أسود على أبيض
W. E. B. Du Bois
«الاحتمال الأكثر معقولية، هو أنَّ المستقبل سيكون على النحو الذي سيصنعه الملونون».
«سيكون يومًا مرعبًا! يوم يُجرِّد السودُ سيوفَهم لكي يقاتلوا من أجل حريتهم … وهو آتٍ … يوم حرب الأجناس …»
كان السبب هو التشاؤم المتزايد بشأن مصير الغرب بين المثقَّفين الغربيِّين أنفسهم؛ فالحضارات الغربية، كما عرف عن طريق أساتذته في «هارفارد» و«جامعة برلین»، كانت مجتمعات في حالة حرب مع روحها ذاتها. وكان المفكِّرون الأوروبيون والأمريكيون على السواء، يُعيدون تجمُّعَهم في وجه مخاوف الانحلال الاجتماعي. «بروكس»، و«هنري آدمز في أمريكا»، «إميل دوركايم»، و«جوستاف لوبون» في فرنسا، «فرانسيس جالتون»، و«بنيامين كيد» في إنجلترا، «أدولف فاجنر»، و«جوستاف فون شموللر» في ألمانيا، (وكلاهما سيكون له تأثيرٌ حاسم على رؤية «دو بوا» الخاصة)، وكثير من الدارسين والأكاديميِّين، كانوا كلهم في حالة مواجهة شديدة مع ما يتصوَّرونه الحدود والسواحل الآدمية لمجتمعاتهم الصناعية الحديثة، والتي كان «دوركايم» يسمِّيها ﺑ «الحضارة المفرطة». كان الجميع يبحثون عن تفسير لما يحدث، ويبحثون عن حلٍّ.
نظرية العرق، سواء في شكلها «الجوبينووي» الجديد، أو قناعها «العلمي»، كانت تُقدِّم الحلَّين معًا. «دو بوا» كتب أعماله في وقت كانت فيه مجالات تحسين النسل والسلالة تجتاح أوروبا والولايات المتحدة اجتياحَ العاصفة. كان لون البشرة قد أصبح علامة دالة على الحضارة أو العكس، وتزايد بشكل كبير عددُ المفكِّرين الذين أصبحوا يقبلون أنَّ البشرة البيضاء كانت تدلُّ على حيوية داخلية والقدرة على دفع الحضارة إلى الأمام … ضد جذب الانحلال الحتمي. وعلى العكس من ذلك، فإن البشرة الداكنة أو «الملوَّنة» (التي كان المراقبون المدقِّقون يعتقدون أنها تضمُّ أيضًا بشرة يهود أمريكا)، كانت تدلُّ على غيبة تلك الصفات أو على الأقل، احتمال فقدانها، وما فعله «دو بوا» على مراحل متنوعة وباستراتيجيات مختلفة، هو أنه قلب تلك المزاعم رأسًا على عقب، وقام بالفعل بمراجعة سلسلة خط اللون، وسواء صاغها على شكل نظرية عن «العشر الزنجي الموهوب»، أو القومية الأفريقية العامة بعد عام ١٩١١م، أو آماله في انقلاب ماركسي على الاستعمار في الثلاثينيات، فإن افتراضات «دو بوا» كانت هي الافتراضات نفسها.
«الشعوب السمراء هم الأرستقراطية الطبيعية، هم صنَّاع الفن والدين والفلسفة والحياة … وكل شيء»، ثم تُضيف على نحوٍ صريح «فيما عدا الآلة».
كانت نظرة «دو بوا» للعرق أكثر تعقيدًا من ذلك التيار الجامح الذي يقترحه الاستشراق الرومانسي، رغم أنه — كما سنكتشف — كان مدينًا بالكثير لتراث الاستشراق، وبأكثر مما يعترف بعض المعجبين الحاليِّين به. كانت نظرياته على أيِّ حال مؤسسة على ردود فعله ضدَّ الأفكار التي تقول بالتفوُّق الأبيض، والتي كانت ذائعةً في ذلك الوقت، وضدَّ ما كان يراه نتيجة لها: وهو نموُّ الإمبراطوريات الاستعمارية. كان الاستعمار هو المنتج الغربي المائز، النمو الطبيعي لمواصفات الحضارة الغربية. شرور الحضارة الغربية الآن كانت هي شرور الغرب — بما في ذلك الولايات المتحدة، الدولة التي خُلقت وبقيَت بفضل السلف الاستعماري المؤسس — أي العبودية.
«دبلیو إي بي دو بوا» العرق والحضارة في أمريكا
ولكن القوة الموجَّهة لها، حتى في أعتى صورها الشوفينية ظلَّت تاريخية دائمًا أكثر منها بيولوجية؛ فمصير «الجنس المؤسِّس» مثل الأنجلو ساكسوني أو التيوتوني، والصراعات العرقية وراء هذا التطوُّر (الفرانك ضد الغال، والنورمان ضد الأنجلو ساكسون، والأنجلو ساكسون ضد السلت، والجرمان ضد السلاف)، كانت كلها قضايا قد استُنفدت في ساحة المؤسسات السياسية والصراعات الجيوبوليتيكية، ومقارنة بأحداث على هذا المستوى، كانت قضية «المكانة» طبقًا للفوارق الفيزيقية، ضعيفةً جدًّا وغير مستقرة لكي يكون لها أيُّ ثقل. وبالنسبة للقومي الرومانسي، فإن لون البشرة يتبع قوانين التاريخ أكثر مما هو العكس.
«دو بوا» في ألمانيا: (١٨٩٢–١٨٩٤م)
والآن … كانت هناك حاجة ماسَّة لنموذج بديل للحياة الاقتصادية، «نحن لا نبشِّر بإبطال العلم، ولا بقلب النظام الاجتماعي القائم.» كما كتب «شموللر» في ١٨٧٢م «ولكننا لا نريد أن نسمح للانتهاكات الصارخة أن تكون كل يوم أسوأ من اليوم الذي قبله». إنَّ أزمة طاحنة سوف تضرب الغرب الصناعي إذا لم يُزِل المظالم الصارخة، والتركيز الخاص للسلطة التي يبدو أنها تستتبع الرأسمالية الحديثة.
مصير أسود جلي: «دو بوا» والقومية السوداء
وكما كان «علماء نفس الشعوب» يوضِّحون، فإن ماضي الشعب الذي يتمُّ تدويره كأسطورة، يمكن أن يُصبح جزءًا من روحه الجماعية، «خبرة الروح». وكان «دو بوا» يقول إنَّ ذلك هو ما حدث بالضبط مع «العبودية»، ربما تكون قد انتهت مع الماضي، إلا أنها كانت وراء كل نشاط ثقافي تالٍ لها بالنسبة للسود. ووجود دم أسود في أمريكا، معناه أنَّ هناك تجربةً روحية مع العبودية (مثلما كانت حالة دو بوا)، حتى إذا لم يكن أحد من أفراد الأسرة أو أسلافها قد عرف الاسترقاق، هذا الإرث الثقافي العبودي «الكسل والانسحاب والارتباك الذي تراكم على مدى عقود وقرون» كان يكبِّل أيدي وأقدام الزنجي الحديث.
«تنهض الآن ببطء أُخُوَّة بين الدم الزنجي في جميع أنحاء العالم، ليس ذلك فقط، بل والقضية المشتركة بين الأجناس السمراء ضد الافتراضات والإهانات الأوروبية التي لا تُحتَمل … معظم الناس في العالم من الملوَّنين … الإيمان بالإنسانية معناه الإيمان باللونَين، والاحتمال الأكثر معقولية هو أنَّ المستقبل سيكون على النحو الذي سيصنعه الملوَّنون».
الأمم السمراء ونهاية الغرب
قام «دو بوا» بأوَّل زيارة لأفريقيا في سنة ١٩٢٣م، وألهمته تلك الزيارة غنائية رومانسية: «أفريقيا هي الحدُّ الروحي للجنس البشري». كانت المدينة التي نزل بها «منروفيا-ليبيريا»، هي المدينة الأكثر جمالًا من أيِّ عاصمة أوروبية كما قال، الناس يبدو عليهم الفرح، والبهجة بالحياة واضحة في أغنياتهم ورقصاتهم و«أجسادهم المثالية … العارية».
وفي النهاية يُنقذه شخصان: الأوَّل أمُّه المسنَّة، وهي عبدة سابقًا، امرأة نكدة المزاج وإن كانت نموذجًا حيويًّا وقويًّا لروح «تاون» الأفريقية، إنها «كالي» السوداء، «أمُّ العالم»، كما تترنَّم أميرته الهندوسية، الشخص الثاني هو الأميرة نفسها، والتي تعود لتتزوَّج البطل في طقس احتفالي بدائي-عصري جديد، يحتوي على عناصر هندوسية وبوذية ويهودية وإسلامية. جميع الأديان في الواقع باستثناء المسيحية، نخبة ملوَّنة جديدة تنهض لكي تستدعيَ «عالمًا حقيقيًّا أكثر سمرة، العالم الذي كان، والذي يجب أن يكون.»
دعْ شعبي يتقدَّم: «ماركوس جارفي»، وإرث «دو بوا»
«دو بوا» والشيوعية، ونهاية الغرب
في عام ١٩٤٦م كتب «دو بوا» الذي كان في الثامنة والسبعين:
«نحن الآن وجهًا لوجه مع أعظم مأساة تحلُّ بالعالم. إنَّ سقوط أوروبا هو أشدُّ ما يُصيبنا بالذهول؛ وذلك بسبب الإيمان غير المحدود الذي كنَّا نُكنُّه للحضارة الأوروبية».
وفي النهاية، فإن ما جذب «دو بوا» إلى الماركسية، كان هو نفس ما جذب مثقَّفين آخرين كثيرين في القرن العشرين: كونها شكلًا من أشكال التحرُّر الثقافي. بدا انتصار الماركسية وعدًا بتطهير أخلاقي للعالم الحديث؛ حيث سيتم غسيل كل فساد الحضارة البرجوازية بالفيضان الثوري.
وفي عام ١٩٣٥م، كان «دو بوا» قد أقنع نفسه بأن الشيوعية السوفيتية سوف تُحطِّم آخرَ آثار الغرب المصاب بالتيبُّس، وتدعم نظامًا ثقافيًّا جديدًا غير غربي.
كان «كوامي نكروما» أحد الزعماء الأفارقة الذين استمعوا إلى ندائه، وقد دعاه إلى غانا (ساحل الذهب سابقًا) في العام التالي ليجيءَ ويعمل معه مستشارًا ورجلَ دولة، ولا بد أن يكون «دو بوا» و«نكروما» قد التقيا قبل ذلك بسنوات في مؤتمر «باندونج» في إندونيسيا عام ١٩٥٥م، وهو حدثٌ فاصل في تاريخ عالم ما بعد الاستعمار. في «باندونج» ظهر مصطلح «العالم الثالث» لوصف الدول المستقلة حديثًا في أفريقيا وآسيا، والتي لم تكن أكثر أو أقل من شعوب «دو بوا» السمراء التي تحدَّث عنها قبل ثلاثين عامًا، الرمز الجماعي لمستقبل البشرية المشرق. كان «نكروما» واحدًا من زعماء ما بعد الاستعمار، الذين ظهروا إلى جانب «جمال عبد الناصر» في مصر، و«جواهر لال نهرو» في الهند، و«سوكارنو» في إندونيسيا، والأمير «سيهانوك» في كمبوديا، و«آدم كلايتون باول الأصغر» في «هارلم».
كان من المفترض أن يُلقيَ «دو بوا» الكلمةَ الافتتاحية في «باندونج»، ولكن وزارة الداخلية الأمريكية سحبَت منه جواز السفر بسبب انتماءاته الشيوعية. كانت الكلمة التي أرسلها لكي تُلقَى في «باندونج»، تتطرَّق إلى الموضوعات التي تضمَّنتها أعماله منذ عودته من «برلین» إلى الولايات المتحدة في عام ١٨٩٤م:
«نحن الشعب الأسود الأمريكي الذي عاش معكم طويلًا أيها الصفر والبنيُّون والسود في العالم تحت نير الغطرسة والأفكار الفظيعة للجنس الأبيض … ومن هنا نحن ننبِّه العالم إلى أنَّ أفريقيا لا يمكن أن تظلَّ رهينةً وعبدة وملكية خاصة للأوروبيِّين أو الأمريكيِّين أو أيِّ شعب آخر.»
مات «دو بوا» في ۲۸ أغسطس ١٩٦٣م، وبعد ثلاث سنوات، كانت «العسكرية» الغانية — التي غذَّتها عدم كفاءة «نكروما»، ودمَّرت اقتصاد البلاد ومستوى المعيشة — تُطيح بالمخلِّص في انقلاب عسكري.