
اجتماعي مختلف حتى ولو كانت طبيعتُه ما تزال غامضةً ومن الصعب التنبُّؤ بها، كان مجردَ
نذير بالفوضى المستقبلية، المتشائم التاريخي يرى أنَّ الحاضر المتفسِّخ أو الفاسد
يقوم بتخريب وتفكيك إنجازات الماضي على نحوٍ منظَّم، المتشائم الثقافي النيتشوي يرى
أنَّ الحاضر مجردُ امتداد لقِيَم الماضي الفاسدة التي لا معنًى لها في ذاتها، ويقول إنَّ
الصحة الثقافية الحقة تتطلب رفضَ الاثنين معًا، الانهيار الوشيك لحضارة متفسِّخة ليس
مأساة، وإنما هو مدعاة للاحتفال والاحتفاء، إنه يفسح الطريقَ لشيء جديد غير مسبوق،
لنظام ثقافي متجدِّد مشيَّد على مبدأ جديد تمامًا، المبدأ الجديد يمكن أن يكون عِرقيًّا،
وبعد كل شيء فإن فلسفة «نيتشة» انطلقَت من الافتراضات الحيوية ذاتها كما كانت عند
«جوبينو»، كلاهما يقول إنَّ كل حضارة تعتمد على مخزون من قوة الحياة العضوية
لوجودها، أو: إرادة القوة.
ولكن التأثير الحاسم ﻟ «نيتشة» لن يكون على المفكرين العرقيِّين، وإنما على نقَّاد
الثقافة والفنانين. سوف يُلهمهم لكي يفكِّروا في أنفسهم كقوةٍ مضادة لنظام اجتماعي
متفسِّخ. الفنان الحديث لم يدَّعِ أنه مُخلِّص المجتمع الحديث أو منقذه (كان الشاعر
«بیرسي بوشي شیللي» يُسمِّي الشعراء ﺑ مُشَرِّعي المستقبل للبشرية)، حيث لا يوجد شيء
يستحق الإنقاذ، بل إنَّ «نيتشة» على العكس من ذلك، كان يشجِّع فكرةَ أنَّ الهجوم على
التراث الثقافي والأخلاقي الغربيَّين، كان في ذاته تعبيرًا عن الصحة
والتجدُّد.
كان المفهوم النقدي، في نظر «نيتشة» هو المرحلة الأولى في «إعادة تقييم كل
القيم».
٨٨ الناقد المعادي للمؤسسة، الفنان، و«اللاأخلاقي» — من «بیكاسو» و«برتولد برخت» إلى مسدسات
الجنس، و«مادونا» — يشكِّلون أرستقراطية حيوية جديدة في
الفراغ الثقافي الجديد، لا أحد منهم على أيِّ حال، يأمل أن يجد له موضعَ قدمٍ لو لم
يكن المتشائم التاريخي قد أعلن عن وفاة التراث القديم، أو على الأقل أنه في حالة
احتضار، وكمعلِّم ﻟ «نيتشة»، كان «بوركهارت» قد تنبَّأ بظهور الإنسان الأخير قبل
«نيتشة» بعقدَين تقريبًا، ومثل «نيتشة» ومَن جاء بعده من المتشائمين الثقافيِّين، كان
«بوركهارت» يرى الديمقراطية «قبولًا ملفقًا»، والجماهير مجرد أدوات لمصالح أكثر قوة
مثل المؤسسات الصناعية والدكتاتوريات العسكرية. ولم يطرأ على تفكير «بوركهارت»
أبدًا إمكانية أن تكون المشاركة الشعبية والوفرة المادية المتنامية بمثابة عائق في
طريقِ نموِّ الدولة
٨٩ الشمولية، وبدلًا من ذلك كان يقول: «أعرف التاريخ بما فيه الكفاية،
ولدرجة تجعلني لا أتوقَّع من استبداد الجماهير سوى الطغيان الذي سيكون نهاية
التاريخ.» فلسفة «نيتشة» كانت تُدين بأسًى نفسَ توجُّهات القرن التاسع عشر التي كان
«بوركهارت» يُدينها، مثل القومية والرأسمالية الصناعية، ونموِّ الثقافة الجماهيرية،
ولكن على العكس من ذلك، فإن فلسفة «نيتشة» عن إرادة القوة وأخلاق السادة كانت تبدو
ﻟ «بوركهارت» مشيرةً إلى الاتجاه نفسه بالتحديد، أي نحو الوحشية والاستبداد، تحريف
«نيتشة» لقول «بوركهارت» إنَّ «السلطة شرٌّ بطبيعتها»، إلى عقيدة إيجابية أصابه
بالفزع، كان «نيتشة» يقول إنَّ مصير الحضارة يعتمد على قوًى حيوية موجودة «بمعزل عن
الخير والشر»
Jenseits von Gut und Bôse، وكان
«بوركهارت» ما زال يؤمن مثل «توكفيل» بضرورة القيود والقواعد الاجتماعية، وبحاجة
البشر إلى ضمير وشعور بالتحفُّظ الأخلاقي والإرادة الحرة.
ومع ذلك فإن «بوركهارت» لم يستطع إلا أن يُوصيَ بالانسحاب، في مواجهة ما كان يراه
اتجاهًا بغيضًا للحداثة. كان «بوركهارت» يحيا في جامعته حياةً لا تعكِّر صفوَها أحداثٌ
أو مؤثرات اجتماعية من أيِّ نوع، حياة هادئة، محاطًا بطلاب العلم والفن والموسيقى
والجمال، إلا أنه كان قلقًا بشأن التطورات التي تحدث وراء بابه، والتي كان يشعر
بأنه لا يملك شيئًا حيالها، وكما اعترف لأحد أصدقائه: «أقول لنفسي كل يوم تقريبًا
إنَّ ذلك يمكن أن ينتهيَ في ظرف ساعة من الزمن.» كان أمله الوحيد أنه في يوم ما من
المستقبل البعيد، قد يكتشف البشر الثقافة الإنسانية لأوروبا القديمة مرَّة أخرى،
المكان الذي «تنبع منه كلُّ المكونات الثرية، مكان جميع التناقضات، حيث تجد كلُّ فكرة
صوتًا وتعبيرًا.»
٩٠