الفصل الخامس
رؤيا العصر «المذهب»
«هنري» و«بروكس آدمز»
وهكذا فإن أمريكا هي أرض المستقبل، حيث سيكشف عبءُ تاريخ العالم عن نفسه في
العصور الممتدة أمامنا.
ج. ف. هيجل، ١٨٣٠م
أنا نفسي في خصام مع زمني أكثر من ذي قبل، أمقتُه وأمقتُ كلَّ ما له صلة به،
وأحيَا فقط على أملِ أن أرى نهايته ونهاية كل يهوده الملاعين. أريد أن يُحكم
بالموت على كلِّ مَن يُقرِض مالًا، وأن يُغرَق «لومبارد ستريت» و«وول ستريت» في
المحيط.
هنري آدمز، ١٨٩٤م
كان الإيمان الأمريكي بالتقدم يستند إلى تراثٍ غنيٍّ من التفكير بألفية سعيدة انطلاقًا
من الماضي الكالفيني
١⋆ للأمة.
ومثل اليهود والمسيحيين في العصور القديمة في القرن السادس عشر، كان
«البيوريتان»
٢⋆ و«البيلجرمز»،
٣⋆ يرَون أنفسهم شعبًا اختاره الله كأدوات له في الدنيا. وكانت مستعمرات
«نیو إنجلند» في أوائل القرن السابع عشر، كلها تدَّعي تلك المكانةَ لنفسها بفضل عهدهم
مع
الله. وكان قدرًا ومسئولية في الوقت نفسه، أن يكونوا شعبًا مختارًا؛ لذا فإن هدف الله
المقدَّس، كان لا بد أن يتجلَّى في كل جانب من جوانب السلوك والأفعال في المجتمع، بما
في
ذلك إبلاغ رسالة الله إلى كافة شعوب الأرض. كانت أمريكا هي «الأمة المخلِّصة»، ذات
الرسالة الخاصة لبقية العالم.
٤ هذه المهمة التخليصية، كانت تُبرِّر التوسُّع الأمريكي في اتجاه الغرب على
مدى القرن التاسع عشر، كجزء من «قدرها الجلي». بدا وصولُ الأوروبيِّين إلى شواطئ الشمال
الأمريكي واندفاعهم إلى ما وراء «الليجني»، بدا وكأنه يمثِّل تحوُّلًا مهمًّا — وربما
نهائيًّا — في تاريخ العالم؛ فقد جعل أمريكا جزءًا من عملية أكثر قدمًا، تحرك الحضارة
في اتجاه الغرب ونحو الإمبراطورية الكونية.
غربًا، يتَّجه مساء الإمبراطورية
الفصول الأربعة الأولى انقضت،
والخامس سوف يختتم الدراما بالنهار،
والذرية النبيلة للزمن هي الأخيرة.
٥
أما اليوم فإن مصطلح «الإمبراطورية»، يستدعي للذهن صورَ الاستعمار
والاستغلال، بيد أنَّ «الإمبراطورية» بالتعريف الدقيق، هي مجرَّد مجموعة من الوحدات
الجغرافية المتباينة والمتمايزة، تحت حكم سيادة سياسية واحدة.
هذه السيادة يمكن أن تكون لشخص واحد، إمبراطور، ولكنها قد تكون أيضًا للناس أنفسهم؛
ولهذا السبب، فإن «الصحف الفيدرالية» قد تُشير إلى الجمهورية الأمريكية كإمبراطورية دون
أيِّ شعور بالتناقض. الجمهورية الأمريكية الجديدة حصلت على مهمة إمبراطورية توسُّعية
تتناسب مع مهمتها «التخليصية».
كان «توماس جيفرسون»
Thomas Jefferson يُطلق على
أمريكا اسم «إمبراطورية الحرية»، التي يجب أن تنشر رسالة السيادة الشعبية، وتُعزِّز
الفضيلة وهي تتحرَّك أبعد فأبعد في اتجاه الغرب. وفي سنة ١٨٠٩م، ضاعف «جیفرسون» حجم
البلاد بصفقة شراء «لويزيانا»، خالقًا بذلك المساحة الطبيعية الضرورية لمثل تلك
الإمبراطورية.
٦ وكان وزير الخارجية «جون كوينسي آدمز»
John Quincy
Adams، يقول إنَّ «السيادة الصحيحة» لأمريكا لا بد أن تكون على «قارة
أمريكا الشمالية»، معطيًا لتلك السيادة مواصفات كونية، وكتب أنها «لا بد أن تُعلن على
البشرية الحقوق الثابتة للطبيعة الإنسانية، والأسس الشرعية للحكم. شعارها: الحرية
والاستقلال والسلام.»
٧ وكان الأمريكيون — أكثر من أيِّ شعب آخر — لديهم الشعور بأن بلادهم هي «أرض
الأحرار ووطن الشجعان»، والتي تحتلُّ قلب المسرح في عملية تاريخية عالمية، بعد أن حصلت
أمريكا على استقلالها، كتب «تیموثي دوایت»
Timothy
Dwight رئيس كلية «ييل»: «هنا سيقوم أزهى وآخر عرش إمبراطوري،
وستخفق عاليًا راياتُ السلام والحق والحرية.»
٨ وكان «إعلان الاستقلال» الذي أعلنه «جاي كیو آدمز»
J.
Q. Adams في عام ١٨٢١م: «من المقدَّر له أن يغطِّيَ الكرة الأرضية.» وفي عام ١٨٥٨م كتبت مجلة
«هاربرز منثلي»: «إنَّ كل ما له علاقة بوضعنا وتاريخنا
وتقدُّمنا، يُعيِّن الولايات المتحدة أرضًا للمستقبل.»
٩ من الآباء البيوريتان والآباء المؤسِّسين، إلى ما يسمِّيه «هنري ﺑ. لوس» صاحب
مجلة «تايم» ﺑ «القرن الأمريكي» — العشرون — فإن تاريخ الولايات المتحدة يكون قصةً واحدة
ملهمة ومتطلعة للأمام. أمريكا تمثِّل أعلى مرحلةً في الحضارة والتقدم، وبالتحديد، فإن
فكرة التقدم كانت تنطوي بداهةً على نظرة علمانية للتاريخ، مناقضة للنظرة المسيحية. وفي
أوروبا كانت النظرتان للتغيُّر التاريخي تتصادمان على نحوٍ مستمر، من «التنوير» إلى
«ماركس» (الذي يقول إنَّ الدين أفيون الشعوب)، و«أوجست كونت»
Auguste
Comte الذي كان يعتقد أنَّ فلسفته الوضعية سوف تحلُّ محلَّ المسيحية
تمامًا. وعلى أية حال، فإن الشخصيات الرئيسية في التنوير الأمريكي، مثل «جیفرسون»
Jefferson، و«بنیامین فرانكلين»
Benjamin Franklin قد طعمت أهدافها بأهداف الأمة الكالفينية المخلِّصة، وأصبحت أمريكا «مكرسة» لمبدأ تنويري
أساسي، وهو أنَّ «كل البشر
خُلِقوا متساوين»، وأصبح الشعب المختار يتمتع الآن بحقوق وقدرات مثل الأفراد. هذه
الحقوق: «الحياة، الحرية، طلب السعادة» هي عطية ربانية، بالرغم من أنها أيضًا جزء من
وضع الإنسان العقلاني في الطبيعة،
١٠ كان الفهم العقلاني للطبيعة يعني «العلم»، بالطبع، العلم والتكنولوجيا إذن
يحتلَّان مكانًا مهمًّا في البانوراما الأمريكية للتقدُّم المخلِّص وللحرية.
في عام ١٨٦٥م، كتب «جیمس دوايت دانا»
James Dwight
Dana (وهو جیولوجي من ييل): «لا تخشَ العلم؛ لأن العلم أثبت أنَّ
التقدم عن طريق النمو العضوي هو قانون الله وتدبيره … التقدم يكون دائمًا إلى أعلى
كما هو إلى الأمام … نحو رؤًى أكثر وضوحًا … وأكثر وضوحًا نحو خير بلا حدود.» ولذلك لم
يكن مفاجئًا أن يلقى «تشارلز دارون»
Charles Darwin
تأييدًا حماسيًّا في الولايات المتحدة من «هنري وورد بيتشر»
Henry Ward
Beecher وغيره من رجال الكنيسة، وهي مجموعة رحَّبت بنظرية «دارون»،
بالرغم من اشمئزازهم من بلده والارتياب فيه. عندما وصلت أعمال «لومبروزو»، و«فرانسيس
جالتون»، و«إیرنست هايكل» وغيرهم من «المنظِّرين الاجتماعيِّين العلميِّين»، إلى الشواطئ
الأمريكية، حقَّقت نجاحًا مماثلًا.
١١ وفي عام ١٩٠٧م، أصدرت «جينا لومبروزو-فيريرا»
Jina
Lumbroso–Ferera، طبعة جديدة من كتاب أبيها «الإنسان المجرم»، الذي
يورد أمثلة السجون والإصلاحيات التي طُبقت فيها نظريات «لومبروزو» بنجاح. كانت كلها
من الولايات المتحدة. بعد ثلاثين عامًا، وعلى مشارف الحرب العالمية الثانية، كان «إرنست
هوتون»
Earnest Hooton، عالم الجريمة والأنثروبولوجي في
«هارفارد»، ما زال يستخدم أساليب «لومبروزو» لتصنيف المجرمين، وكان «لومبروزو» يحتكم
إلى الثقة الأمريكية (في القرن التاسع عشر) في أهمية العلم والتقدم كقوًى للمستقبل،
وذلك بسبب مزاعمه المتفائلة بالدقة الكمية والثقة العلمية،
١٢ إلا أنَّ تقليدًا أمريكيًّا آخر نبع من الجذور الكالفينية نفسها ومن الإيمان
نفسه ﺑ «إمبراطورية للحرية». كان ذلك التقليد يرى توتُّرًا كامنًا بين الحرية كحق
أمريكي بالميلاد، واحتمال الفساد الناجم عن ممارسة تلك الحرية، وخاصة في المجالات
السياسية والأخلاقية. وكان «جون آدمز»
John Adams
الرئيس الثاني للولايات المتحدة، هو المتحدث الرسمي باسم هذا التقليد الجديد، والخصم
اللدود لمتفائلي التنوير الأمريكي مثل «جيفرسون»
Jefferson و«ماديسون»
Madison. أصبح «آدمز» قلقًا على مستقبل أمريكا
وفسادها الحتمي، وسقوطها، حتى من قبل قيام الثورة الأمريكية. كتابه السياسي
الباكر،
١٣⋆ يصف
كيف جاء المستعمرون إلى شواطئ الشمال الأمريكي بدافع من «حب للحرية الكونية وكراهية وخوف
ورعب من ذلك «التحالف الشيطاني» بين الملكية الإنجليزية الفاسدة والكنيسة الأنجليكانية.»
«قُوى الاستبداد الزماني
١٤⋆ والروحي»، تمكَّنت من تدمير حريات الإنسان في إنجلترا، والآن كانت الإمبراطورية البريطانية
«غارقةً في الفساد»، و«تترنح على حافة الهلاك». ثم إنَّ ذلك
«التحالف الشيطاني» الشرير نفسه، شرع في إخضاع المستعمرات — كما كتب «آدمز» في عام
١٧٧٥م — فكان لزامًا على الأمريكيِّين أن يصونوا فضيلتهم وحقوقهم الطبيعية بتحرُّرهم
من
الدمار الشديد الذي أصاب نسيجًا «كان جميلًا ذات يوم»، والذي كان في إنجلترا
الهانوفيرية.
١٥ وقد تبدَّد أمل «آدمز» في أن يحتفظ الشعب الأمريكي باستقلاله وفضائله
بمجرد انتهاء الثورة تقريبًا. وفي عام ١٧٨٥م، وحتى قبل التصديق على بنود الاتحاد
الكونفدرالي، أعلن «آدمز» أنَّ الأمريكيِّين «لم يكونوا أبدًا أهلًا لفضيلة رفيعة»، وأنه
كان غبيًّا عندما توقَّع «أنهم سيصبحون أفضل»؛ فقد أقنعه الاندفاع المفاجئ للحقراء
والمغمورين في النظام السياسي، بأن أمريكا محكومٌ عليها بالهلاك، كان يقول لأصدقائه:
«لا
وجود لعناية خاصة بالأمريكيِّين، وطبيعتهم هي نفس طبيعة الآخرين، أي أنهم جشعون، شريرون،
أغبياء، جامحو الطموح.»
١٦ كان «آدمز» يُثير صيغةً تشاؤمية تاريخية عبر أطلسية، يبدو فيها أمريكيو
الماضي أحرارًا دائمًا، تفكيرهم مستقل، مشحونين بهدف أخلاقي، بينما أمريكيو الحاضر على
وشك أن يدمِّروا امتياز المولد بكل إهمال. وكان يستند في ذلك وبشدة، على التراث
الأمريكي الكالفيني «المتشائم، المتوقع للكوارث»، الذي كان كهنة «بلیموث» و«بوسطن»
يُرعبون به رعايا الكنيسة في مواعظهم، بسبب خطاياهم الفظيعة. وبتعبير «آدمز»، فإن الساحة
الانتخابية الأمريكية، غير الجديرة جعلَت نفسها عرضةً للتحالفات الشريرة «بين» الكهنة
الكذبة والسياسيِّين اللئام، الذين يحاولون دائمًا استخدامَ سلطاتهم ونفوذهم للسيطرة
على
عقول الناس.
١٧ لقد كان «جون آدمز» — في الواقع — أول مُنَظِّر للمؤامرة الكبرى في
الولايات المتحدة، ومؤلِّف ما يُسمَّى ﺑ «أسلوب الشك المجنون» في السياسة الأمريكية.
أسلوب الشك والارتياب المجنون في الآخرين هذا، يرى أنَّ هناك مؤامراتٍ واسعةً ومنظَّمة
وخبيثة تعمل «كقوة دفع للأحداث التاريخية»، وتستدعي مخاوفَ رؤيوية غامضة عن عالم يوجِّه
فيه المعادون للمسيحية الأحداثَ «لخدمة أهدافهم الشريرة».
١٨ كانت موجات من نظريات المؤامرة تضرب قوس السياسة الأمريكية في بدايات
القرن التاسع عشر، مع حملة مضادة لليعقوبية الفرنسية في تسعينيات القرن الثامن عشر،
وتكوين حزب سياسي مضاد للماسونية في عشرينيات وثلاثينيات القرن، وهجمات السكان الأصليِّين
على المهاجرين الأيرلنديِّين في الأربعينيات، والتي كان دافعها الخوف من الكاثوليكية
الرومانية «ذلك النظام الذي يُكرِّس للأكاذيب المقدَّسة، والدجل الديني الذي تفشَّى وساد
على مدى ألف وخمسمائة عام»، كما كان يصفه «جون آدمز». أسلوب الشك والارتياب المجنون يرى
أنَّ الزمن في نفاد إلى الأبد. في عام ١٨١٤م، كتب «آدمز»: «الروح الحزبية والطائفية
والمذهبية في أمريكا، تهدِّد وجودنا في هذه اللحظة.»
١٩ كان مُنَظِّر المؤامرة يدعو إلى التصرُّف «الآن»، لا بد من القيام بعمل ما،
ولكن على خلاف سلفه الرؤيوي، كان مُنَظِّر المؤامرة يفهم التاريخ على أنه عملية علمانية
وليست دينية. وعند «جون آدمز» فإن نجاح أو فشل تلك المؤامرات يتوقَّف على الشعب الأمريكي
نفسه، إذا رفض أن يبذل جهده لإنقاذ نفسه، فإن أحدًا غيره لن يفعل. وفي هذه الحالة،
ستحقِّق المؤامرة هدفها كما حدَّده أحد حلفاء «آدمز» في عام ١٧٩٨م: «لن تكون الأرض
أفضل من بالوعة للنفايات، ومسرح للعنف، وجحيم من البؤس.» سلالة «جون آدمز» أصبحوا
الحاملين الرئيسيِّين للخوف من الفشل الأخلاقي الجماعي الأمريكي، وكان يمكن أن يكون ذلك
دافعًا قويًّا للعمل. «جون كوینسي آدمز»
John Quincy
Adams ابن «جون آدمز»
John
Adams حرَّك «هویج»
٢٠⋆ «نیو إنجلند» لكي يروا أنَّ العبودية هي الخيانة العظمى لوصية الآباء
المؤسِّسين. حفيده «تشارلز فرانسیس آدمز»
Charles Francis
Adams وضع مهمةَ إنهاء العبودية أمام الحزب الجمهوري وفوز
«إبراهمام لنكولن» الرئاسي في عام ١٨٦٠م، ولكن عندما أصبح عبءُ «الاختيار» الأخلاقي
ثقيلًا، تحوَّل دافع الواجب ليُصبح شكًّا في النفس، وكانت النتيجة، هي ذلك، «الشعور
البارد والمعزول بالمسئولية الأخلاقية»، والتي كان «هنري جیمس»
Henry
James يراها تمثِّل الأمريكيِّين وخاصة النيو إنجلنديين، والذي كان
يزن القضايا العامة المهمة «بيد غير واثقة وضمير مهزوز إلى حدٍّ ما».
أبناء «ف آدمز»: «هنري» و«بروكس»، يريان أنَّ رسالة أمريكا التاريخية الكونية قد
تبدَّدت بسبب عدم الجدارة الجماعية. لقد راقبَا التغيُّرات الاجتماعية في زمنهما — نمو
التصنيع، والهجرة، والسياسة الشعبية الديمقراطية — بقلق عميق، وكانا مقتنعَين بأن إيمان
أمريكا بالتقدم من شأنه أن يدمِّرَ روحها. وقد رأينا أنَّ كثيرًا من الأوروبيِّين في
نهاية القرن التاسع عشر قد وصلوا إلى النتيجة نفسها بخصوص الحداثة. ولكن كانت هناك فتحة
للهروب: الماضي ما قبل الحديث. كانت هناك الإنجازات الثقافية للعهود الباكرة، مثل
العالم القديم والعصور الوسطى، إما لدعم وتأمين الحضارة الأوروبية الحديثة كما كان يقول
«توكفيل» وآخرون، أو لتقديم مصدر للمقاومة، والهرب كما كان عند الرومانتيكيِّين و
«جوبينو»، ولكن العقل الأمريكي الليبرالي لم تكن أمامه خيارات كتلك.
٢١⋆
كل القيم الأمريكية الإيجابية كانت — بتعريفها — تقدُّمية وحديثة؛ لذا عندما كانت
ثمار التقدم — بما في ذلك انتشار التعليم والعلم، والاستقلال الفردي، والحس الأخلاقي
الذي تشكِّله ضرورات التفاعل الاجتماعي أكثر من التعاليم الإنجيلية — تحت هجوم القوى
الاجتماعية والاقتصادية، والتي كان من المفترض أن تكون هي صانعة التقدم في المقام
الأول، بدا المستقبل مغلقًا. كتب «هنري آدمز»: «أري الخراب في النجم القطبي …» وكان
يعني ما يقول.
«هنري آدمز» – التقليد والتقدم
يقول «هنري آدمز» في سيرته الذاتية إنه قرر ذات يوم، وكان في السابعة من عمره،
ألَّا يذهب إلى المدرسة، لم يُثنِه عن هذا القرار إغراءٌ أو تهديد. الصياح الغاضب والشغب
حدث أسفل أحد السلالم المؤدية إلى حجرة مكتب جدِّه الرئيس السابق «جون كوينسي آدمز».
وفجأة: «انشق الباب عن جدِّه العجوز الذي نزل بهدوء واضعًا قبعتَه فوق رأسه، وأخذ
الولد من يده ومشى، فسار معه على الطريق إلى المدينة وهو مذهول من الرهبة». وهما
سائران، كان «هنري» ما زال يعتقد أنَّ بإمكانه الهرب، متصوِّرًا أنَّ «رجلًا عجوزًا
يقترب من الثمانين، لن يُتعب نفسَه في السير قرابة ميل في صباحٍ صيفيٍّ حارٍّ على طريق
لا
ظلَّ فيه، ليأخذ الولد إلى المدرسة … ولكن الرجل العجوز لم يتوقَّف»، حتى أوصل الولد
إلى مبنى المدرسة، «وحتى تلك اللحظة، لم يترك يده من يده، ولم ينصرف.» «أثناء مشيتهم
الطويلة لم يَقُل شيئًا … لم يُبدِ أيَّ قلق بسبب الموضوع … ولا حتى أيَّ وعيٍ بوجود
الولد.»
٢٢ على مدى حياة «هنري آدمز» الباقية، ظلَّ جدُّه رمزًا لتقاليد عائلة
«آدمز»، وعلى الواجب المدني والمسئولية، كانت تلك التقاليد قوةً صلبة وراسخة
وموضوعية في متطلباتها وتوقعاتها. أما بالنسبة ﻟ «هنري آدمز» اليافع الناضج، فقد
أصبحت التقاليد عبئًا من المستحيل تحمُّله. عندما نشر شقيقه «بروكس» «مذكرات جون
كوينسي آدمز»، في عام ١٩٠٧م، اعترف «هنري» الذي كان في عامه الواحد والسبعين: «أنا
أتمزَّق بكاملي كلما حاولت أن أتناول ذلك.» فقد كانت صورة الرجل العجوز «كابوسًا
نفسيًّا بالنسبة لحفيده المتفسِّخ المنحل».
٢٣
نشأ «هنري» و«بروكس» في «بوسطن» التي كانت تُسيطر عليها عائلات بعينها من أصول
بیوريتانية؛ مثل آل براهمن
Brahmin، و«لویل»
Lowell، و«لیمان»
Lyman، و«سالتونستول»
Saltonstall، و«كراوننشیلد»
Crowninshield، و«كابوت»
Cabot، و«بروكس»
Brooks، والأخيرة هي عائلة أم الأخوين «آدمز». كان «آل براهمن» يتزوجون من بعضهم ويحتفظون باحتكار
فعلي في الحياة العامة والحياة الفكرية. وفي عام ١٨١٥م تفرَّقت الأجنحة الأرثوذوكسية
الموحَّدة. كانت نظرة
العائلات الموحدة؛ مثل عائلة «آدمز» أكثر دنيوية ولا طائفية، منها لدى خصومهم
الأرثوذوكسيِّين، وإن كانوا يعيشون التزاماتِهم المدنيةَ بنفس الالتزام البيوريتاني.
الرجال الذين ينتمون إلى دائرة والد الأخوَين «آدمز» وهو «تشارلز فرانسيس»، مثل
«جیمس راسل لويل»
James Russell Lowell، والسيناتور «تشارلز سمنر»
Chasles Sumner، لم يكونوا منحدرين من أفضل العائلات، وإنما كانوا يحتفظون إلى جانب ذلك بالأفكار البرجوازية
التقدمية نفسها؛ مثل الليبراليِّين الأوروبيِّين؛ أمثال «توكفيل»
Tocqueville، و«جون ستيوارت مل»
John Stuart Mill. كانوا سلفًا سيُعرَف فيما
بعد باسم «التقليد الأرستقراطي»، وكانت قاعدتهم الفكرية «هارفارد كوليدج»، وكان
«هنري آدمز» يَصِف نظرتهم على النحو التالي: «الطبيعة البشرية تعمل من أجل الله وكل
ما تتطلَّبه لذلك ثلاث وسائل — هي: حق التصويت ومدارس العامة وصحافة — من أجل حياة
فاضلة ومفيدة وبعيدة عن الأنانية».
٢٤
وإذا كان عام ١٨٨٤م بمثابة مستجمع الأمطار بالنسبة لليبرالية الأوروبية، فإنه لم
يكن أقل من ذلك بالنسبة لتشكيلة نيو إنجلند المتنوعة. في الرابع من يناير مات «جون
كوينسي آدمز»: «غاب مجد العائلة»، كما أعلن «تشارلز» والحزن يمزِّق قلبه. وفي ذلك
الربيع قاد «تشارلز فرانسیس آدمز» تمرُّدًا ضدَّ الأحزاب السياسية القومية بخصوص
«العبودية»، «وربح الضمير» الذين كانوا يعارضون العبودية (كما كان يطلق عليهم)،
كوَّنوا حزب «الأرض الحرة» ورشَّحوا «تشارلز» لمنصب نائب الرئيس، وبالرغم من أنَّ
قائمة الحزب قد مُنيَت بهزيمة ساحقة في ١٨٨٤م، إلا أنها كانت بمثابة بداية التحوُّل
لإلغاء العبودية، من حركة ثانوية إلى حملة أخلاقية قومية.
٢٥⋆ بعد أربع سنوات، قامت «موحدة» أخرى من «بوسطون» وهي «هاريت بيتشر ستو»
Harriet Beecher Stowe بنشر «كوخ العم توم»، وهكذا وجدت الأمة الأمريكية المخلِّصة منفذًا جديدًا.
معارضة العبودية (الاسترقاق)، مثل السياسة نفسها، كانت جزءًا أساسيًّا في تراث
عائلة «آدمز». كانت هي العاطفةَ القوية والعبءَ الثقيل على كاهل «جون كوينسي آدمز».
حفيده «بروكس» سيقول فيما بعد إنَّ استمرار الاسترقاق في الولايات المتحدة «زرع في
عقله أول شك في جود «إله»، وما إذا كان هناك هدفٌ في هذه الحياة».
٢٦ والآن، انتقلت الراية كما انتقل العبء إلى ابنه «تشارلز فرانسيس» الذي
اشتُهِر بلقب رئيس أساقفة معارضة الاسترقاق، قاد أنصار «الأرض الحرة» المتحمسين
إلى الحزب الجمهوري الجديد الذي فاز بانتخابات ١٨٦٠م برئاسة «إبراهام لنكولن»،
نشوب الحرب ضدَّ «قوى ملك القطن العبودية» (وصف تشارلز المفضَّل للشمال) بعد عام
واحد، بدا وكأنه بداية تطهير أخلاقي قومي.
اختار «لنكولن»، «آدمز» ليكون سفيرًا إلى لندن في عام ١٨٦١م، ولكي يناقش قضية
الحرب ويُقنع بريطانيا بعدم الاعتراف بالكونفدرالية. وأخذ «تشارلز آدمز» معه ابنه
«هنري» كسكرتير خاص له. كان «هنري» حديث التخرُّج في «هارفارد».
كان من بين مؤيِّدي «آدمز» من الليبراليِّين الإنجليز «ريتشارد كوبدن»
Richard Cobden، و«جون برایت»
John Bright اللذَين كانا يجمعان بين الالتزام
بالديمقراطية ومبادئ «دَعْه يعمل»، مع حماس شديد للعدالة فيما يتعلق بالعمَّال، كما
كان هناك أيضًا «تشارلز ديكنز»
Charles Dickens، و«ماثيو أرنولد»
Matthew Arnold، و«ناسو سينيور»
Nassau Senior محرِّر الطبعة الإنجليزية من
أعمال الراحل «أليكسس دو توكفيل»
Alexis de
Tocqueville، و«جون ستيوارت مل»
John Stuart
Mill، الذي كان كتابه «عن الحرية» هو القول الفصل في مبدأ أن
تكون الحرية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية) هي المعيار الوحيد الذي
يحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع. سيكون لدى «هنري آدمز» بعد ذلك آراء عنيفة في
«خلطة» الليبرالية الكلاسيكية عند «مل»، إلا أنه في ذلك الوقت نفسه، قرأ عملًا آخر
من أعمال «مل»،
٢٧ وهو «الفلسفة الوضعية عند أوجست كونت». كان استنتاج «كونت» الأساسي هو
أنَّ تقدُّم الإنسان، يتبع قوانينَ ديناميكية دقيقة، ويتحرَّك في توافق مع القوى
الطبيعية التي تحكم الكون. هذا الاستنتاج سوف يُشغل خيال «آدمز» ويشكِّل فكره
التاريخي التالي، «فأي علم تاريخي لا بد أن يكون مطلقًا مثل جميع العلوم الأخرى»،
وهذا ما سوف يشرحه بعد ذلك في بحث بعنوان «نزعة التاريخ» ١٨٩٤م «ولا بد من ترسيخ
الطريق الذي ينبغي على المجتمع الإنساني سلوكه، بتأكيد حسابي»،
٢٨ وتحت تأثير «كونت»، أصبح «هنري آدمز» يعتنق نظرةً عضوانية
organicist قوية، عن التقدم الاجتماعي
والسياسي؛ فالمجتمع الأمريكي، مثل كل المجتمعات والأمم، أكبر من مجرد حاصل جمْع
أجزائه، وإنما هو كيان عضوي كلي متكامل، إلا أنه كان ينظر إلى عمل هذا الكيان نظرةً
ميكانيكية لا شخصية، وربما حتمية.
وعلى عكس الدارونيِّين الأمريكيِّين مثل «جون فيسك» John
Fiske في «هارفارد»، كان «آدمز» متفقًا مع «إرنست هايكل» في
أنَّ صدقَ التطوُّر يستنزف الهدف الأخلاقي، ليس من الطبيعة فقط، بل ومن المجتمع
الإنساني كذلك.
وفي تاريخ لاحق، سيكتب بعد سنوات: «سوف يشترك علم النفس والفسيولوجيا والتاريخ
لإثبات أنَّ للإنسان تطوُّرًا ثابتًا وضروريًّا مثل تطوُّر الشجرة، وربما مثله أيضًا
لا نشعر به.»
٢٩ كانت دراسة التقدم في المجتمع تتطلَّب حسابات كمية بأسلوب «كونت»
وربما ميكانيكية، وبأكثر مما كانت تتطلَّب أحكامًا أخلاقية «غير دقيقة». كان «آدمز»
يعتقد أنَّ الطاقة والقوة والديناميكية، وعكسها جميعًا، هي حقائق الطبيعة الوحيدة
وبالتالي فهي حقائق المجتمع. أما «هنري آدمز» فقد تجنَّب كمؤرِّخ وكاتب ما كان عقيدة
رئيسية لدى الليبرالية الأمريكية، وهو أنَّ الحياة الأخلاقية للفرد موجودة في اتساق
مع الطبيعة الإنسانية، كما تظهر في العلم، وليس على العكس منها. وفي الوقت نفسه،
كان ما يزال لزامًا على الفرد أن يتحمَّل عبء حياة أخلاقية، لم تحوِّل الحتمية «هنري
آدمز» إلى التعلُّق الصريح بمذهب اللذة، بل إنَّ التقليد البيوريتاني القديم ظلَّ
يؤكِّد نفسَه في عائلة «آدمز». الفرد عليه أن يتمسَّك برؤية راقية للإنسان والمجتمع.
أثناء إقامته في إنجلترا، التقى «هنري آدمز» ﺑ «توماس كارليل»
Thomas Carlyle. وكواحد من يتامى الرومانتيكية،
كان «كارليل» يمقت ويستنكر المجتمع الرأسمالي الليبرالي، الذي كان محلَّ إعجاب أصدقاء
والد «هنري»، وكان «كارليل» يعتبره «لا أخلاقيًّا ولا سبيل لإصلاحه».
٣٠ أفكار «كارليل» تركت انطباعًا عميقًا على «آدمز» الصغير.
أما آخر نقَّاد الصيغة البرجوازية للتقدُّم الذين قابلهم «آدمز» فكان «كارل
ماركس». حضر «آدمز» في عام ١٨٦٣م اجتماعًا نظَّمه «ماركس» لاتحاد العمَّال في
«لندن»، وأصبح ملِّمًا على نحوٍ جيد بالكتابات الاشتراكية الألمانية. كان «ماركس» —
وبشكل عرضي — يجذب اهتمامَ عددٍ من الليبراليِّين الأمريكيِّين الآخرين. في عام ١٨٥١م
كان «هوراس جریلي»
Horace Greeley قد اتفق مع
«ماركس» ليكون مراسلًا ﻟ «نیویورك هيرالد» في أوروبا، وقام «تشارلز ا دانا»
Charles A. Dana أحد المحرِّرين الذين يعملون
عند «جریلي» بإعادة صياغة لأجزاء من «البيان الشيوعي» في افتتاحياته.
٣١ ومثل «آدمز»، لم يقبلوا أفكار «ماركس» بسبب قيمتها كأفكار اقتصادية
أو تاريخية جامدة — «رأس المال» لم يظهر إلا في عام ١٨٦٧م — وإنما قبلوها كتعبيرٍ
قويٍّ عن نقمتهم الخاصة على جور المجتمع الصناعي. وفيما بعد كان «هنري» يشكو أنَّ
«ماركس» لم يكن جزءًا من دراسته في «هارفارد»، كما اعترف كذلك بأن «ماركس» — بعد
«كونت» — كان هو الكاتب الذي أثَّر على تفكيره الخاص.
٣٢ وفوق كل اعتبار، فإن «ماركس» هو الذي زوَّده بالصورة التي لا تُمحَى عن
عالم رأسمالي صناعي منحدر حتمًا وبقوة إلى الانهيار. كان «آدمز» يتأمل المشهد بأسًى
وهو يقول: «وبكل وبجميع الاحتمالات لن نجدَ سوى أطلال أوروبا الغربية.» والأمر نفسه،
بالنسبة للولايات المتحدة إذا أصابَتها الرغبة ذاتها ستُصبح جميع القوى التي كانت
تحكم تطوُّر المجتمع في تناقض مع تقاليده الأخلاقية، وسيكون على الفرد المستقيم أن
يواصل طريقه وحيدًا … منفردًا … في وجه اللامبالاة وربما عداء المجتمع ككل. في
عالم «هنري آدمز» الآلي، يقع عبء توليد معنى أخلاقي على الفرد تمامًا، حتى إذا كانت
هذه النظرية نفسها تختزل الفرد إلى كيان ضئيل ومنعزل عن الكل. بعد ذلك، سيكتب
«آدمز»: «الذرَّة قد تتحرَّك، بيد أنَّ التوازن العام لا يتغيَّر.»
«الأرستقراط» و«الأنجلو ساكسون»
«الذرَّة قد تتحرك»، لا بد أن تكون تلك الكلمات قد بدَت ملائمةً ﻟ: «هنري آدمز»
عندما عاد إلى الوطن في عام ١٨٦٥م، تغيُّرات هائلة كانت قد اجتاحَت المشهد الأمريكي
أثناء غيابه، ولسوف تقوى في العقود التالية، التصنيع السريع حقَّق وفرةً مادية
جديدة، بينما وسَّعت الحرب الأهلية حجمَ وطبيعة الحكومة الفيدرالية بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك فإن العوائق الأخيرة أمام مشاركة الجماهير السياسية قد أُزيلت. في
عام ١٨٢٤م كان هناك مقترعٌ واحد له حقُّ المشاركة في الانتخابات الرئيسية أصبحوا اثنَي
عشر في عام ١٨٧٢م، الذكور في أبناء الطبقة العاملة الفقيرة، الرجال السود
المحررون، المهاجرون، سكان الأحياء الفقيرة من الكاثوليك الأيرلنديِّين في مدن مثل
«نيويورك» و«بوسطن»، كانوا كلهم بمثابة الأجزاء المتحركة في نمط جديد من السياسة
الديمقراطية، التي سيُصبح اسمها فيما بعد سياسة «الآلة». وبرزَت نخبةٌ سياسية جديدة
مكوَّنة من رعاة السياسة في المدن ورؤساء الأحزاب، بينما وجدت النخب القديمة ﻟ
«نيكربوكر»
٣٣⋆ نيويورك و«كويكر»
٣٤⋆ فيلادلفيا و«براهمن»
٣٥⋆ بوسطون نفسها في موقع الدفاع.
٣٦
بدأت بوادر الرفض والتحرُّر من الوهم في الظهور في الدوائر الفكرية الشرقية بعد
الحرب الأهلية مباشرة. كان التصوُّر الأوَّلي للأمة التقدمية المخلصة تصوُّرًا عن
«جنة إصلاح زراعي ذات أمواج لا نهائية من قمح كهرماني، يبتهج فيها المزارع الصغير
الذي يعيش مثل جار طيب بالقرب من الحقول التي يزرعها»، كما كتب المؤرِّخ «جورج
بانكروفت»
George Bancroft. وبعد عقدين (في ١٨٧٨م)
سيكتب «هنري باركمان»
Henry Parkman «والآن …
أصبحت القرية مدينةً كثيفة السكان، بمصانعها ومعاملها، مساحات واسعة تغطِّيها
المساكن، آلاف مؤلَّفة من العمال القلقين، ومن الأجانب … الذين «تعني الحرية
بالنسبة لهم الانحلال، والسياسية تعني النهب».»
٣٧ وفي عام ١٨٧١م، سيكتب الاقتصادي «هنري جورج»
Henry
George شيئًا مشابهًا في كتابه «التقدم والفقر»: «المدينة
الكبرى، هنا حيث توجد الثروة الكبرى والفقر الكبير، هنا أيضًا حيث انهارت الحكومة
الشعبية … وبوضوح.»
٣٨ كان هناك خوف جديد من الديمقراطية ومن المعاني الاجتماعية الثورية
المتضمنة فيها، هذا الخوف كسر السطح بين النخبة الأرستقراطية القديمة في الولايات
المتحدة كما حدث في أوروبا. وما العمل؟ الدوائر الليبرالية في «نیو إنجلند»
و«نيويورك»، بمن في ذلك «هنري آدمز» وإخوانه، نظَّموا جماعات مثل رابطة «الإصلاح»؛
لمقاومة نظام الغنائم
٣٩⋆ والدوائر السياسية الشائنة.
٤٠⋆
كان شعار الإصلاحيِّين هو «حكومة صالحة»
Good
Government، ومن هنا كان اسم الشهرة:
Goo goo
Liberals، أو: «ليبراليو اﻟ: جوجو»، كانت جهودهم التي يريدون
كسب التأييد لها، تتركَّز على قضايا محدَّدة، مثل إصلاح الخدمة المدنية، وإحداث
تغيُّرات في سياسة الدولة المالية، والتفرقة، وتحت أجندة الإصلاح، كان هناك اقتناع
عميق بأن الأشكال الجديدة من السياسة الديمقراطية، كانت تعرض نزاهة الدولة
الأخلاقية للخطر. وكانت عقول الإصلاحيين تُصوِّر لهم أنَّ نظام الحكم واقع تحت أيدي
أصحاب الملايين السوقيِّين (فاندربلت – فيسك – جولد) والمهاجرين الجهلاء الذين كانوا
يعطون أصواتهم مقابل الرشوة والمشروبات الكحولية، ويُفسدون الرسميِّين المنتخبين الذين
كان ولاؤهم لرؤساء الأحزاب أكثر مما هو للصالح العام،
٤١ وحذَّر «هنري جورج» من ظهور طبقة جديدة حاكمة «من أصحاب النفوذ الذين
تلوح لهم الطموحات بكل أنواعها» والذين كانوا يتحكَّمون في الدوائر الانتخابية
واجتماعات الترشيح. كان «جورج» يتساءل: «مَن أولئك الرجال؟ هل هم من العقلاء الطيبين
المتعلِّمين؟» وكانت الإجابة «لا» قاطعة. «إنهم المقامرون، أصحاب الصالونات،
الملاكمون، وربما أسوأ، إنهم يقفون لحكومات تلك المدن كما كان يقف الحرس
البرايتوري
٤٢⋆ لمدن روما المضمحلة». وقد أوحى الخوف ﻟ «تشارلز دبلیو إليوت»
Charles W. Eliot رئيس «هارفارد» ليقول إنَّ أُسُس
النظام والقانون في أمريكا كانت مهدَّدة، وإنه كان لا بد من فعل شيء ما لتقليل أثر
السياسات الديمقراطية الجديدة.
٤٣
عاد «هنري آدمز» إلى أمريكا على أمل بدء عمل سياسي، كان يفترض أنَّ إدارة جمهورية
جديدة تحت «أوليسيوس س جرانت» سوف ترحِّب بخدمات واحد من أبرز مؤسِّسي الحزب، إلا
أنَّ فوران ما بعد الحرب والجدل الدائر حول إعادة البناء جمَّدت سلالة «آدمز». وبعد
خيبة أمله، حوَّل «هنري آدمز» يده إلى الصحافة السياسية. كتب سلسلة مقالات لصحيفة
Nation «نیشن» التي كان يُصدرها «إي إل جودكن»
E. L. Godkin، ولم يكن غريبًا أن يوجِّه نقده
الشديد لافتقارها لملكة التقدير السياسي السليم. وكان «آدمز» يعتقد أنه وغيره من
الليبراليِّين كريمي المحتِد (أبناء الأصول)، كانوا يمثِّلون ما كان قد أطلق عليه «جون
آدمز» قبل نصف قرن: «الأرستقراطية الطبيعية»، التي يمكن أن تُنقذ الديمقراطية
الأمريكية من نفسها، وكما بيَّن «جون آدمز» في عام ١٨١٤م: «أعني بالأرستقراطية
المواطن الذي يمكنه أن يحكم صوتين أو أكثر في المجتمع سواء عن طريق فضائله أو
مواهبه أو تعليمه أو بلاغته»، أو أيِّ صفات بارزة أخرى. وهذه الأرستقراطية — كما كتب
— لا يمكن أن تكون «أكثر من خُمس — ولا حتى عُشر — عدد الرجال الذين درسوا العلم
والأدب بشكل منظَّم». وبدونهم — على أية حال — فإن الشعب يمكن أن يكون «ظالمًا
ومستبدًّا ومتوحشًا وهمجيًّا» مثل أيِّ طاغية،
٤٤ وقد تبنَّت مجموعةٌ مؤثرة من مثقفي وإصلاحيِّي نیو إنجلند هذه الفكرة في
أوائل سبعينيات القرن «التاسع عشر»، وهي إمكانية أن تقوم أرستقراطية طبيعية بإرشاد
وتوجيه قوى الديمقراطية الأمريكية وجهة بنَّاءة. وكانت المنابر الصحفية المهمة من
منابر الرأي الحر، مثل مطبوعة: «جودكن»، «نیشن» و«نورث أميركان ريفيو»، ترثي لفشل
أبناء «أحسن طبقة» في أن يدخلوا حلبة السياسة،
٤٥ كانت فكرتهم الليبرالية عن الأرستقراطية الطبيعية لا تعني أبدًا أن
تكون نخبوية بأيِّ معنًى سيِّئ. لم يكن ذنب أعضائها أنَّ الأفراد من ذوي «الشرف
والتعليم والثروة» كانوا ينحدرون من نفس الأُسَر ويتعلمون في نفس المدارس. (في سنة
١٨٩٦م قدَّر رئيس هارفارد (إليوت) أنه كانت هناك خمسمائة وستون «سلالة عائلية» كتلك،
موجودة في «هارفارد»، وأربعمائة وعشرون في ييل)، كما أنَّ تلك النخبة التي ربت في
الشرق، لم تستبعد الآخرين الذين كان لهم نفس الصفات، بل إنَّ «إليوت» كان يقول إنَّ
واجب الديمقراطية هو مضاعفة عددهم.
٤٦ وبالمصطلحات الأرسطية القديمة، فإن القلة كريمة المحتد، سوف توازن
الميول غير العقلانية للأغلبية. سوف تقدِّم المرشد والمرساة لسفينة الدولة وهي تدخل
المياه المضطربة. معظم أولئك القادة كرام المحتد، جيِّدي التعليم، لن يكونوا مضطرين
لشغل مناصب، وبدلًا من ذلك فإن السياسيِّين المنتخبين في أمريكا يجب أن يعرفوا كيف
يعتمدون عليهم «كوُعَّاظ ومعلِّمين وقضاة وعلماء ومؤرِّخين ومخترعين واقتصاديِّين
وفلاسفة سياسة»، على مدى رئاسته ﻟ «هارفارد»، كانت مهمة «إليوت» هي تحويل الكلية من
معهد لاهوتي إلى معسكر تدريب لجيل من القادة الأمريكيِّين، سوف يُطلَق عليه فيما بعد
الجيل «الأفضل والأذكى»، واتَّخذت الكليات البروتستانتية الطائفية الأخرى؛ مثل «يیل»
و«برنستون» و«دارتموث» التوجُّه نفسه. وفي عام ١٨٤٨م أسَّست إحدى الهيئات
الإكليركية وهي
Reverend Endicott Peabody مدرسة
«جورتون» من أجل الغرض نفسه.
تأثَّر «إليوت» تأثُّرًا شديدًا بمقالات «هنري آدمز» التي كان ينشرها عن الموقف
الكئيب المُنذِر بكارثة في «ريبابليكان واشنطن» والتي كان ينبِّه فيها إلى أنَّ
«حكومتنا واتحادنا سوف يتمزَّقان» بدون الإصلاح.
٤٧ وكتب «آدمز» ينتقد بشدة الفساد الموجود في «الكونجرس»، بينما أصبح
الرئيس «جرانت» نفسه هدفًا مفضَّلًا للازدراء، «أفكاره في الاقتصاد السياسي هي أفكار
ملك إقطاعي منذ ألف عام، فما هو النظام السياسي الذي يختار شخصًا ساذجًا جاهلًا إلى
هذه الدرجة ليكون رئيسًا؟» وبعد سنوات كتب «آدمز» هازئًا: «إنَّ التطوُّر البشري من
الرئيس «واشنطن» إلى الرئيس «جرانت»، «كفيلٌ وحده بإزعاج «دارون»، وإنَّ الفساد كامن
في الديمقراطية الحديثة ذاتها».» كما كتب إلى صديق إنجليزي: «كلما تعمَّقت في دراسة
النتائج، زاد قلقي وخوفي على المستقبل.»
٤٨ كانت الديمقراطية الفاسدة تبدو بالنسبة ﻟ: «آدمز» امتدادًا طبيعيًّا
لنظام اقتصادي «منقسم إلى طبقتين: واحدة تسرق، والأخرى مسروق منها» — وهو هنا
يستعير كلمات «ماركس» — ويواصل: «لم يحدث أبدًا في تاريخ العالم أن كانت هناك ثقة في
ترك قوة اقتصادية كتلك في أيدي مواطنين عاديِّين»، والذين «سينجحون في النهاية في
توجيه الحكومة نفسها»، كما كان مقال «آدمز» بعنوان «مؤامرة جولد» في «نيويورك» —
وكان شديد العنف — بداية صحافة البحث عن الفضائح والتشهير في تسعينيات القرن
التاسع عشر. تمخَّض المقال عن قضية قذف ضدَّ «آدمز»، ولكنه حرَّك «تشارلز دبليو
إليوت»
Charles W. Eliot ليعرض عليه العمل
مدرِّسًا في «هارفارد» وتحرير الجريدة الرئيسة لأفكار التنوير وهي «نورث أميركان
ريفيو». وعندما وجد نفسه مدفوعًا إلى «واشنطن»، «المكان الذي يحبه، ووجهًا لوجه
أمام مستقبل هو رافض له»، قَبِل «آدمز» العرض وترك السياسة إلى الأبد.
٤٩
«إليوت»، جاء ﺑ «آدمز» إلى «هارفارد» للمساعدة في تجديد وتطوير المنهج الدراسي،
بغية إعداد أرستقراطية أمريكا الطبيعية لمهمتها القيادية، كما أنَّ «آدمز» وجد
المهمة الموكلة إليه ملائمةً لطباعِه ومزاجه. كتب إلى شقيقه «تشارلز» يقول: «نريد
مجموعة من الشبَّان الوطنيِّين مثلنا، وربما أفضل منَّا؛ لكي تُحدِث تأثيرًا جديدًا،
ليس في السياسة فقط، وإنما في الأدب والقانون والمجتمع … وفي كل الكيان الاجتماعي
للبلاد». وكان ذلك في رأيه يتضمَّن تعريضَ الطلاب لأحدث النظريات التاريخية القادمة
من الجامعات الألمانية والإنجليزية، كما حوَّل «آدمز» ندوته التي كانت تناقش تاريخ
القرون الوسطى إلى مختبر لبحث ما يُسمَّى بالأطروحة الأنجلو ساكسونية، والتي كانت
أحدث تطوُّر في المراجعة الآرية للتاريخ. (كان من بين طلابه «هنري كابوت لودج»
السيناتور في ماساشوستس فيما بعد، و«ج. لورانس لولین» المؤرِّخ المالي فيما بعد
أيضًا.) وفي عام ١٨٥٠م، أعاد عالم اللغة الألماني «فردريك ماكس موللر» إلى
الأضواء، الفكرةَ القديمة التي تقول إنَّ التقاليد الأوروبية القديمة في الحرية
والحكم الديمقراطي، كانت هبةَ الأنجلو ساكسون في بريطانيا، وذلك عندما جاء إلى
«أكسفورد» بترجمته للأصول الآرية للحضارة. كان «ماكس موللر» خصمًا عنيفًا للنظريات
العرقية الآرية التي كانت متغلغلةً بين زملائه الألمان،
٥٠ ولكنه كان يقول بوجود تقليد لغوي-ثقافي واحد، يربط بين كل المجتمعات
المنحدرة من أصل «آري» في الماضي والحاضر، وقد أنتج مؤسسات دينية وسياسية واقتصادية
متشابهة في كلٍّ منها.
وقد بذل المؤرخون الإنجليز الذين أثَّر عليهم «موللر» (مثل «هنري ماين»
Henry Maine، و«فردريك بولوك»
Fredrick Pollock، و«جیمس برایس»
James Bryce، و«إي إيه فريمان»
–
E. A. Freeman) جهدًا كبيرًا؛ لكي يبيِّنوا
أنَّ الأنجلو ساكسون الجرمان قد جلبوا معهم من غابات ومستنقعات «سكاندينافيا» شكلًا
بدائيًّا من الديمقراطية، يوجد في أساس البرلمان والحرية السياسية الحديثة. أولئك
الأسلاف التيوتون المحبون للحرية، لم يَعُد أحد ينظر إليهم كأرستقراطيِّين مقاتلين على
النمط المعروف عند «جوبينو». كان قد تمَّ ترويضهم لكي يناسبوا توقُّعات الطبقة
الوسطى من المعجبين بهم في «أكسفورد» و«كمبردج». كانوا مزارعين وفلاحين، على قدرٍ من
الرزانة والاعتدال، لديهم ميلٌ طبيعي نحو الاعتماد على النفس والاستقلال، وكان
مفهومهم للحرية يتضمَّن إطارًا ديمقراطيًّا. كل ما فعله «آدمز»، هو أنه نقل ذلك
الموروث الأنجلو ساكسوني إلى شواطئ أمريكا؛ حيث جعلَته المستعمرات الناطقة
بالإنجليزية أساسًا لمجتمعاتها بدايةً ﺑ «تجمع ماي فلاور». وفي عام ١٨٧٦م، نشر
«آدمز» وتلاميذه مجموعة أوراق توضِّح كيف كانت التقاليد الأمريكية في القانون
والحقوق والديمقراطية جزءًا من الموروث الذي يخصُّ الشعوب الجرمانية الحرة في
أوروبا، وكذلك في العالم الجديد. الفلاح الآري، ومالك الأرض الحر، الأنجلو ساكسوني،
كانوا عند «جفرسون» يُقدَّمون بصفتهم سلف صغار الملَّاك المعتمدين على
أنفسهم.
٥١
وسرعان ما أصبح مصطلح «الديمقراطية الأنجلو ساكسونية» جزءًا من قاموس المفكرين
والسياسيِّين الأمريكيِّين، كما انتشر تأثيرها من خلال محاضرات «جون فيسك» الناجحة عن
«أفكار سياسية أمريكية» ١٨٨٠م، وكتاب «جیمس ك هوسمر»
James K.
Hosmer تاريخ «الحرية الأنجلو ساكسونية» ١٨٩٠م، وأحاديث
السياسيين من أمثال «هنري كابوت لودج»
Henry Cabot
Lodge، و«ألبرت بيفردج»
Albert
Beveridge و«تیودور روزفلت»
Theodore
Roosevelt.
٥٢⋆ كانت
الشعوب الناطقة بالإنجليزية، بما فيها الأمريكيون، هي الحافة أو الحد المتجه
غربًا في هجرة الشعوب الآرية عبر أوروبا وآسيا. وكان المفكرون والباحثون يرون تلك
الهجرة نقطةَ تحوُّل مهمة في تاريخ الحضارة، والآن أصبحت حدثًا مركزيًّا في تاريخ
الحرية الأمريكية كذلك، وأصبح البروتستانتي الأنجلو ساكسوني الأبيض «أو: الواسب»
Wasp، هو المؤسِّس الحقيقي للدور التاريخي
العلمي الأمريكي كأمَّة مخلِّصة.
كان الطرح الأنجلو ساكسوني يروق ﻟ «آدمز» بدرجة كبيرة، وكان سعيدًا أن يرى أن
الدستور الأمريكي لم يكن نتاجَ ظرف شخصي أو نزوة، وإنما نتاج ميل ثقافي طبيعي وتراث
للحرية الجرمانية، كما كان الطرح الأنجلو ساكسوني يروق أيضًا كعقيدة سياسية بالنسبة
للنظرة المحافظة «مثل نظرة بيرك»، ولمؤسسات محافظة مثل تلك التي كان يشترك فيها
«هنري آدمز» وكثيرون من ليبرالي القرن التاسع عشر. كان أبناء الأنجلو ساكسون أو
«العرق» الإنجليزي هم بناة المنزل القديم للحرية، والآن أصبح من المحتم على خلفائهم
أن يتعلموا وأن يمارسوا العادات والتقاليد التي ستُبقي على البناء حتى يستمر تدفُّق
وسريان تراث الحرية دون عوائق.
ومن ناحية ثانية، فإن النفوذ الذي كسبه «التقليد» في تاريخ الحرية الحديثة، كان
نفوذًا خسره «التقدم»، موروث أمريكا من الحرية السياسية ونظام الحكم الدستوري،
كان موجودًا بمعزل عن التقاء القوى الاجتماعية والاقتصادية، تطوُّر المجتمع نفسه لم
يُضعِف أو يُقوِّ الموروث الجيرماني الأصلي، بل على العكس، استطاع التطوُّر أن
يقلِّل فقط من أهميةِ أُسُسِه البدائية، وقد احتفظ «آدمز» بحكمه الخاص على تلك القضايا
لرواية غير معروفة نشرها في عام ١٨٨٠م بعنوان «الديمقراطية»، الشخصية الرئيسية
فيها «مسزلي»، المضيفة السياسية في «واشنطن»، توضِّح فكرة الكتاب الأساسية بهذه
الكلمات: «لا بد أن أعرف إذا ما كانت أمريكا محقَّة أم مخطئة.» وبنهاية الكتاب يحاول
«هنري آدمز» أن يُقنع القارئ بأن ما كان صحيحًا ذات يوم عن ديمقراطية أمريكا، تم
اجتياحه بما هو خاطئ في الأساس، كما تُبيِّن الرواية أنَّ الديمقراطية التي أرساها
«واشنطن» و«جيفرسون» لم يَعُد لها وجود؛ فقد حوَّلت نفسها إلى فوضى اجتماعية وسياسية،
إلى جانب «شلل أخلاقي»، الرواية يخيِّم عليها جوُّ التفسُّخ الشرقي: مناظر وشخصيات
تُحيط بها البهرجة في مبغى من العصر الذهبي، و«سجاجيد مطرَّزة وذهب منسوج من اليابان
وطهران»، و«خليط غريب من الصور والرسوم والمراوح والمشغولات والبورسلين»، أما أكثر
الشخصيات رقيًّا في الرواية فهي منحدرة من أصول متميِّزة، عائلات يَصِفها «إليوت» رئيس
«هارفارد» بأنها ذات «أخلاق سامية وأذواق راقية وعواطف نبيلة … وذلك كله
بالوراثة.» كثيرون يتمسَّكون بتلك المكانة كجزء من أرستقراطيتهم الطبيعية، ومثل
أصدقاء «آدمز» «الليبراليين» أو اﻟ «جو … جو» goo … goo، فإنهم يؤيدون الإصلاح بحماس شديد،
إلا أنهم لا حول لهم ولا قوة، فهم هواة لا تأثير لهم في مجتمع تَصِفه شخصية من
الشخصيات بأن: «الغثاء يطفو فيه على سطح السياسة». أصبح الفساد والمحسوبية هما دم
الحياة في الأمة، الانتخابات الرئاسية انهارت وأصبحت تسابقًا أخرق من أجل اكتساب
الشعبية. عندما يظهر الرئيس وزوجته في أي اجتماع أو مناسبة عامة يبدوان «كنموذجَين
ميكانيكيَّين، ليس على وجهَيهما أيُّ مسحة ذكاء، ولكنهما يمثِّلان المجتمع المندفع
وراءهما»، المال والجشع حلَّا محلَّ الفضيلة وروح الجماعة كقوى دافعة في «واشنطن»،
أما أكثر الشخصيات فسادًا في الكتاب وهو «السير راتكليف» فهو الأكثر قوةً ونفوذًا،
كذلك هو سياسي بارع؛ لأنه يفهم — بالضبط — أنَّ «القضية الآن ليست هي المبدأ، القضية
هي السلطة»، وأتباعه يفهمون أنَّ «مبدأهم يجب أن يكون اللامبدأ». ويعترف «راتكليف»
لزائرته «مسزلي»: «في السياسة لا يمكننا أن نحتفظ بأيدينا نظيفة.»
وبينما هي تستمع إلى «راتكلیف»، تشعر «مسزلي» بأنها قد نزلت إلى قلب السياسة
لدرجة أنها يمكنها أن «تُحدِّد المرض العضوي كما يفعل الطبيب بواسطة سمَّاعته». هذا
المرض كما يقول، هو «شلل أخلاقي، ضمور في الحواس الأخلاقية نتيجة عدم استخدامها».
هل كان ذلك الشلل من صنع «مجانين أخلاقيِّين»، مثل «راتكليف»، أم تراه شيئًا أكبر؟!
وتفكِّر … «هل سنظلُّ تحت رحمة اللصوص والوحوش إلى الأبد؟» «هل قيام حكم ديمقراطي
محترم أمر مستحيل؟» الشخصيات المتعاطفة الأخرى تُقدِّم لها مساعدة ضئيلة، عندما تسأل
«كارينجتون» (المتحدث الرسمي باسم هنري آدمز نفسه) إن كان بإمكانه إعادة «المجتمع
القديم»، حكم الفرسان في «فرجينيا»، و«جیفرسون»، و«واشنطن» لإنقاذ الجمهورية.
يجيبها: «من أجل ماذا؟» إنها لا تستطيع أن تتماسك. الجنرال «واشنطن» نفسه لن ينجح في
إنقاذها، قبل أن يموت فقد سيطرته في «فرجینیا وضاعَت قوته». لن يستطيع أيُّ قدر من
القيادة الشخصية، ولا يوجد بين الأفضل والأذكى مَن يمكنه أن يقاوم الفساد الذي ضرب
أساسَ المجتمع الأمريكي. وأيُّ قدر من الإصلاح لن يستطيع أن ينظِّف الديمقراطية، كما
يؤكِّد «كارينجتون»: «مادام المواطن الأمريكي كما هو». ويلخِّص البارون «جاكوبي»،
السفير البلغاري، الموقف هكذا: «في تجربتي كلها لم أجد مجتمعًا تجمَّعت لديه كلُّ
عوامل الفساد كما في المجتمع الأمريكي. الأطفال في الشوارع فاسدون ويعرفون كيف
يغشونني. المدن كلها فاسدة … وكذلك الأقاليم … والمشرِّعون والقضاة، في كل مكان
يخون الناس الثقة في السر والعلن، ويسرقون الأموال ويهربون بالموارد
العامة.»
ويتنبَّأ البارون «جاكوبي» بأن «واشنطن»، في خلال مائة عام، ستُصبح مثل «روما» تحت
باباوات «الميديشي» أو «كاليجولا». وفي قنوط وقرف شديدَين تنتقل «مسزلي» إلى أوروبا،
تاركةً العالم الجديد إلى العالم القديم، فهو على الأقل، لديه الشجاعة على مواجهة
فساده الخاص. وتتنهَّد قائلةً: «لقد صدمت الديمقراطية أعصابي بشدة ومزَّقَتها.»
كانت رواية «الديمقراطية» من أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة وإنجلترا،
ولكن «هنري آدمز» لم يكتب تتمةً لها، وبدلًا من ذلك، راح يُجهد نفسه في محاولة
لاستكشاف متى وكيف حدث ذلك التحوُّل الأمريكي الأشبه بالكارثة؟! ظهر كتابه «تاريخ
الولايات المتحدة» في عهد إدارتَي «جیفرسون» و«ماديسون»، وصدر في تسعة أجزاء ما بين
عامَي ١٨٨٩م و١٨٩١م. وكان الكتاب نتاج مأساتَين شخصيَّتَين ضاعفتَا من تشاؤمه الخاص:
انتحار زوجته في عام ١٨٨٧م وموت والده. في صميم العمل، كان هناك اكتشاف «آدمز»
للحظة التي حلَّ فيها الفساد محلَّ الفضيلة في التاريخ الأمريكي، عندما اختفى تمامًا
موروثها الأنجلو ساكسوني الأصلي في الحرية، كانت اللحظة هي حرب ١٨١٢م، عندما تلاشى
وذاب الدور الأمريكي العالمي للآباء المؤسِّسين، وأصبح تدافعًا حقيرًا من أجل الأرض
والمال والسيادة الإمبراطورية. وتناول «آدمز» بالتفصيل كيف بدأ الأمريكيون الحرب ضد
بريطانيا وكندا بدافع توسيع حدودهم لصنع إمبراطورية … ليست إمبراطوريةَ الحرية ولا
«مسيرة العقل» — بعبارة «جون كوینسي آدمز» — وكان دافعهم هو الجشع والغرور. في هذه
العملية، انحلَّت أرستقراطية أمريكا الطبيعية وتدهورت، وأصبح الأرستقراط ديماجوجيِّين
أنانيِّين يبحثون عن مصالحهم، مثل «آرون بر» Aron
Bur النائب السابق للرئيس «جيفرسون»، أو أصبحوا تابعين خانعين
لأصحاب النفوذ والجاه الجدد في الثروة الصناعية. وبعد عام ١٨١٥م، سوف يستمر نموُّ
أمريكا الاقتصادي والمادي بقوة، ولكن الشعب الأمريكي «سوف يذهب إلى أعماله دون
منافسة تُذكَر أو جهد ذهني، وستكون النتيجة هي الاهتمام بالإجماع … وليس
بالتاريخ».
وكتب «آدمز» بمرارة شديدة أنَّ أمريكا بعد عام ١٨١٥م، لم تقدِّم «أيَّ دليل على
أنَّ الإنسان كان على وعيٍ بمصير أرقى، أكثر من نملة أو نحلة.» أصبح التقدم يُقدَّر
بمقاييس ميكانيكية تمامًا أكثر منها روحية، متمثِّلة بالسفينة التجارية عند «روبرت
فوتون»
Robert Foton. الآن، تحدَّد الوجه
الإمبريالي المادي الجديد للشخصية الأمريكية القومية … وإلى الأبد.
٥٣ رواية «آدمز» عن الفساد في كتابه «تاريخ الولايات المتحدة»، كان
دافعُها القُوَى التاريخية الموضوعية التي ساعد «كونت»
Comte و«دارون»
Darwin على تعريفها، ولكنها كانت الآن ملوَّنة
بتشاؤمية «آدمز».
٥٤ في التاريخ الأمريكي يصبح «تطوُّر العرقِ ساحةَ صراع دموي»، ويصبح
الصراع من أجل الحياة معركةَ أمم وشعوب من أجل السيادة والتفوُّق النهائيَّين، حتى
الأفراد الأقوياء، مثل أي «جیفرسون» أو «ماديسون» لن يتركوا أثرًا مقاومًا
«للاتجاه العكسي للحضارة الحديثة»، أو يتجنَّب «قوانين الطبيعة وغرائز الحياة»، إلا
أنَّ قانونًا حتميًّا واحدًا على شاكلة قوانين «كونت»، يمكن أن يفسِّر اضمحلال
الحضارة الأمريكية ككل … كان ما زال يراوغ «آدمز»، وبعد أربع سنوات، عندما قدَّم له
شقيقه «بروكس» مخطوطًا ضخمًا كتبه على عجل، أدرك أنه قد وجد ذلك القانون.
«بروكس آدمز»: قانون الحضارة والانحلال
إذا كانت التغيُّرات السياسية الأمريكية هي التي أطلقَت عنان تشاؤم «آدمز»، فإن
تغيُّراتها الاقتصادية هي التي حثَّت «بروكس آدمز» على أن يتناول قضية
«الاضمحلال».
في عام ١٨٧٠م، كانت المزارع الأمريكية ما زالت تُنتج ثروةً أكبر مما تُنتجه
مصانعها. وفي عام ١٩٠٠م كان الإنتاج الصناعي قد أصبح ثلاثة أمثال الإنتاج الزراعي.
وبعد عشر سنوات من الحرب الأهلية، كانت كل الشخصيات الرئيسية ومؤسسات العصر الصناعي
الحديث نفسها فجأة في أماكنها. اكتملت شبكة السكة الحديد الممتدة عبر القارة في عام
١٨٦٩م، وبعد عام أسَّس «جون د روكفلر»
John D.
Rockefeller «ستاندارد أويل كومباني» في حقول «بنسلفاينا»
الغربية، وفي العام التالي أسَّس: «جاي بییر بونت مورجان»
J. Pierpont
Morgan «دركسل مورجان آند كومباني» لتصبح أقوى مصرف في العالم. وفي عام ١٨٧٦م أنشأ «آندرو كارنيجي»
Andrew
Carnegie شركة «يونايتد ستيتس ستيل» لتصبح نموذجًا لكل
المؤسَّسات الصناعية، وأقام «توماس إيه إديسون»
Thomas A.
Edison مختبرَه في «منلوبارك»، وقدَّم «ألكساندر جراهام بل»
Alexander Graham Bell أول تليفون في «معرض فيلادلفيا كونتنينتال». كان المعرض نفسه مثالًا على سيادة الآلة
والمُعِدَّة على
المشهد الأمريكي الجديد.
٥٥ وفي خلال الفترة نفسها، تضاعف عددُ السكان، وكان معظم الزيادة يرجع
لموجة الهجرة الكبيرة الأولى، التي جلبت إلى الشواطئ الأمريكية أكثر من عشرة ملايين
من البشر بين عامَي ١٨٦٠م و١٨٩٠م، وفي الموجة الثانية ما بين ١٨٩٠م إلى ١٩١٤م،
سوف يلحق بهم خمسة عشر ألفًا آخرون، جاءوا من روسيا وأوروبا الجنوبية … وبينهم
أعداد كبيرة من اليهود.
كانت تلك التحوُّلات ضربةً مزدوجة لنخبة ثقافية واجتماعية تُعاني من السياسة
الجماهيرية الديمقراطية. كانت قوة المؤسَّسات والشركات الكبرى والاحتكارات تبدو
خطرًا يهدِّد القيم الأمريكية التقليدية. في العام التالي لمعرض «الكونتيننتال» قامت
إضرابات في السكَّة الحديد، وحدث ذعرٌ مالي على نطاق واسع في ١٨٧٣م، و١٨٩٣م، و١٩٠٦م،
كان التركيز الصناعي والاهتزاز المالي وقلاقل العمل قد أصبحت كلها من سمات
ذلك العصر المُذهَّب — «المطلي بالذهب» — الاسم الذي اخترعه مارك توين، أو الصورة
التي تُوحي ببريق مادي، يغطِّي انحلالًا وتفسُّخًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا في
العمق.
وكما يقول «ألبرت جاي نوك»
Albert Jay Noch الذي
وُلِد وشبَّ في «نيويورك»: كانت البلاد في قبضة ما يسمِّيه ﺑ «سطوة الاقتصاد» التي
كانت «تفسِّر كلَّ الحياة الإنسانية على ضوء الإنتاج والملكية وتوزيع الثروة»، وكان
شعارها الجديد «اذهب واحصل عليها»، أما المعنويات والأخلاقيات فكانت كلها تعبِّر عن
السلب والنهب. وعندما ينظر إلى الشخصيات البارزة في العصر الصناعي مثل «آل كارنیجي»
و«روكفلر» و«فريك»، كان «نوك» يتساءل عمَّا إذا كانت أي كمية من الثروة تستحق أن
يحصل عليها، الإنسان — إن كان لا بد — وما إذا كان على الإنسان أن يصبح مثل أولئك
الناس لكي يحصل عليها، «بالنسبة لي على الأقل لا شيء يستحق».
٥٦ وكان «نوك» يرى نفسه على وفاقٍ مع «العقول الناضجة» الأخرى في زمنه،
والتي كان من بينها «وليم دين هولز»
William Dean
Howells، و«مارك توين»
Mark
Twain، و«جون هاي»
John Hay،
و«هنري كابوت لودج»
Henry Cabt Lodge، و«هنري»، و
«بروكس آدمز»
Henry and Brooks Adams، مزيج من
الغضب الأخلاقي والتباهي الثقافي حفَّز أولئك الناس لكي ينقلبوا على الطبقة المالكة
وأصحاب الملايين في أمريكا. «تيار مزركش من البرابرة الملمِّعين والمزيِّنين كما
يسمِّيهم «إي إل جودكن»، وأن يتجهوا صوب الحركة العمالية حتى في أكثر أشكالها
راديكالية.» وقدَّم «وليم دين هولز» محرِّر «هاربرز منثلي» نظرةً شديدة التعاطف مع
العمل الراديكالي في رواياته واسعة الانتشار، كما فعل «هنري جیمس»
Henry James في «الأميرة كاسا ماسيما». كانت
الرواية الأخيرة قد ظهرت في ١٨٨٦م، نفس العام الذي قُتِل فيه سبعة من رجال الشرطة
بقنبلة في اجتماع مالي في «هاي ماركت سكوير»، في شيكاغو. وعندما حُكِم بالإعدام على
الفوضويِّين الذين كانوا يتحدَّثون في الاجتماع، استُؤنف الحكم، وترافع عنهم «هولز»،
و
«هنري آدمز»، و«أوليفر ويندل هولمز». وتعقيبًا على الحكم في «هاي ماركت» قال «هولز»:
«بعد خمسين عامًا من الرضا المتفائل «بالحضارة»، ها أنا ذا أمقتها الآن بشدة.» كان
«هولز» يرى أنَّ أمريكا الآن يمكن أن تُنقذ نفسها «إذا ما وضعت نفسها من جديد في
عملية مساواة حقيقية»،
٥٧ وكانت الشخصيات الأدبية والمصلحون الاجتماعيون يعبِّرون عن مخاوف،
ستصبح أمورًا عادية ومألوفة في القرن التالي، فقد أدانوا الفقر الشديد الواضح في
الأحياء الفقيرة من المدن ومناطق العمال، وشجبوا بشدة الهوة التي تتسع بين الأغنياء
والفقراء، وتفجعوا على اختفاء الطبقة المتوسطة الأمريكية. وقد عبَّر كتاب «هنري
جورج»: «التقدم والفقر»، الذي أصبح إنجيل الحركة التقدمية عن تلك المخاوف، وكما
شرح فإن «ارتباط الفقر بالتقدم هو اللغز الكبير في زماننا»، و«هو اللغز الذي يضعه
أبو الهول … القدر … أمام حضارتنا … وعدم حلِّه يعني الدمار.»
٥٨
كان ذلك هو اللغز الذي حيَّر «بروكس آدمز» والذي شرع في حلِّه، كان «بروكس آدمز»
قد درس القانون لكي يعمل بالمحاماة، وأصبح مقتنعًا بالحتمية الاجتماعية ذاتها
(نموذج «كونت»، و«دارون») مثل شقيقه «هنري» (كما سيُصبح هو وشقيقه مؤسِّسَين مشاركَين
لجمعية العلوم الاجتماعية الأمريكية).
كان «بروكس آدمز» ينظر إلى تفاعلات المجتمع الأمريكي دون أية عواطف أخلاقية
زائفة. كتب مقالًا في «نورث أميركان ريفيو» أنَّ «القوانين» في نظام مدني مستقر
«يجعلها الأقوى، ولا بد أن تُتبع، وسوف تُتبع.»
٥٩ وخلال الفترة القصيرة في عمله مدرِّسًا في كلية القانون في «هارفارد»
١٨٨٢-١٨٨٣م ساعد في تأسيس مدرسة الفكر القانوني المسمَّاة بالواقعية القانونية،
والتي سوف تكون مرتبطةً برفيقه «أوليفر ويندل هولمز». وفي رأي المحامين المقتنعين
بأفكار «هولمز – آدمز»، كان حكم القانون هو «العدو الطبيعي للفوضى والاستبداد»،
وأيضًا «للسلطة المتحدة والجشع» بين رجال مثل «آل مورجان» و«آل روكفلر»
٦٠
اهتمام «بروكس» بكبحِ نموِّ ونفوذِ رأس المال الصناعي الخاص، جرَّه كما جرَّ شقيقه
الأكبر «هنري» نحو الأفكار الاشتراكية وربما الماركسية. الإصلاح السياسي أو
القانوني لن يكون كافيًا بذاته كما اكتشف. ومثل الإيمان الساذج القديم
بالديمقراطية، لم تَعُد مبادئ اقتصاد «دعه يعمل» قابلةً للتطبيق في العصر الحديث.
الليبرالية الكلاسيكية بآمالها «المضحكة» في مجتمعٍ حرٍّ متساوٍ — كما شرح بروكس —
فشلت في أن تكون سببًا لنموِّ السلطة الموجودة في المجتمع الصناعي الحديث، سواء في
القطاع العام أو الخاص. المنافسة الحرة فقط، هي التي مكَّنت الكبير من التهام
الصغير، صانعة احتكارات للسلطة تُهدِّد الصالح العام.
٦١ وفي عالم كان قد تطوَّر إلى ما هو أبعد من «دعه يعمل»، كان «بروكس»
يعتقد أنَّ القانون والقوة القومية للدولة أصبحت هي الأطواق الحديدية التي يمكن أن
تحفظ تماسُكَ المجتمع الصناعي الذي تضخَّم نموُّه، حتى وإن كانت القوى الأخرى — مثل
الاحتكارات والشركات الكبرى من جانب، والفوضوية والشيوعية من جانب آخر — تهدِّد
بتمزيقه. والحقيقة أنَّ «بروكس» شرح لشقيقه — بتشاؤم — كيف أنَّ الفوضوية ستكون هي
النتيجة الحتمية، إذا استمر عدم التوازن الذي صنعَته الرأسمالية الصناعية الأمريكية
في قوته.
٦٢
تحذير «بروكس» أدَّى إلى قطيعة بين شقيقه والحزب الجمهوري، الذي كان
والدهما قد ساعد في تأسيسه. كان «بروكس» يعتقد جازمًا أنَّ مرشَّحَي الحزب الجمهوري
للرئاسة مجرَّد دُمًى في أيدي أصحاب الاحتكارات والبلوتوقراط.
٦٣⋆ ومنذ عام ١٨٨٤م كان يحاول أن يدفع بزملائه الليبراليِّين والجمهوريِّين المستقلين؛ مثل
«هنري كابوت لودج»، و«إيه إل جودكين»، والرئيس «إليوت» إلى الحزب الديمقراطي. وفي عام
١٨٩٢م عَمِل «بروكس» و«هنري» بنشاط في حملة المرشَّح الديمقراطي «جروفر كليفلند»
Grover Cleveland كبطلٍ شعبيٍّ ضدَّ
«وول ستريت» وعملائه المصرفيِّين الدوليِّين، وألقى «بروكس» كلمةً في «رابطة إصلاح
التعرفة» بعنوان «الثورة البلوتوقراطية»، كانت هجومًا لاذعًا على مَن سوف يدعوهم
صديقه وزميله الأرستقراطي «تیودور روزفلت»: «مجرى الثروة الكبرى». ونبَّه «بروكس»
محذِّرًا من أنَّ نموَّ حجم ونفوذ المؤسسات الرأسمالية كان يغذِّي قُوَى الرفض
والاستياء بين الفقراء والمطحونين أو «الحزب الشعبي» الجديد، الذي كان يستمدُّ
تأييده من مزارعي الوسط الغربي والجنوبي بالإضافة إلى الشعب العامل،
٦٤ والذي حتمًا سيؤدِّي إلى ثورة إذا لم يحدث شيء لكبح جماح قُوَى
المنافسة والتركيز الاقتصادي.
٦٥
وفي شهر مايو عام ١٨٩٣م، تسبَّب فشل «ناشيونال كوردج كومباني» في حدوث فوضى شديدة
في بورصة المال. وكما لو كان الأمر تأكيدًا لتحذيرات «آدمز» وتنبيهاته لمخاطر
الرأسمالية العالمية، فإن البيت المصرفي في «بيرنج»، وهو أحد بنوك الاعتماد
الرئيسية للأعمال في أمريكا، انهار في الوقت نفسه، وأدَّى ذلك إلى نزوحِ قدرٍ كبير من
رأس المال والذهب من البلاد، كما تحوَّل الذعر المالي إلى كساد على نطاق واسع. فشل
أكثر من ١٥ مشروعًا تجاريًّا، وأغلق ٥٧٢ مصرفًا أبوابهم، ووُضع ربع رأسمال السكك
الحديدية الأمريكية تحت الحراسة القضائية، وكانت تلك كلها مؤشرات انهيار عام
١٩٢٩م، كما كانت درسًا عن نتائج الرأسمالية «الطليقة غير المقيدة» بالنسبة
لمثقفين من ذوي العقول التقدمية؛ مثل «لينكولن ستيفنز»
Lincoln
Steffens الذي كان يقوم بتغطية الأحداث ﻟ «نيويورك إيفننج
ستار»،
٦٦ كما كانت درسًا بليغًا لعائلة «آدمز»، أصحاب الاستثمارات الكبيرة مثل
كل النقَّاد الكثيرين للرأسمالية في الماضي والحاضر. انهيار «ستيت ستريت بانك» في
«بوسطن» هدَّد بضياع ممتلكات عائلة «آدمز». كان «هنري آدمز» في أوروبا عندما تلقَّى
رسالة من إخوانه يُبلغونه أنهم كانوا جميعًا على وشك الإفلاس. هرع «هنري» عائدًا
إلى مقرِّ إقامة العائلة في «كوينسي» في السابع من أغسطس، ولكن الذعر لم يكن في
النهاية سوى أنَّ: أموال الأسرة في أمان! بيد أنَّ الصدمة تركَت آثارها الخاصة على
«بروكس»، بعد ذلك بوقت قصير. وبينما كانا يسيران بالصالة، أوقف شقيقه وسلَّمه رزمةً
من الأوراق وهو يقول: «أرجو أن تقرأَ هذه المخطوطة، وتعطيَني رأيك إن كانت تستحق
النشر أم أنها عمل مجنون.»
٦٧ أخذ «هنري» الأوراق وخرج إلى الحديقة لكي يقرأها، بينما كان «بروكس»
يدور حول المقعد الجالس فيه. وبعد أن انتهى من القراءة، قال «هنري» «لا …» لم تكن
المخطوطة «حلمًا من أحلام مجنون». ما فعله «بروكس» هو أنه وضع أحداث فزع ١٨٩٣م في
منظور تاريخي عالمي جدير بمؤرِّخ محترف، والأكثر أهمية من ذلك أنه صنع ما كان
«هنري» قد حاول أن يصنعه قبل سبع سنوات. «بروكس آدمز» أسَّس علمًا دقيقًا للنموِّ
والاضمحلال الاجتماعي في العصر الحديث باسم «قانون الحضارة والاضمحلال»، والذي كان
عنوان كتابه. بعد ذلك كان «بروكس» يزعم أنَّ كتاب «قانون الحضارة والاضمحلال» لم يكن
مبعثه الذعر العام في عام ١٨٩٣م والضياع الوشيك لثروة العائلة. وبدلًا من ذلك كان
يجزم بأن الفكرة جاءته أثناء زيارة للأطلال والآثار الرومانية في بعلبك بسوريا عام
١٨٨٩م، بينما كان يُحملق في تيجان الأعمدة الضخمة المحطَّمة، «جاءني الاقتناع بأن
سقوط روما كان نتيجة المنافسة بين العمل العبودي والعمل الحر ورداءة الصناعة
الرومانية».
٦٨ هذا المشهد، يضع «بروكس» بالطبع ضمن التقليد التاريخي الواسع ﻟ
«جيبون»
Gibbon بين أطلال تل
الكابيتولين،
٦٩⋆ ورومانسية «فولني»
Volney، أو
«جوبينو»
Gobineau التشاؤمية، ولكنه يعبِّر أيضًا عن افتتاحية كتاب شقيقه «تاريخ الولايات المتحدة»، الذي
يتخيَّل فيه «هنري آدمز» أحد
المسافرين إلى «واشنطن ١٨٠٠م»، وهو يُحملق في الأعمدة المكسورة والمحطَّمة في
«كابيتول»
٧٠⋆ الولايات المتحدة، ويفكِّر في كيفية نهوض «روما» جديدة ووصولها إلى
مستوى ومصير القديمة.
كان كِلَا الأخوَين «آدمز» مقتنعًا بأن قُوَى التوسُّع الاقتصادي تُذيب المكانة
الفريدة للولايات المتحدة. الأمريكيون في «العصر المذهَّب» أصبحوا «مثلَ كلِّ الشعوب
الأخرى»، كما كان جدُّهم الأكبر «جون آدمز» يتفجَّع قبل مائة عام: «وسوف يفعلون ما
فعلَته الشعوب الأخرى».
٧١ الدولة المخلِّصة، كانت آنذاك إمبراطوريةً صناعية وتجارية مثل نظرائها
الأوروبيِّين السابقين. ومن هنا، يستنتج كلاهما أنها ستواجه الأُفُول الصعب نفسه. كان
«بروكس آدمز» يقول لأخيه إنه كان يفكِّر جديًّا في تسمية كتابه «قانون الحضارة
والاضمحلال» ﺑ: «الطريق إلى جهنم».
٧٢ «بروكس آدمز» أخذ مبادئ شقيقه «الكونتية» و«الدارونية» (نسبةً إلى
«كونت»
Comte، و«دارون»
Darwin)، وأعاد صوغها في «حيوية» حتمية صارمة، ثم دفع بها إلى قلب نظرية المجتمع المدني، تاريخ
المجتمع المدني أو التجاري هو تاريخ المال كقوة مادية، لا شيء أكثر … ولا شيء أقل، «مع
تراكم المال، يتركَّز
المجتمع في دول، ومع تضاؤل كمية المال تنحلُّ الحضارة». كان «بروكس آدمز» يرفض
تمامًا التمييز الحاسم الذي وضعه «آدم سميث» وآخرون بين النشاط التجاري في شكله ما
قبل الحديث وشكله الحديث. لم يكن هناك فرق؛ لأن كل أشكال صناعة المال مؤسسة على
الغرائز الحيوانية ذاتها وبالتحديد على الخوف والجشع. «في لحظة العمل، يُطيع الكائن
البشري — وعلى نحوٍ لا يتغير — غريزته كالحيوان»، هذه الغرائز الوراثية تحكمها
قوانين فيزيقية محدَّدة؛ لأن «التاريخ مثل المادة، لا بد أن يكون محكومًا
بقانون».
٧٣ الخوف والجشع هما اللذان يحدِّدان «ارتفاع وهبوط» الفرد في «كفة
الميزان الاجتماعي» بالضبط، كما يقرِّران ارتفاع وانهيار السوق، تلك الغرائز أيضًا
تقرِّر صعود وسقوط الأمم في عجلة الحظ عند «بروكس آدمز»، وهي دورة متكرِّرة من
«التمدُّد والانكماش والانهيار».
٧٤ نظرة «آدمز» لتاريخ الإمبراطورية الرومانية الاقتصادي أصبحت أمثولةً أو
حكايةً رمزية للصراع بين رأس المال والعمل في أمريكا في العصر المذهَّب. تركُّز
الثروة والسيطرة الإمبراطورية دمَّر صاحب الأرض الروماني الذي كان مثل مزارع الإصلاح
عند «جيفرسون»، والفلاح الأنجلو ساكسوني، كما قضى على حمل السلاح وحب الحرية.
اختفاء صغار المزارعين، كما استنتج «آدمز»، زاد من قوة مُلَّاك الأراضي الذين لهم
الحق في انتخاب مجلس الشيوخ و«الرأسماليين» الزراعيِّين. ومع سقوط الشعب الروماني في
القنانة والعوز، كان على طبقة النوَّاب استئجار جنود مرتزقة لحماية ثرواتهم، وإقامة
حدود غير مستقرَّة ضدَّ أعداء روما. الروح العسكرية الرومانية انهارت، المرتزقة
المستأجرون أصبحوا طغاةً ومستبدِّين، الحدود انهارت، وتدفَّقت قطعان البرابرة على
الإمبراطورية. وطبقًا لنظرية «بروكس آدمز» — كما لاحظ «تشارلز بیرد» فيما بعد — فإن
«كل نظام روما الإمبراطوري البيروقراطي المتمركز انهار وأصبح أطلالًا»؛ وذلك بفضل
الرأسمالية الجامحة.
٧٥ وبعد ذلك وصف «بروكس» كيف نزلت العصور المظلمة على أوروبا لسبعة قرون. وتحت سيطرة البرابرة،
انتهى اقتصاد أوروبا المالي فجأة. بعد ذلك بدأت عمليةُ تركُّز
المال ببطء وألم مرة أخرى، كانت البداية في مدن العصور الوسطى أثناء الحملات
الصليبية، وبعد ذلك بين «الميدیشي» وغيرهم من الأمراء التجَّار في عصر النهضة.
وطبقًا لنظرية «آدمز» عن المال كطاقة، فإن استخراج سبائك الذهب من العالم الجديد،
دفع بالحضارة الأوروبية إلى العصر الحديث، وذلك عندما اجتمع تركُّز الثروة مع
تركُّز سلطة الدولة ليمضيَا معًا كما حدث في روما الإمبراطورية.
ولكن الأمور وصلت إلى أزمة؛ فقد كان انتصار بريطانيا في «ووترلو» بداية عهد طاقة
أكثر تركيزًا، وثروة أكبر، عندما سيطر رجال المال والمصارف الدوليون البريطانيون
واليهود على المشهد الأوروبي. في القرن التاسع عشر كانت سلطة رأس المال مطلقة،
وكانت الطاقة تجد لنفسها مخرجًا من خلال تلك النظم الملائمة «للتعبير عن نفسها» أو
— بمعنى آخر — المؤسسة التجارية الحديثة. الغرائز الحيوية تنهار كذلك في المجالات
الأخرى، «الذهنية العلمية تنتشر بينما يذوي الخيال، وتتآكل الصفات العاطفية
والقتالية والفنية التي تميِّز الطبيعة الإنسانية.» وفي الوقت نفسه، فإن التصنيع
الذي يغذِّيه الطلب من الطبقات المدينية المزدهرة يؤدِّي إلى هبوط الأسعار الزراعية،
ويختفي الفلاح المستقل في أوروبا وأمريكا، كما حدث بالضبط في عهد
«تراجان»،
٧٦ ثم جاء ما كان يعتبره «بروكس آدمز» الضربةَ الأخيرة للحضارة الحديثة
وهو تبنِّي معيار الذهب، أولًا بواسطة بريطانيا العظمى في عام ١٨٦٧م، ثم بواسطة
الدول الصناعية الأخرى.
«معيار الذهب» ركَّز كلَّ الطاقة الحيوية المتبقية للمجتمع في أيدي ما كان يسمِّيه
—
بخبث — شقيقه «هنري»: «وول ستريت، وستيت ستريت، وجیروزاليم». وبالنسبة ﻟ «بروكس
آدمز» كان معيار الذهب — ببساطة — هو الانتصار الأخير للحضارة الرأسمالية على
نفسها. المزايا والمؤسَّسات الباقية في المجتمع المدني الحديث (الوفرة المادية،
الأسواق الحرة في الذهب والعمل، الدولة-الأمَّة) سوف تفقد ما تبقَّى لها من طاقة،
وسوف يؤدِّي ذلك إلى كساد وانهيار، وكانت بدايته ما حدث في عام ١٨٩٣م.
وفي النهاية، فإن «الناجين من مجتمع كهذا»، لن تكون لديهم الطاقة الضرورية لإنقاذ
العملية الاجتماعية؛ حيث ستقوم القوة الاحتكارية للذهب والثروة الصناعية بإفراغهم
من تلك الطاقة. ويُنهي «بروكس آدمز» كلامه بخاتمة باردة تذكِّرنا ﺑ «جوبينو» حيث
يقول: «ولأن طاقة الجنس البشري قد استنزفت، فلا بد أنها ستظلُّ خاملة إلى أن يتمَّ
تزويدها بمادة حيوية جديدة عن طريق ضخ الدم البربري.»
٧٧ قانون الحيوية والاتجاه الحتمي للقوة والطاقة والغريزة عند «بروكس»،
جعل كلَّ مفهوم الحضارة بلا معنى. الحضارات كلها والمجتمعات كلها تتبع القوانين
الميكانيكية نفسها، بصرف النظر عن الدين والعادات والأخلاق. اختفى الزعم الأمريكي
بأنها الأمة «المخلِّصة»، المفهوم ذاته كان وهمًا، في المجتمعات كلها سواء في
الماضي أو الحاضر «هناك مغزًى واحدٌ هو مغزى النجاح»، كما كتب بحزن في رسالة لشقيقه
في عام ١٨٩٨م:
«شكل المجتمع الذي يختفي هو دائمًا الشكل الخطأ، أما شكل المجتمع الذي يبقي فهو
دائمًا الشكل الصحيح.»
٧٨ كان لكتاب «قانون الحضارة والاضمحلال» تأثيرٌ شديد على «هنري آدمز»،
وفي الوقت نفسه الذي اكتشف فيه كتاب «الانحلال» ﻟ «ماكس نوردو» في أحد محلات بيع
الكتب القديمة في «واشنطن»،
٧٩ والآن كان «هنري» قد أصبح مقتنعًا بأنه لا أمل هناك لأمريكا وبريطانيا
وأوروبا، أو لما كان دارسون آخرون قد بدءوا يُطلقون عليه اسم «الحضارة
الغربية».
يأْسُ «هنري آدمز» مهَّد لظهور متنبِّئين آخرين بكوارث مثل «بول إیرلخ»
Paul Ehrlich. كتب آدمز في عام ١٨٩٨م: «جيلان
آخران، ويمتلئ العالم بالسكان لدرجة التشبُّع، وذلك من شأنه أن يؤدِّيَ إلى استنزاف
المناجم. وعندما تأتي تلك اللحظة فإن الانحلال الاقتصادي أو انحلال الحضارة
الاقتصادية لا بد أن يحدث.»
٨٠ الأخوان «آدمز» متفقان على أنَّ «البقاء للأصلح» في المجتمعات الصناعية
كان معناه «البقاء للأرخص»، أي أنَّ الدول التي تمتلك أرخص مصادر العمل والموارد
الطبيعية هي المقدر لها أن تبقى. ومن هنا فإن المكسيك سوف تسبق الولايات المتحدة في
النهاية، كما ستفوق الصين وآسيا كلًّا من بريطانيا وأوروبا.
٨١ وكانا — على النحو نفسه — يستشعران تخومَ مؤامرة قوية تقود الولايات
المتحدة والحضارة الغربية نحو الهاوية. كتب «بروكس»: «إنجلترا يحكمها يهودُ برلين
وباريس ونيويورك كنموٍّ محليٍّ لها»، «وبطبيعة المؤسسة الكبرى، وبالسيطرة على لندن
فإنهم يسيطرون على العالم». وأشار «هنري» إلى أنَّ الإدارة في «كليفلاند» كانت واقعةً
في فخٍّ بين اليهود و«الجنتلز» في «وول ستريت»، بينما كان من رأي «بروكس» أنَّ
المعركة الكبرى النهائية للسيطرة على موارد العالم الاقتصادية لا بد أن تحدث في
أمريكا، ما دام اليهود يستطيعون أن يعتمدوا في أمريكا فقط على «منجم ذهب لا
ينضب.»
٨٢ «تیودور روزفلت» وصف أحزان «بروكس» المتشائمة أثناء زيارة موطنه في
منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر: «إنه يقضي وقتًا جميلًا هنا، بينما ينشر
الكآبة عن الكوارث الاجتماعية والمدنية المحيقة والتي يراها قادمة.»
٨٣ وفي الوقت نفسه، كان «هنري» قد بدأ استخلاص مجموعته الخاصة من «قوانين
التبديد» المتعلِّقة بالاضمحلال. وبالإضافة إلى كتاب شقيقه «قانون الحضارة
والاضمحلال» الذي اعتمد عليه إلى حد كبير، كان لدى «هنري» مصدران آخران للإلهام وإن
كانا يبدوان متناقضَين: كان الأول هو كتاب «لغز الكون» ﻟ «إرنست هايكل» الذي يوحي
بأن كلَّ شيء يتمدَّد ويتحرَّك نحو وحدة كلية أكبر، والآخر هو «القانون الثاني
للديناميكا الحرارية»، الذي يقول إنَّ الطاقة الموجودة في الكون محدودة وناضبة،
وهكذا كان «هنري آدمز» يستنتج — سعيدًا — أنَّ الجنس البشري محصورٌ في مدار تطوُّري
لا بد أن ينتهيَ بانقراضه وموته، كوكب الأرض كله، والمنظومة الشمسية كلها، وليس
المجتمع الحديث فقط، كانت تستنزف وتستنفد طاقتها وحرارتها. وفي عام ٢٠٢٥م على
الأكثر سيتضاءل كوكب الأرض، مثل الشمس القمر، ويصبح كتلةً بليدة لا حياة فيها،
مندفعة عبر فضاء العدم.
٨٤ «لا أُنكر أنَّ ظلال هذا الحدث القادم قد امتدَّت عليَّ شخصيًّا.» توقُه
وتلهُّفُه الشديدان إلى ملجأ مقدَّس وسط تلك الفوضى المحدقة، جذباه إلى العصور الوسطى
الأوروبية، التي ألهمَته بالفعل عملَه التاريخي المهم «مونت – سان مايكل والمواثيق»
١٩٠٤م، ومثل نظرائه الرومانسيِّين الأوروبيِّين استطاع «هنري آدمز» أن يجد الملجأ
والأمان فقط في الانسحاب إلى الماضي.
٨٥ «بعيدًا عن شرور العالم الحالية، التسليح الضخم وتكدُّس رأس المال
والمادية الشديدة والفقر الروحي»، كان بطلَه «توماس كارليل». يقول: «إنَّ المجتمع
الصناعي واقعٌ في قبضة أسرع حركة ذاتية، طاقة مصحوبة بتشنُّج، وكأن شيطانًا
تلبَّسها.» الطاقة والقوة الحديثة التي لا عقلَ لها في الحضارة الحديثة، والتي كان
يرمز لها المحرِّك التوربيني الهائل الذي شاهده في معرض «شيكاغو»، كانت تتناقض مع
الصفاء الروحي للماضي، المتمثِّل في الإعجاب الشديد بالسيدة العذراء في العصور
الوسطى. «كل الطاقة البخارية في العالم عجزَت عن أن تبنيَ عهودًا كما فعلت السيدة
العذراء.» على أنَّ هنري «آدمز» رفض أن يطبع كتابه إلا في طبعة خاصة بعد موته،
واتَّخذ القرار نفسه بخصوص سيرته الذاتية «تربية هنري آدمز»، ومثل «بوركهارت»، لم
يجد علاجًا من الأسقام التي شخَّصها إلا في الانسحاب، وفي مواجهة الحداثة الصاخبة،
كان يرى أنَّ «الصمت أفضل … لا شك.»
الحدود والاستعمار ودولة ما بعد الليبرالية
في عام ١٨٩٣م، نفس عام الذعر المالي و«سفر رؤيا» «بروكس»: «قانون الحضارة
والاضمحلال»، قدَّم مؤرِّخ أمريكي شابٌّ اسمه «فردريك جاكسون تيرنر»
Frederick Jackson Turner ورقةً إلى زملائه
المؤرِّخين بعنوان «مغزى الحدود في التاريخ الأمريكي». يقول «تيرنر»: إنَّ «كسب الغرب
لم يكن فقط جزءًا من التاريخ الأمريكي، بل إنه الجزء الرئيسي تمامًا كما هو مركزي
بالنسبة لشخصية أمريكا وإدراكها لذاتها كأمَّة مُخلِّصة.» فالحدُّ
Frontier هو نقطة الالتقاء بين «الهمجية
والمدنية»، ولكن الحدود متحرِّكة أكثر منها ثابتة، والحدود — على مدى ثلاثمائة عامٍ
— كانت تمثِّل «ميدانًا جديدة للفرص، بوَّابة هروب من أسر الماضي، طزاجة وثقة،
واحتقارًا للمجتمع القديم.» وباختصار، فإنها كانت طريقَ الهروب من الفساد، وعن طريق
الوعد بأرض حرة مفتوحة، كان الحدُّ الغربيُّ يجدِّد شعورَ الأمريكيِّين دائمًا بأنهم
شعبٌ
حرٌّ وفعَّال،
٨٦ إلا أنَّ ذلك الحدَّ ولأوَّل مرة في التاريخ الأمريكي، كان قد ضاع،
وباختفاء الأراضي العامة التي لم يطالب بها «قطاع الشيروكي» في عام ١٨٨٩م، وأحداث
مثل أسر «جيرونيمو» ومعركة «الركبة الجريحة» … انتهى التوسُّع الأمريكي المستمر،
وأغلق «الحد» إلى الأبد كمصدر للتجدُّد، والنتائج كما حذَّر «تیرنر» يمكن أن تكون
أليمةً، وكان يردِّد — سواء بوعي أو دون وعي — ما سبق أن قاله «جورج بیركلي»: «إنَّ الغرب
ينظر إلى المستقبل، بينما ينظر الشرق إلى الماضي.» كانت أمريكا في خطر
من أن تُصبح جزءًا من الماضي أكثر منها منارة للمستقبل، وأعاد «تيرنر» المشكلة
القديمة التي كانت عائلة «آدمز» تُصارعها على مدى أجيال — الأمة المخلِّصة تُواجه
النتيجة الحتمية لفسادها الخاص — بلغة نهاية «إمبراطورية الحرية» الأمريكية. انتهاء
التوسُّع غربًا، كان يعني انتهاء توسُّع البلاد الدائم، والذي كان «جیفرسون» وغيره
يتصورونه ضمانًا لحرية وتقدُّم أمريكا، ولا بد أن ينتهيَ معه الشعور بتقدُّم أمريكا
ومزاعمها بالسيادة الكونية.
أم ترى لا بد من ذلك؟ حتى عندما كان «تيرنر»
Turner ينشر آراءه، كانت زمرة من الأمريكيِّين
المؤثِّرين تبدأ البحث عن إمبراطورية جديدة للحرية وراء شواطئ كاليفورنيا حتى
الباسيفيكي. في عام ١٨٩٣م كان «الكونجرس» يناقش ضمَّ «جزر هاواي»، حيث كانت
التسهيلات البحرية موجودة في «بيرل هاربور»، هُزِم الاقتراح، ولكن أحد أصحابه وهو
«ألفرد ثایر ماهان»
Alfred Thayer Mahan كان يحذِّر: «سواء فعلوا أم لم يفعلوا، فإن على الأمريكيِّين أن يتطلَّعوا إلى الخارج
… لا بد من أن تكون الولايات المتحدة بحكم موقعها الجغرافي أحد الحدود التي تُزوَّد
منها القوة البحرية العالمية بالطاقة، كقاعدة عمليات». وكان من بين الآخرين
المؤمنين بالإمبريالية الجديدة، أعضاء رئيسيون في دائرة الأخوَين «آدمز» في
«بوسطون»، مثل «تیودور روزفلت»، و«هنري كابوت لودج»، و«ألبرت جي بیفردج». وفي عام
١٨٩٨م كان «بروكس آدمز» نفسه واحدًا منهم. كتب في عام ١٩٠٠م يقول: «الحضارة التي
لا تتقدَّم … تضمحل»، ثم فصَّل ذلك مردِّدًا مقولةَ «تيرنر» عن «الحدِّ»: «القارة
التي … قدَّمت مجالًا لا حدود له لتوسُّع الأمريكيِّين قد امتلأت»، ولا بد أن يحلَّ
محلَّها «تنظيم إمبراطورية غربية تمتد إلى آسيا».
٨٧ وكان «بروكس آدمز» يرى بكل ثقة، أنَّ أمريكا بإمبراطورية باسيفيكية،
يمكن أن تُنقذَ نفسها من الاضمحلال الحتمي الذي كان قد تنبَّأ به — بكل ثقة أيضًا —
قبل عامين فقط، وبدأ بعض الأمريكيِّين المتحمِّسين للإمبراطورية يتكلَّمون عن «هاواي»
و«الإطار الباسیفیكي» باسم «أمريكا الجديدة».
٨٨ هذه الفكرة عن الاستعمار أو الإمبريالية كتجديد، من المؤكَّد أنها
حرَّكت «تیودور روزفلت» ودفعَته للعمل. كتب مراجعة ﻟ «قانون الحضارة» لمجلة «فوروم»
Forum ممتدحًا إياه بسبب «عنصر الصدق … القبيح جدًّا به … التشابه بين العالم كما هو اليوم
والعالم الروماني في ظلِّ الإمبراطورية»،
ومثل «آدمز»، كان «روزفلت» قلِقًا بخصوص الاتجاه الذي تسير نحوه أمريكا، مع نموِّ
طبقة مدينية دنيا «وتقديسها لسوق الأسهم والمقابل التجاري والمصنع»،
٨٩ ولكنه كتلميذ لنظرية الاضمحلال كان يعتقد أنَّ ذلك الانهيار يمكن أن
يعكس ليتغيَّر اتجاهه؛ وذلك من خلال العمل الجاد الصحيح، على المستوى الشخصي —
الصيد والرماية وركوب الخيل والتريُّض — وعلى المستوى السياسي بأن تأخذ أمريكا دورًا
أكثر جسارة في الشئون العالمية الإمبراطورية. وفي رأي «روزفلت» الواثق، يمكن أن
يكون ذلك ضابطًا على «بوادر الانحلال الخطيرة في الشعوب الناطقة
بالإنجليزية».
٩٠
إنَّ مواصلة السعي نحو إمبراطورية باسيفيكية يمكن — بمعنًى آخر — أن يكون تجدُّدًا
ذاتيًّا، يمكن أن يحقِّق توافقًا في المصالح المحلية في السياسة الأمريكية بما في ذلك
رأس مال كبير، وبأن يُعيدَ توجيهَ طاقات المجتمع نحو الخارج. وفي رسالة إلى «بروكس
آدمز» في ۱۸ يوليو ١٩٠٣م، أوضح «روزفلت» أنَّ الاحتفاظ بالأسواق الآسيوية مفتوحة
أمام الصناعة الأمريكية، كان يعني بالضرورة الحفاظ على روابط الأمة بتلك الأسواق:
«من الضروري أن يكون هناك بديهية تقول إنَّ الجمهور لا بد أن يمارسَ نوعًا من السيطرة
على طرق وممرات التجارة، ولو أنَّ الرأسمالية — ناس مورجان هيل والموالون لهم —
قاوموا، فسيكون البديل الوحيد هو ملكية الدولة المباشرة.»
٩١ وبعيدًا عن كونها أدواتٍ واضحةً للمصالح الرأسمالية، كما كان يقول
النقَّاد، فإن المستعمرات الأمريكية ومناطق السيطرة في الأماكن الاستوائية البعيدة،
يمكن أن تكون ثقلًا موازنًا لتلك المصالح في الداخل. هنا تفرَّقت السبل ﺑ «هنري» و
«بروكس آدمز». كان هنري يرى أنَّ الحرب الأمريكية الإسبانية والشوفينية (أي الغلو في
الوطنية) جزءٌ من القوى المفسدة ذاتها التي حرَّكت حرب عام ١٨١٢م، كما كان يرى أنَّ
صعود أمريكا الجديد نحو العالمية دليلٌ أبعد على انهيارها. وكان «بروكس» يرى عكس
ذلك؛ فقد كان يعتقد أنه دليل صحة حضارية. هذه الإمبراطورية، كما شرح في
«الإمبراطورية الجديدة»، و«التفوُّق الاقتصادي الأمريكي»، تُشير إلى مستقبل الولايات
المتحدة كدولة عسكرية صناعية.
كان «بروكس» يعتقد أنَّ قيام الحرب مع إسبانيا في عام ١٨٩٨م برهانٌ على عدم نضج
نظريته الرئيسية عن تركيز الثروة، وعلى أنَّ التوزيع النهائي للقوة والطاقة الكونية
لم يتحقَّق بعد، وبالاستيلاء على مستعمرات من حضارة ميتة (إسبانيا)، ومساعدة القوة
الاقتصادية الأخرى (بريطانيا العظمى)، فإن الولايات المتحدة ستُصبح قادرةً على تأجيل
هجوم الاضمحلال إلى ما لا نهاية. وفي الصراع الداروني (نسبةً لنظرية دارون) على
الموارد العالمية، سيصبح النجاح في بناء الإمبراطورية هو الامتحان النهائي للقوة في
الحضارات الحديثة،
٩٢⋆ إلا أنه يقول: إذا كان للتوسُّع أن يتوقَّف، فإن المنفذ الوحيد للطاقات الحيوية والقوية
سيكون هو المنافسة الاقتصادية التي سيُفيد منها الرأسماليون فقط. وعندما نتأمل ذلك، نجد
أنَّ الكثير من تنبُّؤات «بروكس آدمز» في «التفوُّق الاقتصادي الأمريكي» تبدو جديرةً
بالملاحظة. لقد تنبَّأ بأن ميزان القوى الأوروبي الذي بقيَ منذ مؤتمر «فيينا»
سوف ينهار ويتحوَّل إلى الحرب، وذلك قبل أربعة عشر عامًا من حدوثه، وتنبَّأ باضمحلال
«بريطانيا العظمى» كقوة عالمية — «على مدى مائةِ عامٍ تقريبًا كانت إنجلترا تعمل
كقوة احتواء أو عجلة توازن للعالم … ويبدو أنَّ ذلك الزمن قد ولَّى» — وصعود ألمانيا،
بالإضافة إلى تحالُف أنجلو ساكسوني مستقبلي ليعادلَ الطموحات الجيوبوليتيكية
لألمانيا، بل إنه كان يرى أنَّ المعركة الاقتصادية الكبرى في المستقبل ستكون بين
الغرب والإطار الباسیفیكي، ولكن عند الفحص عن قرب يتضح لنا أنَّ التنبُّؤات هي
النتاج المعيب لقوانين «بروكس» الحتمية. فمثلًا: هناك إصرار من جانبه على طرح الدور
الجيوبوليتيكي المستقبلي لألمانيا، بالرطانة العلمية الزائفة في كتابه «قانون
الحضارة والاضمحلال»: «الألمان لا يمكنهم أن يزيدوا من سرعتهم؛ لأنهم عاجزون عن
توسيع قاعدتهم أو زيادة حجمهم، نحن نستطيع.» وكان يتصوَّر أنَّ التحالف الأنجلو
ساكسوني المستقبلي لا يتمركز على الأطلنطي، وإنما في الهند وآسيا، بينما كانت
مناقشته للمواجهة بين الشرق والغرب مصاغةً بمصطلحات استشراقية نموذجية.
وحتى النهاية، ظلَّ «بروكس آدمز» متمسِّكًا بافتراض أنَّ الحضارة مثل المجتمع، عبارة
عن كيانٍ عضويٍّ حيٍّ له «دورته وقلبه وأعضاؤه»، حتى إنه كان يُشبِّه التبادلات المالية
بالقلب، والتجارة بشرايين الجسم.
٩٣ وكان يقول — جادًّا — إنَّ الحيوية تتدفق من كيان حي مثل الإمبراطورية،
في كيان آخر وهو الولايات المتحدة. وكتب: «بعد وقت قصير، سيكون على الولايات
المتحدة الأمريكية أن تتحمَّل العبء الذي تحمَّلته إنجلترا.» و«إنَّ قلةً من الأمريكيِّين
هي التي تشعر بالثقة؛ لأن الآلية الإدارية القديمة الموروثة عن القرن الماضي قد تمَّ
تكييفها، للاضطلاع بجهد كهذا، وفي هذه الحالة لن يكون أمامنا سوى إعادة التنظيم
الاجتماعي.»
٩٤
كان التوسُّع عبر البحار يمكن — إذن — أن يكون علاجًا للاضمحلال الأمريكي، إلا
أنَّ ذلك يتطلَّب دولة جديدة لكي تُكمل الإمبراطورية الجديدة، وسيكون على آلية حكومية
واسعة، أن تُعيدَ تنظيم الموارد والقوة اللازمة من أجل إمبريالية تنافسية. ويُضيف
«بروكس»: أنَّ المبدأ المنظَّم لذلك لا بد أن يكون «اشتراكية الدولة»، «بروكس» مثل
شقيقه «هنري»، لم يكن ينظر إلى حلول الاشتراكية بالمفهوم الطبقي. وبشكل عام كان لدى
كليهما الكثير ليخسراه. كانت الاشتراكية بدلًا من ذلك، تطبِّق مبادئ الكفاءة ذاتها
في الدولة، عندما حلَّت الرأسمالية الاحتكارية محلَّ «دعه يعمل»، وهي المبادئ التي
كانوا يتخيَّلون أنها قد تحقَّقت في القطاع الخاص.
٩٥
ومثل مفكِّري ما بعد الليبرالية في أوروبا وأمريكا، كان «بروكس آدمز» مقتنعًا بأن
القرن العشرين على وشك أن يُطلق العنان لنموٍّ هائل في القوة والطاقة من أجل عمل
جماعي، سيصبح الحجم مفتاح كل شيء. «النجاح في الحياة الحديثة، من محلِّ التجزئة إلى
الإمبراطورية، يوجد في الحشد.» والحقيقة أنَّ الحكومة ستكون في المستقبل «مجرَّد
مؤسَّسة ضخمة، عملها الفعلي هو تحقيق فائدة مادية لأعضائها» عن طريق سلطة الكوادر
الإدارية والبيروقراطيات.
٩٦
ومثل كثيرين من التقدميِّين اللاحقين، كان «آدمز» ينعَى تخلُّف أمريكا عن بقية
الدول الأوروبية من ناحيةِ نموِّ حجم وقوة حكومتها.
٩٧
كان من المعجبين بشكل خاص ﺑ «ولهلمين» في ألمانيا؛ حيث استطاعت الدولة أن تكون
على كفاءة ومقدرة على الاحتفاظ بنفسها، بينما تفرض في الوقت نفسه نظامًا شبه عسكري
على أعضائها. وفيما بعد، رحَّب بدخول أمريكا الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٧م
تحديدًا؛ لأنه كان يعتقد أنَّ ذلك من شأنه أن يُجبرَها على الخيارات الصعبة، المتضمِّنة
في بناء الدولة الإدارية القادرة، كما كانت ألمانيا.
٩٨
وفي روايته: «الديمقراطية»، استطاع «هنري آدمز» أن يقدِّم «جورج واشنطن» كرمز
لنظام أرستقراطي اجتماعي أخلاقي جميل لم يَعُد له وجود. وعلى العكس من ذلك، فإن
«بروكس آدمز» قد صوَّر الجنرال «واشنطن» كرمزٍ لما يمكن أن يحققه الدمج بين القوَّتَين
العسكرية والسياسية في المستقبل، ولكن مَن الذي سيُدير هذا المجتمع العسكري الصناعي
الأمريكي الجديد الضخم؟ ليس من الصعب أن نُدرك في «العقول الإدارية القوية» التي
يتحدَّث عنها «بروكس آدمز» صيغة ما بعد ليبرالية للأرستقراطية الأمريكية الطبيعية،
تقوم بتنظيم وضبط حكومة تتدخَّل باستمرار، متمشيةً مع القوى الاجتماعية الدينمية
للمستقبل. هؤلاء «الأفضل والأذكى» لن يكونوا رجال الأدب، بل ستكون نخبة تكنوقراطية
مدرَّبة، «أعلى عجلة للطاقة» في المجتمع، وستكون كلمات السر عندهم هي: «النجاح»، و
«القدرة على التكيُّف»، و«الحفاظ على عقل مفتوح» في عالم «لا يسمح فيه لشيء بأن
يظلَّ ثابتًا على حاله».
تكنوقراطية «بروكس آدمز» استَبَقَت آراء بعض التقدميِّين مثل «وولتر لیبمان»
Walter Lippmann، و«هربرت كرولي»
Herbert Croly اللذَين كانَا يتطلَّعان إلى
ديمقراطية أمريكية اجتماعية لا طبقية، تُنظِّمها وتُديرها أفضلُ العقول، ومن جانب آخر
فإنها كانت إرهاصًا بمهندسي وفنيِّي وجنود/عمال «أوزوالد شبنجلر»، ذوي «الغرائز
البروسية»، والانضباط والقدرة التنظيمية والطاقة، أو — في الحقيقية — الإنسان
الفاشستي الجديد في القرن العشرين.
٩٩
خاتمة – صعود التشاؤمية العرقية الأمريكية
«الحضارة تتمزَّق … لقد أصبحت متشائمًا بخصوص كلِّ شيء … هل قرأت «قيام
الإمبراطوريات الملوَّنة» لذلك الرجل المدعو «جودارد»؟»
أجبت وأنا مندهش لنبرة صوته: «ولِمَ لا؟!»
«حسن! إنه كتاب رائع ويجب على كل واحد أن يقرأه. الفكرة هي أننا إن
لم ننتبه، فإن الجنس الأبيض سيختفي تمامًا! إنها مادة علمية تمَّ
إثباتها.»
قالت ديزي: «توم أصبح صعب الفهم.»
ف. سكوت فیتزجرالد
(The Great Gatsby)
كانت اشتراكية الدولة هي أحد الحلول إزاء القوى بادية الصعوبة، التي يشعر كثيرون
في أمريكا أنهم محاصرون بها في نهاية القرن، ثم ظهر حلٌّ آخر من الطرح الأنجلو
ساكسوني الذي جاء به «هنري آدمز» إلى الدوائر الأكاديمية والسياسية المؤثِّرة بعد
ذلك بعقدَين. كان ذلك الحلُّ يُشير إلى الجنس كمِفتاح للانحلال القومي، مكوِّناته جعلت
أسطورة «جوبينو» الآرية جزءًا من المشهد السياسي لأول مرة، إلى جانب صِيَغ جنسية
أخرى لنظرية الاضمحلال.
وفي صورتها الأصلية، كانت فكرة «الديمقراطية الأنجلو ساكسونية» لا تحمل أيَّ معنًى
من معاني الاقتصار على الجنس.
١٠٠ وبمجرد تشييد أول بيت أنجلو ساكسوني للحرية، لم يكن يهمُّ مَن يسكنه،
ما دام يحافظ على وصية المُلَّاك الأصليِّين بالحرية والحكومة الذاتية المسئولة. ولكن
ما العمل إذا كانت شخصية الملَّاك اللاحقين مختلفة تمامًا — وعلى نحوٍ يُنذر بكارثة —
عن شخصية البناة الأصليِّين؟ ماذا لو كانت العادات والتقاليد المطلوبة للحفاظ على
البيت وبنائه تعتمد على مواصفات معينة، لا يحملها إلا مَن هم من نسل الأنجلو
ساكسون؟ كانت تلك أسئلة مزعجة فتحت الباب أمام استنتاجات شعبية … وحلول شعبية
كذلك.
في أبريل عام ١٨٩٤م، قرأ «هنري آدمز» كتابًا بعنوان «الحياة القومية والشخصية»،
كان يتنبَّأ بأُفُول واضمحلال الجنسين: الآري والأنجلو ساكسوني على يد أجناس أخرى من
آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. كان يفكِّر مرتبكًا: «الأجناس السمراء تزحف علينا»،
والأجناس البيضاء إما أن تهزم الاستوائيِّين مرة أخرى بالحرب والغزو البدوي، أو أن
تُغلق أبوابها شمال خط عرض ١٤.
١٠١
كان «بروكس آدمز»، هو الآخر، قلِقًا بخصوص مجيء «الدم البربري» ليلوِّث «الدم
الأمريكي الأصيل» والذي لم يجدِّد نفسه بما يكفي.
١٠٢ ولكن التشاؤمية العرقية في أمريكا حصلت على دفعة حقيقية عندما بدا
الحراك «
الاقتصادي»
— الرأسمالية الجامحة وتيارها السوقي من البرابرة المبهرجين المزركشين — أقل خطرًا
على الحضارة الأمريكية
من الحراك العرقي لملايين المهاجرين الجدد الذين جاءوا في أعقاب التصنيع، الاثنان
مرتبطان بالطبع. وبعد عام ١٨٧٠م، كان المهاجرون المولدون في الخارج يمثِّلون
أغلبية قوة العمل الصناعية، فكرة أنَّ المهاجرين كانوا ينضمون إلى «بوتقة انصهار»
للهوية الأمريكية الثقافية، لم يكن لها وجودٌ في القرن التاسع عشر. موجات الهجرة
الكبيرة في نهاية القرن، كما يشير أحد الباحثين، هي «قوة تمييز رئيسية» في المجتمع
الأمريكي، تفصل بين أولئك الذين يحملون علامة الأصل الأجنبي أو الموروث، وأولئك
الذين لا يحملونها.
١٠٣
ولذلك كانت أعداد كبيرة من «الغرباء» الذين يحملون ملامح غريبة، وروائح غريبة،
تتدفَّق وتتركَّز كتكتلات في المدن والأحياء العمَّالية، حتى عندما كان «حد تجديد
المزايا» — الذي كان يقول به «فردريك جاكسون تيرنر» — مغلقًا إلى الأبد. رد الفعل
أخذ شكل الخوف والاضمحلال والكارثة العرقية. الحركات الأصلية المعادية للهجرة مثل
«الذين لا يعرفون شيئًا» في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، كانت تحذِّر من
الكاثوليك المولودين في الخارج كخطر ضدَّ شعب بروتستانتي مختار. كانت تتجاهل اليهود،
ولم يكن لها أيُّ اهتمام بأيِّ شكل آخر من الهوية أو التمايز العرقي.
١٠٤ وبالرغم من ذلك، فإن «الحشود المتجمعة» من أوروبا الشرقية والجنوبية
بعد الحرب مباشرة في «الأحياء الفقيرة من المدن الكبرى»، «بغرائز النمور» لديها
وعاداتها الغريبة، جعلَت أشخاصًا من أرستقراطية أمريكا الطبيعية، مثل «تشارلز إليوت
نورتون»
Charles Eliot Norton، البروفيسور في
«هارفارد» يشعرون بأنهم منفيُّون في بلادهم.
١٠٥ وبدأ الكتَّاب يُشيرون إلى صلة ما بين حرية كانت أنجلو ساكسونية في
أساسها التاريخي، ووجود عرقي أمريكي أنجلو ساكسوني، أو «سلالة» تقدِّم الروح
الضرورية أو «الدم» اللازم للحفاظ على تلك الحرية في وجه التغيُّر المدمِّر. وظهر
خطٌّ فاصل دائم بين الأنجلو ساكسون «الأمريكيين الأصليين» — كما كانوا يطلقون على
أنفسهم — في جانب وغير البيض في الجانب الآخر. الاشتراكي «جاك لندن»
Jack London الذي أثار مسألة تهديد «الخطر
الأصفر» كان يقف عند طرف سياسي من هذا الإجماع الأصلي. «هنري كابوت لودج» صديق
«بروكس آدمز»، كان يقف في الطرف الآخر. وكدارس ﻟ «جوستاف لوبون» مُنَظِّر
الاضمحلال، حمل «لودج» الفكرة الأنجلو ساكسونية التي درسها في حلقات البحث عند
«هنري آدمز» إلى السياسية مباشرة. وفي عام ١٨٩٤م، وهو العام الذي ظهر فيه كتاب
«نوردو» عن الانحلال، أسهم في تأسيس «رابطة تقييد الهجرة»، ونبَّه إلى الخطر الذي
يهدِّد سلالة أمريكا الأنجلو ساكسونية الأصلية، لحشد الدعم من أجل تشريع قوي ضدَّ
الهجرة، بالرغم من أنَّ الرئيس «جروفر كليفلاند»
Grover
Cleveland استخدم حق الفيتو ضدَّه على الفور. كانت الأهداف
الرئيسة بالنسبة ﻟ «لودج» هم «السلاف» و«الطليان» ويهود شرق أوروبا. «اليهود
البغيضون الفاقدون للجنس والكذَّابون»، حسب عبارة «هنري آدمز» الصارخة. وكان
التقدميون من أمثال «جوشيا سترونج»
Josiah
Strong، و«إي إيه روس»
E. A.
Ross يعتقدون أنَّ تلك الجماعات المهاجرة تحمل معها الانحلال
والتفسُّخ إلى السكان الأمريكيِّين. وكان «روس» يصف المهاجر الأجنبي بمصطلحات
«لومبروزو» بأنه: «خشن الشعر، قصير القامة … وهناك خطأ ما في كل وجه …» وأنَّ
السماح لتلك النوعية المنحطَّة من الناحية الفيزيقية بدخول البلاد، سيكون له الأثر
المدمِّر على «سلالتنا الرائدة»، ويؤدي إلى إنجاب نسل يحمل صفات السلف البدائي،
وإلى الإجرام وانتشار المرض في المدن الصناعية الرئيسية. وقد نبَّه «روس» محذِّرًا،
إلى أنَّ قوانين الهجرة غير الصارمة تصل إلى مرتبة «الانتحار العرقي»، وهو الاصطلاح
الذي جعله أحد الشعارات الشائعة على مدى العقدَين التاليَين.
١٠٦ «هنري آدمز» مات في عام ١٩١٨م، و«بروكس آدمز» مات في ١٩٣٢م، و
«لودج» بعد ذلك بعام واحد، والجيل الذي جاء بعدهم اتجه نحو دعمٍ أكثر كفاءة
لتحذيراتهم عن الخطر الذي تُمثِّله الهجرة على تراث أمريكا الأنجلو ساكسوني.
كان «لوثروب ستودارد» Lothrop Stoddard وهو من
مواطني «بوسطون» وابن المحاضر والكاتب الشهير «جون إل ستودارد» يعمل لدى
«تشارلز د آدمز» ابن عم «هنري»، و«بروكس آدمز» في شركته القانونية في «بوسطن».
جذبَته أعمال «ماديسون جرانت»، وهو اشتراكي من نيويورك ومؤسِّس «جمعية نيويورك لعلم
الحيوان». كان «جرانت» قد نشر كتابه «زوال الجنس العظيم» في عام ١٩١٦م معتمدًا إلى
حدٍّ كبير على كتاب «هوستون تشمبرلين»: «أُسُس القرن التاسع عشر»، أعمال «جرانت»،
وكتابَا «ستودارد» نفسه: «تيارات اللون المتصارعة» ١٩٢٢م، و«التمرُّد على الحضارة»
١٩٢٢م، كانت تستخدم الفكرة الجوبينووية الجديدة (نسبةً إلى جوبينو)، وهي أنَّ
«التيوتوني» هو مصدرُ كلِّ الحضارة، وهي الفكرة التي تُعطي بُعدًا حيويًّا جديدًا لفكرة
أنَّ الأمريكيِّين هم الشعب المختار.
كتاب «جرانت»: «زوال الجنس العظيم» يُفهَم منه أنَّ التاريخ الأمريكي كان من صنع
الجنس «التيوتوني» أو «النوردي» عبر فرعه الأنجلو ساكسوني. في «غزو قارة» ١٩٢٢م
يُصبح حد «تيرنر» قصة أجيال نوردية بطولية، مع رواد تيوتون، أمريكيون يحثُّون الخُطَى
في هجرتهم الكبرى صوب الغرب، مزودين بالطاقة الحيوية نفسها مثل أسلافهم الآريِّين
الأصليِّين، ويحقِّقون مجالهم الحيوي المقدَّر لهم. والآن، كان «جرانت» يحاول أن يُثبتَ
أنَّ المدَّ المتنامي للهجرة غير الآرية يهدِّد حيويتهم العرقية والثقافية. كارثة كبرى
تحتاج إلى حلول كبرى، هذا الجيل لا بد أن يتبرَّأ تمامًا من تفاخره بالأجداد على
أساس أنهم كانوا لا يعترفون بالتفرقة في «الجنس والدين واللون»، وإلا فإن الأمريكي
الأصلي سيقلب صفحة التاريخ ويكتب «نهاية أمريكا».
١٠٧ وكما كان «جرانت» يعتمد تمامًا على أفكار «هوستون تشمبرلین»، هذا هو
«ستودارد» يأخذ من كتاب «جرانت»: «التمرُّد على الحضارة»، مضيفًا جرعات كبيرة من
الإحصائيات على نفس طريقة «لومبروزو»؛ لكي يُثبت أنَّ المهاجرين الجدد كانوا يضعفون
المستقبل العرقي لأمريكا بشكل منظَّم.
١٠٨⋆
هذا التوجُّه «النوردي» لدى «ستودارد» كان يكشف عن مزج واضح بين مزايا
«الجوبينووية» الجديدة والمزايا الأمريكية الخاصة.
الإنسان النوردي كان «ديمقراطيًّا وأرستقراطيًّا في آنٍ واحد، فرديًّا إلى أبعد مدى،
شديد الحساسية بالنسبة لحقوقه السياسية، لا يقبل هو ولا رفاقه الاستبداد»، وهو
بطبيعته كارهٌ للانحلال: «يريد ظروف معيشة صحية، يُصيبه الهزال إذا حُرِم من الطعام
الجيِّد والهواء النقي والتريُّض». نقاؤه العرقي يصبح مفتاحًا للتقدُّم أيضًا، حيث
إنَّ «عصرنا العلمي الحديث هو نتاج عبقرية نوردية بالأساس». وحسب «ستودارد» إذن فإن
الأمم التي تُضَخ فيها أكبر كمية من الدم النوردي «هي الأكثر تقدُّمًا، والأكثر
حيوية، والأقدر سياسيًّا».
١٠٩ ولكن «ستودارد» أيضًا كان لديه الجرأة على مواجهة التناقض الكائن بين
الحيوية الثقافية والحضارة عند «جوبينو».
كان «جوبينو» يعتقد أنَّ السلالة العرقية الصحية، حتى عندما تحقق الثروة المادية
والإنجازات الثقافية للمجتمع، فإن انفتاحها للتغيُّر والتنوُّع يبذر بذور تدميرها.
وفي النهاية يكتشف الناس أنَّ بيئتهم الاجتماعية قد تجاوزت «قدراتهم
الموروثة».
التراث الأنجلو ساكسوني لا يمكنه الحفاظ على نفسه في المستقبل دون سلالته
العرقية. «كان جرانت أيضًا من علماء اليوجينيا»، وكان من رأيه أنه «كلما زاد تعقُّد
المجتمع وكلما تنوَّعت السلالة، زاد احتمال وقوع كارثة لا يمكن تداركها.»
«جرانت» و«ستودارد» قدَّما صورةً مرعبة عن المستقبل، رَسَما لوحةً زيتية بالأسلوب
«الجوبيني» الجديد المؤسَّس على الرؤية الجيوبوليتيكية ﻟ «بروكس آدمز». السلالة
الغربية للحضارة النوردية، ستُغرقها أجناسٌ أقل شأنًا من البحر الأبيض و«الألباین»
Alpine (أي جنوب وسط أوروبا)، بينما ستنهض
إمبراطوريات ملوَّنة من آسيا والهند والشرق الأوسط إلى أفريقيا.
وكما هو الحال دائمًا مع المخاوف التشاؤمية العرقية، فإن الأزمات الكبرى تتطلَّب
حلولًا حاسمة. «جرانت» تبنَّى «اليوجينيا» كوسيلة تصحيحية للانحلال العرقي.
«ستودارد» اتجه نحو منظمة ساعد على المجيء بها لأبناء منطقته «ماساشوستس»، وكان
يعمل كفيلسوف لها، وهي «الكوكلوكس كلان».
١١٠ التطوُّر الكبير ﻟﻟ «كلان» في أوائل العشرينيات وتحوُّلها من جماعة
إرهابية محتضرة متحدة سابقًا، إلى حركة قومية، كان دافعه تحديدًا هذا الخوف من
أنَّ الهجرة تُهدِّد بنهاية أمريكا «الواسب». لم يكن السود هم المستهدفون أساسًا من
قِبل «كلان» الجديدة بقاعدتها الكبرى شمالي خط «ماسون/دكسون» (كان السود ما زالوا
أقلية ضئيلة في المدن الشمالية)، كان اليهود والبلشفيك السلاف وغيرهم من العناصر
المنحلَّة المولودة في الخارج هم المستهدفون.
تشاؤمية «ستودارد» العرقية هي التي أعطَت شعار «كلان»: «أمريكية مائة في المائة»،
الغطاء البرَّاق لنضال من أجل روح الحضارة الغربية. لم يكن عضو اﻟ «كلان» في
العشرينيات يعتبر نفسه جنوبيًّا عرقيًّا، كان يعتبر نفسه حارسًا ودرعًا لحضارة،
جوهرتها الثمينة هي النموذج الأمريكي للحرية. كان في الحقيقة هو الأرستقراطي الجديد
الطبيعي لأمريكا. ويمكن التعرُّف عليه في شخصية «توم بوكانان»
Tom
Buchanan عند «سكوت فيتزجيرالد»
Scott
Fitzgerald في «جاتسباي العظيم»
Great
Gatsby التي كتبها عندما كانت حُمَّى جنون «كلان» قد وصلت إلى
ذروتها، لا نعرف إن كان «بوكانان» عضوًا في اﻟ «كلان» بالطبع، ولكنه كان يمكن أن
يكون موجودًا في الحياة العامة (حتى الرئيس «وارن. ج. هاردنج»، الرجل الذي يستحق
التقدير لآرائه الليبرالية بشأن الزنوج الأمريكيِّين، أصبح عضوَ شرفٍ بها في عام
١٩٢٢م)،
١١١ بنظرته الكئيبة عن مستقبل الغرب، ومزاعمه حول فهمٍ علمي حديث للعلاقة
بين العرق والثقافة عن طريق «ذلك الرجل جودارد» (واضح أنه «لوثروب ستودارد»)، يلتقط
«بوكانان» التشاؤم العرقي الأمريكي الجديد وجوعه لحلٍّ افتدائي لخطر الاضمحلال. وفي
النهاية جاء الحلُّ على شكل تنظيم بيروقراطي. مرَّر «الكونجرس» المنزعج قوانين جديدة
مقيِّدة للهجرة في عامَي ١٩٢١م، ١٩٢٤م، لم تستبعد فقط الغرباء القادمين من آسيا
وأوروبا الجنوبية، وإنما حاولت كذلك أن تحسِّن السلالة الأمريكية بتشجيع الهجرة من
دول أوروبا الشمالية.
١١٢ على أنَّ صرعة «الجوبينووية» الجديدة واﻟ «كلان» خمدَت بسرعة كما بدأت.
بعد الحرب العالمية الثانية، و«الهولوكوست» ساءت سمعة معاداة السامية والنظريات
العرقية بشكل كبير، وفقدت التوجُّهات المحلية مكانتها، لتحلَّ محلَّها فكرةُ أنَّ
أمريكا «دولة مهاجرين» (وهو عنوان كتاب للسيناتور الشاب «جون ف كينيدي»
John F. Kennedy)، آخر «الجوبينوويين»
الأمريكيِّين خاضوا المعركة على جبهة أخرى مختلفة: معركة البيض ضدَّ السود. «فرانسيس
يوكي»
Francis Yockey الذي علَّم نفسه بنفسه،
والذي كان على درجة عالية من الذكاء المجنون، انتحر في السجن في عام ١٩٦٠م، كتابه
Imperim — السيادة — المكوَّن من ٦٠٠ صفحة
والصادر في ١٩٨٤م، أصبح إنجيل حركة النازية الجديدة بقيادة «جورج لنكولن روكويل»
George Lincoln Rockwell، والكتاب مُهدًى إلى
روح «أدولف هتلر»: «بطل القرن العشرين».
١١٣
الصورة التي رسمها «یوكي» للمجتمع الحديث — «حياة المادة … القوة، الاقتصاد
العملاق، الجيوش والأساطيل» — واقتناعه بأن اشتراكية قومية تراتبية تفرض نظامًا
للعمل والواجب، هي الوصفة الناجعة للخلاص، وهي تذكِّر بقوة «بروكس آدمز» (كما كان
قانون الحضارة والاضمحلال عند «آدمز» سیبرز إلى السطح في التنظير الاقتصادي عند
لندون لاروش). كان «یوكي» كذلك متكافئ الضدَّين عن دور أمريكا في التاريخ مثل الأخوَين
«آدمز»، فقد أوحت من ناحية بالطاقات والمثل الفردية الأنجلو ساكسونية، ومن الناحية
الأخرى بمادية زائفة: «الحياة الجماعية كلها في معركة لا نهائية وبلا هوادة من أجل
المال.» وفي النهاية، فإن الأمَّة المخلِّصة عند «یوكي» تُصبح هي الأمة الآرية. «تلك
الطبقة البدائية الشقراء ذات الإرادة القوية» التي يصرُّ على أنها كانت أساس الثقافة
الغربية. «إرنست سيفر كوكس» Ernest Siever Cox
قام بدور طويل كأبٍ مؤسِّس للحركة البيضاء المتفوقة منذ نشر كتابه «الأمريكي
الأبيض» عام ١٩٢٥م وحتى موته عام ١٩٦٣م. «كوكس» أعاد اكتشاف كل عناصر تحليلات
«جوبينو» الأصلية للانهيار الغربي في إطار أمريكي، واستطاع أن يستعيد بعض الحيوية
الرومانسية للنظريات العرقية الباكرة، «الرجل الأبيض هو الشمس التي تُنير العالم»
كما كان يقول، و«بريق الأجناس الأخرى ليس سوى مجد منعكس».
تاريخ أمريكا العرقي عند «كوكس» كان يتضمَّن الكثير من أفكار «جوبينو»، مثل سيادة
أرستقراطية آرية متحضِّرة (المحتلون الأمريكيون الأوائل)، والتهديد العرقي الذي
تمثِّله المسيحية بتشجيعها الاختلاط العرقي، على أنَّ «كوكس» لم يَعُد يرى الخطر
العرقي في تلك الأجناس الأقل شأنًا، أجناس البحر الأبيض أو «الألبينية» كما
تُسمَّى. كان هاجسه الأكبر هو «تزنيج» أمريكا (Negroidization of
America)، والذي كان يعتقد أنه يحتاج إلى حلول أكثر حسمًا من
مجرَّد التفرقة العنصرية، أو السيادة البيضاء بطريقة مؤسَّسية.
الحلُّ الوحيد والدائم عند «كوكس»، كان هو إعادة جميع الزنوج الأمريكيِّين إلى
أفريقيا، والسماح بموجات هجرة جديدة من الروَّاد «التيوتون» البيض، لينتشروا في
المساحات الخالية، وفي الواقع العملي، لإعادة صنع الحد الأمريكي الذي كان يقول به
«تيرنر»، والذي يمكن أن يتمَّ الاحتفاظ به إلى الأبد عن طريق النقاء
العرقي.
١١٤
وكما حدث بالفعل، سيجد «كوكس» دعمًا لهذه الفكرة من جانبٍ مهمٍّ وغريب.