كان «لومبروزو» مقتنعًا بأنه قد وجد مفتاحًا لقضية كانت قد بدأت تُقلِق آخرين في
المهنة الطبية، وهي الخوف من «الانحلال» أو التفسُّخ، أو احتمال أن يكون سكان أوروبا
لم يعودوا قادرين جسمانيًّا على الاحتفاظ بمتطلبات الحياة المتحضرة. كان «جوبينو» قد
استخدم المصطلح نفسه للإشارة إلى نتائج الاختلاط العرقي أو تمازج الأجناس، كما كان
الإنسان الحديث بالنسبة له قد أصبح شخصًا متحلِّلًا متفسِّخًا بسبب التهجين بين الآريِّين
والأجناس الأخرى الأقل حيوية منهم.
الخوف من الانحلال أثار إمكانيةَ أن يخلق المجتمع الصناعي الحديث «بربرية داخلية»
جديدة، واضطرَّ الليبراليون إلى الوصول إلى استنتاج مشابه لاستنتاج زملائهم الاشتراكيِّين،
وهو أنَّ التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية العادية للحضارة الحديثة لم تَعُد تمثِّل
تقدُّمًا … بل العكس، وأنَّ المجتمع الحديث لن يظلَّ قائمًا من دون تدخُّلٍ قويٍّ من
العلم
الحديث والدولة البيروقراطية.
دارون: التقدم في مواجهة الاضمحلال في التاريخ الإنساني
قد يبدو هذا الاستنتاج مناقضًا لأهم نظرية بيولوجية في القرن التاسع عشر، وهي
نظرية التطوُّر عند «دارون»
Darwin. نظرية
«دارون» كانت تؤكد على أنَّ جميع الأجناس بما في ذلك الإنسان تتطوَّر من خلال
الانتخاب الطبيعي. البقاء للأصلح طبقًا لقدرته على التكيُّف مع البيئة، ملامح وسمات
القابلية للتكيُّف تنتقل إلى الذرية وتؤدي في النهاية إلى التطوُّر المطَّرد من
الأنواع الأدنى والأبسط إلى الأنواع الأعلى، مثل الإنسان بوصفه نوعًا بيولوجيًّا،
كان التشابه بين التطوُّر والحضارة بالمعنى الليبرالي الكلاسيكي كعملية تحسُّن
مستمرة واضحًا ومحددًا،
٨ بيد أنه كان هناك أيضًا جانبٌ أكثر ظلامًا في نظريات «دارون» يغفل عنه
النقَّاد المحدثون كثيرًا، وإن كان معاصروه قد فهموه في حينه. كان التطوُّر يعني
أنَّ التاريخ الطبيعي للأنواع بما في ذلك البشر، لم يَعُد ثابتًا أو غير قابل
للتغيُّر، ونظرية التطوُّر يمكن أن تتبع صعودَ الإمبراطوريات والحضارات القديمة
واضمحلالها وسقوطها أيضًا، وليس ارتقاء الأنواع عبر الزمن فقط. إنَّ نوعًا من
الأنواع يجد نفسه عند نقطة معينة من تاريخه، يُخلي مكانه لنوع آخر أفضل منه
تكيُّفًا مع البيئة الموجودة، أو أنَّ الظروف الخارجية قد تتغير فجأةً وبشدة، لتجعل
ملامحَه وخواصَّه التكيُّفية الأصلية قديمة وغير صالحة، وقد جاء الدليل على ذلك مع
نموِّ دراسة أحافير الديناصور بالإضافة إلى اكتشاف آثار «إنسان نياندرتال»
٩⋆ عام ١٨٥٦م كلاهما كان مخلوقًا قويًّا، سيد المخلوقات على طريقته، إلا
أنَّ كليهما انقرض،
١٠⋆ والحقيقة
أنَّ الاهتمام الشديد بالديناصورات بدأ مع «الدارونيِّين»، أصبحت الديناصورات حكايةً
تحذيرية للمجتمع الحديث، وهي المُعادِل الحيواني لسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ حيث
تؤدِّي «العظمة المفرطة» إلى الاضمحلال والانقراض.
«توماس هكسلي» Thomas Huxley، تلميذ «دارون»
قاد عمليةَ بحث رائدة عن أحافير الديناصورات، جعلَته يستنتج أنَّ:
«من الخطأ أن نتصوَّر أنَّ التطوُّر يعني نزوعًا مستمرًّا إلى الكمال المطرد. إنَّ
التحوُّل أو الانمساخ يمكن أن يكون تقهقرًا كما يمكن أن يكون تقدُّمًا
للأمام.»
١١ أما الآلية الكامنة وراء هذا الانمساخ فهي ليست سوى الانتخاب الطبيعي،
الصراع الذي لا يهدأ بين الأفراد من أجل البقاء. وفي هذه العملية خلقوا نوعًا
متأقلمًا مع بيئته، ويمكن بالطبع أن ننظر إلى الانتخاب الطبيعي كعملية أدَّت حتمًا
إلى تحسُّن النوع. كانت تلك هي النظرة المتفائلة للانتخاب الطبيعي، المرتبطة دائمًا
بالدارونية الاجتماعية، والتي بناء عليها «كانت أفضل أنواع الجنس البشري تتواصل،
وتنشر جنسًا من البشر لا يتوقَّف عن التحسُّن والاكتمال.» كما يقول «د. ر. جريج» أحد
علماء البيولوجيا في القرن التاسع عشر.
١٢
ولكن في التطوُّر عند «دارون» لا تقوم البيئة بتحسين قابلية الجنس أو النوع
للتكيُّف بشكل مباشر، بدلًا من ذلك، فإن كل شيء يتوقف على الخواص الفطرية للأفراد
أنفسهم، مَن بقيَ منهم ينقل تلك الخواص إلى ذريته. ومن ناحية أخرى، فإن البيئة يمكن
أن تُحدث ضررًا بالغًا بالتدخل في التنافس على الموارد، أو النصف الآخر (الزوج أو
الزوجة) المرغوب فيه أو بمنع الأنواع الأفضل من أن تكون في الصدارة. وقد كان ذلك
صحيحًا على نحوٍ خاصٍّ عن البيئة التي صنعها الإنسان، والتي جلَبت عواملَ صناعية جديدة
إلى معادلة التطوُّر. في كتابه «أصل الإنسان»، الذي جاء بعد ذلك في عام ١٨٧١م،
عبَّر «دارون» نفسه عن شكوكه عمَّا إذا كان نموُّ الحضارة يمكن أن يساعد على التقليل
من شأن الانتخاب الطبيعي.
١٣
في الوقت نفسه، فإن الوراثة لم تكن ثابتة، كانت هي الأخرى في حالة تطوُّر، وكل
دارس للوراثة حتى قبل «جريجور مندل» Gregor
Mendel، كان يعرف أنَّ التكاثر عملية تشابه معقَّدة يُنتج بواسطتها البجع الأبيض بجعًا
أبيض، ولكنها في الوقت نفسه عملية تنوُّع، يُنتج بواسطتها البجع الأبيض بجعًا أسود من وقت لآخر.
وبالنسبة للمؤمنين بنظرية «دارون» فإن تفاعل التنوُّع والتشابه كان يُظلله حقيقة
لا شك فيها، وهي أنَّ: كل الكائنات الحية، بصرف النظر عن جنسها أو وصفها الثقافي كانت
من أصل قردة.
وقد فتح ذلك إمكانية أن تكون الصفات والسمات الجسمية والعقلية، التي مكَّنت
الإنسان من التكيُّف مع البيئة البدائية سواء في الماضي البعيد (الصيَّاد
النياردنتالي)، أو في الحاضر (المحارب الواتوسي)
١٤⋆ يمكن أن تنتقل دون تعمُّد إلى نسلِه الحديث المتحضِّر، وقد شرح عالم
الحيوان الداروني «هنري مودسلي»
Henry Maudsley ذلك مع ملاحظة عابرة، وهي أنَّ هناك بالفعل «مخًّا بدائيًّا داخل مخ الإنسان» يجعل
بالإمكان «تتبُّع البدائية والوحشية في الحضارة، كما يمكن تتبُّع الحيوانية في
البدائية الوحشية»
١٥ ويُطلق علماء «البيولوجيا» في القرن التاسع عشر على هذا البقاء الوحشي
مصطلحَ «التأسُّل»
Atavism.
١٦⋆
«التأسُّل» يُشير إلى أنَّ هناك مواصفات معينة «مفقودة» في كل كائن، يمكن أن تعاود
الظهور في ظروف خاصة ويمكن أن تنتقل للذرية. كانت نظرية «التأسُّل» هذه موجودة قبل
«دارون»، ولكن نظريته في التطوُّر جاءت لتؤكدها، كما فعلت «الوراثة» عند «مندل»
فيما بعد، كما أنها (التأسُّل) ستُصبح حجرَ الأساس لنظرية الانحلال أو التفسُّخ. لم
تظهر نظرية «التأسُّل» فقط في تلك الصورة المخيفة للأسرة السليمة من الطبقة الوسطى،
التي تجد بين أبنائها فجأةً فردًا متوحشًا، نتيجة الارتداد لصفات السلف القديم كما
في الأسطورة القديمة للطفل المتبدل («هيثكليف» في «مرتفعات وذرنج»، وطفل «روزماري»،
تنويعات حديثة على هذا الموضوع)، ويتفق معظم المنظِّرين على أنَّ هذا النوع من
«التأسُّل» حدثٌ نادر، عالم الأنثربولوجيا الإيطالي «مورسيللي»
Morselli، وهو أحد معاصري «لومبروزو» قام بحساب
تلك الاحتمالات، ويقول إنها لا تزيد عن حالة واحدة في كل ثمانية ملايين
حالة.
١٧
ولكن … ماذا لو أنَّ ظروفًا محددةً أظهرَت تلك الصفات المفقودة كلها فجأة، وفي النوع
بكامله، والتي ينقلها إلى ذريته؟ عملية «الوراثة» ستعمل فجأةً ودون تفسير، ضدَّ مصالح
الأنواع، حينئذٍ ستُصبح عملية الانتخاب الطبيعي فخًّا، وسوف تُنتج أسوأ سلالة بشرية،
قريبة من حالة «فوضى أو هیولية الشعوب» Volkerchaos
التي يقول بها «هوستون تشمبرلين». والحقيقة أنَّ تشاؤمية «جوبينو» العرقية لم تلعب
أيَّ دور في نظرية الانحلال، أي على الأقل ليس في البداية، ولكن «الدارونية»
والانحلال (كنظريَّتَين) قد وضعتَا نهايةً لأيِّ مفهوم غامض عن أنَّ الحضارة يمكن أن
تساعد
في عملية ترقية أو تحسين الأنواع. وفي النهاية، فإن المؤسسات الرسمية في الحياة
المتحضرة لا تقوم بأيِّ دور مهم في تشكيل مصير الإنسان، بل إنَّ مصير الإنسان يتحدَّد
عن طريق عمليات بيولوجية خفية، ويعبِّر عن ذلك «لومبروزو» بقوله: «نحن محكومون
بقوانين صامتة لا تكفُّ عن العمل، وهي تحكم المجتمع بسلطة أكبر من القوانين الموجودة
في التشريع.» لقد وُوجِهَ الإنسان الغربي باحتمال وجود مزيج متفجِّر من البربرية
والقسوة تحت سطحه المشمس المتحضر، وأصبحت هناك صورةٌ قوية تؤرق الخيال الليبرالي،
وهي أنَّ بداخلِ كلِّ إنسان وحشًا نائمًا يمكن أن يقفز فجأةً من عرينه إذا أخفقَت
الظروف.
«لومبروزو» والثورة اللومبروزية
كان «سيزار لومبروزو» يزعم أنَّ ذلك المولود الذي يحمل سماتِ الأسلاف الوحشية هو
في
الحقيقة، المجرم الحديث، ونتيجة لقيامه بتشريح جثة «فيليلا»، امتدَّ بحثُه بسرعة
ليشمل مئاتِ السجناء والمجرمين الذين صدرَت ضدَّهم أحكام، بمن في ذلك من سيدات وجنود
في الجيش الإيطالي، وقد استخدم في عمله كلَّ الأساليب والأدوات التي كانت أحدثَ بدعة
في الأنثروبولوجيا والنظرية العِرقية. استخدم «الكرانيوميتر» و«المسماك» لقياس عرض
الجمجمة وحساب الفهرست الجمجمي، و«الأيسثيتوميتر»، و«الألجوميتر» لاختبار حساسية
اللمس، هذا إلى جانب «الديناموميتر» و«الكامبيميتر»، وغير ذلك من الأجهزة العلمية،
(بما في ذلك نموذج باكر من «البوليجراف»، وقد أصبحت كلها أجهزةً في علم الجريمة على
النمط «اللومبروزي».)
١٨⋆،١٩
وجمع «لومبروزو» بين دراساته التشريحية وإيمان سحري بالبيانات التراكمية؛ فكان
يفترض هو وتلاميذه بعد حساب عدد مرات ظهور مواصفات معينة، أنَّ العالم سيكتشف شيئًا
مهمًّا عن سبب ظهورها. وقد أصبح هذا الوابل الكمي أهمَّ جزء في نظريات «لومبروزو»، كما
كان هو الأكثر إقناعًا بالنسبة للمراقبين غير المتعمقين. كان يُردد بيانات رقمية
ويعرض رسومًا وجداولَ معقَّدة … ويضع فهارسَ ومعادلاتٍ رياضيةً جديدة بلا نهاية، وعلم
الجريمة عند «لومبروزو» يكشف عن مدى اهتمام العلم الحديث بالأرقام في النصف الأخير
من القرن التاسع عشر، وهو ما سوف يظهر أيضًا في الاقتصاد وفي علم الاجتماع (دراسة
«إمیل دوركايم» الإحصائية عن «الانتحار» عام ١٨٩٧م)، ويُعَد ذلك في علم «اليوجينيا»
(تحسين النسل) وعلم الأجناس. كان الافتراض الأساسي عند «لومبروزو» مثل الافتراض
الأساسي عند علماء الأنثروبولوجيا الجنسية.
الخواص الفيزيائية (الجسمية مثل طول وشكل الجمجمة وملامح الوجه، هي مفاتيح الفروق
والاختلافات الثقافية أو النفسية)، ومثل العلماء الآخرين في حقبته، كان «لومبروزو»
يفترض أنَّ البيض أرقى من غيرهم بالوراثة، إلا أنه استخدم نموذجًا تطوُّريًّا يسير
خطوة خطوة — استمدَّه من «دارون»، رغم أنَّ «دارون» لم يكن مصدره الوحيد — ليفسِّر
الفروق العِرقية، وذلك بدلًا من النموذج الانتشاري أو نموذج «جوبينو». كان
«لومبروزو» يعتبر الأفارقة البشرَ الأصليِّين، وبعد ذلك سار النوع في عملية تطوُّر
حتمية إلى أعلى، من الأسود والبُني إلى الأصفر والأبيض، التطوُّر العرقي يتوازى مع
مسار الحضارة من البدائية إلى الحداثة.
الأوروبيون البيض كانوا هم — عنده — قمة التطوُّر في النوع البشري والتجسيد
لمواهب الإنسان الفكرية والأخلاقية. كتب «لومبروزو» سنة ١٨٧١م في كتابه «الرجل
الأبيض والرجل الملوَّن»:
«نحن البيض فقط، الذين وصلنا إلى التناسق النهائي في شكل الجسم»، وكان بذلك
يردِّد ما قاله «جوستاف كليم»
Gustav Klemm قبل
ثلاثة عقود: «نحن فقط الذين منحنا حق الإنسان في الحياة، واحترام كبير السن والمرأة
والضعيف.»
٢٠ ومع ذلك، كانت تلك الإنجازات المتحضِّرة عرضةً للهجوم من الردة
البيولوجية. من وقت لآخر، كان يظهر بين جموع البشر أفرادٌ من المتأسِّلين (الحاملين
لسمات وصفات الأسلاف)، وكان سلوكهم البدائي الهمجي واللاعقلاني يضعهم بمعزل عن
نموذج التطوُّر العادي. انحرافهم عن هذا النموذج جعلهم مجرمين في مجتمع متحضِّر،
بينما في مجتمع بدائي متوحِّش، ما كانوا ليجذبوا إليهم اهتمامًا كبيرًا.
٢١⋆
«لومبروزو» يعتبر الجريمة في الحضارة الحديثة مفارقةً تاريخية، وهي سلوك بقيَ من
عصر أكثر بدائية، فالمجرم تظهر عليه أعراضٌ تشريحية محدَّدة، كان «لومبروزو» وأتباع
نظرية الانحلال يسمُّونها «سلوكًا لا اجتماعيًّا»؛ لأنها لا تكترث ببنية أو احتياجات
المجتمع الحديث المتحضِّر. المجرم المولود أو المولود مجرمًا بعيدٌ عن الإنسان الحديث
المتطوِّر مثل حازز الرءوس في «بورنيو»، كلاهما عودة إلى مرحلة سابقة باكرة من
التطوُّر البشري.
كان «لومبروزو» يستطيع أن يقول عن شخص يقوم بتشريح جثته: «وُلِد مجرمًا لأنه
وُلِد بدائيًّا.» وكان يعني ذلك حرفيًّا
٢٢ ولكن كيف يمكن أن نميِّز أولئك البدائيِّين بيننا؟ كان «لومبروزو» يُشير
إلى سمات جسمية معينة أو سمات تشخيصية
stigmata
تكشف للمراقب المدرَّب عن عودة المجرم المولود «المخبول أخلاقيًّا» إلى سمات الأسلاف.
وكانت تلك السمات تشمل: «الجبهة الخفيضة المنحدرة، العيون القاسية المراوغة، الآذان
الكبيرة التي تُشبِه مقابض الأبواب، الأنوف الفطساء أو المقلوبة لأعلى، البروز
الأمامي للفك (كما عند الزنوج والحيوانات)، قواطع الأسنان (الوسطى) الكبيرة، أصابع
الأقدام والأقدام الملتوية كأنها مجهزة للامساك بشيء (مثل ذيل القرد)، الأذرع
الطويلة (كالقردة أيضًا)، اللحية الضئيلة … والصلع.»
٢٣⋆
المجرم المولود، مثل الإنسان الهمجي أو البدائي لا يشعر بالألم (كان «لومبروزو»
يحب دائمًا أن يرويَ قصةَ رجال القبائل الأفارقة الذين رأوا أحذيةً لأول مرة، فقطعوا
أصابع أرجلهم لكي تكونَ على قياسهم) ولديه ميلٌ للانتقام والكسل والخيانة. المجرم
ينظر إلى الحياة نظرةَ شكٍّ، وذكاؤه منخفض بشكل عام، وقد وضع «لومبروزو» قائمةً
بمواصفات فيزيائية (جسمانية) محددة مرتبطة بجرائم بعينها: اللصوص بشكل عام، أنوفهم
ملوية أو فطساء (مثل الزنوج)، بينما أنوف القتلة مستقيمة ومعقوفة (مثل منقار
الجوارح)، السفاحون والمغتصبون حواجبهم كثَّة، بينما يتميَّز المزوِّر أو المزيِّف
بعينَين صغيرتَين وأنف كبير، كما كان يزعم أنه يستطيع أن ينظر إلى مجنَّد في الجيش
الإيطالي فيتنبَّأ ما إذا كان سينتهي به الأمر في المعتقل.
٢٤
من الصعب أن نتعامل مع أفكار «لومبروزو» بجدية، أو أن نأخذها على محمل العلم، كما
يجب أن نتذكر أنَّ معظم معاصريه كانوا مدركين لذلك،
٢٥ ولكن عندما ظهر كتابه «الإنسان المجرم» في سنة ١٨٧٦م، وجد جمهورًا
يتلقاه في الدوائر الفكرية والسياسية التقدمية داخل وخارج إيطاليا. كانت نظرياته
تناقض المجرم المتحلِّل بفرد (مذكر) أوروبي «عادي»، هو النتاج الفخور للتقدُّم
الليبرالي، ولكن بين تلك الأنماط العادية التي كان «لومبروزو» يدعوها ﺑ «إخواننا
المواطنين»، كان هناك أناسٌ ما زالوا يحملون علامات الماضي البدائي المتخلِّف، وحيث
إنَّ «لومبروزو» كان يعيش في الجنوب الإيطالي الفقير، فقد كان على وعيٍ بالهوَّة التي
تفصل بين المزارع الريفي ورجل الأعمال في: «تورين»، أو المحامي في الشمال الصناعي
مثلًا، وكان بعض معاصريه يشبِّهون ساكن الأحياء الحقيرة في «صقلية» أو «نابولي»
بأنه المعادل العرقي للزنجي الأفريقي.
٢٦
لم يكن «لومبروزو» ونظراؤه يعتقدون أنَّ التمييز الذي وضعوه بين «المنحرف»
و«العادي» كان شيئًا مثيرًا للاستياء أو اعتباطيًّا؛ إذ يبدو في نظرهم نابعًا من قوى
التطوُّر التاريخي. الإنسان الحديث المتحضِّر كان يقف عند نقطة تقاطع بين عمليَّتَي
تطوُّرٍ صعبتَين: ارتقاؤه البيولوجي من القردة، وتطوُّره ككائن اجتماعي من البربرية
إلى التحضُّر. كان الجدل الكبير في القرن التاسع عشر بين الطبيعة والتنشئة من صميم
نظرية الانحلال، ولكنَّ أحدًا لم يزعم أنَّ إحداهما كانت تستبعد الأخرى. كان علماء
البيولوجيا والأنثروبولوجيا على وعيٍ كافٍ بأهمية التاريخ وبالإنسان كمنتج تاريخي عن
طريق التطوُّر لدرجة لا تجعلهم مصرِّين على إجابة مفردة، وكان «لومبروزو» كوضعيٍّ
متشدِّد، ومؤمن بالتقدم، يرى التداخل بين الإنسان وبيئته الحديثة أمرًا غير ضار
بالضرورة، ونظريته التي تميل إلى أنَّ الإنسان يُولَد مجرمًا لم تستبعد أثرَ البيئة
التي يصنعها الإنسان. وقد ناقش فكرةَ أنَّ الأسرة المحطَّمة وغير الشرعية والفقر يمكن
أن تُقوِّيَ من الجريمة، رغم أنه يقول إنَّ الاهتمام بالفقر أمرٌ مبالغ فيه، وكان
شديد الاهتمام بإدمان الكحوليات كمفجِّر للعودة إلى سمات الأسلاف والجريمة،
٢٧⋆،٢٨ إلا أنه كان مصرًّا على أننا يمكن أن نحصل على أفضل النتائج بالتركيز
على طرف الطبيعة أكثر من طرف التنشئة في المعادلة. كان يعتقد أنَّ الانحلال أو
التفسُّخ شيء ثابت، ومحدود المدى، وأنه يمكن القضاء عليه بالوسائل العلمية الحديثة
مثل الجريمة. المجرم المولود والشخص الذي يرتدُّ إلى صفات الأسلاف و«غير العاقل
أخلاقيًّا»، لا يختلفون عن الناس العاديِّين، ولكن يوجد بداخلهم عوامل بيئية مختلفة
يمكن أن تفجِّر استجابات ردَّة للسلف. ويرى «لومبروزو» أنه لا يمكن أن نفعل أي شيء
بالنسبة للمولود مجرمًا سوى أقصى عقوبة وهي الإعدام، حقيقة أنَّ هناك كائنات مثل
المولودين مجرمين، المهيَّئين للشر بشكل عضوي، ونماذج متكرِّرة من المتأسِّلين الذين
ارتدُّوا إلى صفاتِ أشدِّ الحيوانات ضراوةً وليس الإنسان البدائي فقط … هذه الحقيقة
تُجردنا من كل شفقة … فنشعر أنَّ هناك مبرِّرًا لإعدامهم.
٢٩
أما في حالة المجرم العادي أو العرضي، فهناك فرصة لاستجابة أكثر إنسانية وعلمية،
حركة «لومبروزو» لإصلاح قانون العقوبات في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر،
كانت تدعو لعدم تطبيق عقوبة السجن على المخالفات البسيطة أو الجرائم العاطفية، وإلى
نظام وصاية وعقوبة يؤكِّد على إعادة التأهيل والعلاج أكثر مما يؤكِّد على العقاب،
وإلى إعطاء اهتمام خاص للإناث (وقد كان ذلك موضوع كتاب مستقل بعنوان «الأنثى
المذنبة» في عام ١٨٩٨م.)
كما كان يدعو إلى نظام قضائي مستقل للجانحين، وبمساعدات قانونية تُقدِّمها
المحكمة للمذنبين الفقراء. والحقيقة أنه كان يدعو لكل الإصلاحات التي تحقَّقت في
قوانين العقوبات على مدى المائة سنة التالية، وأصبحت نظريات «لومبروزو» هاجسًا بين
السياسيِّين من ذوي العقول التقدمية والمثقفين في إيطاليا وإنجلترا والولايات
المتحدة بخاصة.
٣٠ لقد أوحى للجميع بأهمية العلاقة بين الوراثة والسلوك الإجرامي، وهو
الأمر الذي سوف يشغل علماء الاجتماع لمدة نصف قرن على الأقل، وتحت مظلَّة «لومبروزو»
اتَّسع مجال السلوك الوراثي اللااجتماعي، أو السلوك المرتد لصفات الأسلاف، ليشمل
العقم والعادة السرية والشذوذ الجنسي، حتى الاضطرابات العصبية والهستيريا. وطبقًا
للمنهج «اللومبروزي» فإن كل تلك الأشكال من الانحرافات كانت تعتبر أمراضًا مثل
الصرع. المجرم أو المنحرف الاجتماعي يحتاج علاجًا وليس عقابًا، أما الدافع «لعقاب»
المجرم أو المذنب بسبب سلوكه، فهو في حدِّ ذاته غريزة بدائية، كما كان يقول
«لومبروزو»، وليس لها مكانٌ في مجتمع متحضِّر.
مات «لومبروزو» عام ١٩٠٩م ولم يُقدَّر له أن يعيش ليرى أفكاره تدخل الممارسة
القانونية، ولكنَّ مساعده «إنريكو فيري»
Enrico
Ferri سوف يلعب دورًا رئيسيًّا في إعادة صياغة مجموعة القوانين
في إيطاليا تحت حكم «بنيتو موسوليني». وفي عام ١٩٣٠م، كانت مجموعة القانون
الفاشستي بتركيزها «اللومبروزي» على «علاج» وإعادة تأهيل المذنبين، من بين الأمور
الجديرة بالإعجاب والأكثر تقدُّمية في إصلاحات «موسوليني».
٣١ وفي التحليل الأخير، فإن سلوك المجرم أو المذنب لم يكن خطأه. وبفضل
أنثروبولوجيا الجريمة الحديثة، فإن المسئولية الأخلاقية تختفي من العلم
العقابي،
٣٢ كما كان يقول أحد تابعي «لومبروزو» في عام ١٨٨٤م، وبدلًا من ذلك فقد
حلَّت جرعة كبيرة من «الحتمية»
٣٣⋆ determinism محلَّها، إلى جانب توجه
لعلاج الأسقام الاجتماعية، كما انتقلت إلى مجالات أخرى في الحياة الحديثة.
الانحلال والمجتمع الصناعي
في البداية، كانت مصطلحات «لومبروزو» عن الانحلال أو التفسُّخ التطوري تُطبَّق
فقط على عالم الجريمة السفلي، بعد ذلك كان لا بد من أن يبدأ علماء الأنثروبولوجيا
والجريمة والاجتماع في استخدامها، لوصف طبقات وجماعات أخرى، وبنهاية القرن، سوف يجد
البعض ذلك النموذج «اللومبروزي» المتحلِّل المرتد إلى سمات الأسلاف (المتأسِّل) واللااجتماعي
في الإنسان الحديث نفسه، وليس في المذنب أو المجرم فقط.
علماء الاجتماع «الأوائل» أولئك كانوا كلهم يفترضون أنَّ الوراثة البيولوجية
والتطوُّر الاجتماعي يؤثِّران على بعضهما البعض بطريقة يمكن التنبُّؤ بها. إذا كان
الإنسان يعيش في مرحلة تطوُّر بدائية مثل «الهو تنتوتس»
٣٤⋆ Hottentots الأفارقة أو هنود «تييرا
دل فيوجو»
٣٥⋆ Tierra del Fuego فإنه يعتبر بدائيًّا
أو همجيًّا بصرف النظر عمَّا إذا كان جنسًا بيولوجيًّا قويًّا أو ضعيفًا، وإذا كان يعيش
في مجتمع متقدِّم أو متحضِّر، وكان من «سلالة صحيَّة»، فهو إذن «عادي» (وهو مصطلح من
وضع المفكر الإنجليزي الراديكالي التقدمي «جیرمي بنتام»
Jeremy
Bentham)، أما إذا كان يعيش في مجتمع متقدِّم لكنه جاء بميراث
بيولوجي مرضي أو «مترد» فسيصبح متحللًا أو مرتدًّا للأسلاف، ولسوف ينقل تلك البلوى
إلى ذريته مع تكرار أسوأ. هذه النقطة الأخيرة على الأقل كانت من استنتاج «بيندكت»
موريل
Benedict Morel مؤسِّس ما يُسمَّى
بالمدرسة الفرنسية في نظرية الانحلال. لم يرَ «موريل» وتابعوه التقاطع بين الإنسان
وبيئته الحديثة على ذلك الضوء المعتدل الذي صنعه «لومبروزو». كانوا يرَون أنَّ ذلك
يحمل إمكانيات الخطر، ونتاجًا لمشكلات يمكن أن تهدِّد الحياة المتحضِّرة
ذاتها.
«لومبروزو» نفسه كان قد استخدم دراسات «موريل» عن «الفدامة»
٣٦⋆ (أو التخلف العقلي) التي ظهرت في خمسينيات القرن التاسع عشر، في تطوير
نظرياته، وكان «موريل» قد أعطى نظرية الارتداد الوراثي إلى الأسلاف نظرةً أكثر
ظلامًا.
٣٧⋆
عند «موريل» لم يكن الانحلال أو التفسُّخ معزولًا أو محددًا في عائلات أو أُسَر
بعينها كما كان عند «لومبروزو»، ولكنه بدل ذلك، جزء من عملية أكبر، هو بقعة أو وصمة
مرضية تتَّسع على وجه المجتمع الصناعي الحديث. كان «موريل» وأتباعه يقولون إنَّ
العوامل البيئية يمكن أن تكون أكثر أهمية من الوراثة في إطلاق عملية الانحلال،
الأمر الذي كان أكثرَ وضوحًا بين الطبقات الدنيا: العمال، والفقراء، والعاطلون،
الذين كان يسمِّيهم «ماركس» ﺑ «البروليتاريا»، ويشير إليهم الليبراليون الفرنسيون ﺑ
«الطبقات الخطرة»، أولئك هم الذين كانوا يحملون «وصمة التقدم»، وهم «مرضى
الحضارة» الذين يهددون الآن بابتلاع المجتمع بسبب أعدادهم المتزايدة.
٣٨
الحرب الفرنسية البروسية (١٨٧٠–١٨٧١م) التي أسفرت عن هزيمة مفاجئة وساحقة لفرنسا
على يد الألمان، وعن الحرب الأهلية، وعن تدمير «باريس» على يد ثوَّار الطبقة
العاملة في الكوميونة، هذه الحرب صدمت النخبة الفرنسية المثقَّفة وأصابَتها بالرعب،
وكان النقَّاد الفرنسيون يصفون الأحداث بالمصطلحات المروعة نفسها التي كان
يستخدمها جيل «جوبينو» لوصف أحداث ١٨٤٨م،
٣٩⋆ ولكنهم
من ناحية أخرى، اتجهوا إلى لغة العلم أكثر من التوجُّه إلى قوة حيوية وأسطورة
عرقية لتفسير ما حدث.
الخوف من «فرنسا المنحلَّة» أو «المتفسِّخة»
La France
degenerée (وهو عنوان كتيب مجهول ظهر في ١٨٧٢م)، كان يتخلَّل
الجدل حول كل جوانب السياسة الاجتماعية بما في ذلك إدمان المسكرات، والإنجاب غير
الشرعي، والجريمة، وانخفاض معدلات المواليد … إلى جانب الفساد السياسي، وكان نتيجة
ذلك، انغماس مفرط في عملية الاستبطان القومي لمعرفة الأفكار والدوافع، وفي تأنيب
النفس على ضوء آراء «موريل» و«لومبروزو» بلا تمييز، لفهم أسباب وقوف فرنسا على حافة
انهيار أخلاقي وثقافي.
٤٠
كان المؤرِّخ «هيبوليت تايني»
Hippolyte Taine
مثلًا من أشدِّ المعجبين ﺑ «لومبروزو»، وكانت دراسته الضخمة «أصول فرنسا المعاصرة»
التي بدأها في عام ١٨٧٣م، وأكملها في ١٨٩٤م، تزعم أنَّ القرن التاسع عشر كله، من
الثورة حتى الكوميونة قد كشف عن قوى الانحلال الفسيولوجي التي تُضعف صحة فرنسا
الثقافية والسياسية. وكان «تايني» يزعم أنَّ «الجراثيم» المدمِّرة (مصطلح القرن
التاسع عشر للجينات)، قد دخلت إلى مجرى الدم الفرنسي عن طريق الجماهير الثورية في
عام ١٨٨٩م، مسبِّبة «الحُمَّى، والهذيان، والتشنجات الثورية». والنتيجة هي أنَّ
فرنسا وجدت نفسها في حالة مرضية مزمنة من عدم الاستقرار السياسي والأزمة الاجتماعية
منذ ذلك الحين.
٤١ وفي كتابه «الانحلال والجريمة» ١٨٨٨م أكَّد «تشارلز فيري»
Charles Féré وبنفس أسلوب «موريل»، على أنَّ
العوامل البيئية تفسِّر ظهور الانحراف الاجتماعي، الحياة المدينية الحديثة،
ومتطلبات معقَّدة، كانت تُثير أعصاب ضعاف العقول والطبقات الدنيا بدرجة كبيرة،
وتُرهقهم وتجعلهم أكثر ميلًا لارتكاب أعمال لاعقلانية بما فيها الجريمة، واستنتج
«فيري» أنَّ المجتمع الصناعي كان يقوم بصنع كومة من النفاية (رأسمال مرضي) تمامًا
كما يكدِّس منجم الفحم خبثَه.
«لا بد من أن يعتبر» العجزة والمجرمون والمجانين والمتفسِّخون على أي نحو فضلات
متخلِّفة عن عملية التكيُّف، وهم مرضى الحضارة «الذين يجب التحكُّم فيهم أو إزالتهم
قبل أن يُغرِقوا مضيفيهم المنتجين.»
٤٢ كان كلٌّ من «تایني» و«فيري» من المحافظين سياسيًّا، ومن الناحية
الأخرى في المنظور السياسي، فإن الراديكالي «إميل زولا»
Emile
Zola، كان يتصوَّر في مجموعته الروائية المسلسلة التي بلغت
عشرين مجلدًا، عن عائلة «روجون ماكوارت»، تجربة عملية لدراسة الانحلال والتداخل بين
الوراثة والبيئة، وعن طريق تلك العائلة المتخيلة، أوضح «زولا» كيف أنَّ «وصمة
الانحلال» عند «لومبروزو» يمكن متابعتها عبر أجيال متلاحقة لتبلغ ذروتها في
«الانهيار الكامل» سياسيًّا واجتماعيًّا عامَي ١٨٧٠م و١٨٧١م، وهو عنوان الرواية
الأخيرة في السلسلة.
وفي رأي «زولا»، فإن «البربرية» الموجودة في المزارعين الفرنسيِّين والطبقة العاملة
الصناعية كانت أكثرَ من أن تكون شبيهة ﺑ «الوحشية» الضارية عند ظالميهم من
البرجوازية الرأسمالية، والانهيار الفسيولوجي وفقدان أعصاب الطبقة الحاكمة. كان
الانحلال بالنسبة ﻟ «زولا» كارثةً جماعية شاملة، تضع المجتمعَ كلَّه في شَرَك الموت.
في
سنة ١٨٧٠م، وجدت فرنسا المنحلَّة نفسها تحت قيادة شخص منحل … مريض … هو «نابليون
الثالث» الذي وصفه «زولا» في روايته «الانهيار الكامل» بأنه: «شبحٌ ذو وجه مهزول
أشبه بالجيفة، وعينَين بلا حيوية، وملامح مسحوبة، وشاربٍ عديم اللون»، كان
الإمبراطور على رأس هزيمة صحية فسيولوجية، بقدر ما هي عسكرية-استرتيجية. «يا لَه
من انهيارٍ كليٍّ لكيان ذلك الرجل المريض، ذلك الحالم الرقيق، الصامت — كآبة — وهو
ينتظر حتفه.»
٤٣ وقد تسلَّلت صورٌ أخرى مماثلة للانحلال والارتداد إلى سمات الأسلاف عبر
القناة لتظهر في نوعَين أدبيَّين جديدَين، هما: الرواية البوليسية، وقصة الرعب. رواية
«دكتور جيكل ومستر هايد» للكاتب «روبرت لويس ستيفنسون» ١٨٨٦م، تقدِّم بشكل واضح:
«الازدواجية التطوُّرية للإنسان الحديث، الذات المتحضِّرة المفيدة اجتماعيًّا، (دكتور
جیكل) الذي يُواجه فجأةً ذاته المرتدة للأسلاف (مستر هايد) الملامح القردية لمستر
«هايد» التي رسمها «لومبروزو» والأيدي كثيفة الشعر والميول البربرية … كلُّها تميِّزه
كشخصية مرعبة.» تقول إحدى الشخصيات: «يا إلهي! … هذا الرجل لا يبدو إنسانًا … هل
نقول إنه شيء … قرد يُشبه الإنسان؟» «جيكل» نفسه يُدرك أنها «لعنة البشرية «التي» في
رحم الوحي المحتضِّر، يتصارع هذا التوءم المتناقض على نحو مستمر»، «وستيفنسون» مضطر
إلى أن يستنتج أنَّ الحضارة تعتمد على كبح الحيوان في داخلنا. يقول «جیكل»: «شيطاني
الحبيس منذ وقت طويل خرج يزأر.» وهو استنتاج شبيه بذلك الذي سوف يصل إليه «سيجموند
فرويد» بعد سنوات قليلة، «شرلوك هولمز» أيضًا كان على علم بأفكار «لومبروزو» ومثل
صانعه «آرثر كونان دويل»
Arthur Conan Doyle، درس
«هولمز» التشريح الطبي حيث البحث عن العلامات الدالة التي تُنبِّه إلى وجود مرض،
يتوازى بشدة مع بحث «لومبروزو» عن دلائل الإجرام، والبحث نفسه عن الوصمة
Stigmata أو مفاتيح مرئية واضحة، موجود في لُبِّ
أسلوب «هولمز» كمخبرٍ سريٍّ، وتُقدِّم لنا القصة البوليسية كذلك ازدواجية «جیكل-هايد»
في حبكتها الرئيسية، تحويل «ظروف عادية» (مثل الريف الإنجليزي)، عند «ويلكي كولينز»
Wilkie Collins، و«أجاثا كریستي»
Agatha Christie، أو لندن «كونان دويل»
Conan Doyle عن طريق حدث مرضي مفاجئ على شكل جريمة (أو وحش في قصص الرعب الكلاسيكية)؛ ﻓ «قضية الرجل
الزاحف» تحرِّك «هولمز» لكي يلاحظ ما تتضمنه طبيعةُ الإنسان المتطوِّرة من جوانب مظلمة
أو غامضة؛ فعندما يحاول عالمٌ ما أن يصدَّ الشيخوخة بحقن نفسه بغدَّة القرد، فإنه بذلك
يحوِّل نفسه إلى مرتدٍّ
وراثي شنيع يُشبه القرد. يقول «هولمز» الذي يقوم بمسح للمشهد المخيف: «أرقى نموذج من
الإنسان قد يعود إلى الحيوان إذا تخلَّى عن طريق المصير المستقيم»، ولكن قوة العلم
الحديث لتغيير هذا المصير بمنع الموت «الطبيعي» أو تمديد الحياة «غير الطبيعية»،
تؤدِّي إلى هذا التصوُّر المتزن:
هناك خطر. وهو خطر حقيقي على الإنسانية. فكِّر يا «واطسون» … لو أنَّ
المادي والحسي والدنيوي … كلهم يمددون حياتهم التي لا قيمة لها … سيكون
معنى ذلك أنَّ البقاء للأقل صلاحية … ألَا يصبح عالمنا مجرورًا أو بالوعة
لكل النفايات؟
هذا التحوُّل للإنسان المتحضِّر إلى وحش على طريقة «جيكل-هايد» يبدو الأكثر
دراميةً في صور منعطف القرن عن الرجل الذئب والهامة، «برام ستوكر»
Bram Stoker، كتب «دراكيولا» في عام ١٨٩٧م بعد
فترة قصيرة من ظهور كتاب «ماكس نوردو»
Max Nordau
«الانحلال» الذي روَّج لنظرية «لومبروزو» عن التفسُّخ بين جمهور واسع، الكونت
«دراكيولا» هو الأخير في سلسلة الأرستقراطية، بل إنه يمكن في الواقع أن يكون الذات
المتغيِّرة عند «جوبينو»، فيما عدا أنَّ الذرية مرسومة بعلامة الانحلال وليس البطولة،
ويقدِّم لنا «ستوكر» وصفًا دقيقًا ﻟ: «ملامح الوجه والأسارير المحدَّدة» للكونت،
والذي يتتبَّع جيدًا الأوصاف التي جاءت في كتاب «لومبروزو» عن النمط المتقدِّم، مشيرًا
إلى جبهة «دراكيولا» ذات القبة العالية، وإلى فتحتَي الأنف المقوستَين على نحوٍ غريب،
والأذنين المدبَّبتَين، والحاجبَين اللذَين يلتقيان تقريبًا عند قنطرة الأنف، أنياب
«دراكيولا» البارزة موجودة ﻛ
Stigma بالمعنى ذاته
عند «لومبروزو»، وهي التي تميِّز أصوله البدائية وشهيته الوحشية للدم،
٤٤«دراكيولا» لا تتلبسه أية قوًى شيطانية أو خارقة للطبيعة، كما كان في أية
قصة قوطية رومانسية، وهو مثل اللص والمزيف عند «لومبروزو»، نتاج منحرف للطبيعة
العادية، فنحن نسمع على لسان إحدى الشخصيات: «الكونت مجرم ومن جنس إجرامي»، «نوردو»
و«لومبروزو» يمكن أن يصنفاه هكذا،
٤٥ وهو أيضًا طفيلي أو عالة على المضيفين المنتجين في مجتمع الطبقة
الوسطى، مثل «مرضى الحضارة» عند «تشارلز فيري». ويشير دكتور «فان هلسنج»
Van Helsing عدو «دراكيولا» ونقيضه «العادي»،
إلى أن الهامة — مصاصة الدماء — قد ظهرت في كل الحضارات الكبرى القديمة من اليونان
إلى روما إلى الصين، إلا أنَّ «دراكيولا» يمثِّل خطرًا من نوع خاص يسمِّيه «فان
هلسنج»: «قرننا التاسع عشر، العلمي، النزاع للشك، العملي»، لأنه قد ترك مخبأه
البعيد في «ترانسلفانيا» الريفية، وذهب إلى «لندن»، المدينة الصناعية الكبيرة
المزدحمة. وهناك يمكن أن ينشر مرضَ تطفلِه بين سكان المدينة، ويفرغها من حيويتها،
ويُقيم مملكة اللاموتى في قلب المجتمع الحديث. الشخصيات الإنسانية في «دراكیوالا»
تجد نفسها في حالة حرب من أجل الحضارة، يضطرون فيها للجوء إلى وسائل وحشية
ومتطرِّفة، وهي حرب ينتصرون فيها وينهزمون، قبل أن ينجحوا في قتل «دراكيولا»، يخسرون
بطلة الكتاب «لوسي ديستنرا» (التي يمكن قراءة اسمها بمعني نور الغرب)، أمام قوى
الكونت الوحشية وهي تتحوَّل نهائيًّا من نموذج للأنوثة العادية المتحضرة إلى وحشٍ
ضارٍ، الظهور الصارم ﻟ «لوسي» كهامة، «مصاصة دماء، وشفتاها تقطران بالدم، ورقَّتها
تتحوَّل إلى قسوة شديدة، عديمة الرحمة، ونقاؤها وطهارتها إلى شهوة جامحة»، يصبح
حكاية رمزية عند «ستوكر» لعملية التدمير التي تقوم بها عملية الانحلال لتعريشة
الحياة المتحضرة، والتي من المفترض أنها آمنة مصونة. الخوف من الانحلال التفسُّخ،
غيَّر المفاهيم الشائعة عن المدن الصناعية الكبرى، مثل «لندن» و«باريس»، التي لم تَعُد
رحِمًا منتجًا للحراك الاجتماعي وللفرص، بل أصبحت على العكس أماكنَ خطرة، وملجأً
للمجرمين والمعوزين وللإنسانية الوضيعة، أصبحت عالم «دراكيولا» و«جاك السفاح»،
الحياة المتحضِّرة و«المهذَّبة» في المدينة، وجدَت نفسها مقصورةً على قلة من المراكز
مثل
٤٦ «ماي فير»، و«وست إند» في لندن؛ حيث كانت الثروة والاقتصار على مجتمع
معيَّن يمكنهما الوقوف في وجه زحف الانحلال.
٤٧ في أحد أعداد مجلة «لانست» (المبضع
The
Lancet) في عام ١٨٨٠م، وكانت المجلة الطبية الأولى في لندن
نقرأ: «مَن يجد أنَّ مراكز الانحلال والتفسُّخ في أمة ما زالت قوية ونشطة بشكل عام،
عليه أن يبحث عنها عند مواقع التوتر الاجتماعي. هناك توجد كل دلائل الضغط والموت
جوعًا والعجز والرذيلة والارتداد إلى الوحشية … ونتائج ذلك كله.»
٤٨ الصورة الذاتية للقرن التاسع عشر بدأت تخضع لتغيُّر جذري، وذلك الشعور
بالفزع الذي أثاره «جوبينو» في وجه التاريخ، يتملَّك الآن الطبقة المتوسطة
ذاتها.
الانحلال والثقافة: من «ماكس نوردو» إلى «إميل دوركايم»
مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لم يَعُد أحدٌ ينظر إلى الانحلال أو
التفسُّخ كشيء غريب أو شاذ، أصبح المفكرون يرونه جزءًا حتميًّا من الحياة الحديثة،
مثلما كانت الطبقة الدنيا نتاجًا طبيعيًّا للحضارة الصناعية عند «تشارلز فيري»، وقد
اتخذت تحديات الانحلال أشكالًا متنوعة جديدة ومروعة؛ ففي سنة ١٨٩٢م نشر الطبيب
والصحفي الهنغاري «ماكس نوردو» كتابَه «الانحلال» الذي أهداه إلى «سيزار لومبروزو»،
وبالرغم من حجمه الكبير (٦٠٠ صفحة تقريبًا)، إلا أنه سرعان ما أصبح من أفضل الكتب
مبيعًا، وظهرَت ترجمات له في اثنتَي عشرة لغة. قام «نوردو» بتفصيل تحليلات «لومبروزو»
لكي يوضحَ أنَّ المنحلِّين ليسوا دائمًا مجرمين أو داعرات أو مجانين … وإنما يمكن أن
يكونوا — غالبًا — مؤلفين وفنانين. «شارل بودلير» والشعراء الفرنسيون «المنحلون»،
«أوسكار وايلد» (النموذج الأصلي للكونت «دراكيولا» عند «برام ستوكر»)، «مانيه»
والانطباعيون، «هنريك إبسن»، «ليو تولستوي»، «إميل زولا» بالإضافة إلى «فاجنر»
و«فردريك نيتشة». والحقيقة أنَّ دكتور «نوردو» وضع كلَّ الشخصيات الرئيسية في ثقافة
نهاية القرن تحت مجهره النقدي، واستنتج أنهم جميعًا كانوا ضحايا «حالات عقلية
ذاتية»، الفنان الحديث المنحل، مثل قرينه المجرم يفتقد الحسَّ الأخلاقي، «لا وجود
عندهم لقانون أو احتشام أو حياء»، نظرتهم وأعمالهم كلُّها يتخلَّلها الاسترسال العاطفي
والهيستريا، بالإضافة إلى «السأم» ذلك المرض القديم للرومانتيكية. وكان «نوردو»
يُرجِع ذلك لحالتهم العصبية الضعيفة. كتب: «المنحل والمخبول هم التلاميذ الحتميُّون ﻟ
«شوبنهاور».»
٤٩ كما كتب: «التشاؤم هو الفكرة الأساسية للعصر.» وكأنه كان يردِّد ما
سبق أن قاله «توكفيل» قبل أربعين عامًا. كان يشعر باستياء شديد من جانب رجال مثل
«جوبينو» و«نيتشة» بالنسبة للتغيُّرات التي جاء بها القرن التاسع عشر. ومثل كل
الكاثوليك المحافظين المعادين للسامية في موطن نوردو «النمسا-هنغاريا» (نوردو كان
يهوديًّا)، كان أولئك المثقفون يسخرون من إنجازات القرن في المعرفة العلمية والنمو
الاقتصادي والديمقراطية الشعبية، ولكن «نوردو» أطلق هجومَه المضاد من مختبره الطبي،
زاعمًا أنَّ التشاؤم كان نتيجةَ فساد فسيولوجي أوسع يُصيب المجتمع الحديث بالعدوى.
كانت النخبة الفنية والفكرية الأوروبية مجبرةً بحكم التطوُّر على إنتاج «فن منحط»،
وهو الاصطلاح الذي روَّج له «نوردو»،
٥٠ وجعله يشيع على نحوٍ أخرق، والأكثر من ذلك أنه زعم أنَّ رسامين
انطباعيِّين مثل «مونيه»
Monet، و«سيورات»
Seurat، كانوا يستخدمون ألوانًا أرجوانية وزرقاء قوية في رسومهم نتيجة مرض عصبي اسمه «الرأرأة»
٥١⋆ يُعشِي ويشوِّه الرؤية،
٥٢ وكان «نوردو» مدفوعًا للاستنتاج أنَّ الأمل الوحيد للحضارة الأوروبية
كان معلَّقًا على الشعب العامل، لا أمل في الأرستقراطية الأوروبية ولا الطبقات
الغنية؛ حيث إنَّ «المنحلِّين يوجدون دائمًا بين الطبقات العليا.»
٥٣ وبدلًا من ذلك، فإن الفلاحين والعمال وأصحاب المساكن من البرجوازية
الصغيرة والذين يعملون بأيديهم، والنساء الباقيات بالمنازل لتربية أطفالهن، هؤلاء
هم الذين سيحفظون حيويةَ النوع، بالإضافة إلى الأخلاق التقليدية. أما استنتاجه
النهائي (وهو استنتاج غريب لواحد من أشد المعجبين بالمجتمع الصناعي)، فهو أنَّ غنَى
وبحبوحة أوروبا قد استطاعا أن يدمِّرا الحيوية والثقة بالنفس، مخلِّفين قافلةً من
المنهارين عصبيًّا والمنحطِّين أخلاقيًّا.
من ناحية أخرى، فإن الحياة النشطة والعمل الجسماني سيؤديان إلى «حضارة صدق، وحب
للجار، وبهجة.»
٥٤ إطراء «نوردو» على الجهد العضلي أصبح جزءًا من حملة واسعة النطاق في
أواخر القرن التاسع عشر تدعو لممارسة الرياضة والاهتمام باللياقة البدنية، الأطباء
والمدرسون والمصلحون الاجتماعيون والسياسيون، كلهم وجدوا أنَّ ممارسة الرياضة النشطة
خارج المنازل، يمكن أن تكون عملًا مضادًّا لقوى الانحلال والتفسُّخ الخطرة، فوائدها
الجسمانية سوف تقوِّي من الصالح الأخلاقي، بالإضافة إلى إنعاش السلالة، وكانت
النتيجة هي الحماس الشديد للألعاب الرياضية واللياقة البدنية والإقبال عليها.
انتشرَت الأندية الرياضية في كل ألمانيا، بينما أصبحت الحركة الشبابية الألمانية
تُعرَف بمعسكرات الخلاء وحمل الحقائب على الظهور في الغابات والجبال، الهوس بركوب
وسباق الدراجات في فرنسا (موجود الآن في «الرحلة حول فرنسا») وبالرجبي وكرة القدم
في إنجلترا، والحدائق العامة والبيسبول في أمريكا، كان ذلك جزءًا من الرغبة نفسها
لخلق مجتمع رجال ونساء أصحاء، يستيقظون مبكِّرين ولا يكونون مرهقين عند الغروب، رجال
ونساء لهم عقول صافية وعضلات قوية بعبارة
٥٥ «نوردو»، كما ساعد «نوردو» نفسه في إنشاء «جريدة الرياضة البدنية
اليهودية»، وأكَّد على أهمية قيام ثقافة «اليهودية العضلية» لمواجهة الاتهامات
التي تقول إنَّ اليهود كانوا جنسًا للانحلال الجسماني.
٥٦ نظريات «نوردو» أعطَت انعطافةً جديدة لكيفية التداخل بين التطوُّر
البيولوجي للإنسان وتطوُّر المجتمع التاريخي، ثم كانت هناك إمكانية رابعة مقلقة
أخرى تُقدِّم نفسها، حتى الأنواع البشرية الصحيحة (صحيًّا)، والتي تعيش في مجتمع
متقدِّم، يمكن أن تنحلَّ إلى نوع أقل وأضعف جسمانيًّا وأخلاقيًّا، إذا لم يتمَّ اتخاذ
خطوات تصحيحية، ومثل «لومبروزو» ظلَّ «نوردو» متفائلًا بشأن المستقبل، ولكن أرضية
التفاؤل كانت في حالة انكماش مطرد، فقد اضطرت نظريةُ الانحلال كثيرين لأن يستنتجوا
أنَّ المجتمع الصناعي الحديث يمضي نحو مستوًى من التقدم لم يَعُد الجنس البشري قادرًا
على مجاراته، وبرزَت مجموعة من المفكرين في تسعينيات القرن التاسع عشر للإيحاء بأن
الحضارة الحديثة كانت في قبضة قوًى خفية، لم يَعُد النظام الاجتماعي والسياسي العاديَّان
قادرَين على السيطرة عليها.
ادِّعاء «لومبروزو» بأننا «محكومون بقوانين صامتة، تحكم المجتمعَ بسلطة أكبر من
القوانين المدوَّنة في سجلَّات نُظُمِنا التشريعية»، سوف يكتسب أهميةً جديدة في أعمال
«جوستاف لوبون» Gustav Le Bon، و«إميل دوركايم» Emile Durkheim، و«ماكس فيبر» Max Webber.
في سنة ١٨٩٥م نشر «لوبون» كتابه «العامة». كان طبيبًا مشهورًا وأحدَ المعجبين
بالخبير الطبي الفرنسي (في الانحلال) «جان مارتان شاركوت»
Jean
Martin Charcot، الذي كان بدوره أحدَ معلِّمي «سيجموند فرويد»
Sigmund Freud، كان «لوبون» قد قام ببعض
الأبحاث الفسيولوجية عن الجمجمة وحجم المخ، و«استنتج» أنَّ مخ الرجل في المجتمع
الحديث يصبح أكبرَ حجمًا، علامة على الطاقة الذهنية المتنامية، بينما ينكمش حجم مخ
المرأة،
٥٧ بعد ذلك ترك المسماك والكرانيوميتر
٥٨⋆ ووجَّه اهتمامه نحو السلوك الجماعي في المجتمع الصناعي وخاصة سلوك
العامة. زعم «لوبون» أنَّ الأفراد عندما يتجمَّعون في الشارع أو في اجتماع سياسي،
فإنهم يُحدِثون شررًا في كلٍّ منهم الآخر، يدفعهم نحو رِدَّة جماعية للحالة البدائية،
كما كتب يقول: «الإنسان يهبط عدة درجات على سُلَّم الحضارة، بمجرد أن يكون جزءًا من
زحام أو حشد منظَّم.» «وهو بمفرده» قد يكون فردًا مهذَّبًا، ولكنه بربريٌّ هجميٌّ وسط
الزحام، ويصبح قادرًا على إتيان الأفعال اللاعقلانية والوحشية التي تميِّز مثيري
أعمال الشغب والعنف، والدهماء في الشوارع، فهو «لديه العنف والعفوية والوحشية
«وكذلك» حمية وبطولة الكائنات البدائية.»
٥٩ وحيث إنَّ الحياة المدينية الحديثة والسياسات الديمقراطية تخلق الكثير
من الفرص لمثل هذا النوع من السلوك الارتدادي الجماهيري، «وغريزة القطيع» بتعبير
مُنظِّر آخر هو «وليم تروتر»
William Trotter، فإن
أخطارًا شديدة كانت تلوح في أفق المجتمع الصناعي الأوروبي، وكما شرح «لوبون»
مردِّدًا كلام «بوركهارت» … «إنَّ حلول قوة الجماهير من علامات المراحل الأخيرة في
الحضارة الغربية … حضارته الآن بلا استقرار، العامة يهيمنون، ومدُّ البربرية
يعلو.»
٦٠ ومن هنا فإن الطبيعة «الحقيقية» للديمقراطية الشعبية، كانت في حاجة
إلى أسلوب جديد للتعامل مع السياسة، المؤسسات البرلمانية أو التشريعية التقليدية
لم تَعُد قادرةً على السيطرة على الجماهير كما حذَّر «لوبون»، العامة يبحثون بأسلوبهم
المرتد إلى طبائع السلف عن فردٍ قويٍّ — بدلًا من قائد — يستطيع أن يوجِّه طاقاتِهم
اللاعقلانية نحو أهدافٍ بنَّاءة.
٦١⋆
واستنتج «لوبون» أنَّ القائد الطبيعي للعامة (الجماهير) يشعُّ القوة الشخصية ذاتها،
التي كانت تميِّز شيخ القبيلة أو الطبيب الساحر (الحكيم) في القبيلة البدائية،
وبدرجةٍ أكبر مما يشعُّها مَن هم أقل منه شأنًا. «لوبون» يسمِّي ذلك ﺑ «الهيبة»، بينما
يُطلِق عليها «ماكس فيبر»: «الكاريزما». لم يُبدِ «فيبر» أبدًا اهتمامًا شديدًا بنظرية
الانحلال، وأفكاره اتخذت شكلًا في إطار مختلف تمامًا عن جدل سبعينيات وثمانينيات
القرن «التاسع عشر» بين علماء الجريمة الإيطاليِّين وعلماء الطب الفرنسيِّين، بيد أنَّ
نظريتَه عن «الكاريزما»، وتمييزه الشهير بين القوة البدائية الخلَّاقة للكاريزما،
والمؤسسات القائمة على الروتين العقلاني (والضعيف)، كانت ذات صلة وثيقة بالتفكير
الانحلالي، وبالنسبة ﻟ «ماكس فيبر» فإن الروتين المعقلن يحدِّد الحضارة الحديثة،
إلا أنه يمكن أن يكون «قفصًا حديديًّا» بالنسبة للفرد، ومقيَّدًا مثل أيِّ مجتمع
بدائي.
٦٢ من جانب آخر، فإن «إميل دوركايم» كان شديدَ الاهتمام بالملامح الرئيسية
لنظرية الانحلال وآثار ما أطلق عليه مصطلح «الحضارة المفرطة» على الإنسان الحديث.
كان خوفه الشديد هو أنَّ الحضارة الحديثة يمكن أن تدمِّر أدواتها الإنسانية بالإخلال
بالتوازن بين «القوى الحيوية» التي تحفظ الكيان الاجتماعي العضوي حيًّا. ويقول
«دوركايم»: «إذا كان هذا الكيان الاجتماعي العضوي قويًّا، فإن الأفراد يصبح لديهم
نشاطٌ وقوة أكبر على المقاومة «ضدَّ صدمات التغيُّر الاجتماعي»، إذا فقد الكيان
الاجتماعي «الكلي» توازنَه، يشعر الأفراد بالنتائج في صحتهم العقلية والجسدية.»
باختصار، سيصبح الناس مرضى؛ لأن مجتمعهم مريض. «الأسباب العضوية هي في الغالب أسباب
اجتماعية، تحوَّلت وثبتَت في الكيان الكلي.» كما يقول، مخلِّفة توجُّهات غير صحية في
المجتمع؛ مثل انخفاض معدل المواليد وزيادة معدلات الانتحار.
٦٣
كتاب «دوركايم» المهم: «الانتحار» ١٨٩٧م خرج مباشرةً من رحم نظرية الانحلال، ومثل
«لومبروزو» فإن «دوركايم» لم ينظر إلى «المرضى» و«العادي» كنقيضَين نهائيَّين.
الانتحار مثل الجريمة، كانا في أقصى النهاية في مقياس انزلاقي من الاستجابات
للمجتمع الصناعي الحديث، «النيوراستينيا»
٦٤⋆ تأتي
أولًا (الفرد يمكنه فقط أن يحافظ على نفسه في مجتمع، إذا كان لديه تكوينٌ عقليٌّ
وأخلاقي معادل، وهذا لا يتوفر لمريض النيوراستينيا)، ثم الاكتئاب، وأخيرًا الشعور
بالاغتراب واليأس المفضي للانتحار، والذي يقول عنه «دوركايم» إنه «الفدية التي
ندفعها للحضارة!»
الحضارة المفرطة التي تُولِّد الميل للاغتراب والشعور بالضياع والميل
الأنوي، هي أيضًا التي تُهذِّب النظام العصبي وتجعله رقيقًا، ومن خلال ذلك
يصبح أقل قدرة على الارتباط الوثيق بشيء محدَّد، كما يصبح نافدَ الصبر على أي
سلوك منظَّم، وأكثر عرضة للانزعاج العنيف والاكتئاب الشديد.
٦٥
عند «دوركايم» الحضارة بمعناها الكلاسيكي — التقدم الاقتصادي، المعرفة العلمية
والتكنولوجية وتقدُّم الفنون — مجرَّدة من المحتوى الأخلاقي، التقسيمات التنويرية
القديمة، زيادة السلوك المهذَّب، الروح الاجتماعية، رُقِيُّ الطباع … كل ذلك يتمُّ
إقصاؤه، المجتمع التجاري الصناعي منظَّم بشكل يجعله يَفِي باحتياجات الإنسان
الفيزيقية والمادية، ولكن (بعيدًا عن أنه يخدم التقدم الأخلاقي) فإن الجريمة
وحالات الانتحار تنتشر في المراكز الصناعية الكبرى، العمل وتقسيم العمل يفرضان
انضباطًا صارمًا واتِّساقًا على حياة الناس لم يكونَا معروفَين في المجتمعات الأكثر
بدائية، التقدم المادي يجرُّهم جرًّا، ويترك لهم خيارًا ضيِّقًا: «يتحركون لأنهم
لا بد أن يتحركوا.»
٦٦ وعلاج تلك الآثار المرضية للمجتمع الصناعي — في رأي دوركايم — ليس
موجودًا في الفرد وإنما في الجماعة.
بينما دمَّر المجتمع الحديث أو أفسد الأسس القديمة للعمل الأخلاقي — الضوابط
الأخلاقية، ضبط النفس، الدين — نجد أنَّ أُسُسًا جديدة قد حلَّت محلَّها على شكل تضامن
اجتماعي — الأسرة البرجوازية، المؤسسة، اتحاد العمال، الدولة — كلها تشكِّل
نظامًا صاعدًا من كيانات اجتماعية صنعها المجتمع الحديث، يمكن للأفراد أن يكتشفوا
فيه صلةً عضوية بالآخرين، ويُشبعون احتياجاتهم ككائنات اجتماعية أكثر مما يشعرون
بالوحدة والتخلي. كلمات مثل: الوحدة، التضامن، المجتمع، أصبحت رموزًا لآمال أشخاص؛
مثل «دوركايم» و«نوردو»، و«فيبر»، و«لومبروزو»، وغيرهم، ممن كانوا يعتقدون أنَّ تلك
الفضائل الاجتماعية الجمعية يمكن أن تُرمِّم وتُعيدَ بناءَ ما كان المجتمع الصناعي يقوم
بتدميره: وهو الإنسان نفسه.
كان «لومبروزو» يقول — وبحماس شديد — إنَّ الوحدة القومية الصحيحة يمكن أن تُزيل
الفوارق الاقتصادية والانحلال والجريمة في كل إيطاليا، و«نوردو» كان يعتقد أنَّ
التقدم الإنساني الأخلاقي الصحيح، كان يتحقَّق بنشر الشعور بالتضامن الاجتماعي على
نطاق واسع، وفي النهاية فإن الإنسانية تكون «كیانًا جمعيًّا أنت خليَّة فيه … طاقاته
الحيوية هي التي تُنتِجُك وتحافظ عليك حتى تموت، ارتفاعُه ورُقِيُّه يحملك معه إلى
أعلى.»
٦٧ كما أوضح «دوركايم» أنَّ الإحساس بالوحدة التي يحتاجها المجتمع لن
يظهر فجأةً أو تلقائيًّا. الدولة لا بد أن تؤدِّيَ الوظيفةَ الموحَّدة للكيان الاجتماعي
كلِّه، والذي يحاول تقسيمَ العمل أن يمزِّقَه، مقتبسًا «أوجست كونت» يستنتج «دوركايم»
أنَّ
الحكومة وحدها لديها القدرة على «التدخُّل المناسب في الإنجازات العادية لوظائف
الاقتصاد الاجتماعي؛ لكي تُذكِّرَ باستمرار بمشاعر الوحدة والتضامن
المشترك.»
٦٨
الخوف من الانحلال، كان يغيِّر الآن أُفُقَ ليبرالية القرن التاسع عشر. لم يَعُد
التقدم — بالمفهوم الاقتصادي والعلمي الكلاسيكي — كافيًا لتحقيق مجتمع آمن
ومستقر. بمجيء عام ١٨٨٠م، كانت الليبرالية الكلاسيكية في أزمة — كما أوضح عددٌ كبير
من المفكرين في ذلك الوقت — أصبحت مبادئها الفردانية التقليدية موضةً قديمة في
أوروبا الغربية كلها، وظهرَت بدلًا منها سلسلةُ حركات أخرى تُحاول إنقاذ المجتمع
الليبرالي، مستمدَّةً عناصرها من كلٍّ من العقائد السياسية الاشتراكية والمحافظة، وكانت
تلك تتضمَّن ما يُسمَّى بالليبرالية الجديدة في أواخر العصر الفيكتوري في إنجلترا،
و«اشتراكيو المقعد» في ألمانيا ولهلم، والحركة التقدمية في الولايات
المتحدة.
٦٩ كان الخوف من الانحلال أحدَ العوامل الحاسمة في هذه القناعات ما بعد
الليبرالية، الافتراض بأن الحضارة الحديثة كانت في حالة ضعف نفسي أصبح بديهيةً عامة
في العلوم الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي، كما كان الزعم بأن الجزء البدائي
والمتخلِّف في الروح الإنسانية هو سبب الانهيار الذاتي للحداثة. في سنة ١٨٩٢م، كتبَت
«بلاكوودز ماجازين»: «نحن نرى كيف يفصل بيننا وبين عوامل العنف التي تشكِّل أساسَ كلِّ
المجتمعات المتحضِّرة حاجزٌ رقيق غير ثابت.»
٧٠ الحضارة الليبرالية الحديثة كانت تبدو وكأنها تحكم على نفسها
بالانقراض، ورغم أنَّ ليبراليَّ نهاية القرن ظلُّوا يقاومون نظريات «جوبينو» العرقية
«الغاشمة»، أو عدمية «نيتشة» إلا أنهم كانوا قد أصبحوا مقتنعين بأن الوسيلة الوحيدة
لتجنُّب أزمة، هي التوجُّه نحو حلول تكمل ليبرالية «دعه يعمل»، إن لم تكن تحلُّ
محلَّها بالفعل.
اليوجينيا٧١⋆ والدولة
«اليوجينيا» ستكون أحدَ تلك الحلول. علماء اجتماع ما بعد الليبرالية، وعلماء
الاقتصاد والفلسفة مثل «دوركايم» في فرنسا، و«جوستاف فون شموللر»
Gustav von Schmoller في ألمانيا، و«توماس هل»
جرين
Thomas Hill Green في إنجلترا، أعادوا فحصَ
ذلك التداخل والتقاطع بين المجتمع الحديث والإنسان الحديث من جانب التطوُّر
الاجتماعي في المعادلة، وحاولوا هم ونظراؤهم أن يبيِّنوا كيف أنَّ
الظروف الاجتماعية للإنسان يمكن أن تؤدِّيَ إلى
تغيُّر أساسي في جميع أعضاء المجتمع، بل ويمكن أن تُنقذ الحضارة من نفسها،
«اليوجينيا» تفحص المشكلة من الجانب الآخر، حيث تبحث ضرورةَ تغيير
الإمكانيات البيولوجية للإنسان؛ لكي يتمكَّن من
الحياة ومن الازدهار في المجتمع الحديث، لكن «اليوجينيا» مدينة بجزء كبير من سُمْعتها
السيئة لارتباطها بالنازية؛ إذ بفضل «
الحل
النهائي» عند «هتلر»، أصبح لمصطلح «الصحة العرقية» صدًى رهيبٌ، ولكن
حركة «اليوجينيا» بدأت معتدلةً كمحاولة تصحيحية وتقدُّمية لما كان يُعتقد أنه
التدهور الفسيولوجي الذي يتهدَّد أوروبا وأمريكا، وكانت جزءًا من جهد كبير لإقامة ما
كان يُطلق عليه الليبراليون التقدميون في ستينيات القرن التاسع عشر «الاقتصاد
الاجتماعي»، أي مجتمع منسجم يمكن أن يقضيَ على التفاوت وعدم التكافؤ الناشئ عن
الرأسمالية الحديثة. حركة الإصلاح الاجتماعي كلها في أوروبا والولايات المتحدة،
بدءًا من الصحة العامة وإزالة الأحياء الحقيرة، إلى الاعتدال وعدم التطرُّف وتحرير
المرأة، كانت دائمًا وثيقةَ الصلة باليوجينيا، وقائمة على نفس افتراضات ما بعد
الليبرالية،
٧٢ أما موطن ميلاد حركة «اليوجينيا» فكان إنجلترا «دارون»، وأسرة «دارون»
نفسها، ابن عمه «فرانسیس جالتون»
Francis Galton هو
الذي سكَّ المصطلح في عام ١٨٨٣م، كإشارة إلى علم استيلاد الأطفال الجيدين. كان
«جالتون» يُصرُّ دائمًا على أنَّ اليوجينيا ليست سوى الجانب العملي للدارونية
النظرية.
وإلى جانب دارونيِّين آخرين، مثل «توماس هكسلي» Thomas
Huxley كان «جالتون» قلقًا بخصوص الجانب «الارتدادي» المظلم في
عملية التطوُّر، ولكن مخاوفه كانت محدودةً وذات أساس اجتماعي.
كان يُقلقه أنَّ المواهب العقلية والقدرات التي تعمل على تقدُّم الحضارة ليست
موزَّعةً بالعدل في المجتمع الحديث، وواقعة تحت تهديد دائم بسبب النموِّ السكاني
المتزايد في مدن إنجلترا.
إنَّ نشأة «الإنسان العام»، الذي كان «بوركهارت» يراه انتصارًا للمتوسطية الثقافية
Cultural Mediocrity، كان يبدو بالنسبة ﻟ
«جالتون» ضمانًا للمتوسطية البيولوجية Biological
Mediocrity كذلك، ولكي يوضح توزُّع الذكاء بين جمهور السكان،
قدَّم «جالتون» رسمًا تخطيطًا مستخدِمًا منحنًى يُشبه الجرس، في طرف من المنحنى توجد
العبقرية الوراثية، وفي الطرف الآخر البلاهة الوراثية، واستنتج أنَّ هناك شخصًا
واحدًا بين كل أربعة آلاف شخص، يمتلك المواهب الضرورية لتقدُّم الحضارة.
الأغلبية الكبيرة أظهرت ذكاءً متوسطًا. أما إذا كان أعضاء تلك المجموعة الأكثر
موهبة: (القضاة، رجال الدولة، رؤساء الحكومات، رجال الدين، ضباط الجيش، العلماء،
الأكاديميون، الكُتَّاب، الموسيقيون و— للغرابة — المصارعون وأبطال التجديف) قد فشلوا
في التكاثر بأعداد كافية، فإن النتيجة ستكون الكارثة الاجتماعية.
٧٣ هذه الفجوة الوشيكة في الموهبة كانت مرتبطةً بمخاوف «جالتون» من الآثار
المدمِّرة للمجتمع الحديث، مستبقًا مخاوفَ «دوركايم» من الحضارة المفرطة، كان
«جالتون» قلقًا لأن بريطانيا الصناعية كانت تتسع بسرعة شديدة، وتصبح أكثر تعقيدًا
لدرجةٍ تفوق قدرةَ البشر على مجاراتها. «المواطن العادي أقل من أن يقوم بالأعمال
اليومية في الحضارة الحديثة.»
٧٤ كانت البيئة الاجتماعية الحديثة تُسبب إرهاقًا شديدًا للقوى الحاملة
لمادة التطوُّر البشري وبأكثر مما تحتمل، وكان كل شيء يدل على أنَّ مَن هم أفضل لا
يجدون أنفسهم، بينما المتوسطون والأسوأ متحققون. وبالنسبة ﻟ «جالتون» وآخرين من
علماء اليوجينيا، كان النموُّ السكاني العادي قد أصبح شكلًا للانتخاب الطبيعي
السلبي،
٧٥ وقد شرح عالم «داروني» آخر متأثِّرًا بنفس المخاوف، وهو «إدوين
لانكستر»
Edwin Lankester كيف أنَّ المجتمع يتهدَّده
«التكاثر المتزايد للأفراد المهملين، واليائسين، والأشد فقرًا، والأقل مقدرة وغير
المرغوب فيهم من المجتمع»، الطبقات الدنيا ستُصبح «عامة» طفيلية، طبقة دنيا دائمة من
«الدراكيولا البروليتارية تأكل النسيج الاجتماعي للمجتمع الصناعي»،
٧٦ وكان الحل في اليوجينيا، أما الخطة فكانت بسيطة جدًّا. «إذا تزوَّج رجال
موهوبون بنساء موهوبات … جيلًا بعد جيل … يمكن أن نُنتجَ جنسًا أفضل»، ونقضي على
خطر الارتداد أو العودة إلى نموذج السلف البدائي. وكان لليوجينيا ميزة لا تُقدَّر،
لتصحيح انحلال الغرب بطريقة علمية وإنسانية. وهكذا أعلن «جالتون» أنَّ «اليوجينيا
تتعاون مع أفعال الطبيعة لتضمن أنَّ الإنسانية سوف تمثِّلها دائمًا الأجناس الأصلح»،
«ما تفعله الطبيعة على نحوٍ أعمى وببطء وبطريقة قاسية، يمكن أن يفعله الإنسان
بتدبُّر وبسرعة وبشفقة.»
٧٧
ولكن ليس كيفما اتفق؛ فقد طوَّر «جالتون» نظامًا معقَّدًا لتحديد الناس الأكثر
موهبةً بين السكان البريطانيِّين، وكذلك الأقل موهبة — «المعتوهين والبلهاء» — بناء
على مواصفات يمكن ملاحظتها ودراستها وقياسها ومقارنتها وحفظها. بحماس شديد، أدخل
نفسه في فسيولوجيا دماغية بنفس طريقة «لومبروزو»، مسلِّحًا نفسَه بجهاز لإنتاج صور
مركَّبة للنماذج البشرية المثالية أو «الأنماط» التي تمثِّل الجريمة، الموهبة، الغباء.
بالإضافة إلى اليهودية، حاول أن يرسم «خريطة جمال» لبريطانيا عن طريق حساب
الملامح المحبوبة في السكان (لندن أعلى نسبة وابردين الأقل) كما حاول — حتى — أن
يضع دليلًا كميًّا لقياس السأم، وكما يقول أحد الدارسين المحدثين: «إنَّ بحث
«جالتون» دفع التفسير الفيزيقي للثقافة إلى حدِّه الأقصى.»
٧٨
في البداية، في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، لم يلقَ بحثُ «جالتون» أيَّ صدًى،
وفيما بعد، ساعدَت المخاوف من الانحلال على ظهور دعم قوي ليوجينيا «جالتون» بين
الراديكاليِّين والاشتراكيِّين، بمن فيهم «برنارد شو»
Dernard
Shaw، و«ﻫ. ج. ويلز»
H. G.
Wells، «سیدني»، و«بياتريس ویب»
Sidney &
Beatrice Webb من الجمعية الفابية، وعالم الجنس
«هافيلوك إيليس»
Havelock Ellis، والداعية النسوية
«مارجريت سانجر»
Margaret Sanger، أما المعارضة
العنيفة وأشد نقَّاد «جالتون» فكانوا من المحافظين الدينيِّين والكاثوليك. الرسالة
المسيحية التقليدية: «كن مثمرًا وتكاثر» بدَت قديمةً ولا أمل منها بالنسبة ﻟ «جالتون»
وغيره من علماء اليوجينيا وربما خطرة، في عالمٍ يتهدَّده الانحلال. ومثل تنظيم النسل
فيما بعد، كان من المفترض أن تُقدِّم «اليوجينيا» مقابلًا مضادًّا للمفاهيم القديمة
والضالة عن التكاثر البشري.
٧٩
جزء من دعوة «جالتون» الراديكالية، كان أنه لم يعرف الأكثرَ موهبةً بأنهم الأفضل
مولدًا، وإنما على العكس استبعدهم تحديدًا من الطبقات الاجتماعية. يقول أحد
زملائه: «الطبقة والثروة الموروثتان بلا جهد وفي أمان ودَعَة، تُفضيان إلى إنتاج ذرية
واهنة وغير ذكية.»
٨٠
«اليوجینيا «جالتون»، مثل الشعبية الذكورية، عند «نوردو» حوَّلت جميع الأرستقراطيِّين
إلى متحلِّلين في حالة كمون (في فترة حضانة أو تفريخ)، قد لا يصبحون مثل الكونت
«دراكيولا» بالضبط، ولكن من المؤكَّد أنهم سوف يناسبون نموذجَ «أوسكار وايلد»: بشر
مولودون للكسل، بكثير من التشوُّهات العصبية المختلفة والأذواق الجمالية المنحلَّة.
بعد ذلك بوقت ما، سيتحوَّلون إلى جماعة من «برتي ودوستر»
Bertie
Wooster، بعقول بليدة، وأكتاف ضيفة وذقون مدفونة، وعلماء
اليوجينيا بشكل عام متفقون على أنَّ الطبقة الحاكمة الأوروبية، كانت بالوراثة، نتاج
إفلاس جيني، تمامًا مثل المتخلِّفين عقليًّا أو «البلهاء المنغوليِّين» أو
الأيرلنديِّين.»
٨١
أحدثت «اليوجينيا» تحوُّلاتٍ أخرى غير عادية خلال أَوْجِها القصير؛ حيث اهتدى إليها
كثيرون،
٨٢⋆ كما
حقَّقت كذلك بعض «النجاحات» في مجالات مثل التعقيم الإجباري للمتخلِّفين عقليًّا،
والمرضى العقليِّين في كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة قبل أن يبدأ الحماس والدعم
العلمي في الانحسار، إلا أنَّ الضربة القاصمة لليوجينيا جاءت فقط مع اكتشافِ كذبِ كلِّ
النظريات العِرقية كأساسٍ يعتمد عليه العلم الاجتماعي.
٨٣
وبحلول الحرب العالمية الثانية، كانت «اليوجينيا» قد فقدَت كلَّ زخارفها التقدمية
والعلمية والسياسية في العالم الناطق بالإنجليزية، واستوعبَتها تشاؤمية «جوبينو»
العِرقية.
التحوُّل نفسه حدث قبل ذلك في القارة؛ حيث امتزجَت «اليوجینیا» بمؤثِّرات متنوِّعة،
مختلفة تمامًا عن المؤثِّرات الليبرالية الوضعية التي كان لها أثرٌ على «جالتون».
وإذا كان علماء «اليوجينيا» البريطانيِّين والأمريكيِّين قد انجذبوا نحو الجانب البسيط
منها — تشجيع الحكومة على الإنجاب الانتقائي — فإن أقرانهم في القارة الأوروبية
كانوا وراء الجانب «الصعب»، والذي يتضمَّن الإجهاض والتعقيم والقتل الرحيم،
Euthanasia٨٤⋆ وقتل الأطفال،
٨٥ كان «كريتيان فاشر دولابوج»
Chrétien Vacher de
Lapouge عالم الأنثروبولوجيا السويسري والمتأثِّر بآراء
«جوبينو» العرقية، عضوًا بارزًا في الجمعية الفرنسية لليوجينيا، ومؤلِّف كتاب
«الانتقاء الاجتماعي» ١٨٩٦م الذي دعم رؤية متصلِّبة عن الانتقاء الطبيعي تتضمَّن
القتل الرحيم، وقتل الأطفال.
٨٦ أما «لودفيج فولتمان»
Ludwig Woltmann
فكان ماركسيًّا بالعقيدة، ولكن حماسه ﻟ «دارون» حوَّله في النهاية إلى يوجينيا عرقية
يؤدِّي فيها الانتقاء الطبيعي الذي تنظِّمه الدولة إلى العدالة الاجتماعية، وإلى
إعادة تأكيد تفوُّق الجنس الآري. كلاهما — «وولتمان» و«لابوج» — كان قلقًا جدًّا
بخصوص الاضمحلال الثقافي الغربي وكذلك الانحلال. وكلاهما كان متحمِّسًا شديد الحماس
لاشتراكية الدولة، أو أفضل شكل للحكومة وأقدره على اتخاذ الخطوات التصحيحية
الضرورية لبرنامجٍ جادٍّ لتحسين النسل. وكلاهما أيضًا وضع اليهود الأوروبيِّين كهدفٍ
مهمٍّ
لبرنامجٍ مضادٍّ للانحلال كهذا.
بعد عام ١٨٨٠م، وخاصة بعد محاكمة «درایفوس» في عام ١٨٩٣م، كان اليهود يُعرفون،
على نحو متزايد، بأنهم في مقدمة المنحلِّين في أوروبا، تحت مجهر نظريات مرض
الانحلال، أظهر اليهود ميلًا وراثيًّا نحو كل أمراض الحياة الحديثة مثل الهيستريا،
والاضطرابات العصبية والزُّهْري، وكان بعض المنظِّرين يرى أنَّ اليهود — بالفعل — زنوجُ
أوروبا.
٨٧ وكانت الاتهامات منتشرة لدرجة أنَّ «سيزار لومبروزو» الذي كان يهوديًّا
اضطُرَّ لدحضها قائلًا إنَّ معاداة السامية ذاتها، كانت شكلًا من أشكال
الانحلال.
٨٨ ولسوء الحظ فإن هذا الجدل لم يُقنع أحدًا، وبدأت الأحزاب المعادية
للسامية تقوى في فرنسا، وألمانيا، والنمسا،
٨٩⋆ ولكي
يقاوموا تلك الادعاءات والمخاوف، قام «رادولف فيركو»
Rudolf
Virchow عالم البيولوجي الألماني الشهير والعضو المؤسِّس لجمعية
الأنثروبولوجيا الألمانية بإجراء دراسة واسعة على جماجم أطفال المدارس الألمانية
لكي يرى أيها كان من أصل يهودي وأيها لم يكن. وقد أظهرت النتائج التي نُشِرت في عام
١٨٨٦م (بعد ١٥ سنة)، وبشكل قاطع، أنه لم يكن هناك فرقٌ فسيولوجي بين اليهود وغير
اليهود، وأنَّ النمط العِرقي «التيوتوني» — الشعر الأشقر والعيون الزرق — كان يمثِّل
أقل من ثلث سكان الإمبراطورية الألمانية، التي كانت بالفعل تضمُّ يهودًا
كثيرين.
كان «فيركو» وهو ليبرالي كلاسيكي، يعتقد أنه قد وضع نهايةً لأسطورة العرق الآري أو
التيوتوني إلى الأبد، ولكن دراسته كانت عرضةً لعاصفة من الهجوم الرافض، بما في ذلك
اتهامه بأنه كان يهوديًّا، (ولم يكن). على أية حال، فإن آراء «فیركو» المعارِضة
للعِرقية فقدَت أرضيتها في الدوائر الأنثربوبولوجية والبيولوجية الألمانية مع اقتراب
نهاية القرن. وبدلًا من ذلك، أصبح خصم «فیركو» الرئيسي، وهو «إرنست هایكل»
Ernst Haeckel الشخصية القيادية في كلٍّ من
اليوجينيا الألمانية والبيولوجية العِرقية. كان من مواليد ١٨٣٤م، عالم حيوان في
جامعة «جينا» حيث جاء بنظريات «دارون» إلى ألمانيا للمرة الأولى. وكانت أبحاثه في
العرق تحمل ملامحَ الجو الفكري ﻟ «لومبروزو» والمختبر، أكثر مما كانت تعبِّر عن
«الجوبينوويين» الجدد. يقول في كتابه الأكثر تأثيرًا «لغز الكون» ١٨٩٩م: إنَّ
الحضارة الحديثة بما صنعَته من تقدُّم علمي وتكنولوجي واسع، قد اكتسبَت شخصيةً
تطوُّرية تمامًا، إلا أنها لم تُحقِّق — في الوقت نفسه — أيَّ تقدُّم في المبادئ
الاجتماعية والأخلاقية، وإنَّ المؤسسات والافتراضات القديمة نفسها كانت كما هي في
مكانها وخاصة الدين — الذي كان «هایكل» يُكِنُّ له امتعاضًا خاصًّا — والأخلاق الفردية
والمحظورات التقليدية المتعلقة بالجنس.
والنتيجة أنَّ «الخرافة والجهل يسودان بدلًا من الصواب والعقل»، وقد لاحظ «هايكل»
أنَّ «إحساسًا غير مريح من التمزُّق والزيف» كان يخيِّم على أوروبا في آخر سنوات
القرن، مطلِقًا المخاوفَ «من كارثة عظمى في عالم السياسة والاجتماع»،
٩٠ كما كان يقول إنَّ جذور هذا القلق كانت هي نفسها جذورَ جميع الأخطاء
التي تتخلَّل الثقافة الأوروبية التقليدية: النظرة المركزية-البشرية
anthropocentric التي ترى أنَّ الإنسان كيانٌ خاصٌّ ومنفصل إلى حدٍّ ما عن بقية الطبيعة.
«زعمُ الإنسان المغرور اللامحدود ضلَّله، وجعله يعتبر نفسَه «صورةً لله»، وأنه
يستحق حياةً أبدية، ويتصور أنه يمتلك حريةَ إرادة لا نهايةَ لها، «الإنسان الحديث لا
بد
أن يتخلَّص من هذا «الوهم المستحيل»، إذا كان يريد أن يحقِّق مصيره الحقيقي. إنسان
«هايكل» الجديد هو «واحد» تمامًا مع الطبيعة ومع الإيكولوجيا».»
٩١⋆ (مصطلح من اختراعه)، وتاريخ الحضارة الغربية عنده بكامله، هو جزء واحد
من «تاريخ سلالة الفقاريات» الذي وضعه في ٢٦ مرحلة تطوُّرية من تكوُّن الجزيئات
الكربونية إلى الإنسان المنتصب القامة
Homo
erectus. كان «تشارلز دارون» قد جعل التطوُّر البيولوجي وظيفةً
للانتقاء الطبيعي، والذي كان يعتبر الميكانيزم الحقيقي للتغيُّر في الطبيعة. أما في
فلسفة «هايكل»، فإن العكس هو الذي يحدث تمامًا، الانتقاء الطبيعي، صراع الحياة
والموت على السيادة والقوة يصبح وظيفةً للتطوُّر ونظامًا واحدًا للنموِّ العضوي
يتخلَّل الطبيعة كلها، وهو ما كان يُطلِق عليه «هایكل» مصطلح اﻟ:
Monism الأحدية
٩٢⋆ وبالرغم من أنَّ «هايكل» كان يسخر من الصيغ الرومانسية القديمة للمذهب
الحيوي، إلا أنَّ نظرته الأحدية للطبيعة والمجتمع كانت مشبعةً بها، كانت «الأحدية»
حيوية
٩٣⋆ عميقة الحتمية، تتحرَّك فيها كلُّ القوى نحو «كل» واحد، يضمُّ أيضًا
المجتمع الإنساني بداخله. كتاب «لغز الكون» بِيعَ منه مائة ألف نسخة في العام الأول
لصدوره، وبنهاية الحرب العالمية الأولى كانت قد صدرَت منه عشر طبعات وتُرجِم إلى خمس
وعشرين لغة.
وأسَّس «هایكل»: «الرابطة الأحدية» التي نشرَت رسالةَ التطوُّر والانتقاء الطبيعي
بين الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الألمانيَّتَين، كما أصبح
«هايكل» متحدِّثًا رسميًّا عن «الیوجینیا» كمفتاح نحو إنسانية جديدة متَّحدة ولائقة
بيولوجيًّا. الإنجاب الانتقائي العلمي، القتل الرحيم،
٩٤ التحصُّن ضد عناصر الانحلال
٩٥— مثل الزنوج واليهود — أصبحت دوافعَ اجتماعيةً لا بد أن تتجه إليها
الدولة لإنقاذ الحضارة.
٩٦ أما الخصوم الليبراليون مثل «فيركو» فقد اتَّهموا اليوجينيا الحيوية
الحتمية عند «هيكل» بأنها ترسم الطريق نحو الدكتاتورية الاشتراكية، وقد أنكر
«هایكل» ذلك بشدة، فلم تكن آراؤه — بأي معنًى — بدايةً للشمولية أو حتى للنازية. ورفض
— باحتقار — آراءَ كُتَّاب مثل «هوستون تشمبرلين» الذي ظهر كتابُه «أسس القرن التاسع
عشر» في العام نفسه الذي ظهر فيه «لغز الكون»
٩٧⋆ لكن عندما رعى قطب التسليح الألماني العظيم «ألفرد كروب»
Alfred
Krupp مسابقةً لكتابة مقال في عام ١٩٠٠م، موضوعه: «ماذا يمكن أن نتعلَّم من مبادئ الدارونية
لتطبيقه على التطوُّر السياسي المحلي»، نجد أنَّ جميع
المتسابقين تقريبًا يؤكِّدون على أهمية توسيعِ دور الحكومة من أجل تحويل المصير
الفيزيقي للجنس الألماني، وإلا فإننا «سنُصبح جميعًا مثل اليهود» … كما أشار أحدُ
المتسابقين. بعد أربع سنوات، تأسَّست «جمعية الصحة العِرقية» ﺑ «ارنست هايكل» رئيس
شرف لها. وفي عام ١٩٠٧م كان هناك أكثرُ من مائةِ فرعٍ لها في كل أنحاء ألمانيا. بعد
الحرب العالمية الأولى، انضمَّ كثيرٌ من علماء اليوجينيا والبيولوجيا العرقية إلى
الإجماع المتنامي على أنَّ مستقبل ألمانيا السياسي كان في حاجة إلى نوع من اشتراكية
الدولة. وكانت إحدى أولويات تلك الدولة المستقبلية — كما زعموا — هو إيجاد سياسة
تعتمد «اليوجينيا» و«الانتقاء» الخاضع للسيطرة، من أجل الحفاظ على الجنس
الألماني.
لم يكن كلُّ علماء اليوجينيا الألمان معادين للسامية، «ألفرد بلویتز»
Alfred Ploetz مثلًا، الذي أسَّس جمعية الصحة
العرقية في عام ١٩٠٤م كان يقول إنَّ اليهود آریون، وكان من المعجبين ﺑ «فرانسيس
جالتون»، وهو الذي سكَّ مصطلح «الانتقاء الخاضع للسيطرة»، مشيرًا إلى بديل أكثر
إنسانية للانتخاب الطبيعي عند «دارون»؛ وذلك لكي يتمكَّن البشر في مجتمع متحضِّر من
تكاثر النوع، دون خوف من كارثة «جينية»، بما في ذلك الانحلال.
٩٨
لكن الدفعة الرئيسية للرأي السياسي كانت في اتجاهٍ أكثرَ راديكالية، مع النجاح
العام لكتاب «تشمبرلین»: «الأسس»، والقوة السياسية للجماعات مثل رابطة «كل
ألمانيا». ورغم أنَّ العلماء الذين كانوا قلقين بخصوص الانحلال الفيزيقي اليهودي
حاولوا أن ينأَوا بأنفسهم عمَّا كانوا يُطلقون عليه «الدعاية العرقية الفجة»، إلا أنَّ
أحد أعضاء «جمعية الصحة العرقية» البارزين وهو «إیوجین فیشر»
Eugen
Fischer أطرى بشدة على كتاب «لودفيج شيمان» عن نظريات
«جوبينو»، العرقية عند ظهوره في عام ١٩١٠م، كما أنَّ «شیمان» نفسه أصبح عضوًا في
جمعية الصحة العرقية، ومن أشد العلماء حماسًا لليوجينيا، وكوَّن عددًا من علماء
اليوجينيا الألمان الآخرين جماعة
Ring de Norda
التي جمعَت بين الأصداء الصوفية في «بايريث» وترقية الصحة والرياضية لزرع أنواع
فيزيقية تيوتونية، وأصبحت التكهُّنات العلمية حول المستقبل العرقي لألمانيا مشبَّعةً
بتشاؤمية «جوبينو». وفي كتابه «أنثروبولوجيا» الصادر عام ١٩١٣م، كان «بلويتز»
يقول: «اليوم اختفى الدم الجيرماني والعرق النوردي في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال،
… والنتيجة هي الانهيار القومي … ثم سيجيء الدور علينا … إذا سارت الأمور على
نحو ما كانت، وكما تسير الآن.»
٩٩ وبشكل حتمي، كان هناك تداخلٌ مثير بين القومية الشعبية وحيوية «جوبينو»
الجديدة واليوجينيا العرقية، وظلَّت الصحة العرقية أمرًا مهمًّا في الصحة العامة من
ناحية، وفي التعبير القوي عن الحيوية الثقافية والقوة من ناحية أخرى. كان سوفسطائيو
الآرية
Ariosophists جوبینوويين جددًا ظهروا على
الساحة قبل الحرب العالمية الأولى بقليل وتبنَّوا قضيةَ اليوجينيا بحماس شديد. كتاب
«ماكس شيبالت فون ويرث»
Max Sebalt von Werth:
«النشوء» بأجزائه المتعددة، والذي ظهر بين ١٨٩٨م و١٩٠٣م، جمع بين الدعوة إلى
النقاء الآري العرقي والاهتمام بالإنجاب الجنسي اليوجیني، الذي ربما يكون إباحيًّا.
وكان «جورج لانز فون ليبنفلز»
Jorg Lanz von
Liebenfels راهبًا بندكتیًّا سابقًا (وعالم استشراق) ومتحوِّلًا
متعصبًا إلى دارونية «لودفيج فولتمان» الاجتماعية العرقية الراديكالية. كتابه
Theozoology ١٩٠٥م، يقول إنَّ الشعب الحقيقي
المختار في الإنجيل هم الآريون-التيوتون، وأصبح سقوط «آدم» بالنسبة ﻟ «ليبنفلز»
حكايةً رمزية لتلوُّث الجنس الآري عن طريق تمازج الأجناس (بالتزاوج)، كما كان يؤكِّد
أنَّ العهد القديم في جملته حكاية تحذيرية من اختلاط الأجناس؛ حيث إنَّ الشعوب
السامية في كنعان وفلسطين قد تورَّطت في طقوس عربدة جنسية منحرفة مع «أقزام حب» أقل
من مستوى البشر في منطقة بين النهرين، وكان «لیبنفلز»
Liebenfels، يُدلِّل على أنَّ الإنسان الأوروبي الحديث هو السليل الهجين لتلك الاتصالات الجنسية
البهيمية، إلا أنه عن طريق «اليوجينيا» الصارمة يمكن استعادة الإنسان الحديث
(
anthroposoa) إلى مرتبته الأصلية: الإله
الإنسان (
theoza) بقواه المتفوِّقة في البصر والسمع
والتخاطر … وأيضًا السيطرة على الطاقة الكهربائية في الكون، ومهما بدَت تلك
النظريات غريبةً وشاذة بالنسبة للعلماء المحترمين في ذلك الوقت، إلا أنَّ النظرة
السوفسطائية-الآرية كان لها تأثيرها على «ألفرد روزنبرج»
Alfred
Rosenberg، فيلسوف الهيئة التشريعية النازية، كما كانت برامجها الخيالية لليوجينيا مصدرَ إلهام
مباشر ﻟ «هاينرش هملر»
Heinrich
Himmler، بفكرة مزارع الاستيلاد الآرية
Lebensborn بغرض إنجاب صفوة
لقوات
S.S.١٠٠ النازية. كانت الشخصيات الرئيسية في حركة اليوجينيا العلمية، وجمعية
الصحة العرقية محايدةً في البداية بالنسبة للحزب النازي، ولكنهم أصبحوا مؤيدين له
بعد ذلك. «ألفرد بلويتز»
Alferd Ploetz الذي كان قد قال قبل ذلك إنَّ اليهود آریون، وإن معاداة السامية لا بد أن تختفيَ تحت
وهج البحث العلمي. كان الآن يتعاون مع الحملات النازية المعادية لليهود وفرض قانون التعقيم
القسري في عام ١٩٣٣م، «إیوجين فيشر»
Eugen
Fiseher، الذي كان يمتدح ذات يوم في كتاباته الاندماج العرقي، (وهو مثال جيد على صعوبة وجود
إجماع على أيِّ قضية علمية في القرن التاسع عشر)، أصبح تحت
قصف نيران النازية مديرًا لمعهد الإمبراطور ولهلم. وعندما اكتشف اتجاه الريح، ساعد
على رعاية الأبحاث التي يقوم بها المعهد لإيجاد دليل علمي على أنَّ اليهود كانوا
جنسًا وضيعًا مثل الزنوج والشرقيِّين
١٠١ مصير «اليوجينيا» الألمانية وعلوم الأجناس يُثبت لنا كيف أنَّ الخوف من
الانحلال، والدعوة إلى حلول جماعية رسمية من الدولة، يمكن أن يقود الممارسين
التقدميِّين نحو الوقوع في قبضة أولئك الذين هم على استعداد لتنظيم وتوجيه سلطة
الدولة «لإنقاذ» الحضارة مهما كان الثمن.
١٠٢⋆ وبعد كلِّ شيء، فإن «اليوجينيا» ألقَت بمتطلَّبات كثيرة على كاهل الحكومة: تحديد ما
هي الأنماط البشرية «العليا»، وما هي «الدنيا»، وانتقاء العينات المناسبة للاستيلاد،
وتعقيم الضعاف والواهنين أو التخلُّص منهم، وكبح الذين يرفضون التعاون لتحقيق ذلك سواء
لأسباب دينية أو أخلاقية. كانت تلك سلطات استعدت دولة المستقبل، ما بعد الليبرالية، لممارستها،
وكانت مسئوليات استعدت دولة المستقبل — على الأقل في حالة
ألمانيا النازية — لقبولها.
«سيجموند فروید»: الحضارة والانحلال
في تسعينيات القرن التاسع عشر ١٩٠٠م كانت قطاعات مؤثِّرة من المجتمع المثقَّف قد
فقدت الثقةَ في قدرة الحضارة الغربية على تجديد نفسها. النسيج الاجتماعي الحديث لم
يَعُد قادرًا على توفيرِ أيِّ درجة من الحماية للنوع البشري. وعلى العكس من ذلك، كان
من
المفترض بشكل عام أن تكون التطوُّرات الحضارية سببًا في انطلاق رِدَّة عكسية نحو
الأسوأ، وفي انحدار إلى الفوضى أكثر رعبًا مما كان عليه أي شيء في الأزمنة
البدائية، حتى بالنسبة لأشد المؤمنين بنظرية «دارون»، كان ماضي الإنسان التطوُّري
يشكِّل عبئًا وراثيًّا ثقيلًا، فهو يُثقل كاهل البشرية بكثير من السمات الوحشية
واللاعقلانية، والتي كان على العالم أن يتخلَّص منها عن طريق اليوجینيا، أو بأيِّ
وسيلة أخرى، ويجتثها لكي يظلَّ الجنس البشري على قيد الحياة. وكما عبَّر عن ذلك
«جوستاف لوبون»: «المستقبل موجود بداخلنا بالفعل، ونحن الذين ننسجه، ولأنه ليس
ثابتًا مثل الماضي، فإننا يمكن أن نشكِّلَه بجهدنا.»
١٠٣ ولم يخطر ببالهم منظور جديد، وهو أنَّ ماضيَ الإنسان ليس عبئًا، وإنما
دعم ضروري ورفد للحياة المتحضِّرة. هذا الفشل صحيح على نحوٍ خاصٍّ في حالة «سيجموند
فرويد»، كان يهوديًّا مثل «نوردو» في إمبراطورية متعدِّدة اللغات (النمسا – هنغاريا)،
وكانت الليبرالية بالنسبة لها (للإمبراطورية) ضمانًا ضدَّ أشكال التمييز والاضطهاد
التقليدية، وكذلك لتوفير الحرية من أشد أنواع اليهودية الأرثوذوكسية تعصُّبًا.
الانحياز الليبرالي الوضعي إلى العلم العقلاني، وضد الدين وغيره من أشكال
«الخرافة»، ظلَّ جزءًا من نظرة «فرويد» حتى وفاته. كان ضمن قائمة الخرافات تلك:
معاداة السامية، منذ أيام دراسة الطب، وكان «فرويد» يناضل ضدَّ تركيز نظرية الانحلال
المتزايد على «المشكلة اليهودية» في النمسا وأماكن أخرى، وربما تكون العلاقة بين
معاداة السامية والخوف من الانحلال قد شجَّعت «فرويد» لأن يُدير ظهره لأسلوب التناول
السابق، لكي يبدأ اتجاهه الخاص والأصيل. كان «فروید» قد تلقَّى تدريبه الطبي في
ميدان شديد الأهمية بالنسبة لنظرية الانحلال وهو «النيورولوجيا»
neurology (الأمراض العصبية). في سنة ١٨٨٥م، ذهب إلى «باريس» لدراسة «إصابات الضمور والانحلال
الثانوية في أدمغة الأطفال». شارك
في الجدل الدائر ودرس على نفس الأساتذة الذين درس عليهم «نوردو» قبل عقد من
الزمن،
١٠٤⋆ وفي
النهاية قرَّر «فرويد» أن يترك مجال فهم الاضطرابات الانحلالية على أساس أسباب
فسيولوجية عضوية. استنتج كما سيفعل معظم ممارسي المهنة الطبية فيما بعد، أنَّ تقارير
الشخص المصاب بالانحلال والتي تبيِّن «أمراضًا» مثل العصاب والهستيريا، تعتبر
«أحكام قيِّمة وإدانة أكثر مما هي تفسير للحالة»، ومن هنا فهي تفتقر للدقة العلمية
والموضوعية،
١٠٥ إلا أنه كان من المحتَّم أن تجد نظريةَ الانحلال، بما فيها من تعارُض كامن
بين قوى الحضارة والإنسانية الصحية، طريقها إلى نظريات «فرويد»، كان أول عمل يمهِّد
الطريق له هو كتاب «تفسير الأحلام»، الذي صدر في عام ١٨٩٩م، أي عام صدور كتاب «لغز
الكون» ﻟ «هایكل»، وبعد عامين من كتاب «الانتحار» ﻟ «دوركايم» وكتاب «دراكيولا» ﻟ
«ستوكر»، تصوُّر «فرويد» للشخصية الإنسانية كان ينطوي على توتُّر بين «الأنا» و«الأنا
العليا» في الإنسان المتحضِّر، ونظيرهما البدائي «الهو».
«الهو» مثل «مستر هايد» عند «ستيفنسون» تظلُّ مخبأةً أو مكبوتةً في الكائن البشري
الصحي العادي. «الأنا» تمثِّل ما يمكن أن يُطلق عليه الإنسان: العقل والروية كما كتب
«فرويد» في أحد أعماله التالية، وهي في حالة تناقض مع «الهو» التي تضمُّ
العواطف.
١٠٦ «الهو» تكوِّن عالمها المخبَّأ في اللاشعور، عالم «لومبروزي» تحتي من
الخيالات والأوهام والأسطورة والدوافع البدائية (التي سوف يُطلِق عليها تلميذه «كارل
يونج»: عالم النماذج البدئية).
والمريض العصبي
neurotic عند «فرويد»، هو الذي
مكَّن ما في عالمه المخبَّأ من الدخول إلى بيئته الفيزيقية العادية، أي أنه «نكص»،
كما كانت الجريمة عند «لومبروزو» شكلًا من أشكال الارتداد، إلا أنَّ نظرية «فرويد»
عن النكوص النفسي، تحلُّ محلَّ الانحلال الفسيولوجي في تفسير الانتقال من العقل
والنظام إلى اللاعقلانية والفوضى. والنكوص يحدث للفرد كما يحدث للمجتمع ككل. كل طفل
في تطوُّره يعيش مرةً أخرى التطوُّر الفيزيقي للجنسِ البشريِّ كلِّه، من اللاعقلاني
والبسيط، إلى العقلاني والمعقَّد.
١٠٧ وبالعكس، فإن المجتمعات الإنسانية تكشف عن المبادئ السيكولوجية نفسها،
التي تنطبق على الأفراد العاديِّين — أو مرضى الأعصاب — كما كان «فرويد» يقول في
«الطوطم والمحرم» ١٩١٢م، و«موسى والتوحيد» ١٩٣٧: ١٩٣٩م، وكما يحمل الفرد ندوبًا
فيزيقية منذ طفولته، وعلاقات بالآباء، وصدمات أخرى يكون قد مرَّ بها في حياته، كذلك
تحمل حياة المجتمع النفسية الداخلية ندوبًا مماثلة، وأعباءً تبدأ منذ لحظة تأسيسه
الأولى، ومثل «نيتشة»، وجد «فرويد» أنَّ خلل الحضارة القاتل موجودٌ في أساسها. عند
«فرويد» هذا الخلل هو «قتل الأب»
patricide هذا الفعل الوحشي الأول، الشعور الجمعي بالذنب لموت الأب يظلُّ موجودًا بشكل تدريجي
في المؤسسات المولدة للشعور بالذنب مثل الدين، وفي الأعراف الاجتماعية مثل
المحرمات. ومن هنا، فإن المجتمع الحديث وهو وريث المجتمع البدائي، ليس محصَّنًا ضدَّ
ما هو وحشي وما هو لا عقلاني. دوافعه الأصلية وجرائمه تظلُّ حيَّةً في ذاكرته الجمعية،
وفي المؤسسات التي تُعطي الحياة الاجتماعية بنيتَها ومعناها. ويعبِّر «فرويد» عند
ذلك بقوله: «العقل البدائي غيرُ قابل للفناء، هكذا وبالمعنى الكامل
للكلمة.»
١٠٨ البدائي والوحشي يظلان جزءًا من الذات الفردية على شكل «الهو»
id، يظلَّان مع الإنسان ككائن اجتماعي في
غريزة القبيلة البدائية، التي تظهر كاملةً على السطح في المؤسسات الديمقراطية
الحديثة، كما أوضح «لوبون»
Le Bon و«تروتر»
Trotter. وباختصار، فإن التكوين الثقافي
للإنسان بالنسبة ﻟ «فرويد»، يدحض الزعم بأن الحضارة حالةٌ مختلفة تمامًا عن
البربرية، حيث إنَّ البنَى النفسية لكليهما واحدة.
الدراسة المقارنة الضخمة للسير «جيمس فریزر» James
Frazier عن الأديان البدائية «الغصن الذهبي»، (التي كان لها
تأثيرٌ كبير على «فرويد»)، كانت بالفعل قد أوحَت بأن دور الأسطورة و«الطقوس
اللاعقلانية» لم يختفِ من المجتمعات المتحضِّرة.
وبانحسار نظرية العرق من الرؤية الليبرالية في القرن العشرين، بدأ علماء
الأنثروبولوجيا يعودون إلى نظريات «فرويد» لإعادة تقييم الفوارق بين الثقافات
المتحضِّرة والبدائية. جيل جديد من علماء الأنثروبولوجيا «فرانز بواس»
Franz Boas، «مارجريت ميد»
Margaret Meed، «روث بينيدكت»
Ruth Benedict كرَّسوا أنفسهم للارتفاع
بالوضعية الثقافية للمجتمعات البدائية، في مواجهة نُظَرائهم «المتقدمين»، (الذين
أصبحوا يتوارَون الآن بين علامات التنصيص). وقد كشف عملهم الميداني عن أوجه شبه
كثيرة وعلاقة بين الحضارتَين، كما أوحى بأن الشعوب البدائية كانت تحافظ دائمًا على
حيويتها بأسلوب شرقي رومانسي، وعلى صحتها النفسية التي فقدها الغرب. (أفضل مثال
على ذلك كتاب «مارجريت ميد» «بلوغ سن الرشد في ساموا».)
١٠٩⋆،١١٠ كان آخر تقرير ﻟ «فرويد» عن المجتمع الليبرالي المستنير الذي وُلِد
وتربَّى فيه بعنوان «الحضارة وما تُثيره من قلق»، نشره في عام ١٩٣٠م، وأغلق حقبة من
التفكير الأوروبي عن التاريخ الإنساني كعملية تحضُّر، ونتائج التقدم على الإنسان
الحديث، وربما لا يكون مفاجئًا أن تكون أوَّل صورة لافتة في الكتاب هي صورة لأطلال
روما القديمة. كانت الساحة الرومانية العامة تمثِّل عند «فرويد» الطبيعةَ النامية
للتطوُّر التاريخي؛ حيث تقوم كلُّ مرحلة معينة (الجمهورية الباكرة، الحقبة
الأوجستية، الإمبراطورية المتأخرة، النهضة)، بخلافة ومحو المرحلة السابقة. «ولا
يكاد الخبير الأركيولوجي بروما القديمة يتعرَّف على الأماكن التي كانت تقف فيها
المعابد والمباني العامة ذات يوم؛ فالأطلال الموجودة في تلك المواقع ليست حتى أطلال
المباني نفسها، وإنما هي أطلال وبقايا مبانٍ إمبراطورية تالية، و«ما أمكن استنقاذه
من النيران والدمار»، والتي هي نفسها مختفية ومطموسة بواسطة «خليط مدنية عاصمة نمت
في القرون القليلة الأخيرة منذ عصر النهضة»، وكان «فرويد» يقول: «دعونا نفترض أنَّ
«روما» لم تكن مستوطنة بشرية، بل كيانًا نفسيًّا ذا ماضٍ طويل ووافر.» حينئذ سوف
نكتشف أن «لا شيء مما كان له وجود قد انتهى». ستظل قصور الأباطرة قائمةً، وسيظل كلُّ
مبنًى مزيَّنًا «بالتماثيل التي كانت تحمله إلى أن حاصره القوطيون»، وليس هذا فقط، بل
إنَّ المعابد الرومانية القديمة سوف تظلُّ قائمةً وسط الكاتدرائيات المسيحية كذلك،
«ولن يكون على المراقب سوى أن يغيِّر وجهةَ نظرته أو موقعه» لكي يرى المدينة القديمة
مع نظيرها الحديث في الوقت نفسه.»
١١١
الحضارة كعملية مادية، تحول وتغير ما كان قبلها، أما كعملية نفسية «عملية
تحضير» فإنها لا تفعل ذلك ولا تستطيعه، والإنسان المتحضِّر في رأْي «فرويد» يحتفظ
بالغرائز الأساسية لوجوده البدائي الباكر، ومن الناحية الإيجابية، فإن تطوُّرَه
الاجتماعي يحقِّق النضج والاستقلال بمفهوم «فرويد»، فهو يتغلَّب على الشعور الطفولي
بالضعف الموجود عند الإنسان البدائي، والحاجة إلى شخصيات أبوية تحميه، مثل الآلهة
الباباوات والملوك.
١١٢ الحضارة تُعطي الأفراد شعورًا باستقلاليتهم ومكانتهم في مجتمع أكبر،
أكثر نظامًا وأفضل أخلاقًا، ولكن هذه العملية أيضًا تتضمَّن صراعًا مع غرائزهم
البدائية المانحة للحياة:
«من المستحيل إغفالُ مدى اعتماد الحضارة على نكران الغريزة، وإلى أيِّ مدًى
تفترض — تحديدًا — عدمَ كفاية الغرائز القوية. هذا الإحباط الثقافي» وكما
نعلم … هو سبب العداء الذي يجب أن تقاومَه كلُّ الحضارات.
والحقيقة أنَّ هذا الكبح الذاتي يمكن أن يتواصل إلى درجة اختفاء الحيوية نفسها من
المشهد الثقافي. الإنسان وتقدُّمه الاجتماعي يصلان إلى نقطة جديدة وحاسمة من
التداخل؛ حيث يُصبح قهرُ الحضارة لحيويتها غيرَ محتمل ولدرجة أنه في النهاية يطلق
البربري الكامن ويدفع به إلى السطح، «عودة إلى المكبوت». وهذا يمكن أن يحدث للشخص —
المصاب بالعصاب أو غيره من الاضطرابات — أو — وهذا أكثر رعبًا — للمجتمع ككل، فيعود
إلى حالته الهمجية العدوانية السابقة على التحضُّر؛ حيث يحكم الأقوى دون أيِّ كوابح
«سوى مصلحته الخاصة ودوافعه الغريزية».
١١٣
عندما نشر «فرويد» كتابَه «الحضارة وما تُثيره من قلق» في عام ١٩٣٠م، كانت القيم
الإنسانية والليبرالية تبدو على وشك الانطفاء في كل أوروبا. الكابوس الأكبر
للانحلال — صعود الدهماء الإجرامية المنحطَّة، وانتصار العواطف والأوهام البدائية
على العقل — بدا أنه قادم.
«السؤال القاتل للنوع البشري يبدو لي ما إذا، وإلى أيِّ مدًى سوف ينجح
تطوُّره الثقافي في السيطرة على اضطراب حياته الاجتماعية، الذي تُسببه غريزة
العدوان وتدمير الذات؟»
وبعد عام أضاف «فرويد» حاشيةً تقول: «لكن مَن ذا الذي يمكنه أن يتنبَّأ؟ وبأيِّ
درجة من النجاح؟ وبأيِّ نتيجة؟» بعد عامين من ذلك، أي في عام ١٩٣٣م، أصبح «أدولف
هتلر» مستشارًا لألمانيا.